الاجتهاد: إن بحث موضوع المرجعية الدينية الإسلامية يُعدّ من القضايا المهمة في الواقع الإسلامي حاضراً ومستقبلاً، إذ أن علاقة الإنسان عموماً بالدين أو بالأفكار إنما تقوم فيما تقوم عليه، على أساس الارتباط بمرجعية تُجسّد الفكرة وتمنح لأتباعها مرجعاً يثقون به ويعودون إليه؛
وتزداد الحاجة إلى هذه المرجعية عند التباس الفهم لبعض القضايا التي تعرض للإنسان أو عند تشعب السبل أمامه بخصوص الأسئلة الجديدة التي يواجهها في واقعه؛ وبما أن للمرجعية أثر هام على فكر الإنسان وسلوكه وتصرفاته، فلا بد من معرفة حقيقها، وبيان محدداتها، وكيفية تشكلها، والإشكاليات التي تحيط بها؛ وهو ما سنحاول بحثه في هذه الورقة من خلال المحاور والعناصر التالية:
1 ـ تعريف المرجعية الإسلامية وخصائصها
تعريف المرجعية الدينية
يمكننا أن نعرّف المرجعية الدينية على أنها الجهة، مُمثّلةً في الغالب في فردٍ أو في مؤسسة، التي يرجع إليها كل مُهتمّ بالشأن الديني، طلباً للتوجيه أو استفتاء لما يعرض له من مسائل وقضايا يحتاج فيها إلى معرفة الرأي الشرعي بخصوصها؛ والأصل أن هذه المرجعية تنبع من اختيار الفرد الذي يريد الاستناد إليها؛ وليست للمرجعية الدينية الإسلامية سلطة قانونية على من يعود إليها؛ وإنما هي سلطة معنوية روحية[1].
خصائص المرجعية الدينية الإسلامية
يمكننا أن نستلهم من نصوص القرآن الكريم الخصائص العامة المطلوبة في المرجعية الإسلامية التي ينبغي أن يعود إليها الناس في معرفة أمور دينهم، وهي أساساً:
العلم
يقول الله تعالى ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:43]، [الأنبياء:7].
إن التأمل في هذه الآية يفيدنا المسائل التالية:
إن الأصل في الإنسان أن يعلم بنفسه ما هو محتاج إلى معرفته، وقد اعتبر العلماء أن اكتساب العلم بالأحكام الشرعية ينقسم إلى قسمين: ما هو ضروري للمسلم معرفته، وهو ما تستلزمه عبادته، ومعاملاته في مجال تخصصه، فهذا القسم من الواجب العيني الذي على المسلم تحصيله؛ والقسم الثاني هو ما يصل بالإنسان إلى مستوى التخصص في العلوم الشرعية، وهو ما يدخل في باب الواجبات الكفائية، إذ لا يُطلب من كل مسلم أن يكون مُتعمقاً ومتخصصاً في جميع العلوم الشرعية ومحيطاً بها.
إذا وجد الإنسان نفسه أمام قضية أو سؤال لا يعرف فيه حكم الشرع وجب عليه تحرياً للصواب أن يسأل عنه من هو أعلم به منه، وهذا هو التصرف الطبيعي لكل إنسان يحتاج أن يعود فيما لا علم له به إلى من هو أدرى به منه؛ فلا يصح لإنسان مسؤول أن يقدُم على عمل مَا دون أن يكون له معرفة بحقيقته وحكمه؛ إذ أنه كما قرّر البخاري في ترجمته، في كتاب العلم من صحيحه، في قوله: باب العلم قبل القول والعلم، أن العلم يسبق القول والعمل.
لا ينبغي لمن احتاج إلى علم أن يعود لأيًّ كان وإنما يجب عليه أن يرجع لأهل الذكر، وأهل الذكر الذي أشير لهم في الآية، هم الذين يقومون بواجب التذكير للجاهل أو الناسي من المشهود لهم بالاختصاص والعلم.
الخبرة
يقول الله تعالى: ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان:59]
والخبير هو الذي اكتسب خبرة بالأمر وعرفه على حقيقته[2]، وهو أمر زائد عن العلم، إذ أنه يجمع مع العلم التجربة والفهم، ولعل الخبرة هي من مقتضيات الفقه بالأمر، كما جاء في الحديث النبوي القائل: «رب حامل فقه ليس بفقيه» رواه الطبراني؟
القدرة على الاستنباط والتنزيل
يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء:83].
فالردّ يجب أن يكون إلى مرجعيتين متكاملتين: مرجعية النص ومرجعية أهل الاستنباط[3]، والاستنباط هو استخراج الحكم بناء على العلم والخبرة بالنظر إلى الواقع وما يقتضيه، ومن ثمّ حسن تنزيل الحكم على الوقائع؛ إذ التنزيل يقتضي معرفةً بالنص ومعرفةً بالواقع؛ ولا يمكن أن نصل إلى فهم النص إلا بالإلمام بكل ما يُعين على فهمه، كما لا يمكن فهم الواقع إلا بما يُعين على فهمه.
2 ـ الحاجة إلى المرجعية الدينية الإسلامية وأهميتها
لا شك أن المرجعية الدينية الإسلامية مُهمة للمؤمن في ترشيد فهمه وعمله، ومع أن الإسلام لم يؤسّس لوظيفة “رجال الدين”، باعتبارهم يمثلون واسطة في علاقة الإنسان بالدين والمقدّس؛ ولكن المرجعية هي عبارة عن توجيه وإرشاد يصدر من صاحب العلم لمن يقتدي به، وهي تقوم على مدى مكانة العالم ودوره بالنسبة لمن يتبعه باعتباره يُبين حكم الدين، وهي بلا شكّ مسؤولية تجعله “مُوقّعاً عن رب العالمين”، وفقا لعبارة ابن القيم في كتابه “إعلام الموقعين عن رب العالمين”.
ومع أهمية المرجعية الدينية إلا أنه يظلّ من واجب المسلم المكلف أن يكون حريصاً على الفهم وعلى الوقوف على الدليل في مضمون ما يأتيه من إرشاد؛ وهو ما نبّه إليه العلماء أنفسهم، كما عبّر عن ذلك إمام دار الهجرة مالك بن أنس عندما قال: “كل أحد يؤخذ من قوله ويردّ إلا صاحب هذا القبر”؛ ولذلك وجدنا الإمام حسن البنا يقرّر في الأصل السابع من أصوله العشرين للفهم قائلاً:
“ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية، أن يتبع إماماً من أئمة الدين؛ ويحسن به مع هذا الاتّباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صحّ عنده صلاح منْ أرشده وكفايته، وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر”.
3 ـ أنواع المرجعية ومواصفاتها
يمكن أن نُقسّم المرجعية الإسلامية إلى الأقسام التالية:
أ. المرجعية الشرعية الفقهية
وهي التي يعود إليها المسلم لمعرفة أحكام دينه فيما يعرض له من القضايا والمسائل الفقهية العملية التي يحتاج فيها إلى رأي صاحب علم يرشده، ويمثل هذه المرجعية الفقهاء والمفتون.
ب. المرجعية الدعوية التربوية
هي مرجعية عامة يمثلها الدعاة والمربون الذين يوجهون الناس في المجال الدعوي والتربوي، وهم ليسوا بالضرورة من أهل الاختصاص المتعمقين في العلوم الشرعية.
ج. المرجعية التنظيمية السياسية
وتتمثل في القيادات الحركية والسياسية الإسلامية التي تكون عادة على رأس الحركات الإسلامية، أو التنظيمات الإسلامية التي لها أهداف سياسية واجتماعية وإصلاحية.
وقد تجتمع في بعض الجماعات الإسلامية ذات المنهج الشمولي جميع هذه الأدوار الثلاثة.
ومهما كانت نوعية المرجعية التي يرجع إليها المسلم فإنه يتحمّل مسؤولية اختيار مرجعيتة، ولا يُعذر بالخطأ في الاقتداء بمن لا يتوفر على أهلية التوجيه؛ وقد أحسن محمد بن سيرين عندما قال فيما رواه مسلم: “إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم”.
4 ـ عوامل تشكّل المرجعية الإسلامية في الواقع
إن معايير الناس في اختيار المرجعية الفردية التي يعتمدونها تختلف بحسب مستواهم العلمي ودرجة وعيهم بقضايا الدين والواقع؛ وتظل هناك مجموعة من العوامل هي التي تساعد على تشكيل المرجعية الإسلامية في الواقع من أهمها:
أ. التكوين العلمي
المتمثل في وفرة الزاد العلمي الذي يُهيأ صاحبه لكسب احترام الناس له واتباعه
ب. الإنتاج العلمي
وتتأكد السمعة العلمية بما يصدره صاحب المرجعية من إنتاج علمي
ج. القدرة التواصلية
فإذا انضاف إلى الزاد والإنتاج العلميين القدرة التواصلية وحسن توجيه الخطاب زاد ذلك من إشعاع هذه المرجعية
د. استخدام وسائل الإعلام
وإذا تهيأت لهذه المرجعية إمكانية استخدام وسائل الإعلام الجماهيرية زاد ذلك أيضا من شهرتها ومكانتها بين الناس
هـ. المنصب والوظيفة الدينية
وقد يكون أيضاً للمنصب والوظيفة الدينية أثر في بروز مرجعية في الأوساط الرسمية بحسب الظروف والبيئات، فمن يتقلد منصب الإفتاء مثلاً أو يكون على رأس هيئة دينية معتبرة يكون له في دائرة من يرجعون إليه مكانة مرجعية.
5 ـ المرجعية الدينية في السياق الأوروبي
لا نجد في الواقع الإسلامي في أوروبا مرجعية دينية واحدة لجميع المسلمين أو لأغلبهم لا على مستوى القارة ولا على مستوى كل بلد لوحده؛ وإنما يتجه الناس إلى مرجعيات متعددة بحسب نوعية القضايا التي تواجههم وبحسب مدى اطلاعهم على الجهات التي يمكنهم العودة إليها.
ويمكننا القول بأن المرجعية الدينية في السياق الأوروبي تنقسم إلى:
أ. مرجعية محلية: على مستوى المسجد، الجمعية، المدينة
ب. مرجعية وطنية: على مستوى البلد الواحد وتتمثل إما في أفراد أو مؤسسات، وتتنوع المؤسسات إلى مجالس للأئمة، وهيئات علمية متخصصة في الفتوى
ج. مرجعية أوروبية: تتمثل أساساً في تجربة المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
د. مرجعيات عالمية: تتمثل في المجامع الفقهية وبعض الهيئات الإفتائية المعروفة، وكذلك في مرجعيات دعوية رسمية وشعبية؛ مثل بعض المنظمات غير الحكومية كرابطة العالم الإسلامي، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين …
6 ـ الإشكاليات العامة التي تخص المرجعية الإسلامية
هناك عدد من الإشكاليات التي تُطرح اليوم بخصوص المرجعية الدينية الإسلامية في الواقع الإسلامي، ومن أهمها:
أ. تعدّد مصادر التلقي وتحدي “المرجعية الالكترونية” المتاحة اليوم للجميع وبأيسر السبل
لقد ساهمت وسائل الإعلام والتواصل الحديثة في إغراق ساحة الفكر والتوجيه بمصادر متعددة وفّرت للإنسان وسائط عديدة للمعرفة تستخدم أساليب جذابة وميسرة، وهو أمر على الرغم مما يسهله من سرعة تحصيل المعلومة إلا أنه بالنسبة للذين ليس لديهم الرصيد المعرفي الكافي توقعهم في حالة من الفوضى والاضطراب الفكري؛ وهو ما يتسبب اليوم في بروز مظاهر من التشرذم في المشهد الإسلامي العام.
ب. مستوى الوعي الديني لدى عموم المسلمين وأثره في اختيار المرجعية التي يعودون إليها في شؤون دينهم
إن اختيار الإنسان لمرجعيته هو نتيجة للمعايير التي ينطلق منها في الاختيار كأثرٍ عن الفهم والوعي الذي يحمله؛ وكثيرا ما يكون للعوامل العاطفية أثرها في التعلق بمرجعية ما، وبالتالي لا يكون الاختيار للمرجعية على أساس عقلاني رصين بقدر ما يكون تأثرا بجوانب معينة لدى رموز تحقق نوعا من الإشباع العاطفي لمن يقتدي بها.
ج. المرجعية بين سلطة النص (الردّ إلى الله والرسول) وسلطة العالم المعنوية في التوجيه
إن التعلّق الناس برمز أو رموز تمثل مرجعية شرعية لهم مع غياب القدرة على تمحيص الخطاب الذي يصدر من هذه الرموز والتعامل معه تعاملاً نقدياً، يجعل السلطة العاطفية في التوجيه تتلخص في سلطة الفرد وتنفصل تدريجياً عن المصدر المعرفي الأصلي، وهو ما يُعرف بظاهرة الشخصانية.
د. المرجعية الإسلامية بين الصفة الفردية (عالم أو داعية) والصفة الجماعية (مجلس، هيئة فتوى …)
إن الذي يغلب على عامة المسلمين هو التعلق بمرجعيات فردية، ولا يحفلون كثيرا بمرجعية المؤسسات الجماعية في مجال الفتوى مثلاً، وقد يعود هذا الأمر إلى ضعف المؤسسات الجماعية في التعريف بنفسها واكتساب المصداقية الكافية لدى الجمهور العريض من المسلمين.
هـ. المرجعية الإسلامية والحاجة إلى التكامل بين التخصص الشرعي والتخصصات الإنسانية والاجتماعية والطبيعية
إن القضايا التي تُطرح على العالم أو المفتي ليست كلها قضايا دينية صِرفة وإنما كثيراً ما تلامس جوانب متعددة نفسية وتربوية واجتماعية، وإذا لم تكن المرجعية مُدركة لهذا التركيب والتداخل فيما يعرض عليها من قضايا وتحاول التوجيه المناسب فإنها قد تُوقع من يرجع إليها في مواقف لا تستجيب لحاجته ولا تحل مشكلاته.
و. المرجعية الإسلامية بين المقتضيات الشرعية والمقتضيات القانونية في الواقع
إن التوجيه الديني لا يمكن أن يكون توجيهاً مُطلقاً مُتحرراً من قيود الزمان والمكان وغير مراعياً للمقتضيات القانونية التي يخضع لها الفرد في واقعه، وإلا أوقع الناس في إشكالات عملية.
ز. المرجعية الإسلامية بين التعددية الاجتهادية والمنهجية، والحاجة إلى توحيد الفتوى والتوجيه الديني في القضايا العامة
مع أن الأصل في مجال الاجتهاد والإفتاء هو التعدد في الآراء الاجتهادية، إلا أن بعض القضايا التي تمس التنظيم العام للشأن الإسلامي، أو تؤثر في التعاطي العام مع بعض القضايا المهمة، تحتاج إلى توحيد الرؤى والمواقف (من أمثلة ذلك: مسألة توحيد بداية الشهور القمرية لمسلمي الغرب وأثره في تنظيم حياتهم الدينية).
ك. المرجعية الإسلامية بين الصفة العالمية والخصوصية الواقعية
مع أن الإسلام يحتوي على أصول جامعة حتى في مجال الأحكام العملية إلا أن التعامل مع كثير من القضايا والنوازل يحتاج إلى مراعاة خصوصية الواقع واعتبار الأعراف والعادات السائدة؛ ومن هنا تطرح اليوم مسألة الفتاوى العابرة للقارات والتي لا تدرك ولا تستوعب التعقيدات الناشئة عن اختلاف البيئات.
خاتمة
إن تطور وسائل التعليم وطرق اكتساب المعرفة لا يمكن أن يُلغي الحاجة إلى التلقي المباشر والمعايشة لمن نريد أن نتعلم منه ونعود إليه كمرجعية جزئية أو عامة، ولذلك اشتهرت هذه العبارة عند أهل العلم المسلمين: (لا تأخذوا العلم عن صُحُفي، ولا القرآن عن مُصحفي)[4]، كما أننا نجد أن أصحاب التراجم للعلماء والأعلام يحرصون في تراجمهم على ذكر الشيوخ الذين تلقى عنهم من يترجمون له؛ وأصبح في عصرنا الحاضر أيضاً التخرج من الجامعات العريقة ومن المؤسسات التعليمية ذات المصداقية، من المؤشرات التي تبين المسار العلمي لمن يتصدر لتعليم الناس وتوجيههم؛ وهذا من شأنه يوفر ضابطاً مُهِمًّا أمام فوضى المرجعيات التي يمثلها أشخاص لا يُعرف عن سيرتهم العلمية ولا عن مسارهم غير ما يتهيأ لهم من شعبية ونجومية.
* الأستاذ الدكتور أحمد جاب الله حاصل على دكتوراه في الدراسات الإسلامية من جامعة السوربون في باريس ومدير المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس/ فرنسا. قدم هذه الورقة في المؤتمر الدولي الثالث لمركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق المنعقد ببروكسيل، بلجيكا في 14-15 مارس 2015.
الهوامش
[1] ولكن بخلاف المرجعية السنية فإن المرجعية الشيعية تملك سلطة أوسع ولها حقوق مالية وأدبية على أتباعها كما هو معلوم.
[2] خبرت الأمر أخبره إذا عرفته على حقيقته (انظر لسان العرب لابن منظور).
[3] استنبط: استنبطه واستنبط منه: علماً وخبراً ومآلاً: استخرجه … واستنبط الفقيه إذا استخرج العلم الباطن باجتهاده وفهمه (لسان العرب لابن منظور).
[4] كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2/31.
المصدر: مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق