الوحيد البهبهاني

الأبعاد السياسية والفكرية للمدرسة الأصولية بقيادة الوحيد البهبهاني / د. محسن القزويني

الاجتهاد: البحث يتناول المدرسة الأصولية التي أوجدها الوحيد البهبهاني وتلاميذه وآثار هذه المدرسة على كل من إيران والعراق في المجال السياسي والفكري. تعود جذور النهضة الحديثة في كل من ايران والعراق إلى عهد الأغا باقر البهبهاني الذي ولد في اصفهان سنة 1118 هجرية وقطن برهة في بهبهان ثم انتقل إلى كربلاء في عهد رئاسة الشيخ يوسف البحراني [صاحب الحدائق]. وقد احدث الوحيد البهبهاني ثورة في منهج المجتهدين فأسدل الستار على خمسة قرون من الجمود، وأوجد نهضة فكرية كبرى اعاد فيها القرآن الكريم والعقل إلى ممارسة دورهما في الحياة الفقهية بعد اغفاءة دامت خمسة قرون.

شهد العالم الاسلامي في منتصف القرن الثاني عشر الهجري تطوراً نوعياً بظهور الوحيد البهبهاني في مدينة كربلاء المقدسة؛ حيث استطاع بنهجه التغييري أن يسدل الستار على جمود استمر عدة عقود في الفقه الامامي وأن يعيد للفقيه مكانته الطبيعية في المجتمع عندما فرض الاجتهاد كحقيقة مسلمة في الفقه فظهر المجتهدون الذين مارسوا أدوارهم التاريخية ووضعوا منهجاً جديداً في أصول الفقه وقادوا مسيرة التغيير في كل من إيران والعراق فكانت حركة التنباك وثورة الدستور في إيران وثورة العشرين في العراق من ثمار ذلك التغيير الذي أحدثه الوحيد البهبهاني ومدرسته الأصولية .

الجمود الفكري في المؤسسة الفقهية:

اصيبت الحياة الفكرية بصدمة على يد الشيخ محمد أمين الاسترابادي [المتوفي سنة 1036هـ] مؤلف كتاب الفوائد المدنية الذي أعلن فيه عن الاستغناء عن القواعد العقلية وارجع العقل الشيعي إلى الوراء لأكثر من خمسة قرون، عندما دعا إلى الأخذ بالكتب الحديثية الأربعة والاحتجاج بها دون تمحيص، فالفقه برأيه لا يحتاج إلى بحث إسناد الروايات الواردة في هذه الكتب، وصحة التمسك بما ورد فيها من الاحداث.

كما وأنه نفى صحة الإجماع، ورفض الاحتجاج بالكتاب العزيز ما لم يأت فيه إيضاح من الحديث وحجته في ذلك الاحاديث الناهية عن تفسير القرآن بالرأي.

يقول الشيخ الآصفي عن ذلك:

“فقد توسعت هذه الحركة العلمية وشقت طريقها إلى الاوساط العلمية الشيعية وفرضت طريقتها العقلية الفقهية الشيعية بفضل الجهود التي بذلها مؤسس هذه الطريقة الامين الاستربادي (رحمه الله) وقد اشغلت هذه المعارضة العلمية التي قادها الامين الاستربادي فقهاء الشيعة فترة من الزمن وادخلتهم في صراع لم يكن لهم به عهد من قبل “([1]).

وسيطرة هذا الاتجاه الذي أخذ يحمل عنوان (الاخبارية) يُفسر لنا جموداً وانحساراً كبيرين ساد المسار الفقهي الشيعي الذي ترك أثره على الحياة الفكرية والسياسية.

لكن مع وصول البهبهاني إلى كربلاء تغيّر كل شيء، إذ بدأ حواراً بناءاً مع منظر الحركة الاخبارية وهو الشيخ يوسف البحراني حتى استطاع أن يقنعه بالعدول عن الاتجاه الاخباري إلى الاتجاه الوسط. يقول البحراني: “وقد كنت في أول الأمر ممن ينتصر لمذهب الاخباريين، وقد آثرت البحث فيه مع بعض المجتهدين من مشايخنا المعاصرين [الوحيد البهبهاني] إلاّ أن الذي ظهر لي بعد اعطاء التأمل حقه هو في المقام وأمعان النظر في كلام علمائنا الأعلام هو أغماض النظر عن هذا الباب وإرخاء الستر دونه والحجاب”([2]).

وقد سجل التاريخ لنا أروع صور التحاور بين العلمين حيث ذكر الشيخ عباس القمي في الفوائد الرضوية عن صاحب التكملة عن الحاج كريم [فراش الحرم الحسيني] إنه كان يقوم بخدمة الحرم في شبابه، وذات ليلة التقى بالشيخ يوسف البحراني والوحيد البهبهاني داخل الحرم الشريف وهما واقفان يتحاوران حتى حان وقت إغلاق أبواب الحرم فأنتقلا إلى الرواق المحيط بالحرم واستمرا في حوارهما واقفان، فلما أراد السدنة إغلاق أبواب الرواق انتقلا خارج الصحن من الباب الذي ينفتح على القبلة واستمرا في حوارهما وهما واقفان فتركهما وذهب إلى بيته ونام، فلما حلّ الفجر ورجع إلى الحرم صباح اليوم الثاني سمع صوت حوار الشيخين من بعيد، فلما اقترب منهما وجدهما على نفس الهيئة التي تركهما عليها في الليلة الماضية مستمرين في الحوار والنقاش، فلما أذنّ المؤذن لصلاة الصبح رجع الشيخ يوسف إلى الحرم ليقيم الصلاة جماعة ورجع الوحيد البهبهاني إلى الصحن وافترش عباءته على طرف مدخل باب القبلة، واذن واقام وصلى الصبح([3]) فكانا ملتزمين باداب المحاورة رائدهما في ذلك هو الحق، وقد عدل البحراني إلى الاتجاه الحق بعد أن اتضح له ذلك من خلال هذه المحاورة الطويلة([4]).

شهادة المؤرخين:

رصد المؤرخون التطور المهم في تاريخ الشيعة الحديث بظهور الوحيد البهبهاني منهم الأب انستاس ماري الكرملي فقال “كان في القرن الثالث عشر للهجرة مدرستان للشيعة في كربلاء تتزاحمان، مدرسة الأخبارية ومدرسة الأصولية، وكان الرجحان لمدرسة الأخبارية حتى بعث الله ذلك المجدد الكبير والمصلح الشهير العلامة المعروف بالأغا باقر البهبهاني، نبغ ذلك العبقري في بهبهان وبعد أن برز فيها هاجر إلى كربلاء فنفخ من روحه الطاهرة في المدرسة الأصولية فزاحمت المدرسة الأخبارية بل اخرجتها من كربلاء والنجف، وعلى يد العلامة تأسست المدرسة الأصولية الكبرى”([5]) وكل من كتب عن هذه المرحلة التاريخية شهد بهذه الشهادة.

لقد استطاع الوحيد البهبهاني ان يربي جيلاً من المجتهدين اصبحوا فيها اعمدة المدرسة الأصولية التي أرسى قواعدها في كتبه (الاجتهاد و الأخبار) و (صحة الاجماع) و(الفوائد الحائرية) و (الفوائد الجديدة).

والتي اتسمت بالمتانة، و مشحونة بالافكار الفقهية والاصولية وتمكن بالعلم أن يدحض نظرية الاخباريين وأن يعزل هذه الحركة عن الساحة الفكرية الشيعية فأعاد للعقل مجده وللقرآن دوره وللإجماع قيمته.

وانطلق تلاميذه يبحثون في ذلك الركام الذي تجمع منذ قرون وانطلقوا في البحث والاجتهاد وفتحوا أبواباً كانت مغلقة بوجه المجتهدين، وقد انعكس ذلك في الحياة السياسية والفكرية والإجتماعية، وقد لا نجد علاقة مباشرة بين مجمل الأحداث السياسية التي وقعت في كل من إيران والعراق وهذه الثورة الفكرية التي فجرها الوحيد البهبهاني، لكن آثار هذه الثورة كانت من السعة بحيث أثرت في جميع مناحي الحياة الشيعية.

