الاجتهاد: بدأ الإمام جعفر بن محمد الصادق “عليه السلام ثورته الفكرية بين المسلمين بأساليب متعدّدة ومختلفة حسب اختلاف عقليّة السائلين والمجادلين، وانتشرت أحاديثه انتشاراً هائلاً، وكثُر الرواة لها في جميع الطبقات من شيعته وغيرهم، لا سيما وقد أصبح الحديث والرواية علماً مستقلاً بذاته في ذلك الوقت
بدأ الأئمة المعصومون من أهل بيت النبوة “عليهم السلام”، يعانون أشدَّ المصاعب والعقبات في سبيل إنقاذ الإسلام من الارتباك والاضطراب والتشويه والتحريف، من قبل الانتهازيين والوصوليين الذين عملوا على تأليف الحديث ويضعوه لتأييد بعض المفلسين الذين ليس لهم سابقةٌ في إيمان، فقد كانت مهمتهم هي المحافظة على نصاعة الإسلام وإشراقه وجلاء مفاهيمه مهما كلّفهم الأمر، وكانت الظروف تشتدُّ حيناً وتنفرج أحياناً، وكانت لحظات الانفراج، هي المجال الوحيد لنشر توجيهاتهم، وبثّ تعاليمهم المقدّسة.
وعليه كان عصر جعفر بن محمد الصادق “عليه السلام” فريدا من جميع النواحي كونه عاصر سلطتين “الامويون والعباسيون” كانتا في صراع مستمر، مما نتج عن ذلك انفراج واسع نسبيّاً وانشغال كلا السلطتين بشؤونهم وملكهم عن الإساءة للإمام أو منعه عن ممارسة نشاطه في الدعوة إلى الحقّ، وتعريف النّاس به [1]، يمكن القول ان في مدة الامويين كان الامام يتقي من السلطة الاموية ولعلنا نلمس ذلك من مخاطبة الامام الصادق لابي ليلى وسفيان حول قبول مالك بن انس من ضمن تلامذته بالقول :” انكما لتعلمان اني لا اخبره والامويون بالمدينة كثيرا ونكره القول علينا…” [2]
وبدأ الإمام الصادق “عليه السلام ثورته الفكرية بين المسلمين بأساليب متعدّدة ومختلفة حسب اختلاف عقليّة السائلين والمجادلين، وانتشرت أحاديثه انتشاراً هائلاً، وكثُر الرواة لها في جميع الطبقات من شيعته وغيرهم، لا سيما وقد أصبح الحديث والرواية علماً مستقلاً بذاته في ذلك الوقت، وقد خصص أبو العباس أحمد بن عقدة الكوفي كتاباً فريدا من نوعه جمع فيه أربعة آلاف رجل، وذكر مصنّفاتهم، وثم اكد عن الحسن بن علي الوشاء في قوله :” أدركت في هذا المسجد[3] تسعمائة شيخ كلٌّ يقول: حدّثني جعفر بن محمد” [4] .
وأعطت هذه الثورة ثمارها، فقد بدأت الحركة العلميّة تزدهر وتنمو، وبدأ الجمود الذي سيطر على أذهان وتفكير اغلب المسلمين يتلاشى تدريجيّاً، كلُّ ذلك بفضل الحركة التي أثارها الإمام جعفر بن محمد الصادق “عليه السلام”.
ولم يعجب الدولة العباسيّة هذا الإشراقُ الذي بدأت تتجلّى فيه المبادئ الإسلاميّة، والتفكير المرن الذي يدخل حياة المسلمين، فضلا عن ذلك رفضوا ان يكون للإمام جعفر بن محمد الصادق “عليه السلام” هذه المكانة والمنزلة في نفوس المسلمين.
وعلى اثر ذلك بدأ الوضّاع يختلقون الأحاديث التي تتنافى مع اصول العقيدة الاسلامية وينسبونها للأمام جعفر بن محمد الصادق، مما دفع الامام “عليه السلام ان ينبّه المخلصين الذين يحاولون المحافظة على قدسيّة هذا التراث، إلى خطر هذه الأكاذيب، أن يجعل لهم مقياساً يقيسون به ما يأخذونه عنه ، فقد نلمس ذلك من وصية الامام الصادق لــ “هشام بن الحكم” قائلا:” لا تقبلوا علينا حديثا الا ما وافق القرآن والسنة، أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة، فان المغيرة بن سعيد لعنه الله دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا صلى الله عليه وآله فانا إذا حدثنا، قلنا قال الله عز وجل، وقال رسول الله “.[5] يبدو من ذلك ان المشكلة التي كان يعاني منها الامام الصادق “عليه السلام ” على وجه الخصوص هي مشكلة الكذّابين والوضّاعين، فلم يكن امامه، إلا تحذير المخلصين والمسلمين منهم، وإرجاعهم إلى كتاب الله وسنّة النبي الاكرم محمد “صلى الله عليه واله” في كلِّ أمرٍ من أمور الكون والحياة.
وعليه نستنتج من ذلك، يعد القرآن في فكر الامام جعفر بن محمد الصادق “عليه السلام” القاعدة الأصيلة المعصومة التي ينطلق منها كلُّ فكر وحكم شرعيّ، في أيِّ مفهوم من المفاهيم الإسلامية. ولذلك يعد القرآن الكريم هو الميزان الفصل بكلِّ ما يُروى من أحاديث السُّنّة الشريفة. فقد جاء عن الإمام الصادق عن النبي الاكرم قال : “إنَّ على كلِّ حقٍّ حقيقة، وعلى كلِّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه”[6] ثم قال الامام الصادق “عليه السلام “:” كل شيء مردود إلى الكتاب والسُّنّة، وكلُّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف[7]”، كذلك قال “لا يصدّق علينا إلا بما يوافق كتاب الله وسنّة نبيّه”[8].
وفي ضوء هذه الأحاديث، يتضح ان القاعدة الفكريّة للحكم هو القرآن الكريم والسنة النبوية على كلِّ الأحاديث المشتملة على بعض المفاهيم والأحكام. فهو الخط الذي يحمي لنا المفاهيم الإسلامية من أحاديث الغلوّ والكفر والانحراف.
اما الجوانب التربوية والاجتماعية التي اكد عليها الامام الصادق من خلال طروحاته هو التحبب الى الناس والتودد اليهم فعن الامام الصادق “عليه السلام انه قال :” مجاملة الناس ثلث العقل”[9]، فكان الامام “عليه السلام” يريد للناس ان يعيشوا داخل مجتمع الدولة الاسلامية متحابين متماسكين لأن فيه العمل والاصلاح التربوي للمجتمع الاسلامي فقال:” اذا احببت رجلاً فأخبره بذلك فأنه أثبت للمودة بينكما”[10].
وطرح الامام الصادق “عليه السلام” فكره التربوية والنفسية بأسلوب واقعي تطبيقي فلم يكن يقابل مسيئا بأسائه، ولا مذنبا بذنوبه، وانما كان يغدق عليهم ببره. روي عنه انه قال: ” اذا بلغك عن أخيك شي يسؤؤك فلا تغتم، فان كنت كما يقول القائل كانت عقوبة قد عجلت، وان كنت على غير ما يقول كانت حسنة لم تعملها”[11].
وكما اكد الامام الصادق على مداراة افراد المجتمع المتعددين في كل جوانب الشخصية من اوليات العمل والفعالية في أوساطهم لإصلاحهم وتربيتهم ، فجاءت الروايات لتؤكد على هذا الامر ، فعن الامام الصادق قال :” قال رسول الله صلى الله عليه واله: امرني ربي بمداراة الناس كما امرني باداء الفرائض”[12] .
ومن المداراة تجنب الحديث عن الامور التي لا يتعقلها المراد تربيتهم ولا تتحملها عقولهم . فقال الامام الصادق:” رحم الله عبداً اجتر مودة الناس الينا، فحدثهم بما يعرفون وترك ما ينكرون”[13]
ونصح الامام الصادق حملة أفكاره بان يتحملوا ويصبروا على ولاة الجور وانظمتهم وحذرهم من منازعتهم ومخاصمتهم ، واوصاهم بالتقية في الكلام اذا جلسوا معهم وان يحذروا منهم عند مجالستهم ومخالطتهم ، واوضح لهم ان لم يسيروا على منهجه فانهم سيؤذونكم وينكلون بكم [14] و في احدى الروايات التي اسندت الى هشام الكندي، مفادها ان الامام الصادق اوصى اصحابه بمخالطة الناس بالحسنى وحذرهم من ان يعملوا عملاً يعيرون به، وامرهم بان يصلوا في جميع مساجد الله، وان يزوروا مرضاهم ويتفقدوهم ، وان يحضروا جنائزهم واكد لهم الامام الالتزام بالتقية .
وذلك حفاظا لوحدة الاسلام في مجتمع الدولة العربية الاسلامية وتأييدا للدين واعلاء كلمة الاسلام والمسلمين في مقابل الكفار والمنافقين [15]
نستنتج من ذلك ان الامام الصادق “عليه السلام” سعى الى علاج الواقع التربوي الاجتماعي الفاسد وما يزخر به من مظاهر الانحطاط الفكري التربوي الاخلاقي ، فوفر الامام منابع كثيرة للفكر وفرصا نادرة في ثبات الخط العلمي والتربوي ، كما ان الامام الصادق هيأ الكوادر التربوية الممتازة ، وزودهم بالأسس والقواعد التربوية ، فعمد الى تربية جيل اصيل يعتمد عليه في نشر فكره وطروحاته.
الهوامش
[1] النعمان القاضي، المناقب والمثالب، تحقيق: ماجد احمد العطية،(بيروت: 2002)، ص339.[2] أحمد بن محمد المقري، أزهار الرياض في أخبار عياض، تحقيق: صطفى السقا واخرون،( القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر،1939) ، ج4، ص327
[3] يقصد الراوية مسجد الكوفة .
[4] المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ، ص179.
[5] الطوسي، اختيار معرفة الرجال ، تحقيق مهدي الرجائي، (قم: مؤسسة ال البيت لإحياء التراث،1404)، ج ٢ ، ص ٤٨٩؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، (بيروت: مؤسسة الوفاء للطباعة،1983)، ج ٢،ص ٢٥٠
[6] الكليني ، الكافي، تحقيق: ابو الحسن الشعراني،(قم: منشورات دار الكتب الاسلامية، 1968)، ج ١ ، ص ٦٩
[7] الحر العاملي ، وسائل الشيعة، تحقيق: محمد الزازي،(بيروت: جار احياء التراث العربي،1969)،ج27، ص111.
[8] للمزيد من التفاصيل حول ذلك ينظر: تفسير العياشي ، ج1، ص9.
[9] الكليني ، المصدر السابق ، ج2، ص643.
[10] المصدر نفسه ، ص644.
[11] حسين الشاكري ، موسوعة المصطفى والعترة،(قم: مطبعة سارة،1417)، ج5، ص97-103.
[12] الكليني ، المصدر السابق ، ج2، ص117
[13] الصدوق، الامالي، تحقيق: قسم الدراسات الاسلامية،(قم ، مؤسسة جماعة المدرسين،1417)، ص159
[14] الكليني ، المصدر السابق، ج8، ص 2-3
[15] محمد صادق الروحاني ، فقه الصادق، (قم: المطبعة العلمية،1991)، ج11، ص392.
المصدر: العتبة الحسينية المقدسة