فقه التجربة.jpg الفقه النوازلي

الحاجة المنهجية إلى فقه التجربة (الفقه النوازلي) / د. أحمد مرعي المعماري

 الاجتهاد: إنَّ الدعوة إلى انضمام الفقه النوازلي إلى المنهج العلمي الشرعي وحضوره في أروقة الدرس والمعرفة يشكِّل ضرورةً مُلحَّةً للفقيه والمجتهد والمشتغل بالحقل الشرعي عمومًا، فالقراءة فيه تعمل على المران والدربة في معالجة الواقعات والنوازل.

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على سيدنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعدُ:

فإنَّ من طبيعة النوازل أنها تعمل على تحريك البنى التحتية، وتقتربُ من أدوات النظر والتوليد والفكر، وتجعلها إمَّا في منطقة التشغيل والتوليد، أو في منطقة الاختبار والتغيير. ومن هذا فقد أثارت نازلةُ كُورونا موجةً من الآراء والأفكار والتصورات، الغالب فيها جاء في مسار المعالجات الشرعية، وفي الوقت نفسِه منها ما يكشف عن طبيعة التفكير الشرعي.

والنوازل تعني: «الواقعات والمسائل المستجدَّة التي تنزل بالعالِم الفقيه؛ فيستخرج لها حكمًا شرعيًّا. ويُطلق عليها: النوازل، والفتاوى، والأجوبة، والأحكام، والمسائل»[1].

وهذه النوازل في جانبها الآخر تشكِّل جانبًا إيجابيًّا ومهمًّا في الدرس الشرعي؛ لأنَّ أدواتنا المعرفية بحاجة دائمًا إلى صقلها وتنميتها وتهيئتها، ولا أفضل من النوازل التي تدعونا إلى استدعاء ذلك اضطرارًا لا اختيارًا.

وهناك منطقة أخرى أخبرتنا به النازلة – وأجدها ضرورية – وهي الحاجة الضرورية للفقه النوازلي في الدرس الشرعي، وهو ما تقف عنده هذه الورقة. فإن استدعاء الفقه النوازلي في الدرس الشرعي بوصفه منهجًا تطبيقيًّا عمليًّا يُثري المنهج التأسيسي للنظر الشرعي ويغذِّيه وينمِّيه؛ لأنَّ طبيعةَ النوازل تشتبك معها جملةٌ من المعطيات على مستوياتٍ مختلفة، فتحرك النظر بأبعاد متعدِّدة لم يكن معهودًا النظر إليها في الدرس الشرعي المنهجي.

فمن المعلوم أنَّ الدرس الفقهي أو الشرعي عمومًا، هو غالبًا ما يعمل في بيئة لها متونها المُقنَّنة، ولها شروحها المعيَّنة، ولها قواعدها المقعَّدة، وكُتبها ومناهجها المحدَّدة، وهو يسير ضمن هذه المسارات المعدَّة لرسم تصوراته وتصديقاته. فالطريق مرتبطٌ بترتيباتٍ منهجيَّة معيَّنة سلفًا.

وإذا أردنا أن نقف على وجه القصور الذي كشف عنه الفقه النوازلي، فهو أن هذا المسار المنهجيَّ يغيب عنه “قصة النص”[2]، أو ولادة النص، أو حكاية الواقع، ونشأة الحكم والقواعد، أو غياب البيئة التي في رَحِمها كانت تلك الولادات المتعاقبة للمقولات.

ومن ثَمَّ تغييب ملازمات نص المجتهد أو الفقيه التي تُفصح عن المعاني الأساسية في التشكيل والتدوين والاجتهاد لهذا التراث، وفي الوقت نفسِه تخبر عن الأُسس العملية لسَير المعالجات الشرعية، التي تكون مرتبطةً بمساراتٍ متعدِّدة.

فالنوازل تشتبك عادةً مع عدَّة أمور: عقدية وعبادية وأخلاقية وسياسية واجتماعية واقتصادية. “فالنازلة الفقهية تعكس صورة المجتمع الإسلامي في خصوصياته وفي مشاكله وتعقيداته. كما أن غنى مادتها يمكِّن من كشف ما عجزت الحوليات التاريخية عن كشفه. فالفقه الإسلامي ليس مجرَّد نظرياتٍ ميتة في الكتب فقط، بل هو فقه للحياة”[3]، أو كما يقول ابن سهل: “التجربة أصلُ كل فن”[4].

وتحتاج هذه المسارات إلى قيمية معرفية سابقة لها ممارسة في طريقة المعالجة وكيفية التصوُّر والتكييف والتنزيل.

إلَّا أن الدرس الفقهي قد غاب عن الفقه النوازلي بكونه منهجًا مؤسسًا على الموروث في الفقه النوازلي.

إن هذا التفكير المنبتَّ عن حكاية الواقع قد أضعف – بمرور الزمن – المنهجَ في معالجة النوازل والواقعات؛ لأن بيئة النص وقصة النص والحكاية المُسببة للنص تظلُّ غائبةً عن الذهن، وهي تشكُّلات أساسية للنص وتقييمات للعقل والواقع، وفي الوقت نفسِه تحمل في طياتِها قيمةَ المعالجات التراثية الواقعية.

بمعنى آخر، فإن المخرجات الشرعية جاءت معتمدةً على منطق الواقعية، فهي تنتمي إلى بيئاتٍ تتغيَّا معالجاتها الظرفية. فرسمت لها جملة من الأُسس والمناهج والمعطيات كمنهج للتعامل والنظر، ثم آلت هذه المخرجات والأدوات كذلك أن تكون مناهجَ للتدريس والدرس الشرعي المنهجي.

إلَّا أن هناك منطقة غائبة عنَّا لحظة وقوعها، وهي لحظة الاشتباك مع النوازل، فالدرس الشرعي وإن استحضرها إلَّا أنها ستبقى منقوصة، وليست هي هي، بل هي تشكُّلات من صور متعدِّدة تحاول الاقتراب من الواقع آنذاك، هذا إذا تمَّ استدعاؤه، وفي الغالب يظل غائبًا.

ومن أجل تعويض ذلك النقص (الانضمام والانسجام)، فإنَّ الدعوة إلى انضمام الفقه النوازلي إلى المنهج العلمي الشرعي وحضوره في أروقة الدرس والمعرفة يشكِّل ضرورةً مُلحَّةً للفقيه والمجتهد والمشتغل بالحقل الشرعي عمومًا، فالقراءة فيه تعمل على المران والدربة في معالجة الواقعات والنوازل. فالفقه النوازلي في تراثنا غزير، لكنه في درسنا عزيز.

وطبيعة هذه المؤلفات أنها تحكي قصة الواقعة، بأبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتخبر بالمجمل عن طبيعة تلك المجتمعات وطبيعة تصوراتها وأسئلتها، فالأسئلة هي أدواتٌ كاشفةٌ عن التفكير والواقع والتحيزات والمشكلات والتحديات والأولويات.

ثم تكشفُ في أجوبتِها عن مناطقِ التفعيل والتحريك للأدوات والقواعد، وطبيعة المعالجات. كما أنها تخبر عن وجه الخلل والقصور في ذاك التوجُّه، وتلك الفتوى، وهذا التحميل.

وابتعادنا عن تاريخ تلك النوازل يجعلنا نعرف مواطن الخلل والصواب، وذلك يحصل بعد الكشف الواقعي. ومن ثَمَّ تتجلَّى الحاجة إلى فقه التجربة؛ وبذلك نعمل على اعتبار التاريخ الفقهي والنظر الشرعي، وهو ما نصبو إليه في الدعوة إلى قراءة الفقه النوازلي؛ لِما يحدثُ من مرانٍ ودربةٍ، واعتبار واختبار، وتصوُّر وتكييف.

فالدرسُ الشرعي لا يقتربُ منهجيًّا من الفقه النوازلي؛ لأمورٍ منها غياب هذا الفقه في المنهج التعليمي، سواء على مستوى المؤسسات الرسمية، أو المؤسسات الدينية التقليدية.

كما أنَّ المناهجَ المتقدمة ترسمُ في ذهنية المتعلِّم ابتداءً أنه غير معنيٍّ بالاجتهاد والنوازل، فلها أهلُها، والأهمُّ هو تحصيل المنهج، والعملُ على المعالجات والنوازل يحصل مستقبلًا.