إذ بدأ الاجتهاد بهذه الثورة الاصولية عهداً جديداً بعد جمود مديد، فأخذ العلماء يستنبطون أحكاماً لم تكن موجودة وأخذوا يبحثون في أمور كانت ممنوعة عليهم. وقد امتدت هذه الثورة بآثارها السياسية والفكرية والفقهية لأكثر من قرنين بل مازالت متواصلة إلى يومنا هذا ومن آثارها المحسوسة نذكر:

أولاً: البحث في نظرية الدولة:

كانت حركة الوحيد البهبهاني وسلسة تلاميذه، وتلاميذ تلاميذه والذين يشكلون مدرسة مترابطة ومتكاملة هي في الواقع حركة علمية فقهية أصولية بحتة، لكنها انتهجت منهجاً جديداً للتفكير ورؤية جديدة للمجتهد وللمؤسسة المرجعية، فكان لابد أن تنعكس هذه الحركة على الفكر السياسي وتكوين نظرية الدولة على ضوء الفقه الإمامي المعتقد بغيبة الإمام المعصوم، وقيام مراجع الدين بوظيفة الإمام بالنيابة عنه في حال غيابه، وأول إفراز لهذه الحركة في مجال الفكر السياسي كان على يد الشيخ ملا أحمد النراقي المتوفي في عام 1245 هجرية الذي له الفضل الأكبر في بلورة نظرية ولاية الفقيه في كتابه (عوائد الأيام) عندما أضاف للفقيه إلى جانب سلطته الدينية سلطة ادارة الأمة، حيث منح للفقيه ما للإمام من ولاية اعتبارية.

يقول النراقي “كلما كان للنبي والإمام اللذان هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام فيه الولاية وكان لهم فللفقيه أيضاً إلاّ ما أخرجه الدليل من إجماع أو نفي أو غيرهما”([6]) وقد مهدت نظرية ولاية الفقيه الطريق أمام الفقهاء للبحث في نظرية الدولة الإسلامية ومن ثم قيام أول تجربة للدولة الإسلامية القائمة على نظرية ولاية الفقيه على أيدي الإمام الخميني.

واستطاع الشيخ النراقي أن يستدل على رأيه بقواعد أصولية كانت محظورة في المرحلة التي سبقته وأتى بتسعة عشر دليلاً استدل بها على ولاية الفقيه، وبعد أن شاعت هذه الفكرة بين أوساط العلماء أخذوا يتفرعون من خلالها إلى بقية اجزاء الفكر السياسي.

فأخذ بها أكثر من سلك الخط الاصولي لوحيد البهبهاني منهم الشيخ محمد حسن النجفي صاحب كتاب جواهر الكلام وهو تلميذ السيد مهدي بحر العلوم الذي يعد من تلاميذ الوحيد البهبهاني. ولعل أهم وثيقة كتبت في الفكر السياسي الشيعي المعاصر هو ما أفرزته هذه المدرسة على يد الميرزا محمد حسين النائيني (1277-1355ه) أحد اعمدة علم الأصول في المرحلة المتأخرة. والنائيني يتصل بالوحيد البهبهاني عبر جمع من اساتذته هم على الترتيب: المجدد الشيرازي ← الشيخ الانصاري← شريف العلماء← السيد علي الطباطبائي (صاحب الرياض) ← الوحيد الهبهاني.

وقد كتب النائيني كتاباً مهماً سماه “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” كتبه باللغة الفارسية وطبعه في عام 1327 هجرية وترجمه إلى العربية الشيخ على الخاقاني، تناول الميرزا النائيني فكرة الديمقراطية وحاول أن يجد لها مسوغاً من خلال فكرة الشورى فذكر قائلاً حول آية الشورى: “ودلالة الآية المباركة المخاطب بها نفس العصمة وعقل الكل، وقد كلف بالمشورة مع عقلاء الأمة على هذا المطلب في كمال البداهة والظهور حيث يصلح بالضرورة ان مرجع ضمير الجمع هو عموم الامة وقاطبة المهاجرين والانصار والقرائن المقامية لا من باب الظهور اللفظي كما أن دلالة حكمته -في الأمر- وهو مفرد محلى باللام ومفيد للعموم الاطلاقي على ان متعلق المشورة المقررة في الشريعة الطاهرة هو كلية الأمور السياسية في غاية الوضوح أيضاً”([7]).

وفي هذه القراءة نجد كيف جنّد الميرزا النائيني علم الأصول واستثمره لأستنباط حكم وجوب الشورى كمقدمة لتشريع نظام نيابي يكون فيه لعلماء الدين الدور الأكبر.

وهو خطوة رائدة ليست بالهينة في تلك المرحلة من تاريخ فقهاء الشيعة الذين كانوا يعانون من سيطرة المنهج الاخباري، وبالأضافة إلى هذين العالمين [النراقي والنائيني] هناك اسهامات قيمة قام بها الجيل الثالث والرابع من المدرسة الأصولية بقيادة الوحيد البهبهاني وهم كل من المجدد الشيرازي والآخوند الخراساني والميرزا الشيرازي فيما كتبوه من رسائل تضمنت مواقف سياسية واجهتها الأمة الإسلامية في مراحل من تاريخها، وهي تؤشر إلى فكر المقاومة والجهاد ومراقبة السلطات وضرورة السعي إلى الدولة العادلة. وتلك الرسائل والبيانات تعد بحق نصوصاً مهمة في الفكر السياسي فيمكن الرجوع إليها.

ثانياً: اعلان الجهاد ومقاومة الإحتلال:

استولت روسيا القيصرية على بعض المدن الإيرانية كدربند وشيروان، فأستنجد السلطان القاجاري فتح علي شاه بالسيد محمد المجاهد الذي ولد في كربلاء عام 1180 هجرية وقاد جيشاً كبيراً لمحاربة الروس في محاولة منه لدفع شرهم عن المدن الإسلامية([8]).

إلاّ أنه وافته المنية في مدينة قزوين سنة 1242 هـ ونقل جثمانه إلى كربلاء المقدسة، وقد سمي بالمجاهد لموقفه الجهادي من الاحتلال الروسي وفتواه بالجهاد [معروفة] ضد الروس في عدوانها على حياض الإسلام وأراضي المسلمين([9]).

والسيد محمد المجاهد هو ابن السيد علي الطباطبائي [صاحب الرياض] وسبط الوحيد البهبهاني وصهر السيد مهدي بحر العلوم، وهو أحد اعمدة المدرسة الأصولية التي أسسها الوحيد البهبهاني [جده من أمه] فهو صاحب موسوعة كبيرة في علم الأصول هي “مفتاح الأصول” ثم تبعه بكتاب “المصابيح في شرح المفاتيح” وكان يوصي تلاميذه بأن يكتبوا في الاصول ليسدوا الثغرات التي كانت قائمة يومذاك ومن بين من كتب في الاصول متاثرا بأستاذه السيد ابراهيم الموسوي القزويني صاحب الكتاب الشهير (ضوابط الاصول) الذي طبع بجزئين واصبح مرجعا للعلماء في علم الاصول .

وكان للسيد ابراهيم دورٌ جهادي مهم ابان حصار نجيب باشا لمدينة كربلاء . اذ تجمع في المدينة اعداد كبيرة من الفدائيين من مختلف مناطق العراق بالاضافة الى الشباب الكربلائي للدفاع عن المدينة المقدسة بلغ تعدادهم زهاء عشرة الاف شخص ، وقد اطلقت عليهم السلطات العثمانية عبارة (اليرماز) ومعناها باللغة التركية (الشقاوات) ، وانطلت هذه الدعاية المضللة على المؤرخين الذين اخذوا يُسمون هؤلاء الفدائيين بهذه التسمية.

