ال

التعامل المالي لقراء العزاء في موسم عاشوراء وغيره / فضيلة الشيخ حيدر حب الله

الاجتهاد: السؤال: نحن في أيّام عاشوراء نشهد تعاملاً ماديّاً مع المجلس الحسيني من قبل الخطباء والرواديد وقراء العزاء؟ ما هو رأي الشرع في هذا الأمر؟ وما هو الموقف من ذلك؟

الجواب: يرى الفقهاء ـ عدا ما مال إليه أمثال السيد الشهيد محمد الصدر رضوان الله تعالى عليه ـ بأنّ قراءة العزاء ليست من الأفعال المشروطة بقصد القربة إلى الله تعالى، ومن ثم فلا تندرج في الأمور العباديّة ولا تبطل بالرياء، وهذا يعني أنّه لا مانع من أخذ المال عليها، لاسيما مع عدم كونها من الواجبات في المعروف.

نعم يذكر بعضهم أنّه لا ينبغي لقارئ العزاء المبالغة في الزيادة، لكنّ هذا لا يعني التشنيع عليه لو فعل ذلك (انظر ـ على سبيل المثال ـ: السيد محمد حسين فضل الله، فقه الشريعة 2: 151)، هذا لو نظرنا للموضوع من زاوية فقهيةّ قانونية حقوقيّة محضة.

أمّا لو أردنا مطالعة هذا الموضوع بمستوى آخر اجتماعي واقتصادي وأخلاقي ونحو ذلك، فإنّ الأمر يستدعي منّا وقفة في الحال المادية لطلاب العلوم الدينية والمشايخ الكرام،

وهذه الوقفة تارةً ننظر من خلالها إلى الحال المادية لطالب العلوم الدينية على المستوى الشخصي، وأخرى على المستوى النوعي وعلى مستوى المؤسّسة الدينية عامّة.

المستوى الأوّل: وهو المستوى الشخصي، إنّ حياة طالب العلم وعالم الدين ليست على نسق واحد، فالناس تنظر عادةً إلى من تحتكّ بهم من علماء الدين والمشايخ الكرام وطلبة العلوم الدينية، إمّا في المدينة أو القرية أو على بعض المستويات الأوسع، وغالباً ما تصدر الناس أحكامها نتيجة معلومات محدودة تشكّل انطباعات، ولا تشكّل معلومات إحصائيّة أو خبرة في حال طلاب العلوم الدينية على نطاق واسع، فقد يرى الناس في بلدٍ مثل لبنان مثلاً أنّ حال غير واحد من العلماء ممتاز حيث يركب سيارة ليست بقليلة الثمن ويعيش في منزل ليس بالفقير، واستهلاكه المادي على نفسه وأهل بيته ليس متواضعاً أبداً، من هنا تتراكم هذه المشاهدات لتشكّل قناعة عامّة بأنّ علماء الدين مرفّهون، وفي حال ممتازة إلا من شذّ وندر بما لا يساوي الواحد في المائة.

إنّ الناس هنا لا تنظر إلى المشايخ على مستوى الامتداد الجغرافي، ففي حياتهم لم يشاهدوا رجل دين باكستاني ولا يعرفون شيئاً عن أحوال أغلب رجال الدين في أفغانستان والعراق وإيران والهند مثلاً،

لكن عندما ندخل في مطالعة أوسع ناتجة عن تراكم اختلاط ممتدّ زمكانياً مع رجال الدين، كما لو كنت تعيش في المدن العلمية الكبرى أو كنت على تماس مع مساحات واسعة من طلاب العلوم الدينية، فإنّ رؤيتك ستكون مختلفة، فليس صحيحاً أنّ كلّ علماء الدين يعيشون حياةً مرفّهة، بل إنّ الكثير الكثير منهم يعانون من فقر ومن مشاكل اقتصادية حادّة، هذا الادّعاء منّي لا أستطيع الآن أن أقدّم عليه دليلاً؛ لأنّه ناتج عن مشاهدة وتماس يمتدّ لفترة زمنية طويلة، وكذلك عن احتكاك بجنسيات مختلفة من طلاب العلوم الدينية، وأيضاً عن معلومات لجهات لها إشراف على الأوضاع المادية لعلماء الدين.

الأمور ليست بالضبط كما يتصوّر الناس، وليست بالضبط في مستوى جيّد في الوقت عينه، فلو أتيت الآن إلى حوزة علميّة كبرى مثل مدينة قم، يستقرّ فيها عشرات الآلاف من المشايخ الكرام فسوف تجد أنّ الرواتب الشهرية التي تقدّم لهم لا يمكن أن تكفيهم للعيش، وأنّ الكثيرين منهم يعانون من مشاكل، ولكنّ الناس لا تدري بهذا، وإنّما تبني انطباعاتها بطريقة مختلفة تماماً.

عندما نتحدّث عن أوضاع المشايخ الكرام فنحن نتحدّث عن مجتمع مكتمل تقريباً، أي مجتمع فيه طبقة ثريّة وأخرى متوسّطة وثالثة فقيرة، وليس عن مجتمع يتشكّل من واحدة من هذه الطبقات الثلاث. وعندما يعيش طلاب العلوم الدينية ـ سواء كانوا في المدن الكبرى أمّ من الذين خرجوا منها ـ عندما يعيشون هذا الوضع فإنّهم بشرٌ كسائر الناس، كيف أطلب من واحدٍ منهم أن لا يبحث عن لقمة العيش؟! ألا يحقّ له أن يعيش كما تعيش الناس في مستوى مقبول؟! هل لأنّه يريد نشر الدين إذاً فعليه وأهله أن يموتوا جوعاً؟!

الناس تتعاطى مع هذه الموضوعات بطريقة مجتزأة وغير علميّة عادةً، ولا تدرس الأسباب التي تدفع لما يرونه من مشاكل سلوكية واستهلاكية في حياة بعض رجال الدين.

إنّ هذا الأمر له أسبابه القهرية على حياة عالم الدين، لا يمكنك أن تطالبه بأن يعيش حياته في فقر مدقع، إنّ عقله وغريزته وروحه وضميره ومسؤوليته ذلك كلّه يطالبه بتأمين لقمة العيش، حسناً فماذا يفعل حينئذٍ؟ لو كنتَ مكانه ما الذي كنت ستفعله؟

ما نجده أنّ المشايخ الكرام ـ ولكي يؤمّنوا لقمة عيشهم ـ يذهبون نحو خيارات، إمّا كلّ واحد على حدة، أو قد يتمّ الجمع بين بعض هذه الخيارات:

الخيار الأوّل: مدّ شبكة علاقات مع بعض الأغنياء والتردّد عليهم والتواصل معهم، بغية أن يؤمّن الشيخ بعضاً ممّا يكفيه أو أزيد مما يحتاج إليه، وهذه ظاهرة ليست بالقليلة أبداً، فالأغنياء قد يقدّمون المال لبعض المشايخ إمّا حبّاً لهم وهدية أو من باب دفع الأخماس والحقوق الشرعيّة، أو من باب كسب موقع اجتماعي من خلال النفوذ في العلاقات مع رجال الدين في القرية أو المدينة أو المنطقة، أو لأسباب أخرى.

عندما تجد شيخاً أو طالب علم يتودّد بطريقة لا تعجبك للأغنياء وليس لديه تعفّف أمامهم فاسأل نفسك هذا السؤال: لماذا يفعل هذا الشيخ هذا الفعل؟ ستجد أنّ بعضهم يفعل ذلك عن تدنٍّ أخلاقي وتربوي وروحي، لكنّ الكثيرين منهم عندما أقدموا على ذلك لم يكونوا سيئين، بل أقدموا لأنّه لا توجد أمامهم فرص أخرى تناسبهم مثلاً، وشيئاً فشيئاً اعتادوا على هذه الطريقة، حتى ذهب التعفّف، وضاعت أحياناً هيبة عالم الدين أمام الآخرين، حيث نجد بعض الأغنياء في بعض المجتمعات يستخفّ بعالم الدين هذا في محضره، وهذا أمر طبيعي، إذ من يدفع المال فله سلطة ونفوذ على من يأخذه.

الخيار الثاني: الانخراط في الانتماء السياسي أو الانتماء المرجعي، بأن يلتحق هذا العالم أو الشيخ في سلك الدولة الدينية أو هذا التنظيم السياسي الديني أو ذاك، كي تتأمّن بذلك له لقمة العيش، وإذا لم يكن منسجماً مع التيارات السياسية فهو يذهب للالتحاق بمرجعيّة معيّنة فيفتح علاقات وطيدة مع المرجع نفسه أو مكتبه ليكون وكيلاً له أو على صلة وثيقة بحيث يستطيع تأمين بعض المبالغ المالية لنفسه نتيجة هذه العلاقات القويّة.