وهذا أمر صحيح، لكن يبقى الطالب غائبًا عن ميدان التدريب والمران والخبرة التي تؤهله للانطلاق الواقعي، ومن هذا فإننا غالبًا ما نجد دعواتٍ وحلولًا وأفكارًا مستغربةً وبعيدةً عن الواقع وتحدياته ومشكلاته في بيئة الشرعيين؛ لأن الميدان وساحة النزال والاشتباك لها معطياتها وقراءتها ولغتها الخاصَّة، وهي غير قراءة التنظير والحفظ والتلقين. فنصوص الكتاب والسُّنَّة، ومخرجات الفقهاء، وقواعد الشريعة وأصولها – هي مفاهيم، والواقعات والنوازل مصاديقها.

النوازل الفقهية والتاريخ .. إضاءة إبستيمولوجية / الدكتور عبدالرحيم الحسناوي

مُبررات اعتماد الفقه النوازلي في الدرس المنهجي:

1. القيمية المعرفية التي تزخر بها المؤلفات في الفقه النوازلي ابتداءً من فقه الصحابة ونوازلهم، والتي نجدها في كتب المصنفات والآثار، ثم كتب النوازل والواقعات عند الأئمَّة بمختلف مذاهبهم ومناهجهم.

2. الواقعية: فالاقتراب الواقعي من المسائل المعروضة يجعل قيمة الواقع حاضرةً في المعالجات؛ ولهذا نجد في كتب النوازل الواقعيةَ والتجدُّد وتنوُّع التأليف، ومن ثَمَّ تكون كتب النوازل منجمًا غنيًّا بمعلوماتٍ موازيةٍ يستفيد منها الفقيه والمؤرخ والقانوني والاجتماعي[5]. ومن ثَمَّ يمكن القول: إن فقه النوازل هو معالجة إشكالات الراهن المعقَّد المرتبطة بالظواهر الاجتماعية والسياسية للمجتمع، وتُعَدُّ منتجاتها أكبر منبتٍ للنوازل؛ لارتباطها بالمعاش والحركة والوعي والتعقل، وعليه أصبح فقه النوازل يمثِّل الدراية المعرفية في مقابل الدراية السياسية[6].

3. الكشف عن طبيعة المجتمعات ومستوى تفكيرها وأهم مشكلاتها، وهو ما يفتح الباب للمقارنة بينها وبين واقعنا. فإن كتب النوازل تزخر بمادة تاريخية وفقهية غاية في الأهمية، وتُعَدُّ سجلًا حافلًا لجوانب كثيرة من حياة الأفراد والجماعات، وتعمل على كشف العديد من القضايا الفكرية والاجتماعية والتشريعية.

فالنوازل تعني ما يعرض لأفراد المجتمع من قضايا ومنازعاتٍ قضائية تُطرح على القضاة، ولهذا الأمر قيمة عظيمة بلا شكٍّ لا من الناحية الدينية فقط، بل لأنها كذلك تلقي الضوءَ على كثيرٍ من دقائق الحياة الاجتماعية والاقتصادية، كما تطلعنا على مدى الأصالة في التشريع، ومدى آثار البيئات الإقليمية في هذا التشريع، كما تعمل على التعرف إلى النُّظُم القضائية، ودور المفتين والمشاوَرِين في إرشاد المتقاضين ومناصرة المظلومين وتنوير رأي الحاكمين، والتعرف إلى منشآت المجتمع الحبسية، وما قدَّمت من دعمٍ دائمٍ للمؤسسات الدينية والتعليمية والجهادية[7].

فهي تثير مسائلَ في شتَّى شؤون الحياة. وليست قيمتها الكبرى في الجوابات؛ إذ إن مثلها قد يعثر عليه الباحث في الكتب الأخرى، وإنما قيمتها في الأسئلة نفسِها وفي مقدار ما تصوره من جوانب الحياة؛ لشمولها أولًا، ولأنها في معظم الأحيان مقترنةٌ بأحداثٍ واقعيَّة، وقلَّ منها ما هو نظري محض أو تعليمي في غايته.

ولهذا السبب كانت النوازل مصدرًا لدراسة التاريخ، ومادة خامًا لدراسة النواحي الاجتماعية في العصور التي خلت. وقد قدَّم الفقه النوازلي نماذجَ متنوِّعةً تتصل بحياة الناس وشؤونهم اليومية، وعرض القضايا التي كانت تهمُّهم في معاملاتهم ومعاشهم[8].

وتقول المستعربة الفرنسية رايل آريه: “تشكِّل هذه الفتاوى أهميةً عظمى ليس فقط في مجال الفقه الإسلامي في الأندلس فحسب، إنما أيضًا في غزارة المعلومات التي تقدِّمها لنا حول الحياة الاقتصادية والاجتماعية فيه، هذه المعلومات تكاد تخلو منها تقريبًا كتب المؤرخين”[9].

4. القواعد العلمية والمنهجية التي تزخر بها هذه المؤلفات، والتي قد تكون غائبةً في كتب المناهج والقواعد، وفي هذا يقول الإمام القرافي في نصٍّ نفيسٍ: “فإن القواعد ليست مستوعبةً في أصول الفقه، بل للشريعة قواعد كثيرة جدًّا عند أئمَّة الفتوى والفقهاء لا توجد في كتب أصول الفقه أصلًا، وذلك هو الباعث لي على وضع هذا الكتاب؛ لأضبط تلك القواعد بحسب طاقتي، ولاعتبار هذا الشرط يحرم على أكثر الناس الفتوى، فتأمل ذلك فهو أمر لازم”[10].

كما أن هذه الإجابات بمضامينها وطياتها تعطي للفقه حركةً من طرازٍ لا نجده في التآليف التي تتشابه في العرف والتنظيم أو تختلف، ولكنها في النهاية تتلاقى في بسطِ الأحكام وطرق المعلومات، وآية ذلك ما نلمسه في هذه الأجوبة من ربط المسائل بأصولها، ومقارنة بين الروايات وتصويبها، وفقه وتوجيهه، وتشريع وتعليله[11].

5. الامتزاج بين مسالك التنظير ومسالك التطبيق.

6. المُبرر المقاصدي، فإن أهمَّ ما يُعين على استحضار الدرس المقاصدي هي النوازل والواقعات.

7. الكشف عن طبيعة المفتي والمجتهد في الإجابات، والكشف عن الحجب التي تعيقه (مثل: العامل النفسي الطبيعي، والبيئة، والسياسة)، ونستطيع الكشف عن تلك الحجب من خلال كتب النوازل والواقعات بشكل كبير، والتأكيد عليها لتجعلنا بمنأى عن السقوط في تلك الحجب أو التحيزات.

فإنَّ شخصية الفقيه شخصيةٌ تعتريها ما يعتري الإنسان من ميولٍ نفسية عاطفية، وأُخرى بيئية مجتمعية، وسلطوية سياسية؛ فهذه وغيرها لها تأثير كبير في العقل الفقهي وتصوُّره وتطبيقه للأحكام[12].

وكذلك فإن كتب النوازل تعطي رؤيةً واضحةً لِـمَا يعتري الخطاب الفقهي من مؤثِّرات خارجة عن إرادة الفقيه، لها قوة وسطوة على خطابه، وهي ممَّا لا يُذكر في كتب الفقه إلَّا بإشاراتٍ يسيرة ومتناثرة هنا وهناك.

وهذه المسالك مهمَّة في قراءة الخطاب الفقهي المعاصر؛ لأنَّ الحجب مستمرة وليست منقطعة.

وكم هناك من المسائل التي تبقى بحاجةٍ إلى تفسير ميل الفقيه إلى هذا الرأي أو ذاك، وهذا التفسير خارج عن الدليل المتبنَّى، ممَّا يُثير تساؤلاتٍ نبحث فيها عن مناطق التأثير. وهو ما تفصح عنه كتب النوازل والواقعات.

وبهذا يمكن إجمال تلك المبررات والدواعي في:

1. مُبرر علمي منهجي.

2. مُبرر معرفي.

3. مُبرر واقعي.

4. مُبرر كشفي.

5. مُبرر مقاصدي.

أهمية التفكير في الفقه النوازلي:

1. قراءة السياقات الشرعية في نسق واحد، وهذا ما استصحبه النص الشرعي أساسًا في آيات الأحكام وغيرها، ومن الآيات الجامعة التي تعبِّر عن هذه الأركان والسياقات المهمَّة في تطبيق الحكم الشرعي قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} البقرة: 177].

فنجد العقيدة بجوار الفقه والعمل مع السلوك والأخلاق، ومن ثَمَّ فلا بدَّ أن يسير المسار الفقهي مستحضرًا السياقات الشرعية الأخرى (العقدية، والأخلاقية المقاصدية، والعبادية العملية)؛ لأنها بجملتها تعبِّر عن الواقع التشريعي المُنزل، وهو عادة ما يجب استحضاره في النوازل، أو بمعنى آخرى غالبًا ما تقارن النوازل جملةً من المستويات المختلفة التي تحتاج إلى ضرورة استحضارها عند معالجتها.

ومن التطبيقات النوازليَّة المهمَّة ما ورد عن سيدنا عمر رضي الله عنه عندما بعث: “إلى حذيفة بعدما ولَّاه المدائن وكثر المسلمات: أنَّه بلغني أنَّك تزوجت امرأة من أهل المدائن من أهل الكتاب فطلِّقها، فكتب إليه: لا أفعل حتى تخبرني أحلال أم حرام؟ وما أردتَ بذلك؟ فكتب إليه: لا بل حلال، ولكن في نساء الأعاجم خَلابة، فإن أقبلتم عليهنَّ غلبنكم على نسائكم. فقال: الآن، فَطَلَّقَهَا”[13]. وقال أيضًا: “أخاف أنْ تعاطوا المومسات منهنَّ”[14].

“وعلَّلَ ذلك بأنَّه يخشى الفتنة بين المسلمات، أي في الجزيرة العربية، لإعراض المسلمين عن التزويج منهنَّ، فكان حكمًا يتصل تطبيقه بالمصلحة العامَّة في ظرفٍ من الظروف، في حين أنَّ حِلَّ التزوج بالكتابيات منصوصٌ عليه في القران الكريم نفسه”[15] وذلك في قوله تعالى: {وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ} [المائدة: 5].

وهذه نصوص قطعية في ثبوتها ودلالتها، إلَّا أنَّها ظنيَّة في تنزيلها؛ ولهذا نجد سيدنا عمر رضي الله عنه قد اجتهد في تنزيل هذه النصوص، فكره الزواج من الكتابيات عندما رأى أنَّ ذلك يؤدي إلى ضررٍ اجتماعيٍّ.

وهي نازلة تنبئ بأن الأمر لا ينتهي عند حلال أو حرام. كما في نص الرواية عندما قال حذيفة رضي الله عنه: “لا أفعل حتى تخبرني أحلال أم حرام؟ وما أردتَ بذلك؟ فكتب إليه: لا بل حلال”، بل الأمر يتعدَّى ذلك إلى استحضار القيم والأخلاق من الأحكام؛ لأن الشريعة بطبيعتها أخلاقية قيمة.

فإذا كانت الأحكام في وقتٍ ما لا تعبِّر عن هذه القيمة الأخلاقية أو لا تحقِّق مقصد الحكم، فإن التطبيق يتأخر أو يتعذر لحين تقدّم القيم أولًا والأحكام ثانيًا.

والملاحظ أن نصَّ القرآن صريحٌ، إلَّا أن الفهم العُمري المستحضر لقيم التدين يأبى التطبيق العشوائي. وبهذا فإن الأبعاد القيمية والأخلاقية والتربوية والتوجيهية ظهرت في هذه النازلة، وظهر كيف عُولجت برؤية تستحضر السياقات الكليَّة العامَّة للشريعة والموازنة في ذلك، ومن ثَمَّ تطبيقها.

وهو بعكس مسار الدرس المنهجي المنفصل عن هذه السياقات المهمَّة والمؤثرة في الحكم. فإننا كل ما استجدَّت نازلة بانَ الأمر بأنَّ العقل الفقهي يعاني من ضمور المعنى المقاصدي، وفي الوقت نفسِه كيف يأخذنا التوجيه المقاصدي بقوة إلى الحضور الواقعي لمعالجة النوازل. وطبيعة النوازل تحمل معها وفي سياقاتها السياق الفقهي والعقدي والأخلاقي، وهو ما يؤكِّد أهمية حضور الدرس المقاصدي في الواقعات والنوازل.

2. غياب المعالجات النصيَّة المباشرة؛ وذلك لأن طبيعة النازلة ومقتضى مدلولها أن تكون غير معهودة. ومن ثَمَّ لا بدَّ من الاستنجاد بالكليَّات والمقاصد العامَّة. والكليَّات مشكلة في التنزيل؛ لأنها لا تعتمد السيولة، بل تعتمد دقَّة النظر في تحديد أفراد الجزئيات التي تنتظم تحتها هذه الكليَّة أو تلك.

ومن هذا قال ابن عبد السلام (749هـ): “وَإِنَّمَا الْغَرَابَةُ فِي اسْتِعْمَالِ كُلِّيَّاتِ الْفِقْهِ وَتَطْبِيقِهَا عَلَى جُزْئِيَّاتِ الْوَقَائِعِ، وَهُوَ عَسِيرٌ فَتَجِدُ الرَّجُلَ يَحْفَظُ كَثِيرًا مِنْ الْعِلْمِ، وَيَفْهَمُ وَيُعَلِّمُ غَيْرَهُ، وَإِذَا سُئِلَ عَنْ وَاقِعَةٍ بِبَعْضِ الْعَوَامّ مِنْ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا لَا يُحْسِنُ الْجَوَابَ عَنْهَا”[16]. “لهذا اشتهر بأن الفتوى دربة وصَنعة؛ لأن الأحكام تتغيَّر بتغيُّر الأزمنة”[17]. ويعلِّق الإمام القرافي على ذلك قائلًا: “هُوَ أَنَّهُ مَنْ لَا بَاعَ لَهُ فِي حِفْظِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ لَكِنْ مَعَهُ مِنْ الْفَطِنَةِ مَا يُدْخِلُ بِهِ الْجُزْئِيَّاتِ تَحْتَ كُلِّيَّاتِهَا بِخِلَافِ غَيْرِهِ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ كَثِيرَ الْحِفْظِ لِمَسَائِلِهِ لَكِنْ لَيْسَ مَعَهُ مِنْ تِلْكَ الْفَطِنَةِ شَيْءٌ، كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ؛ وَلِذَلِكَ نَقَلْتُه بِرُمَّتِهِ”[18].

“وَبِعَصْرِنَا الْآنَ شَخْصٌ يَتَعَاطَى الدِّقَّةَ فِي الْعِلْمِ وَيُنْهَى عَنْ جُزْئِيَّةٍ فَيَتَجَنَّبُهَا بِشَخْصِهَا ثُمَّ يَقَعُ فِي أُخْرَى مِثْلِهَا، فَإِذَا قِيلَ لَهُ هَذِهِ مِثْلُ تِلْكَ تَجَنَّبَهَا وَيَقَعُ فِي ثَالِثَةٍ وَعَلَى ذَلِكَ”[19].

3. فرض مساراتٍ معرفيَّة أخرى، فالاشتباك مع الواقع وتصوُّره بقوة، والكشف عن تحيزات النفس ومشكلاتِها يقضي بالحاجة إلى العلوم الإنسانية والتطبيقية التي لها خاصيَّة الكشف عن الواقع وعن المًكلَّف بدقَّة، وهي من الأدوات التي يحتاج إليها المجتهد والفقيه عند تنزيل الحكم على النوازل.

إنَّ الخللَ الذي أصاب العقلَ المسلمَ هو أنَّ العلومَ الإنسانية ضعيفةُ الحضور في التراث الفقهي، وتأخَّر معه قيام الفلسفات التي تقيم النظرة الصحيحة عن الحياة والنفس والإنسان والمجتمع والسياسية والاقتصاد بجوار الفقه. وفي الوقت نفسِه، فإن أصحاب هذه التخصُّصات الإنسانية عندهم ضعف في التصوُّر عن الشريعة ومقاصدها. ومن أجلِ التوظيفِ الحسن للشريعة والتكامل بين العلوم، فإن السعي إلى دمج هذه العلوم بعضها مع بعض ينفع كلا الطرفين ويقدِّم رؤيةً عن الحياة والوجود والغيب كذلك، بطريقة صحيحة تتكامل ولا تتقاطع.

4. النوازل تحكي قصة الواقع، التي قد لا نجدها في المدونات الفقهية المعنيَّة بالتخريج والترجيح.

5. فقه النوازل يؤسِّس لفقه التنزيل، ففقه النوازل انبعاثٌ من الواقع للنص، ويقابله فقه التنزيل وهو انبعاثٌ من النص إلى الواقع؛ ‏فقه النوازل حدث طارئ، وفقه التنزيل مسار مؤسِّس لذلك؛ ‏فقه النوازل معالجة النوازل الآنية، والتنزيل من خلال النوازل يعمل على التأسيس لما سيكون، ‏الأول مساحة التصور والتنزيل مساحة التصديق. وفقه النوازل عبارة عن ردَّة فعل لواقع النازلة، أما فقه التنزيل فهو سابقٌ على ردَّة الفعل ويعالج المسائل قبل أنْ تقع من خلال قواعده وضوابطه.

6. تشترك عدَّة أدوات ومفاهيم في معالجة فقه النوازل، وهي: فقه الواقع، وفقه المقاصد، وفقه الموازنات، وفقه المآلات. وهذه المفاهيم والمنارات الهادية كلها ينبغي أن تكون حاضرةً في فقه النوازل؛ لأننا عندما نضيف النوازل إلى الفقه فالمراد بالفقه هنا معناه العام الذي يعني مطلق الإدراك والنظر والتتبُّع وحسن التنزيل ورصد المآلات والمتغيرات.

7. الفقه النوازلي يعمل على تحريك عجلة الاجتهاد، وتفعيل الأدوات المنهجية وتطويرها، وتوسيع دائرة النظر وموضوعية مسالك الترجيح ودقتها، والتقليل من التحكُّم الأيديولوجي والتوظيف النفعي المصلحي، وقتل التعصُّب والجمود الفكري، وتحرير العقل من الركون والتفكير بعقل غيره.

8. الفقه النوازلي عميقُ المعنى والأثر؛ لأنه ينتقل إلى المنهج وضبطه وأدواته في قراءة المسائل، ولا ينشغل بالجزئيات والإغراق بها معرضًا عن المنهج.

معوقات الحضور:

ذكر شيخنا علَّامة الموصل الدكتور ريان توفيق ثلاثة معوقاتٍ تعيق المعالجات النوازلية[20]، وهي تصلح لأن تكون معوقاتٍ لحضور الدرس النوازلي:

1. المتنيَّة: والمراد هو اللجوء إلى نصوص المتون وقواعدها في معالجة النوازل، من غير المرور بالشروحات والمصنفات وكتب النوازل والواقعات، التي تبيِّن المرادات والمشكلات والأسباب الداعية للأقوال وتدوينها. وقد خلق هذا السلوك ثقافة الاكتفاء الموهوم التي أصبحت فيما بعد حجابًا يمنع من المرور والحضور للفقه النوازلي.

وهذا الفصل كثير ما يقع به طلبة العلم، ومن هذا نبه الإمام القرافي على تلك المظاهرة الخاطئة فقال: “يشتغل بمختصرٍ من مختصرات مذهبه فيه مطلقاتٌ مقيَّدة في غيره، وعموماتٌ مخصوصة في غيره. ومتى كان الكتابُ المعين حفظه وفهمه كذلك، أو جوز عليه أن يكون كذلك، حرُم عليه أن يفتي بما فيه وإن أجاده حفظًا وفهمًا، إلَّا في مسألة يقطع فيها أنها مستوعَبةُ التقييد، وأنها لا تحتاج إلى معنى آخر من كتاب آخر، فيجوز له أن ينقلها لمن يحتاجها على وجهها من غير زيادة ولا نقصان، وتكون هي عين الواقعة المسؤول عنها لا أنها تشبهها ولا تخرج عليها، بل هي هي حرفًا بحرفٍ؛ لأنه قد يكون هنالك فروقٌ تمنع من الإلحاق أو تخصيص أو تقييد يمنع من الفتيا بالمحفوظ فيجب الوقف”([21]).

2. الظرفيَّة: أي العيش في ظرفية معينة غابت وانتهت، ولم يعُد للواقع المعيش من اعتبار. فتغيب الاعتبارات الواقعية التي تُعَدُّ شرطًا أساسيًّا لفهم النوازل، لكون النازلة منبثقةً من الواقع، وهو ما يجعل اعتبارات النصوص المتنيَّة تضعف في المعالجات المستجدَّة.

3. الأحاديَّة: أي تكريس النظرة الضيِّقة المتحيِّزة المتعصِّبة، وعدم الخروج والانفتاح على الآراء الأخرى، وهو عائقٌ كبيرٌ يمنع من عملية استحضار الفقه النوازلي بوصفه منهجًا عمليًّا تطبيقيًّا للنظر والاجتهاد والتنزيل.

وأخيرًا، فقد آن الأوان أن نلحظ حركة الواقع، والإبداع الفقهي، والتجديد المنهجي من خلال الفقه النوازلي وممارسته العلمية والعملية.

 

الدكتور أحمد مرعي المعماري

* باحث عراقي، حاصل على شهادة الدكتوراه في الشريعة، تخصص فلسفة أصول فقه.
– يعمل حاليًا أستاذاً مساعداً بكلية الإمام الأعظم الجامعة/ بغداد.
– موظف ديوان الوقف السني، وأستاذ محاضر بجامعة الموصل، كلية العلوم الإسلامية.
– له منشورات مطبوعة أهمهما كتاب (فقه التنزيل دراسة أصولية تطبيقية) عن مركز نماء للبحوث والدراسات، أطروحة دكتوراه، وكتاب (الخطاب الفقهي والتحيزات السياسية – تحولاته – مآلاته –معالجاته) عن مركز نهوض للدراسات والنشر.
 

الهوامش

[1] وقائع أندلسية في نوازل القاضي عياض، محمد بن شريفة، مجلة دعوة الحق، مجلة شهرية تعنى بالدراسات الإسلامية و بشؤون الثقافة والفكر أسست سنة 1957 المملكة المغربية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية, ص94.العدد 264

[2] المراد بالنص هنا ما هو أعمُّ من النص القرآني، ويشمل نص الفقيه والمجتهد المدون، وليس من قبيل مساواته مع النص الأم، لكن من قبيل القراءة التَشَكُلِيَّة للعقل الفقهي وطبيعة المدخلات الذهنية والمفهومية.

[3] أنور محمود زناتي، كتب النوازل مجلة البيان، 3 يونيو 2011. العدد 284، ص 88.

[4] ابن سهل: ديوان الأحكام الكبرى، تحقيق: يحيى مراد، دار الحديث، القاهرة 2007م، ص 26.

[5] أنور محمود زناتي، كتب النوازل، سبق ذكره.

[6] فقه النوازل المفهوم والحاجة: الونشريسي أنموذجًا، بوعرفة عبد القادر كاتب وبرفيسور بجامعة وهران قسم الفلسفة أزيد من 36 كتابا في مختلف الحقول، مقال في مدونات الجزيرة، نُشر، بتاريخ 12/ 10/ 2016.

[7] أنور محمود زناتي، كتب النوازل، سبق ذكره.

[8] مقدمة فتاوى ابن رشد، للفقيه العالم الحجة « أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد (الجد) المالكي القرطبي (520هـ – 595هـ / 1126م – 1198م)، 0تقديم وتحقيق وجمع وتعليق: المختار بن الطاهر الشبلي( دار الغرب الإسلامي) ( 69.(

[9] R. ARIÉ: España musulmana (siglos VIII – XV) : Historia de Españ dirigida por Manuel Tuñón de Lara, III, Barcelona 1989, p.100.

[10]الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق (مع الهوامش)، تأليف: أبي العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (ت: 684هـ) تحقيق: خليل المنصور (الناشر: دار الكتب العلمية) (د.ط، س، 1418هـ – 1998م).2/205.

[11] أنور محمود زناتي، كتب النوازل، سبق ذكره.

[12]حجاب الرؤية: قراءة في المؤثرات الخفية على الخطاب الفقهي، الدكتور عبد الله بن رفود السفياني (مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت – لبنان) (ط1، 2016م) (37)

[13]تاريخ الأمم والرسل والملوك، تأليف: محمد بن جرير الطبري أبي جعفر(دار الكتب العلمية – بيروت) (ط1، س، 1407) (2/437).

[14]المصنف في الأحاديث والآثار، تأليف: أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي، تحقيق : كمال يوسف الحوت (مكتبة الرشد – الرياض) (ط1، س، 1409هـ).، (3 / 474) بالرقم (16163).

[15]المناهج الأصولية في الإجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي، تأليف: الدكتور محمد فتحي الدريني (مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان) (ط3، س1429هـ ، س 2008م).(17).

[16] الفروق للقرافي (4/ 97).

[17]المصدر نفسه.

[18]الفروق للقرافي (4/ 97).

[19] مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، تأليف: شمس الدين أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي، المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي (ت: 954هـ) (دار الفكر) (ط3، س، 1412هـ – 1992م) (6/ 87).

[20]الدكتور ريان توفيق، محاضرة في فقه النوازل تأصيلًا وتنزيلًا، كلية العلوم الإسلامية جامعة الموصل، بتاريخ 3 سبتمبر 2020.

[21]الفروق (176).

 

المصدر: مركز نهوض للدراسات والبحوث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky