الاجتهاد: مهما غالى به بعضٌ أو استخفّ به آخرون يبقى هو العنوان الأهمّ في مسار الحركات الإسلاميّة الواعية، والتائقة لنجاة وخلاص الأمّة.
ففي حَمْأة التحريض الطائفيّ والمذهبيّ المُتبادَل، والذي توسَّعَتْ دائرتُه، ودخل إلى كلِّ بيتٍ، عبر شاشاتِ قنوات الفتنة وبثّ الفِرْقة بين المواطنين، على اختلاف أديانهم، بل بين المسلمين أنفسِهم، بل رُبَما وصل الأمر إلى تحريض الأخ على أخيه في المذهب الواحد؛ لتباينٍ في بعض الآراء والأفكار والرُّؤى هنا وهناك، في مثل هذه الظروف لا يَجِدُ الداعيةُ والمبلِّغ مَفَرّاً من التركيز في كلِّ مناسبةٍ على موضوع الوحدة بين المسلمين، والتعايش بين أهل الأديان السماويّة كافّةً، وصولاً إلى التواصل بين الأمم والشعوب على اختلاف انتماءاتها العَقْديّة والسُّلُوكيّة.
أَلَمْ يقرأْ المسلمون في كتاب الله العزيز ما يدعوهم إلى الوحدة فيما بينهم؟! فلماذا يخشَوْن الوحدة الحقيقيّة الكاملة؟! لعلّهم يختلفون في ماهيَّتها ومفهومها. فماذا تعني الوحدة بين المسلمين؟
الوحدة بين المسلمين، الماهيّة والمفهوم
تُتصوَّر للوحدة الإسلامية عدّةُ معانٍ:
1ـ فالبعض يحاول ربط مفهوم الوحدة بمفهوم الأُخوّة، وكأنّه يستلهم ذلك من قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: 10).
وهذا المعنى يستلزم أن يكون المسلمُ سَنَد المسلم في المُلِمّات والشدائد، بعيداً عن أيّ تحريضٍ وعداوةٍ وبغضاءَ وعصبيّةٍ وصراعٍ.
2ـ ويذهب آخرون إلى اعتبار قوام الوحدة الإسلامية في أن يكون للمسلمين جميعاً نظامُ حكمٍ واحدٌ، سواء أسمَيْناه (الخلافة) أو (الدولة).
3ـ ويشير قسمٌ ثالث إلى أنّ معنى الوحدة الإسلاميّة أن لا يكون هناك سُنِّيٌّ وشيعيّ، بل جمعٌ من المسلمين، لا يتميَّزون عن بعضهم.
وأعتقد أنّ المعنيين الأخيرين هما اللذان شكَّلا ويشكِّلان مانعاً أمام السعي الجادّ للوحدة بين المسلمين.
ـ ما معنى أن يكون للمسلمين جميعاً نظامُ حكمٍ واحدٌ؟ قد يكون هذا الطَّرْح ـ للوَهْلة الأولى ـ جَذّاباً، ولكنّه بعد تأمُّلٍ وتفكير سيُشكِّل هاجساً مخيفاً لكلِّ مَنْ يرى أنّه أقلِّيّةٌ عَدَديّة يمكن أن تذوب وتتلاشى في مثل نظامٍ كهذا.
إذن فَلْيَبْقَ الشِّعار، ولكنْ لا لأيِّ ترجمةٍ عمليّةٍ له.
ـ ماذا يعني أن لا يكون هناك شيعيٌّ وسُنِّيّ؟ هذا يعني دعوةً غيرَ صريحة لتخلّي السنّيّ عن معتقداته والأحكام الشرعيّة التي نشأ عليها، وورثها عن أسلافه منذ زمنٍ بعيد.
وهكذا هي دعوةٌ مبطَّنةٌ للشيعيّ كي يتخلّى عن منظومته الفكريّة، في العقيدة والشريعة، مُهْمِلاً كلَّ ما بذله العلماءُ الماضون من جُهْدٍ في تأسيس وتأصيل هذه الأفكار والمبادئ.
إذن سيسود جرّاء هذا التفسير للوحدة الإسلاميّة هاجسُ الفناء والتلاشي والقضاء الاختياريّ على الذات، وبالتالي لم ولن نشهد جُهْداً كافياً لتحقيق الوحدة الواقعيّة بين المسلمين.
والحَقُّ أنّ الوحدة الإسلاميّة ليست بالمعنيَيْن المذكورَيْن.
فنحن اليوم نعيش عصر الدُّوَل المستقلّة، ولا أُفُقَ لأيِّ حديثٍ عن دولةٍ إسلاميّة واحدة، أو نظامِ خلافةٍ شاملٍ لكلِّ بلاد المسلمين.
كما أنّ الشيعيّ لن يتخلّى عن تشيُّعه، وكذلك السُّنِّيّ. وليس مطلوباً منهما ذلك.
وإنّما كانت الدعوة إلى الوحدة بين المسلمين، والتعايش بين أهل الأديان كافّةً، والتواصل الحضاريّ بين البشر جميعاً، لبناء مجتمعٍ يقِلّ أو يكاد ينعدم فيه الخلاف، وإنْ بقي الاختلاف، وتزول منه الصراعات والحروب.
إذن ليس المطلوب أن نتناسى ما نختلف فيه، كمسلمين، أو كأتباع مذهبٍ واحدٍ نختلف في عقيدةٍ هنا وحكمٍ شرعيّ هناك، وإنّما المطلوبُ تنظيمُ هذا الاختلاف، بحيث لا يؤدّي إلى الخلاف والتقاتل، والتلاعن، والتكفير، والتضليل، والتراشق بالتُّهَم ـ وأغلبُها باطلٌ، وليس بثابتٍ على الطَّرَف الآخر، وإنّما هي نتاج الوَهْم والاشتباه والخطأ في الفَهْم؛ بسبب العصبيّة المقيتة ـ.
إنّ الاختلاف في الرأي والاجتهاد حقٌّ مشروعٌ، ما لم يكن قِبال نصٍّ إلهيّ أو نَبَويّ أو وَلَويّ معصومٍ، فينبغي أن يُتَّبَع.
ولكنَّ الممنوع والمحظور أن يَصِلَ الاختلاف إلى حالةٍ من الخلاف والتخالف والتخلُّف، بحيث يتنافرون، ويتقطَّعون أمرهم، ويقتُل بعضُهم بعضاً.
وقد يسأل البعضُ: إلامَ تهدفون من الدعوة إلى الوحدة الإسلاميّة؟ أليس انتصارُ هذا المذهب أو ذاك، وكلٌّ يعتبر نفسه على حقٍّ وهدى، كافياً لبناء المجتمع الصالح المَرْضِيّ لله عزَّ وجلَّ؟
وللحديث حول الهدف من تحقيق الوحدة الإسلامية، وآليّات ترسيخها، تتمّةٌ تُراجَعْ على صفحات المجلّة.
المصدر: العدد الجديد (59 – 60) من مجلة الاجتهاد والتجديد
تحميل العدد (60 – 59) من مجلة الاجتهاد والتجديد
بصيغة وورد
البي دي إف