وقد نجد أحياناً علماء يذهبون هنا وهناك لتأمين مبلغ مالي يوزّعه هذا المرجع أو ذاك أو هذه الهيئة العلمائية أو تلك، أو هذا التنظيم أو ذاك، وهكذا.. لكي يستطيع من خلال تجميع هذه المبالغ الاستمرار في العيش.

الخيار الثالث: أن تأتيه أموال الخمس والحقوق الشرعية نتيجةً لمستواه ومكانته وعلاقاته، وفي هذه الحال يصرف على نفسه منها، ولكنّ أموال الخمس وأمثاله لم تعد متوفّرةً بشكل مباشر كالماضي، إذ زادت نسبة التمركز في هذه الأموال بحيث صارت الناس في غير بلد ومنطقة تعطي كبار الشخصيات أو الوكلاء في البلد، بدل أن تعطي صغار العلماء والمشايخ وطلبة العلوم الدينية.

الخيار الرابع: الأوقاف، وهذه قضيّة تحصل في بعض الأماكن، حيث يمنح الطلاب مخصّصات مالية نتيجة وجود أوقاف ترجع لطلاب العلوم الدينية، وغالباً ما لا يسدّ هذا الخيار حاجات عدد كبير من المشايخ، فهو محدود نسبيّاً لو أخذناه على نطاق واسع. إضافة إلى كون الكثير من هذه الأوقاف تقع تحت سلطة وكلاء المراجع أو التيارات السياسية والاجتماعيّة.

الخيار الخامس: العمل المؤسّساتي ونحوه، وهذا ما ظهر مؤخّراً حيث نشأت الكثير جدّاً من المؤسّسات البحثية والعلميّة التي انخرط فيها الآلاف من المشايخ الكرام لتأمين لقمة العيش من جهة وخدمة الدين والفكر من جهة ثانية.

الخيار السادس: قراءة العزاء، حيث تؤمّن هذه الطريقة جزءاً لا بأس به من احتياجات الشيخ خلال أشهر عدّة، تبعاً لمستوى نجاحه في هذا الأمر.

هذه هي أهم الخيارات، وإلا يبقى الشيخ يعيش وضعاً مأساويّاً كبيراً، وقد رأينا أمثالهم في حياتنا ممّن لا تعرف الناس الكثير منهم، لأنّهم ليسوا تابعين لجهات سياسية ولا مرجعية ولا بالذين يتقرّبون إلى الأغنياء والوجهاء، ولا بالذين يملكون صوتاً يؤهّلهم لقراءة العزاء ونحوه، مع اشتمالهم على أخلاقية التعفّف وغير ذلك.

أنا لا ألوم الكثير المشايخ الكرام إذا اتخذوا أيّ سبيل من هذه السبل، فإنّ أفضل هذه السبل عندي هو العمل وأخذ المال مقابل العمل، لا أخذ المال مقابل الزيّ الديني حتى لو كنت لا تعمل، لكن إذا لم يتوفّر هذا العمل أحياناً أو كانت ظروف هذا الشيخ لا تسمح له ـ تبعاً للمنطقة التي هو فيها ـ بالعمل، فماذا يفعل؟

ستجده مضطرّاً للمطالبة بالمال مقابل قراءة العزاء، ومضطرّاً لكي يتحمّل هذا التيار السياسي أو ذاك الغنيّ أو هذه الجماعة، كي لا تذهب به المواقف نحو الفقر.

هذه ظواهر موجودة، ولا أقول: إنّها الأغلب، بل أقول إنّها ليست بالقليلة، ولهذا لا أحمّل الكثير من المشايخ مسؤولية هذه الأوضاع فهم مغلوب على أمرهم، وهم بشرٌ مطالبون بتأمين لقمة العيش لأهلهم وعيالهم، فيما يظنّ الناس أنّ جميعهم تأتيهم الأموال على طبق من فضّة، وربما من ذهب أو ألماس، دون أن يعرفوا انّ هذه الأموال إنّما أتتهم بهذه الطريقة أو تلك.

نعم أنا أحمّل الشيخ أو طالب العلم المسؤولية من أربع نواحٍ:

أولاً: إنّ بعضهم لا يرى من شأنه أن يعمل في مؤسّسة أو مجلّة أو ترجمة أو تحقيق أو أيّ شيء آخر، وهذه ظاهرة موجودة عند بعض المشايخ، وهذا خطأ كبير، فقد صارت فرص العمل خلال العقدين الأخيرين كثيرة جدّاً أمام المشايخ وطلاب العلوم، ولم يعد الأمر كالماضي، لكنّ الكثيرين منهم لا يبحثون عن عمل، ويريدون أن يعيشوا في وضع جيّد دون أن ينخرطوا في وظائف، بل بعضهم يرى ذلك عيباً لا يليق بشأنه.

هذه مفاهيم خاطئة موجودة عن البعض، ولكنّني بحكم احتكاكي بالحوزويّين أجد أنّ هذه الظاهرة بدأت تتقلّص تدريجيّاً منذ حوالي العقدين من الزمن، وهذا مؤشّر طيّب، فصحابة النبي وأصحاب الأئمّة كانوا يعملون، فمنهم البزاز، ومنهم الصيرفي، ومنهم بياع السابري، ومنهم من يملك مالاً يؤجّره أو ضياعاً، ومنهم الزراع، ومنهم العاملون في سوق النخاسة، وغير ذلك. ولم نشهد بشكل قويّ ظاهرة التعالي عن العمل أو اعتباره عيباً، لكن على أيّة حال نحن نأمل أن يستمرّ هذا الزوال التدريجي لهذه المفاهيم، لنصل إلى حلول أفضل للقضيّة المالية في الداخل الحوزوي.

فما المانع أن يعمل الشيخ في التدريس في المدارس اللغةَ العربية أو الدين أو القرآن أو التاريخ أو الفلسفة أو غير ذلك؟ وما المانع من التخصّص الجامعي من أوّل الوقت لكي يتوفّر له مثل هذا العمل في لاحق الأزمان؟ إذا كانت بعض الأعمال لا تليق بمكانة الشيخ الاجتماعية، لكنّ الكثير من الأعمال تليق بالتأكيد، أمّا إصرار بعضنا على أن يبقى في بيته ويصلّي في المسجد وعلى الأموال أن تأتيه فهذا غير منطقي، فإذا كنت تقدر على العمل وأخذ المال فلماذا تريد الإصرار على الصلاة جماعة في المسجد مقابل المال؟ أليس خيار العمل أطهر للقلب؟!

إنّ تصحيح هذه المفاهيم ضروريٌّ للغاية، وحيث يمكن يلزم علينا أن نتحمّل العمل بما ينسجم مع الوظيفة (المشيخيّة) الأصل، في التصديّ للقضايا الدينية للناس، أمّا أن يكون أغلب وقتي يذهب سدى وفي الوقت عينه لا أبحث عن عمل يليق بشأني فهذا غير صحيح وغير منطقي، ويجب السعي لتحطيم المفاهيم الوهمية الطبقيّة التي نصطنعها، والتي وردت النصوص الدينية بعكسها تماماً.

ثانياً: المبالغة في استخدام الطرق الأخرى المشار إليها، فإذا كنتَ بحاجة للعلاقة مع غنيّ كي توفّر بعض المال منه لتعيش، فلا يعني ذلك أن تذهب بهيبتك ومكانتك الاجتماعية، حتى ليقال بأنّ فلاناً الشيخ ملازم لهذا الغنيّ أو ذاك، أو أن يقال بأنّنا لا نراه مع الفقراء بل غالباً ما نراه مع الأغنياء.

وإذا كنت مضطراً لأخذ المال على قراءة العزاء ـ وأنا أقرّ لك باضطرارك ـ فلا داعي للمبالغة في المطالبة بطريقة تذهب بماء وجهك بما لك من سمةٍ اجتماعيّة، بل إنّ بعض الأساليب التي يستخدمها الناس في بعض المناطق أعتقد أنّ من واجب الشيخ الإفصاح والتشدّد فيها، مثل أن يحمل بعضهم وعاءً في ليلة العاشر من المحرّم أو في كلّ ليلةٍ منه لجمع الأموال لقارئ العزاء!! هذه طريقة مذلّة لا ينبغي للناس أن تفعلها مع قارئ العزاء؛ فإنّها تنافي احترامه وتقديره، ولا ينبغي له أن يقبل بهذا أبداً.

إذا كنت بحاجةٍ للمال واضطررت لمثل هذه الطرق والخيارات أعلاه، فلا داعي للمبالغة أو الإفراط أو إذهاب ماء الوجه للحصول على المال. وفي هذا السياق يأتي موضوع المطالبة بمبالغ مالية مذهلة، فيأتيك شخصٌ ليطالب بملغ مالي عالٍ جدّاً مقابل قراءة مجلس عزاء لعشرة أيّام. هذا شيء وإن لم يكن حراماً لكنّه غير مناسب، ويترك صورةً سلبية أمام الناس عن جماعة علماء الدين، بل ويذهب بماء وجه هذا الشخص نفسه، ويجرّ عليه التهمة والغيبة والبهتان والقيل والقال.

طبعاً، ليس قراء العزاء لوحدهم في هذا، بل هناك شرائح اجتماعية نجد أنّ طبيعة عملها هي البُعد الإنساني، لكنّ طريقة أخذها للمال تبتعد عن الروح الإنسانية، فالطبّ مثلاً مهمّة إنسانيّة مليئة بالرساليّة والإنقاذ والإعانة، لكنّنا نجد بعض الأطباء ـ بل ربما كثير منهم ـ يبالغ في الأموال التي يأخذها مقابل خمس دقائق للنظر في حال المريض، أو يبالغ في المال الذي يأخذه مقابل عمليّة جراحية عادية قد تأخذ منه ساعة أو ساعتين!

هذه الظواهر المتناقضة لا نجدها عند المشايخ أو قراء العزاء فقط، بل كثير من شرائح المجتمع الأخرى أيضاً من هذا النوع، وكما يكون الطبيب بحاجة إلى المال لكي يعيش، كذلك قارئ العزاء، وكما هذه مهمّة إنسانية نبيلة ورقيقة، كذلك هذه مهمة دينية وروحية سامية، فالكلّ مصاب بهذا الداء تقريباً، ولا أجد داعياً للمبالغة في قضية قرّاء العزاء أو المشايخ مع عدم أخذ الظاهرة العامّة في مجتمعاتنا بعين الاعتبار.

وعليه فينبغي لرجل الدين أن يتنبّه لهذا. وفي هذا السياق، تأتي ظاهرة التنافس الدنيوي التي يقع فيها البعض ولو القليل، فتجدهم متنافسين على نوعيّة السيارات التي يريدون ركوبها، أو متنافسين على نوعيّة الرخام الذي ينبغي لهم وضعه في المنزل، أو متنافسين على بعض أنواع الملابس لزوجاتهم وأبنائهم وهكذا.

إنّ انتشار ظاهرة التنافس السلبي هذه، والتي تشارك فيها بعض زوجات رجال الدين أمرٌ غير صحيّ، بل يجب معالجته ومواجهته تربويّاً وأخلاقيّاً، حتى لا ينجرف الإنسان نحوه وهو لا يشعر، وكثير من رجال الدين يقعون في هذه المشاكل عن طيب نفس وحُسن نيّة ودون انتباه في البداية.

ثالثاً: القناعة وترشيد الاستهلاك، فطالب العلم عندما دخل في هذا السلك فقد وطّن نفسه على التضحية والعناء والتحمّل، فهذا طريق الأنبياء والصلحاء والعاملين، فعندما يفكّر في استهلاكه الشخصي، فعليه أن يقبل بالتقشّف النسبي وبالتواضع في العيش عندما لا تكون لديه الإمكانات المادية الممكنة.

إنّني ضدّ القول لرجل الدين: لا يصحّ أن يكون لك هذا، بل أنا مع القول له: من أين لك هذا؟ فإذا كان رجل الدين يحصل على المال بطريقة وظيفيّة شريفة ومتعارفة فلا يحقّ للناس أن تطالبه بأن يكون فقيراً، فبعض رجال الدين هم بالأصل أغنياء ومن أسرٍ غنيّة، فلا ضرورة لأن نطالبهم بالعيش عيشة الفقراء دوماً، ما دام المال مشروعاً وناتجاً عن تعبه وكدّ يده، إنّما السؤال هو: من أين لك هذا؟

فإذا أخذته من طريق غير لائق يأتي الإشكال هنا، أمّا إذا أخذته من طريق لائق فلا ضير عليك، فلم ينصّ القرآن والسنّة على لزوم أن يعيش كلّ شيخ حياةً فقيرة، نعم عليه أن لا يعيش حياة بذخ وإسراف وتبذير تخرجه عن جادّة الشرع، لكن لو توفّر المال في يده بطريقة شرعيّة ناتجة عن عمله، فأيّ مانع من أن تكون له الدار الواسعة والمركب الهنيّ اللذين حثت النصوص على أن يمتلكهما الإنسان؟!

إنّ ترشيد الاستهلاك من أعظم المهمّات التي يطالب المصلحون اليوم في مجتمعاتنا بالحديث عنه، فقد بلغ الإسراف والبذخ مبلغاً عظيماً بين الناس عامّة، وفي جانبهم فقراء جائعون أو مرضى لا قدرة لهم على الذهاب للمستشفى.

ترشيد الاستهلاك موضوع طويل يحتاج أن نتكلّم فيه بشكل مستقلّ؛ لأنّ الكثير من مظاهر حياتنا بات غير منطقي، لكن ما يهمّني هنا هو رجال الدين الذين يطالَبون عندما يكونون في وضع حرج مادّيّاً أن يرشّدوا استهلاكهم، لا أن يصرفوا بطريقة عشوائيّة على أساس أنّ الأخماس سوف تأتي، أو أنّنا يمكن أن نرتّب المبلغ المالي من هذا الوكيل أو ذاك، أو من هذا الغنيّ أو ذاك، أو بهذه الواسطة أو تلك، أو باسم هذا المشروع الديني أو ذاك، أو من هذا الوقف أو ذاك أو…

رابعاً: الاستقلال الفكري والديني، فمن المعلوم أنّ التبعية الاقتصادية تتبعها تبعيّة فكريّة وبيانية ودينية، وأنّ الاستقلال الاقتصادي يتبعه استقلال فكري وثقافي، لهذا ينبغي لرجل الدين أن يسعى دوماً لكسب استقلاله الفكري واستقلاله في مواقفه، وحريّته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي بعض الأحيان نجد أنّ بعضهم عندما يصبح مورد عيشه هو هذا الغني أو ذاك، أو هذا التيار السياسي أو ذاك، أو هذه المرجعيّة أو تلك.. يفقد تماماً استقلاله الفكري ويسدّ باب أمر هذا الغني بالمعروف ونهيه عن المنكر سدّاً تامّاً، فلا تجده يتفوّه بأي نقدٍ له خوفاً من وقف تدفّق النقد والمال عليه منه،

وهكذا الحال في مورد كون قوت نفسه وعياله من هذا التنظيم السياسي أو ذاك، ومن هذا التيار الديني أو ذاك، وهذا أمر غير سليم، فلابدّ أن يحمل رجل الدين همّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دوماً حتى لأولئك الذين يغدقون عليه بمال عيشه وقوت سنته، مستخدماً ما يمكن من الطرق الهادئة، ولهذا نقول دوماً بأنّ عليه تأمين رزقه من مواضع متعدّدة حتى لا يكون أسيراً لموضعٍ واحد؛ لأنّ تحوّل رجل الدين إلى مجرّد موظّف في مؤسّسة هذا المرجع أو ذاك، أو في هذا التيار السياسي أو ذاك، أو عند هذا الغني أو ذاك يفقده شخصيّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،

والأنكى من هذا يصبح من يتحكّم بأمره وتوجيهه في القضايا الدينية مجرّد أشخاص لا فقه لهم في الدين ولا علم لهم بالفكر، فيفرضون عليه الحديث في هذا الموضوع دون ذاك، ويلزمونه بترك الأمر بالمعروف في هذا الملفّ دون ذاك إلزاماً غير مباشر، فرجل الدين يتحمّل هنا بعض المسؤوليّة في أن يحاول أن يفتكّ من هذا الوضع ولو كان رزقه عبر هذا السبيل، وأن لا يستسلم نهائيّاً لهذا الأمر حيث يمكنه ذلك، إذ لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها.

هذه هي القضايا الأربع التي يمكن أن يؤاخذ عليها رجل الدين اليوم، وليس أصل أنّه يطلب المال أو غير ذلك. هذا على المستوى الفردي لآحاد رجال الدين.

المستوى الثاني: وهو المستوى النوعي والمؤسّسي، إنني أعتقد بأنّ أبرز من يتحمّل مسؤولية الأوضاع المالية التي يعيشها رجال الدين هو:

1 ـ النظام الذي يحكم المؤسّسة الدينية ككلّ.

2 ـ وبعض النافذين الذين يسعون ـ من حيث شعروا أو لم يشعروا ـ لتكريس هذا الوضع؛ لأنّ فيه مصلحتهم.

لست أريد الآن أن أتحدّث عن القضية المالية عموماً في المؤسّسة الدينية، فهو موضوع تحدّث فيه الكثيرون، لاسيما السيد محمد باقر الصدر والشيخ مرتضى مطهري وغيرهما، وقدّمت معهما وبعدهما طروحات عدّة لتحسين الأوضاع، وحصل تقدّم ملحوظ ينبغي الإقرار به وشكر الله عليه، لكن لم تحصل القفزة النوعية المنشودة رغم مرور نصف قرن على تلك الطروحات التي قدّمت.

هذا موضوع طويل في كيفية تنظيم المال عند المرجعيّات الدينية والحديث عن المرجعيّة الرشيدة والمرجعية المؤسّسة وغير ذلك ممّا قيل ويقال إلى يومنا هذا، وهناك في هذا المضمار سلسلة من المفاهيم المعطّلة التي يفترض التخلّص منها، ولا مجال للحديث عنها الآن، لكن ما أريد قوله هو أنّ هذا الوضع الذي فرض على آحاد رجال الدين حتى جرّهم إلى ما جرّهم إليه، وبرغم تحسّن الأوضاع في غير موقع ومكان، لكن يبقى الوضع دون المستوى المطلوب، ولابدّ لنظام المؤسّسة الدينية من إحداث تغيير كبير في المسألة المالية،

وأكتفي هنا بالإشارة إلى ضرورة تأمينها فرص عمل لطلاب العلوم الدينية، فإنّ خلق هذا المناخ لهم هو الكفيل بإدخالهم في نسق الإنتاج المالي الطبيعي في عالم الوظيفة والحصول على المال، إلى جانب تفتيت المفاهيم المثبّطة عن ذلك كما أشرنا سابقاً، وهذا ما شهدنا تطوّراً كبيراً فيه خلال العقدين الأخيرين، لكنّه يحتاج إلى بسط وتوسعة على امتداد العالم الإسلامي وغيره حيث ينتشر رجال الدين عموماً، وقد ذكرت الأحاديث الشريفة وفتاوى الفقهاء بأنّ القرض أفضل من الصدقة، ويجب التفكير باستخدام هذا المنهج مع طلاب العلوم بعد الانتهاء من المرحلة الدراسيّة، فلا نعوّدنّه على الأعطيات، بل على تأمين فرص عمل أو قروض ليعيش المسؤولية الإنتاجية التي يعيشها سائر الناس.

وعليه، فالكلّ مسؤول عن معالجة هذه الظاهرة، وليس آحاد المشايخ وقرّاء العزاء فقط:

1 ـ الناس عموماً، بترحيبها بعمل رجل الدين وعدم اعتبار ذلك منقصة، بل هو مفخرة وتواضع وقيمة مضافة له، والسعي من قبل الناس للمزيد من الاحترام الاجتماعي لرجل الدين ليس بالمجاملات، وإنّما بمساعدته على التواضع والعمل والعفّة والتمنّع والكبرياء الإيجابي ونحو ذلك، وتقديم المال له ـ عندما يراد تقديمه ـ بطريقة تليق به وتحفظ ماء وجهه، وشعورهم بأنّ عالم الدين هو مسؤولية اجتماعيّة أيضاً.

2 ـ المؤسّسة الدينية، بتفتيت المفاهيم المثبّطة عن الإنتاج الطبيعي لرجل الدين حيث يمكن، والسعي لتأمين فرص عمل له تليق بشأنه ولا تدفعه للأخذ من الناس أو لإراقة ماء وجهه وأهله هنا وهناك.

3 ـ رجل الدين نفسه، فعليه السعي للتقليل مهما أمكنه من أخذ أعطيات الخمس والزكاة، والبحث عن فرص عمل حيث يمكنه، ونحن لا نقول بأنّ الجميع يمكنه تأمين فرص عمل، بل نقول: (حيث يمكن). إضافة إلى ترشيد الاستهلاك وتوازن الصرف المالي.

نسأل الله التوفيق لكلّ العلماء والعاملين وطلبة العلوم الدينية الذين شرّفهم الله بهذه الخدمة النبيلة، لبلورة نظام مالي أفضل في الإنتاج والاستهلاك، إنّه قريب مجيب.

 

المصدر: كتاب “عاشورائيات” المجلد الثاني لفضيلة الشيخ حيدر حب الله

 

تحميل المجلدين

عاشورائيات-الجزء-الأول

عاشورائيات-الجزء-الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky