البوطي

موقف الدكتور البوطي من هدم آثار النبوة على يد الوهابية

الاجتهاد: في مقدمة كتاب (نصيحة لإخواننا علماء نجد) يتحدث الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي – وهو من كبار علماء سوريا – عن أفكار هذه الجماعة التي تطلق على نفسها تارة الوهابية وتارة أخرى السلفية، وعن عقائدهم التي منها تكفير كافة المسلمين واتهامهم بأنهم أهل البدع والضلالة وما أشبه ذلك..

وإليك بعض ما جاء في هذه المقدمة:
وما أعلم أن العالم الإسلامي أجمع في استيائه من أمر من الأمور في عصر من العصور كاستيائه من هذا الذي يقدم عليه الإخوة مسؤولوا المملكة وعلماؤها اليوم، من إخلاء مكة والمدينة وما حولها من سائر الآثار المتصلة بحياة رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» الشخصية والنبوية، وما يتبع ذلك من الإقدام على أمور تناقض الشرع وتناقض المنهج الذي كان عليه السلف الصالح، كمنع المسلمين من زيارة البقيع ومنع الدفن فيه، وتكفير سواد هذه الأمة بحجة كونهم أشاعرة أو ماتريديين. وهل كان الإمام الأشعري إلا نصير السلف الصالح بإجماع الأمة؟

والذي زاد من هذا الاستياء الذي بلغ اليوم ذروته، أن هؤلاء الإخوة الذين يقدمون على هذه الفظائع المنكرة، ماضون ومستمرون في ذلك في صمت وقدر كبير من اللامبالاة! وقد كان أدنى ما يقتضيه الالتزام بأوليات الدين الإسلامي والبديهيات المتفق عليها من أحكامه، أن يبدأ هؤلاء الإخوة فينشرون بيانا يأتون به على سمع العالم الإسلامي وبصره، يوضحون فيه الدليل على ما قد تحقق لديهم من وجوب هدم آثار النبوة والقضاء عليها، وملاحقتها بالمحو أيا كانت وأينما وجدت، ومن ثم يعلنون عن عزمهم – بناء على ذلك – على تنفيذ ما يقتضيه الحكم الشرعي المقرون بدليله. .

ولقد كنت ولا أزال واحدة من ملايين المسلمين الذين تأخذهم الدهشة لهذا الذي يجري في مكة والمدينة، تحت أبصار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، مع الاستخفاف بمشاعرهم وعلومهم ومعتقداتهم، ودون تقديم أي معذرة بين يدي مغامراتهم العجيبة هذه، من حجة علمية يتمسكون بها، أو اجتهاد دیني حق لهم أن يجنحوا إليه ! .

بل لقد آثرت، تحت تأثير هذه الدهشة، أن أبدأ فأتهم نفسي بالجهل، وأن أفترض في معلوماتي الشرعية خطأ توهمته صوابا، أو حكما غاب عني علمه، وذلك ابتغاء المحافظة على ما هو واجب من حسن الظن بالإخوة المسلمين، لا سيما العلماء منهم، ما اتسع السبيل إلى ذلك.. فرحت أنبش سيرة السلف الصالح وموقفهم، بدءا من عصر الصحابة فما بعد، وأستجلي – من جديد – موقفهم من آثار النبوة، سواء منها العائدة إلى شخص رسول الله«صلى الله عليه وآله وسلم» أو ذات الدلالة على رسالته ونبوته، فلم أجد إلا الإجماع بدءا من عصر الرسول ، على مشروعية التبرك بآثاره، بل رأيت الصحابة كلهم يسعون ويتنافسون على ذلك.. ولا ريب أن مشایخ نجد يعلمون ما نعلمه جميعا من ورود الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما، المتضمنة تبرك الصحابة بعرق رسول الله وشعره ووضوئه وبصاقه والقدح الذي كان يشرب فيه، والأماكن التي صلى فيها، وجلس أو قال فيها.

ولا نشك في أنهم يعلمون كما نعلم أن عصور السلف الثلاثة مرت شاهدة بإجماع على تبرك أولئك السلف بالبقايا التي تذكرهم برسول الله « صلى الله عليه وآله» من دار ولادته، وبيت خديجة، ودار أبي أيوب الأنصاري التي استقبلته فنزل فيها في أيامه الأولى من هجرته إلى المدينة المنورة، وغيرها من الآثار كبئر أريس وبئر ذي طوى ودار الأرقم… ثم إن الأجيال التي جاءت فمرت على أعقاب ذلك كانت خير حارس لها وشاهد أمين على ذلك الإجماع.

ثم إن العالم الإسلامي كله يفاجأ اليوم بهذه البدعة التي يمزق بها إخوتنا مشایخ نجد إجماع سلف المسلمين وخلفهم إلى يومنا هنا، فدار ولادة رسول الله تُهدّم وتُحول إلى سوق للبهائم، ودار ضيافة رسول الله «صلى الله عليه وآله» في المدينة تحول إلى مراحيض! وتمرّ أيدي المحو والتدمير على كل الآثار التي تناوبت أجيال المسلمين كلهم شرف رعايتها والمحافظة عليها.

والأعجب من هذا كله أن مشایخ نجد يرون مدى استنكار العالم الإسلامي وغليانه الوجداني، لهذه البدعة التي تزدري إجماع المسلمين من قبل وتستخف بمشاعرهم الإيمانية، دون أن يتوجهوا إليهم بكلمة يبررون فيها عملهم ويشرحون فيها وجهة نظرهم. إذ المفروض – إذا كانوا هم المصيبون في عملهم هذا وعلماء العالم الإسلامي قاطبة جاهلون ومخطئون – أن يتوجهوا إليهم ببيان هذا الذي يعرفونه، حتى يتنبهوا إلى خطئهم ويتحولوا إلى الصواب الذي امتازوا وانفردوا عن العالم كله بمعرفته، وبذلك يكسبون أجر هدايتهم وإرشادهم إلى الحق الذي تاه عنه المسلمون خلال أجيالهم المنصرمة كلها..

وجاء في مكان آخر من حديثه عن أفكار هذه الجماعة:

فهلاً تلمستم – یا علماء نجد – مكان محبة الله ورسوله من أفئدتكم، وهلاّ استنبتم هذه المحبة إن رأيتموها ضامرة بمزيد من ذكر الله عز وجل، إذن لدفعكم هذا الحب – والله – إلى حراسة آثار النبوة وصاحبها بدلا من محوها والقضاء عليها، ولسلكتم في ذلك مسلك السلف الصالح رضوان الله عليهم، وإذن لأقلعتم عن ترديد تلك الكلمة التي تظنونها نصيحة وهي باطل من القول، وتحسبونها أمرأ هيّناً، وهي عند الله عظيم، ألا وهي قولكم للحجيج في كثير من المناسبات: إياكم والغلو في محبة رسول الله!

ولو قلتم، كما قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، لكان كلاماً مقبولا، ولكان ذلك نصيحة غالية.

أما الحب الذي هو تعلق القلب بالمحبوب على وجه الاستئناس بقربه والاستيحاش من بعده، فلا يكون الغلو فيه – عندما يكون المحبوب رسول الله – إلاً عنوانا على مزيد قرب من الله، وقد علمنا أن الحب في الله من مستلزمات توحيد الله تعالى.

ومهما غلا محب رسول الله «صلى الله عليه وآله» في حبه له أو بالغ، فلن يصل إلى أبعد من القدر الذي أمر به رسول الله «صلى الله عليه وآله» , إذ قال فيما اتفق عليه الشيخان: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين، وفي رواية للبخاري: ومن نفسه.

وإذا ازدهرت قلوبكم بهذه المحبة، فلسوف تعلمون أنها مهما تلظت بهذه المحبة، فلسوف تظل متقاصرة عن الحد الذي يستحقه رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، ولسوف تنتعش نفوسكم لمرأى آثار النبوة – إن كان قد بقي منها بقية لديكم اليوم – بدلا من أن تكرهوها وتسعوا سعيكم الحثيث للتخلص منها وللقضاء عليها.

 

المصدر: كتاب فاجعة البقيع، للشيخ جلال معاش

تحميل الكتاب

فاجعة البقيع – الشيخ جلال معاش

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky