الاجتهاد: من خلال نظرة سريعة في حياة الميرزا النائيني“ره” يمكن ملاحظة ثلاث مراحل أساسية وبارزة في حياته السياسية:
المرحلة الأولى: وهي المرحلة التي انتفض فيها بالقول والفعل ضد الدكتاتورية وتعاون فيها مع أنصار الدستور في إيران.
وفي هذه المرحلة من النضال كانت أعماله تصبّ في مصلحة البورجوازية الوطنيّة التي كانت تتولّى قيادة الثورة الدستورية، إلا أن التطورات التي شهدتها الثورة جعلته يبتعد عن النشاطات السياسية مؤقتاً. ونتيجة ذلك بدأت تبرز شخصيته بعنوان أحد أساتذة الفقه والأصول الكبار وواحدة من أهم مجتهدي ذلك العصر.
المرحلة الثانية: وفيها برز الميرزا النائيني باعتباره واحداً من الزعماء الوطنيّين في العراق الذين ثاروا ضدّ حكومة الانتداب البريطاني في تلك البلاد، وسعى بالتعاون مع علماء الشيعة الآخرين ورؤساء العشائر في سبيل نيل العراق لاستقلاله.
وفي هذه المرحلة من الكفاح، عامله الإنكليز وصنائعهم في عراق کالملك فيصل معاملة سيّئة، فكانوا سبباً في إبعاده عن العراق وتشرّده.
ونعتقد أن ما شهدته هاتان المرحلتان من أحداث، خصوصاً الآثار السلبية التي فرضها عليه انغماسه في السياسة العراقية، قد تركت آثارها عليه إلى حدٍّ ما، وأثمرت تصميمه على تغيير أسلوبه في العمل واتجاهاته العمليّة، وربما كان عدم نجاحه في صراعه ضدّ الإنكليز في العراق وما لقيه من الإذلال على أيديهم وأيدي حكومة الملك فيصل سبباً في عدم اصطدامه مع أصحاب السلطة مرة أخرى.
عندما كان الميرزا النائيني منفيّاً في إيران حظي باحترام رضا خان، ورغم توفر دليل واضح وصريح، إلا أن المرحلة التالية من حياة النائيني تقوّي الفكرة القائلة إنه ربما توصّل إلى نتيجة مفادها أن التعاون مع أصحاب السلطة خصوصاً أولئك الذين كان لهم دورهم في السلطة الحاكمة في إيران، أكثر فائدةً من الصراع معها.
وربما كان مقتنعاً أيضا أنه من خلال علاقات الصداقة مع رجال السياسة الأقوياء يمكن أن يتمكن من الوصول إلى الزعامة المطلقة للعالم الشيعي، فيسهل عليه حينذاك من خلال ذلك المقام والموقع المهمّ لاتخاذ خطوات مفيدة ومؤثرة في طريق إسعاد وإصلاح أتباع المذهب الشيعي في إيران وباقي المناطق في العالم الإسلامي.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن قائد الجيش رضا خان – الذي سيصبح في ما بعد رضا شاه – كان في ذلك الزمان – وبسبب عدد من العوامل – قد کسب محبوبيّة كبيرة سواء داخل إيران أو خارجها، بل إنّه كان يتمتع بمساندة الأجنحة الحاكمة في الاتّحاد السوفيتي أيضا.(1)
وعلى هذا فربما كان النائيني مثل الكثيرين غيره من المراقبين المعاصرين له برى في رضا شاه الرجل الذي يستحق الدعم والمساندة، وهذا الاستدلال لا يمكن أن يصدق على علاقات النائيني مع ملوك العراق.
واستنادا إلى ما سبق، فإنّ تقسيمنا لأدوار حياة النائيني يجعلنا نتّخذ هذه النقطة بالذات نقطة البداية للمرحلة الثالثة من حياته، ومن الآن فصاعداً كان سلوک وتعامله مع الحكومتين الإيرانية والعراقية سلوكاً ودّيّاً تماماً بغض النظر عن تصرفات رجال السياسية آنذاك المضادة لرجال الدين أو المعادية للحرية والمناقضة للمصالح الوطنية.
وفي وقتنا الحاضر لا نملك أي وثيقة تشير إلى معاداة النائيني لأي من ملوك إيران أو العراق.
ففي إيران وفي فترة رضا شاه اتخذت بعض الإجراءات التي لا تتناسب مع أسلوب وأفكار النائيني في فترة الثورة الدستورية، بحيث نعتقد جازمين بأنه كان سينتفض ضدّ هذه الإجراءات لو حدثت في تلك الفترة، ولم يقف الأمر عند عدم سماعنا لأي اعتراض له خلال فترة رضا شاه، بل إننا نرى استمرارية صلاته الودّيّة مع رضا شاه رغم عدم اهتمام نظام الأخير بالعلماء والمسائل الدينية.
وفي إحدى المرّات قابل الحاج میرزا علي النائيني – وهو النجل الأكبر للنائيني – رضا شاه وقدّم له هدايا والده التي كانت عبارة عن خاتم وعددٍ من قطع التربة الكربلائية. كما أن النائيني أيضاً كان يبعث برقيات التهنئة إلى رضا شاه في المناسبات الدينية والأعياد المختلفة (2).
أما ملوك العراق، فإن النائيني كانت تربطه علاقات الصداقة أيضا مع اثنين من معاصريه منهم، أي الملك فيصل والملك غازي.
وفي العام 1927م عندما مرض النائيني مرضاً شديداً وأدخل المستشفى في الكرّادة شرقي بغداد زاره الملك فيصل.
وفي العام 1929م زار فيصل النجف واجتمع مع النائيني والأصفهاني وعلماء آخرين، وتبادل معهم الأحاديث ووجهات النظر.
وخلال جلوس الملك غازي على العرش (1933-1939م) اعتلّت صحة النائيني مرة أخرى، وهذه المرة ذهب إلى بغداد وعاش في أحد القصور الملكيّة ضيفاً خاصاً على الملك غازي(3).
أخلاق الميرزا النائيني الشخصية ووفاته
كان النائيني رجلاً تقياً، يقضي معظم لياليه في التهجّد وصلاة الليل. وكان يتمتّع بتفكير وذوق علمي، كما كان يتقيّد بشدّة باحترام المراتب العلمية لطلابه.
وربما كان سبب اهتمامه المميز بامثال هذه التقاليد الدراسية هو عدم سنوح فرصة الرئاسة العامة والمطلقة اللحوزة العلمية له، ما أتاح له فرصة الاهتمام أكثر بالحياة العلميّة وتقاليدها.
لقد كان لكل واحد من طلبة الميرزا النائيني حقوقاً خاصاً تتناسب مع نبوغه وسوابقه العلميّة، وكان لكل واحد منهم مكانه الخاصّ به في مجلس النائينی.
مثال ذلك ما كان للسيد جمال الگلبایگانی من مكانة خاصّة لدى النائيني بسبب تفوّقه العلمي ما أهّله للجلوس إلى يمينه.
وما أكثر الموارد التي كان النائيني يبدي فيها من الاحترام لأحد طلبة العلوم الدينية الفقراء أكثر مما يبديه لأحد التجار الأغنياء، وذلك احتراماً لعلم ذلك الطالب الفقير.
وكانت تبدو منه في بعض الأحيان أثناء التدریس تصرفات استبدادية، وربما كان هذا ناتجاً من صممه الذي كان قد ابتلي به منذ سنوات طويلة. فعدم قدرته على سماع كلام محدّثه بسهولة كانت أكثر الأحيان سبباً في عدم استعداده للإصغاء إلى ما يطرحه طلّابه من آراء، ولهذا اشتهر بقدرة أي فرد على إغضابه بسؤال واحد.
ومن جهة أخرى، وبسبب مشكلته السمعية هذه، كان يبذل أقصى جهوده في تهيئة دروسه بصورة جيدة كي يتجنّب قدر الإمكان إثارة الأسئلة أو الإبهامات لدى مستمعيه.
وكان له في كل يوم درسان، أولهما في الفقه صباحا، وثانيهما في الأصول عصراً.
أما علاقاته مع أصدقائه القدماء الذين كان منخرطاً معهم في أحداث الثورة الدستورية، فقد تغيّرت بشكل كبير، حيث أصبح يفضّل عدم رؤيتهم أبداً. مثال ذلك أنه لم يذهب لزيارة الشيخ حسين اليزدي أحد المجتهدين ذوي المكانة الجيدة ومن مقرّبي الآخوند الخراساني، وحين سئل عن ذلك أجاب بأنه لو ذهب لرؤية الشيخ حسين لجرّه مرة أخرى للحديث عن السياسة والثورة الدستورية(4)
وربما كان هذا هو السبب في أنّنا لم نقع على شاعر واحد ممّن رثوا النائيني أشار في قصائده من قريب أو بعيد إلى وقائع الحركة الدستورية.
وعند وفاة الميرزا النائيني عن 76 عاما أقيمت العديد من مجالس الفاتحة في العراق، وألقيت فيها الكثير من القصائد الرثائية. والقصائد التي نظمها الشعراء العرب بهذه المناسبة والتي استطعنا الحصول على نسخها المطبوعة هي للشعراء: الشيخ إبراهيم الوائلي، الشيخ محمد رضا المظفر، الشيخ عبد الحسين الحلي، السيد محمود الحبوبي، الشيخ أصغر الصغير، السيد موسى بحر العلوم، الشيخ عبد المنعم الفرطوسي(5)، السيد محمد سعيد آل صاحب العبقات، وبعض الشعراء الآخرين الذين تجنبوا ذكر أسمائهم(6).
وألقى الشيخ محمد حسین آل کاشف الغطاء من العلماء المعاصرين للنائيني كلمة قيمة بمناسبة وفاته وقامت جريدة الكرخ بطباعتها في عددٍ خاصّ(7).
وقد عمّ الحزن وإعلان مشاعر الأسى في العراق لوفاة النائيني، أما في إيران، فلم يكن وقع الوفاة بهذا الحجم، وذلك لأن الحريات الدينية في إيران كانت أقل مما هي عليه في العراق، بحيث اقتصر الأمر على إعلانين في صحيفتي اطلاعات و ایران عن مجلس فاتحة قرّرت الحكومة الإيرانية إقامته بهذه المناسبة(8).
وأغمض النائيني عينيه عن هذه الدنيا في وقت كان رضا شاه يكمل فيه سنته الحادية عشرة جالسا على عرش إيران، منهمكاً في تنفيذ برامج لم يعد يحتاج في تمريرها إلى مساعدة علماء من أمثال النائيني أو الحائري، مما أطلق يده في فرض تلك القيود الواسعة عليهم بعد صعوده على العرش (9)
الهوامش
1- للمزيد عن هذا الموضوع انظر: جورج لنزوسكي، رقابت روسیه و غرب در ایران، ترجمة إسماعيل رائین، طهران، 1356، ص 96 وما بعدها؛ منشور گرگاني، سیاست شوروی در ایران، (طهران، 1326)، ج 1 – 2 ؛ انتشارات مزدك ، اسناد تاریخی، (فلورنسا، 1970-1976)، 6 مجلدات؛ عبد الصمد کامبخش، نظری به جنبش کارگری وکمونیستی در ایران،(ستاتفورت، 1972) كتاب لنزوسكي الأصلي المطبوع باللغة الإنكليزية: George Lenczowski, Russia and the West in Iran: 1918 – 1948, (Ithaca, N. Y., 1999).
2- من الرسالة الخاصة التي بعثها نجل النائيني إلى كاتب المقال.
3- من حوار نجل النائيني مع كاتب المقال. وهناك إشارة أيضا حول علاقات النائيني مع الحكومة العراقية في كتاب: الطهراني، الطبقات، ج 1، ص 595.
4- حوار شفیق النائيني مع كاتب المقال، وللاطلاع على قصّة مشابهة لهذه، انظر: حرز الدين، معارف الرجال، ج 1، ص287 – 288.
5- موجودة في المجموعة التي بحوزة مهدي النائيني.
6- الرضوان، ج 2، العدد 8، 1936، ص 41- 44 .
7- الطهراني، الطبقات، ج 1، ص 595
8- إطلا عات، 26 مرداد 1315؛ إيران، 27 مرداد 1315
9- مقتبس من كتاب: عبد الهادي الحائري، تشيّع ومشروطيت در ايران ونقش ايرانيان مقيم عراق، الطبعة الثانية، طهران، أمير كبير، 1364، ص 153 – 210.
المصدر: الصفحة 89 من کتاب محمد حسين النائيني وتأسيس الفقه السياسي – مجموعة باحثين. / مقالة بعنوان: حياة الميرزا النائيني / لعبد الهادي الحائري.
تحميل الكتاب