يقول علي الوردي عنهم “والواقع ان بلدة كربلاء كانت في تلك الايام قد تحكمت فيها زمرة من الاشقياء والسفلة يُقال لهم (اليرمازية) وكان هؤلاء الاشرار قد تجمعوا في كربلاء منذ عهد داود باشا برئاسة زعيم لهم اسمه السيد ابراهيم الزعفراني واخذوا يعيثون فيها فساداً ويستغلون سلطانها كما يشاؤون”([10]) وكان قسم من هؤلاء الفدائيين يتبعون السيد ابراهيم الموسوي كما اشار الى ذلك سلمان هادي طعمة ” ولكن وجد العلماء في انقسام (اليارمز) الى شطرين احدهما مع الزعيم الديني الشهير كاظم الرشتي والاخر مع زعيم ديني آخر يدعى السيد ابراهيم القزويني”([11]) .

والسيد ابراهيم القزويني هو احد اعمدة المدرسة الاصولية التي اسسها الوحيد البهبهاني فهو تلميذ لثلاثة من الاعمدة الرئيسية لهذه المدرسة هم كل من ؛ السيد علي (صاحب الرياض) والسيد محمد المجاهد وشريف العلماء وهو ايضا الذي بنى سور سامراء وقام بتذهيب ايوان ابي الفضل العباس([12]) وصرف عمره في تربية جيل من الاصوليين ناهزوا الثمانمائة طالب وانتشروا في البلاد الشيعية مبشرين وداعين الى التيار الاصولي .

انتفاضة التنباك

ومن الحوادث المهمة التي وقعت في ايران ابان القرن التاسع عشر انتفاضة التنباك وهو نوع من انواع التبوغ شاع في الوسط الايراني ، فهو يوضع في النرجيلة لغرض التدخين ولم يكن الايرانيون قد عرفوا السيكارة بعد .

والسبب في وقائع انتفاضة التنباك ان الشاه (ناصر الدين شاه) قد ابرم اتفاقية مع شركة بريطانية بموجبها يتم بيع التنباك من قبلها حصرا ، مما ادى الى استياء شديد عم البلاد بأسرها وتدخل علماء الدين لصالح الشعب وكان على رأسهم السيد محمد حسن الشيرازي وهو في سامراء بالعراق فأرسل برسالة الى الشاه يطالبه فيها بالامتثال لرغبة الشعب في الغاء الاتفاقية فلن يذعن الشاه لهذه الرسالة .

وبعد اليأس اصدر الميرزا الشيرازي فتواه المشهورة بتحريم تدخين التنباك ونص الفتوى “بسم الله الرحمن الرحيم :اليوم استعمال التنباك والتتن حرام بأي نحو كان ومن استعمله كمن حارب الامام عجل الله فرجه”([13]) إنّ هذه الفتوى على اختصارها كانت بمثابة القنبلة من حيث تأثيرها في المجتمع الايراني([14]) فأمتنع الناس عن التدخين وحطموا النرجيلات ، وكان ذلك بداية لانتفاضة كبيرة ضد الاجانب والشركات البريطانية .

وسرت مظاهرات في شوارع طهران مؤيدة لفتوى الشيرازي واحاط المتظاهرون بالقصر الملكي . واضطر الشاه اخيراً امام الضغط الجماهيري الكبير الى الاذعان والغاء الاتفاقية .

فاصدار الفتوى كان على ضوء القواعد الاصولية التي لولاها لما كان بمقدور احد ان يصدر مثل هذه الفتوى ، هذا من ناحية ومن ناحية اخرى فان محمد حسن الشيرازي هو امتداد للسلسلة الاصولية التي اخذت معينها من الوحيد البهبهاني ، فهو تلميذ صاحب أطول موسوعة اصولية هو الشيخ مرتضى الانصاري مؤلف كتاب (الرسائل) في علم الاصول ، فأخذ من استاذه الاهتمام بهذا العلم فكتب افادات استاذه وكتب رسائل في علم الاصول في اجتماع الامر والنهي([15]) كما يتصل الشيرازي الذي أخذ تسمية المجدد الشيرازي بالوحيد البهبهاني عبر ثلاث حلقات من الأساتذة (مرتضى الانصاري ← شريف العلماء ←السيد علي الطباطبائي ← وحيد البهبهاني) .

وكان لفتوى السيد في الجهاد الأثر الأكبر على الواقع السياسي أمتد حتى ثورة العشرين في العراق على يد أحد أعمدة المدرسة الأصولية الشيخ محمد تقي الشيرازي.

هاجر محمد تقي الشيرازي من إيران إلى كربلاء سنة 1271 للهجرة ثم هاجر إلى سامراء وتتلمذ على يد السيد محمد حسن الشيرازي المعروف بالمجدد، ثم عاد إلى كربلاء بعد وفاة استاذه ليقود الشعب العراقي ضد الإحتلال البريطاني واصدر فتواه الشهيرة التي توجب على المسلمين كافة الجهاد ضد المحتلين تلك الفتوى التي كانت ساعة الصفر في ثورة العشرين، يقول علي الوردي عن هذه الفتوى “من الممكن القول إنَّ فتوى الشيرازي كانت عاملاً مهماً في تطور الوعي السياسي في العراق و قد جعلت الدين والوطنية في اطار واحد، وهذا أمرٌ جديد لم يكن يألفونه من قبل.

وبذا أصبح الوطني متديناً والمتدين وطنياً وانتشر بين الناس الحديث المنسوب إلى النبي (ص) ((حب الوطن من الإيمان))، وصار شعاراً للحركة الوطنية الجديدة”([16]) .

وكانت ثورة العشرين أكبر انجاز تحققه المدرسة الأصولية التي مهدت بأرائها وانفتاحها على قضايا الأمة السبيل أمام انتهاج النهج الجديد المستمد من ارضية فقهية وأصولية أرسى دعائمها الوحيد البهبهاني و سقى شجرتها كل من السيد على الطباطبائي والسيد محمد المجاهد والمجدد الشيرازي والآخوند الخراساني حتى وصلت إلى تلميذهم الميرزا محمد تقي الشيرازي الذي ورث إرث هذه المدرسة التي منحت عالم الدين دوراً أكبر في ممارسة وظيفته الشرعية.

ثالثاً: فكرة العمل السياسي:

اتاح الزخم الذي أوجدته المدرسة الأصولية لعلماء الدين فرصة المشاركة في العمل السياسي في كل من إيران والعراق، إذ ظهر في إيران طاغية سيء الصيت هو محمد علي شاه حاول أن يكيد للشعب ويلغي القوانين والضوابط ويتفرد بالسلطة. فظهرت حركة تدعو إلى التمسك بالدستور فكانوا يسمون بـ(المشروطة) في مقابل مجموعة كانت تؤيد الشاه فسميت بـ(المستبدة).

وكان لعلماء الدين مساهمة رائدة في الحركة الدستورية التي اشترطت على الشاه التزامه بقوانين البلاد. ومن أبرز من وقف إلى جانب هذه الحركة الملا محمد كاظم الخراساني، والذي يعده علي الوردي زعيم هذه الحركة وأظهر الخراساني موقفه من الدستور بجوابه على رسالة وصلت من طهران تستفتيه في أمر المجلس المقترح فجاء الجواب:

“بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على القوم الظالمين إلى يوم الدين، أما بعد فبالتأييدات الالهية والمراحم السماوية تمت توجيهات الهادي العالي الشأن حضرة صاحب الزمان أرواحنا له الفداء: إن قوانين المجلس المذكور على الشكل الذي ذكرتموه هي قوانين مقدسة ومحترمة وهي فرض على جميع المسلمين، إنّ هذهِ القوانين يجب تنفيذها وعليه نكرر قولنا: إنّ الاقدام على مقاومة المجلس العالي بمنزلة الاقدام على مقاومة احكام الدين الحنيف، فواجب المسلمين أن يقفوا دون أية حركة ضد المجلس”([17]) .

نجد في هذه الرسالة قوة الاستنباط وشجاعة الطرح لأحد أعمدة المدرسة الأصولية الذي كتب كتاباً في الاصول لازال حتى يومنا هذا يدرس في الحوزات العلمية ويعد مدخلاً للانتقال إلى مرحلة دروس الخارج هو كتاب “كفاية الأصول” وقد استقى الآخوند الخراساني علومه في الاصول من استاذه محمد حسن الشيرازي و بدوره تتلمذ على يد الشيخ الانصاري وهو ممتد في جذوره العلمية الى الوحيد البهبهاني كما اسلفنا .

وفي هذه الحقبة بدا واضحاً وجلياً اثر علم الاصول في الحياة السياسية للامة ، فقد كان هذا العلم نظيفاً من عوامل الجمود والتكلس واصبح منطلقا فكرياً ومنهجاً علمياً للعلماء والحوزات العلمية التي اصبحت تتحمل مسؤوليات سياسية واجتماعية .

وكان للخراساني دور كبير في انجاح حركة الدستور في ايران ، والتي تمخضت عن سن اول دستور للبلاد نشأ على اساسه النظام السياسي في ايران .

الخاتمه:

انجبت المدرسة الاصولية جمعاً من الرواد الذين ساهموا في خلق الأرضية لقيام التحول السياسي في كل من ايران والعراق .

ففكرة ولاية الفقيه التي بلورها النراقي ، وفكرة مكافحة الاحتكارات الغربية التي تزعمها الميرزا الشيرازي وفكرة الجهاد التي اعلنها السيد محمد المجاهد ضد الغزو الروسي في ايران وميرزا تقي الشيرازي ضد الاحتلال البريطاني في العراق، وفكرة الشورى وقيام المجالس النيابية على اصول اسلامية التي كتب عنها الميرزا النائيني في كتابه المشهور (تنبيه الامة وتنزيه الملة ) كل هذه الافكار لم تكن لتوجد لولا التحول الذي احدثه الوحيد البهبهاني والذي رفع من منزلة عالم الدين الى مكان الصدارة في قيادة الامة الاسلامية . فأصبح يقود الثورات والاحتجاجات معتبراً هذا العمل جزءاً من وظائفه الدينية.

المصادر

الآصفي، محمد مهدي: مجلة الفكر الاسلامي السنة 11 العدد1 .
البحراني، يوسف: الحدائق الناظرة، مؤسسة آل البيت، بيروت.
الشاهرودي: تاريخ الحركة العلمية في كربلاء، دار العلوم، بيروت.
طعمة، سلمان هادي: تراث كربلاء ، دار العلوم، بيروت.
القمي: الفوائد الرضوية، دار المفيد، إيران، قم.
الوردي، علي: لمحات اجتماعية من تاريخ العراق، دار المعرفة، بغداد.
النائيني: تنبيه الأمة وتنزيه الملة، دار العربي، النجف الأشرف.
النراقي، أحمد: عوائد الأيام، مؤسسة الفكر الاسلامي، إيران، قم.

الهوامش

[1] – الآصفي: محمد مهدي، مجلة الفكر الإسلامي، السنة 11، العدد1، ص92.

[2] – الحدائق الناضرة: 1/ 32.

[3] – القمي: الفوائد الرضوية ص85.

[4] – ويذكر لنا المؤرخون عن تعالي شخصية المتحاورين اذ أن صاحب الحدائق كان يوصي تلامذته بحضور درس الوحيد البهبهاني على رغم ما بينهما من اختلاف.

[5] – مجلة لغة العرب ج6 س4 ص320.

[6] – عوائد الأيام ص188.

[7] – تنبيه الأمة وتنزيه الملة ص55.

[8] – الشاهرودي: تاريخ الحركة العلمية في كربلاء ص140.

[9] – المصدر نفسه ص140.

[10] – الوردي: لمحات اجتماعية من تاريخ العراق 2/116.

[11] – تراث كربلاء ص379.

[12] – المصدر نفسه.

[13] – الوردي: لمحات اجتماعية 3/95.

[14] – المصدر نفسه 3/95.

[15] – فقهاء البشر ص441.

[16] – علي الوردي: لمحات اجتماعية 3/ 116.

[17] – الوردي: لمحات اجتماعية 3/116.

المصدر: مجلة أهل البيت العدد التاسع عشر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky