الاجتهاد: هذه المقالة ـ والتي تأتي بمناسبة الذكرى السنوية لرحيل هذا القائد الأسطوري ـ إنما تعرض لمشهد من لوحة متكاملة رسمها ذلك المبدع بريشة فهمه الأصيل للإسلام وهداياته، وعنفوانه الثوري الصادق الذي جسّد تلك الرؤية الأصيلة خير تجسيد، مشهد يبيّن كيفية مواجهة هذا الثائر العظيم لـ” مجزرة المدرسة الفيضية” وتحويلها من ضربة موجعة جداً للقوة الإسلامية المناهضة للشاه المقبور، إلى معبر، بل رمح غرسه في قلب النظام وأطاح برأسه
مقدمة:
تكمن أهمية الإطلاع على تجارب الآخرين ـ سواء منها التجارب الناجحة أم الفاشلة، الإيجابية أم السلبية ـ في كونها رافداً ثراً يضيف إلى رصيد وعي الإنسان أو المجتمع وخبرته بالحياة ويراكمها، ويوسع آفاقه ونظرته للأمور بعيداً عن الشعور باكتفاء الذات(فرداً أو مجتمعاً) بما لديها مهما كانت تلك الذات عظيمة، ومهما كان مخزونها غزيراً، وبناء على ذلك، يصاغ الواقع أو المستقبل.
ونظراً لأهمية هذا الرافد العظيم فقد قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ِلأَوْلِي الأَلْبَابِ } يوسف/ 111. وقال جل وعلا: { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الأعراف/176. وعن أمير المؤمنين عليه السلام: “التجارب علم مستفاد”.
فالإطلاع على تجارب الآخرين ـ إذن ـ ضرورة للنجاح، أو لتحصين التجارب الناجحة من السلبيات التي يمكن أن تطرأ عليها، سواء منها ما كان على المستوى الشخصي، أم على مستوى الأمم.
والتجربة التي بين أيدينا ـ أيها القارئ الحبيب ـ هي تجربة مهمة جداً؛ كونها تجربة ناجحة لإنسان عظيم، أسّس مدرسة متميزة في نظرته إلى الإسلام، ودشّن مذهباً جديداً في العمل الجماهيري، فأقام دولة الإسلام الثوري في وسط عالم غريب ـ بل معادٍ ـ لتلك المبادئ التي تبناها، عالم يعجُّ بالطغيان، مناهض لأي خروج عن المحور الشرقي أو الغربي، واستطاع أن يفرض وجوده بكل قوة واقتدار وإبهار.
هذه المقالة ـ والتي تأتي بمناسبة الذكرى السنوية لرحيل هذا القائد الأسطوري ـ إنما تعرض لمشهد من لوحة متكاملة رسمها ذلك المبدع بريشة فهمه الأصيل للإسلام وهداياته، وعنفوانه الثوري الصادق الذي جسّد تلك الرؤية الأصيلة خير تجسيد، مشهد يبيّن كيفية مواجهة هذا الثائر العظيم لـ” مجزرة المدرسة الفيضية” وتحويلها من ضربة موجعة جداً للقوة الإسلامية المناهضة للشاه المقبور، إلى معبر، بل رمح غرسه في قلب النظام وأطاح برأسه.
أسباب مجزرة الفيضية :
أراد الشاه المقبور ـ بإيعاز من أمريكا ـ أن يقوم ببعض الإجراءات التي تعزّز من الهيمنة الأمريكية في إيران والمنطقة، وقد أطلق عليها اسم ” الثورة البيضاء”.
كانت ” الإصلاحات” تحتوي على ست نقاط هي:
1ـ إلغاء نظام الإقطاع، مع المصادقة على مشروع الإصلاح الزراعي على أساس لائحة إصلاح قانون الإصلاح الزراعي المصادق عليها في 10/1/1962م.
2ـ المصادقة على لائحة تأميم الغابات في كافة أنحاء البلاد.
3ـ المصادقة على مشروع بيع أسهم المعامل الحكومية كرصيد للإصلاح الزراعي.
4ـ المصادقة على مشروع مشاركة العمال في أرباح المعامل الإنتاجية والصناعية.
5ـ اللائحة الإصلاحية لقانون الانتخابات.
6ـ مشروع تشكيل اللجان العملية بهدف تنفيذ التعليمات العامة والإلزامية.
إنَّ تنفيذ هذه الإجراءات/ ” الإصلاحات” ليؤدي إلى تفرّد الشاه بالحكم، وإلى تفريغ المجلس من أية صلاحية، وسن قوانين مخالفة للإسلام، وضرب العنصر الزراعي، وغيرها من سلبيات تسلب الشعب كل عناصر الاستقلالية والقوة، وتجيّرها لصالح الشاه العميل لأمريكا، وتقود إلى المزيد من التبعية للسياسة الأمريكية، والهيمنة على إيران والمنطقة كلها من خلال شرطي الخليج.
أصرَّ الشاه على تنفيذ تلك الإجراءات واعتبر أن بقاءه في السلطة مرهون بتنفيذها، وقال لمبعوث العلماء(آية الله روح الله كمال وند) بأنه إذا وافق العلماء على إجراء الإصلاحات فإنه سيقوم بتلبية أي طلب يتعلق بالحوزة، وأنه إذا لم يوافقوا فسينتهي وسيأتي أناس لا يؤمنون بهم ولا بنهجهم، بل سيهدمون هذه المساجد على رؤوسهم ويقضون عليهم.
بقي الشاه على إصراره الشديد مما اضطر العلماء وعلى رأسهم الإمام الخميني(قدس سره) إلى الإعلان عن رأيهم الرافض لإجراء الاستفتاء وحرمة التصويت عليه، ودعوا إلى إضراب عام لمدة ثلاثة أيام(قرأه الشيخ فلسفي)، وخرجت المظاهرات المناهضة للاستفتاء في مختلف المناطق ” وكان في طليعة المتظاهرين جمع كبير من علماء الدين)”.
حدثت مواجهات وصدامات بين المتظاهرين وقوات الشرطة والجيش حيث عمد النظام عبر مرتزقته لقمع الناس وضربهم وإهانتهم واعتقال العديد منهم من أجل تهيئة الأجواء المناسبة لإجراء الاستفتاء.
وحين فشلت كل أساليب القمع عن إيقاف التحركات الشعبية المناهضة للاستفتاء في شتى المدن تصدّى الشاه بنفسه للأمر، وقرّر القيام بزيارة إلى قم(مركز المعارضة) في حالةٍ أشبه بالعرض العسكري، وفتل العضلات، وقد قام رجال السافاك(مخابرات النظام) والقائمقامية إلى إقامة أقواس النصر، وتزيين الشوارع لاستقبال الشاه، إلا أنه ـ وقبل يوم واحد من قدوم الشاه المقبور ـ ” تظاهر أهالي قم وهتفوا بشعار “نحن أتباع القرآن لا نرضى بالاستفتاء” ووزعوا بيانات العلماء وفتاواهم بخصوص تحريم الاستفتاء، وقاموا بمواجهة أزلام الشاه، ومزّقوا صور الشاه، وهتفوا:
” ليسقط الاستبداد فالإسلام منتصر” وفي المقابل هاجم عدد كبير من أفراد الجيش المدرسة الفيضية والعديد من المحال التجارية المغلقة، وأطلقوا من خلال مكبرات الصوت في أرجاء المدينة عبارة ” يحيا الشاه”، وكانوا يقولون: من أراد أن لا يُسلب متجره فليفتح الباب فوراً، وليعلِّق عليه العلم الملكي.
وهكذا عملوا على فتح المحال التجارية عنوة، وأعدّوا المدينة لاستقبال الشاه، كما فرضوا رقابة شديدة على مداخل المدينة، ونشرت الصحف السائرة في ركب النظام في نفس اليوم خبراً تضليلياً مفاده( أن مواجهة عنيفة حدثت بين المزارعين وعلماء الدين في قم، وأن علماء الدين طلبوا من الحكومة إعادة النظام والهدوء حيث بادرت الحكومة إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة فوراً)!
وتزامناً مع ذلك حضر قائمقام قم اجتماعاً للعلماء وطلبة الحوزة، واقترح عليهم لقاء الشاه ومصارحته بموضوع إجراءات العنف التي اتخذتها الحكومة ضدهم، وطمأنهم إلى أن الشاه سيؤيد العلماء.
وكان المقصود من ذلك إضفاء طابع الجلال والهيبة على مراسم الاستقبال من خلال اشتراك العلماء في استقبال الشاه. ولكن الإمام الخميني(قده) أجاب بأن الهجوم الوحشي لأزلام النظام على علماء طهران وأهاليها وتعاملهم السيئ ضد أهالي قم والحوزة العلمية، وانتهاك حرمة الحوزة المقدسة، كل هذه الممارسات لم تبقِ أي مجال للتفاهم والتفاوض مع الجهاز الحاكم، كما أنها أغلقت أي باب يؤدي إلى اللقاء بالشاه، وأصبح ذلك أمراً مستحيلاً إلا أن يقوم الشاه بإعلان مسؤولية السيد علم الكاملة عما جرى، وإقالته من منصبه، وإنهاء عملية الاعتقالات البوليسية، كخطوة عملية منه للتعويض عن الإهانة والاعتداء اللتين تعرّضت لهما حرمة الحوزة المقدسة، وإذا ما حصل هذا، فسيكون الطريق مفتوحاً أمام لقاء مباشر مع الشاه.”.
” المهم أنه قد تمت تعبئة كل إمكانيات الدولة وأجهزتها من أجل الإعداد لاستقبال كبير للشاه في قم، كما قامت حافلات “شركة واحد” الكبيرة للنقل الداخلي بنقل مجاميع كبيرة من المواطنين المرغمين من كل أطراف البلاد إلى قم الرافضة تماماً لهذه الزيارة، كما تمركزت القوات العسكرية في كل مكان، لكن أحداً من أهالي قم لم يغادر منزله ذلك اليوم، ولم يشارك في الإستقبال، وقد شمل هذا الأمر حتى بعض المسؤولين التابعين للحكومة!
وما أن علم الشاه بعدم مجيء أيٍ من العلماء لاستقباله حتى ثارت ثائرته ولم يدخل الحرم.
وألقى خطاباً غاضباً اتهم فيه العلماء بالرجعية السوداء التي تعارض الإصلاحات التي هي في صالح الناس، ووسمهم بأنهم أسوء من “حزب تودة” بمائة مرة، وأنهم عملاء لجمال عبد الناصر، وما إلى ذلك من أوصاف انقلبت لاحقاً ضده.
بالرغم من تلك المعارضة، والتظاهرات التي اندلعت في كافة المدن والقمع والمواجهات أصرَّ الشاه المقبور وأجرى الاستفتاء في ظل خلو مراكز الاقتراع من الناس وقام بالتزوير، وصوّر إعلامه المأجور أن الإقبال على صناديق الاقتراع كان منقطع النظير، وأنه بلغ 99.9%!
وفور إعلان النتيجة بادر الرئيس الأمريكي كندي إلى إرسال برقية تهنئة، جاء فيها:
” إنه لمن دواعي السرور أن نرى الغالبية العظمى من شعب إيران تمنح ثقتها وتأييدها لزعامة مقامكم العالي في نهجكم الذي يجسّد إرادة هذا الشعب.
ولا شك أن هذا التأييد الشعبي المطلق سيكون سنداً قوياً للنهج القويم الذي اخترتموه، وسيزيد من عزمكم وأنتم تقودون بلدكم، وتحققون الانتصار تلو الانتصار في عملية النضال من أجل تحسين أوضاع شعبكم”!
كذلك فعلت بريطانيا، كما أشادت الصحف العالمية بقسميها الشرقي والغربي بهذه “الإصلاحات” وتجاهلت تماماً موجة المعارضة والاحتجاج الداخلي.
أما العلماء فما كان منهم ـ وعلى رأسهم الإمام الخميني(قده) ـ إلا أنْ استمروا في معارضتهم بمختلف الوسائل… فقد أصدروا بياناً عارضوا فيه تلك “الإصلاحات” بكل شدة.
وفي أثناء زيارته لقاعدة(وحدتي) الجوية بدزفول ألقى الشاه خطاباً هاجم فيه معارضي الإصلاحات، وردّ فيه على بيان علماء قم المعارض لها حيث قال فيما قال:
“… إن ثورتنا الوطنية العظيمة تتقدم بسرعة دون إراقة دماء..”.
بدوره استمر الإمام الخميني في معارضته ولم يزده تعجرف السلطة وقمعها إلا إصراراً على المناهضة والاستمرار مهما كلّف ذلك من ثمن.. فلقد قام(قده) بمواصلة تعبئة الجماهير بكل قوة، وألقى خطاباً في طلاب الحوزة العلمية جاء في بعضه:
” استعدّوا للموت.. استعدّوا للسجن والذهاب إلى الخدمة العسكرية.. استعدّوا لتلقّي الأذى والإهانة.. استعدّوا للمصائب التي ستواجهونها في سبيل الدفاع عن الإسلام والاستقلال.. استعدوا واصمدوا { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا}..”
ولم يمض وقت طويل حتى تحقق ما توقعه الإمام، إذ حدث الهجوم على المدرسة الفيضية وما تلا ذلك من حوادث.
(2)
على أعتاب المجزرة:
استمرت مظاهر الرفض للاستفتاء وتعددت صوره، وحين اقترب عيد النيروز قرّر الإمام الخميني استثمار تلك الأجواء لصالح معارضة الشاه، فقام بعدة أمور:
1ـ ألقى أول خطابٍ تحشيديٍ له بعد الاستفتاء، جاء فيه:
” أيها السادة المحترمون أينما كنتم: قفوا في وجه الأعمال المخالفة للشرع، لا تخافوا هذه الحراب الصدئة المتآكلة، فسرعان ما ستتحطّم. إن الجهاز الحاكم لن يتمكن من الوقوف في وجه مطاليب شعب بهذه الحراب، بل سيهزم عاجلاً أم آجلاً.. نحن لم نكن نرغب في وصول الأمر إلى هذا الحد.. إن منعوا عدداً من العلماء والخطباء عن الحديث من خلال إلقائهم في السجون، فإن بقية السادة العلماء سيتحدثون وينبهون الشعب على الأمور..”
2ـ اقترح على علماء قم تحويل عيد النورز ـ الذي صادف تلك الأيام ـ إلى حداد عام. انتشر الموضوع في أرجاء البلاد من خلال البيانات والنداءات والرسائل التي بعث بها الإمام إلى أرجاء البلاد. وقد جاء في الرسائل التي بعث بها إلى العلماء في بقية المدن ما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرات العلماء الأعلام وحجج الإسلام دامت بركاتهم
عظّم الله تعالى أجوركم.
أنتم تعلمون بأن الجهاز الحاكم يبذل كل مساعيه من أجل هدم أحكام الإسلام الأساس، والقيام بممارسات تتنافى وتعاليم الإسلام، لهذا فإني سأكون خلال عيد النوروز في حداد وتعزية لإمام العصر(عجّل الله فرجه)، وسأقوم بتحذير الناس، لذا فالمرجو من حضرات السادة القيام بنفس هذا العمل لإطلاع الشعب المسلم على المصائب التي حلّت بالإسلام والمسلمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
روح الله الموسوي الخميني.
وقد لقي اقتراح الإمام ترحيباً كبيراً جداً من قبل الشعب وتجاوباً عظيماً، حيث استبدلت الاحتفالات التي كانت تمارس في مثل ذلك العيد منذ آلاف السنين إلى مظاهر عزاء وحداد، واتشحت جدران المنازل والطرقات بالسواد، في ظاهرة فريدة لم تعهدها إيران منذ آلاف السنين، مما شكّل علامة فارقة على بروز قيادة ثورية قوية مناهضة يلتف حولها الشعب ويستجيب لنداءاتها، بكل قوة!
3ـ أصدر بياناً تضمّن عبارات شديدة ضد النظام الحاكم، تم توزيعه بعدد كبير في ليلة عيد النوروز من قبل طلبة العلوم الدينية الشباب، وقد جاء في البيان الذي كان عنوانه( علماء الإسلام لا عيد لهم) :
” إن الجهاز الحاكم قد اعتدى على أحكام الإسلام المقدسة وهو ينوي التطاول على أحكام القرآن الثابتة، فأعراض المسلمين معرّضة اليوم للهتك، والهيئة الحاكمة المتجبّرة تريد جلب الذل والعار للنساء العفيفات من خلال قراراتها وقوانينها المخالفة للشرع والدستور… إنها تريد سوق الفتيات الشابة ذات الثمانية عشر ربيعاً إلى الخدمة العسكرية الإجبارية ومعسكرات الجنود، أي إن الحكم يريد سوق فتياتنا العفيفات إلى مراكز الفحشاء بقوة السلاح.
إن الأجانب يستهدفون القرآن وعلماء الدين، نحن نتعرّض للهتك والسجن والإعدام خدمة لمصالح وأهداف الأجانب من يهود أمريكا وإسرائيل الذين يرون في الإسلام عقبة كبرى تعترض سبل تحقيق مصالحهم وأهدافهم المشؤومة، ولهذا فلا بد من أن تزال هذه العقبة بأيدي الحكومات المستبدة. إن وجود هذا الجهاز الحاكم في السلطة مرهون بقدرته على إزالة هذه العقبة.
إنني أعلن هذا العيد عزاء عاماً لألفت فيه نظر المسلمين إلى ما يحيق بالقرآن وبلد القرآن من مخاطر، وأحّر الجهاز الحاكم المتجبّر. إنني والله قلق من هذا الانقلاب الأسود. إن أجهزة الحكم تقوم ـ بسوء نية وسوء سلوك ـ بإعداد مقدمات هذا العمل وإنني أرى أن الحل يكمن في إسقاط هذه الحكومة المستبدة بسبب مخالفتها لإحكام الإسلام وانتهاكها للدستور، لتحل محلها حكومة ملتزمة أحكام الإسلام، وتعبّر عن طموحات الشعب الإيراني وآماله. اللهم إنني قد أديت واجبي. اللهم قد بلغت، ولئن بقيت على قيد الحياة، فسأؤدي واجبي القادم. اللهم احفظ القرآن الكريم وأعراض المسلمين وشرفهم من شر الأجانب.
روح الله الموسوي الخميني.”
4ـ استثمر ذكرى شهادة الإمام الصادق(عليه السلام) لتعبئة الجماهير لرفض تلك “الإصلاحات” ، فعقدت مختلف المجالس في كافة المناطق بتلك المناسبة، وفي ذلك اليوم تقاطرت على مدينة قم حافلات النقل الحكومية محملة بأعداد كبيرة من الركاب الذين لم يكن أحد يعرف هويتهم والهدف من مجيئهم(بلطجية النظام)، فقد تصور الناس أن السيارات العاملة على خط (طهران ـ قم ) لم تكف لنقل جموع الناس المتوافدين على قم مما اضطر المسؤولين إلى الاستعانة بحافلات هذه الشركة. لكن الحقيقة أن ركاب هذه الحافلات لم يكونوا غير أزلام النظام وجلاوزته جاؤوا لإراقة الدماء الطاهرة للعلماء المجاهدين.
بعد ذلك وصلت قم عشرات الشاحنات العسكرية حاملة أعداداً كبيرة من الجنود الحاملين للدروع والأسلحة الرشاشة الثقيلة، حيث قامت باستعراض في شوارع قم ثم عادت لتتمركز عند بوابات الحرم مقابل المدرسة الفيضية.
محاولة الإخلال بمجلس الإمام الخميني(قده):
أقام العلماء مجالس عزاء كبرى في بيوتهم، أما منزل الإمام فقد شهد احتشاد أكبر تجمّع جماهيري. وحين اعتلى الخطيب المنبر وشرع بالحديث عن جهاد الإمام الصادق (عليه السلام) ضد الحكمين الأموي والعباسي، وربط البحث بأوضاع إيران والاعتداء الذي يقوم به الجهاز الحاكم على الإسلام، والحقوق العامة، وفجأة علا صوت أحدهم مصلياً على النبي وآله ولم تكن الصلاة في محلها مما أثار شكوكاً حول نية هذا الشخص الذي قطع حديث الخطيب. فقام بعض الأشخاص بإبلاغ الإمام(الذي كان في إحدى غرف المنزل)، حيث جاء بنفسه إلى داخل المجلس، فواصل الخطيب البحث، وما أن بدأ بالتطرق لممارسات الحكومة حتى تكررت الصلاة على النبي في غير محلها وأدت إلى قطع حديث الخطيب ثاني.
مما حدا بالإمام إلى أن يستدعي أحد طلبة العلوم الدينية(وهو الشيخ صادق الخلخالي) ويبلغه أوامره، حيث قام الطالب المذكور بإعلانها أمام الحشد الجماهيري بقوله:
” إن آية الله يقول:
إنني أحذّر الذين جاؤوا إلى هنا للإخلال بالمجلس وإيجاد الضجيج فيه، بأنهم إذا كرّروا هذه التصرفات المغرضة التي تؤدي إلى إرباك الوضع والإخلال بالمجلس لمنع وصول حديث السادة الخطباء إلى أسماع الناس، فسأتوجّه فوراً إلى الصحن المطهّر وألقي بجانب مرقد حضرة السيدة معصومة(عليها السلام) الخطاب اللازم على أسماع الجماهير!”
وبذلك كفَّ هؤلاء عن أعمالهم وعاد الهدوء إلى المجلس.
(3)
وقائع مجزرة المدرسة الفيضية:
عصر 23 آذار عام 1963م أقيم مجلس عزاء في المدرسة الفيضية حيث احتشدت الجماهير من الطبقات والفئات كافة بينما كان جلاوزة الأمن يحاصرون المنطقة… الأوضاع كانت تبدو غير طبيعية.. وجوه غريبة كانت تُرى لأول مرة في حرم المدرسة ومسجدها، وتحرّك رجال الأمن كان يوحي بأنهم يبيتون أمراً ما.
اعتلى الخطيب المنبر وبدأ بالحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) وجهاده، وقال: إن الحوزة العلمية في قم هي بمثابة جامعة الإمام الصادق، وإن عليها أن تقوم بواجبها في حماية أحكام الإسلام، واستقلال البلاد. وفجأة رفع عدد من الحاضرين أصواتهم بالصلاة على محمد وآل محمد، دون أن تكون هناك مناسبة لذلك؛ مما تعذّر على الخطيب مواصلة حديثه، فطلب من الناس عدم الصلاة في غير محلها.
وحينذاك احتج أحد علماء الدين الحاضرين على من حوله ممن يرفعون أصواتهم بالصلاة على محمد(صلى الله عليه وآله) في غير محلها، لكنه تعرّض لضرب واعتداء أزلام النظام المتوزعين في أماكن متعددة من المجلس.
سعى الخطيب إلى تهدئة الوضع لكنه أدرك أن الوضع هو أخطر مما يتصور وأعقد، إذ أن عملية التشويش على حديثه استمرت دون انقطاع. عندها صاح أحد الحاضرين بأعلى صوته:
” أيها الناس! أيها المسلمون! يا من قطعتم مئات الفراسخ من الطريق لتأتوا إلى هذه المدينة المقدسة! عندما تعودون إلى مدنكم ودياركم أبلغوا الجميع بأن السلطة لا تسمح لعلماء الدين بالحديث عن رئيس المذهب الجعفري”
تعالت صيحات التشويش والصلاة، وتعذر على الخطيب إكمال حديثه، تقدم أحد جلاوزة النظام إلى المنبر وصاح: إلى روح فقيدنا الشاه رضا الكبير… لكن أحدهم قطع أسلاك المايكرفون، وهكذا انقلب المجلس رأساً على عقب.
هرب بعض الحاضرين، أصيبت الغالبية وهي ترى هجوم أزلام النظام، ولم يمض وقت طويل حتى خلت المدرسة الفيضية إلا من طلبة العلوم الدينية، وأزلام النظام الذين كانوا يتنكرون بملابس المزارعين وكانوا قرابة الألف شخص فكانوا يقمعون الطلاب ويهتفون:
يحيا الشاه، يحيا الشاه!
اضطر الطلاب للدفاع عن أنفسهم، وتحصنوا في الطابق الثاني، وكانوا يلقون القضبان الحديدية من سياج الطابق الثاني ويرمونها ـ ومعها الطابوق ـ على رؤوس أزلام النظام.
عند ذلك تغيّر الوضع إذ دخلت قوات الشرطة بلباسها الرسمي إلى ساحة المعركة لتلتحق بتلك القوات المتنكرة بلباس المزارعين في داخل المدرسة ليحوّلوا المدرسة إلى ساحة قتال، إذ بدأ إطلاق الرصاص، ورُمي بعدد من الطلاب من أعلى سقف المدرسة إلى الأرض.
وأمام المدرسة وقف آلاف الناس يشاهدون هذا الهجوم الوحشي، بينما قامت قوات النظام بتفريقهم بالغازات المسيلة للدموع وحراب البنادق خوفاً من هجومهم على قوات النظام التي توزعت على شكل مجموعات(5-6) أشخاص، قامت بمهاجمة غرف الطلاّب وارتكبت جرائم قلَّ نظيرها، وأخيراً قام أزلام النظام بإحراق ملابس الطلاب وأشياءهم وممتلكاتهم الشخصية وسط المدرسة.
وعندما حل الظلام، انسحب أزلام السلطة مسرورين بعدما تركوا وراءهم عدداً كبيراً من القتلى والجرحى، وفي اليوم التالي عاودوا الهجوم على المدرسة وجرحوا عدداً آخر.
وتزامناً مع هذه الحادثة، تعرّضت (المدرسة الطالبية) في تبريز لهجوم أزلام النظام بسبب إلصاق منشور الإمام الخميني على حائطها، وقد أدى استخدام المهاجمين للسكاكين والرصاص في الهجوم إلى وقوع إصابات كثيرة بين الطلاب.
وبعد فاجعة الفيضية قال مجرم البلاط البهلوي(أسد الله علم) في مقابلة أُجريت معه:
” علماء الدين المعارضون للإصلاح الزراعي تشاجروا مع الفلاحين الذين توافدوا على قم للزيارة مما أدى إلى مقتل أحد الفلاحين”!
أما الصحف السائرة في ركب النظام فقد تحدثت كلّها عن تعرّض علماء الدين لهجوم من قبل الفلاحين مقتل أحد الفلاحين دون أن تذكر اسم هذا الفلاح ومن أية قرية هو.
خلّفت هذه المجزرة صدمة رهيبة جداً، وتصوّر الناس وكأّن عهد رضا شاه الدموي القمعي قد عاد من جديد، فلاذ الكثيرون ببيوتهم، والتزم البقية الصمت، ولم يرجع الطلاب الساكنين في المدرسة إليها بعد تكرّر مهاجمتها في اليوم الثاني، إلا أن الإمام كان المحور الذي يدير الأحداث يوجهها بكل ثبات ورباطة جأش، فيا ترى كيف كانت ردة فعل ذلك القائد التاريخي الحسيني العظيم؟
(4) ردة فعل الإمام الخميني(قده) تجاه مجزرة المدرسة الفيضية:
استثمر السيد الإمام(قده) مجزرة المدرسة الفيضية استثماراً رائعاً جداً، ينمُّ عن عقلية فذّة، ونفس شجاعة أبيّة لا تنكسر ولا تضرع، ووعي سياسي واجتماعي ثاقب قلَّ نظيره، فهذا هو عسكر أولادي يقول في ذلك:
” نجح الإمام منذ اليوم الثاني من شهر “فروردين” وحتى الثاني عشر من شهر “ارديبهشت” أي أربعينية شهداء مجزرة المدرسة الفيضية في توظيف هذه الحادثة توظيفاً سياسياً رائعاً، فقد كان الإمام يستثمر أية رسالة توجّه إليه، أو أي شخص يحضر لديه لرفع بعض الإشكالات الشرعية لتوضيح الحوادث السياسية التي تجري بالبلاد والمجزرة التي ارتكبها النظام في المدرسة الفيضية، كما دعانا للتوجه إلى كافة أنحاء البلاد لاطلاع علماء الدين على ظروف المرحلة فضلاً عن توعية الجماهير.”.
قام الإمام(رضوان الله عليه) بعدة خطوات كرد حاسم على تلك المجزرة تمثلت بالتالي:
1ـ عمل على امتصاص الصدمة النفسية العنيفة التي أحدثتها المجزرة الشرسة في نفوس الناس، والتي كانت(أي الصدمة النفسية) مُرادة للشاه ونظامه ومخططاً لها، من أجل كسر أية مقاومة لمنع تمرير مشروع ما سُمي بالثورة البيضاء.
بل إنه قلب المعادلة وضخّ في الناس جرعات من العزيمة والاندفاع نحو مواجهة الشاه ومواصلة الجهاد ضد نظامه الدموي.
ولمعرفة مدى وعظم تلك الصدمة التي أحدثتها المجزرة نقرأ النص التالي لآية الله العظمى السيد القائد الخامنائي(دام ظله) حيث يقول:
” يجب أن أعترف أن حادثة الفيضية ملأت كل مكان بالرعب والوحشة. وأضرب نفسي مثلاً على ذلك فأنا لستُ جباناً لكني صرت ذلك اليوم كمن جُرّد من كل شيء! وقد كان لجو الرعب والوحشة وسعتهما أن سلب مني التوجّه لصلاة الجماعة، ويمكن جعل حالتي مقياساً للإطلاع على الأوضاع وأحوال قم والظروف الصعبة التي يمر بها الطلاب.
أضيف أنه ومباشرة تبدلت تلك الحالة القلقة والموحشة في الأفراد إلى حالة شجاعة وشهامة بعد عشرين دقيقة من كلام الإمام، فكانوا وكأنه لم تمرّ عليهم أي حادثة بعد أن استمعوا إلى كلمات الإمام، ولم تعد هناك حالة الرعب والوحشة.
مع حادثة الفيضية بدأ يشيع جو الرعب في الحوزة وانتشرت فكرة أن المقاومة إذا استمرّت فقد تزول الحوزة التي سعى المرحوم آية الله الحائري وبذل جهوداً كبيرة في زمان البهلوي لحفظها، حتى أنه تخلّى عن مواجهة البهلوي من أجل حفظها، وقد تزول عند أي اصطدام، وهذا خيانة لآمال الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري.
وشيئاً فشيئاً صارت تسمع هذه الفكرة من كل مكان ولم يعد أحد مستعداً من الجهة النفسية لأي مواجهة بل عملوا على مواجهة أي معارضة ومقاومة. طرحت هذه الفكرة وسعوا للترويج لها إلا أن بعض المجريات كسرت هذا الجو وأزالت جو الرعب، وجعلت تلك الأفكار بلا معنى”.
أما عن الدور الذي مارسه الإمام الخميني(قده) وعمل من خلاله على امتصاص الصدمة من نفوس الناس وتحويلها إلى هدوء، بل شجاعة وإقدام في مواجهة النظام، فذلك قد تم بما يلي:
أ ـ استقبل(قده) المجزرة الفظيعة بروح التسليم لأمر الله(تعالى) وقضائه، بل بروح الحمد والشكر على نعمة افتضاح وجه الشاه القبيح الذي حاول إخفائه بدعاوى الديمقراطية و” الإصلاحات”. حيث قال أكثر من مرة: ” الحمد لله الذي فضح هذا النظام نفسه وكشف عن ماهيته، وهذا هو ما أردته”.
وقال أيضاً: ” هؤلاء ارتكبوا حماقة، وقدموا لنا خدمة كبيرة، لأن قم قد احتشد فيها الكثير من الزوّار الذين جاؤوا من كل إيران، فلم تعد لدينا حاجة ماسة لإصدار بيان للناس؛ لأن كل فرد منهم قد رأى بأم عينه جرائم الشاه، وهم بأنفسهم سينقلون ذلك”.
فبرغم كل آلام تلك المجزرة الرهيبة التي خلّفت الكثير من الشهداء والجرحى إلا أنه لم يرَ فيها ـ كقدوته وسيدته الصابرة زينب عليها السلام ـ إلا جميلاً، ومكسباً يجب استثماره لصالح الإسلام، واستقلال البلاد، وإبقاء صورة المجزرة حيّة والتذكير بها لشحن الرأي العام ضد نظام الشاه.
ب ـ حضر في قلب الحدث وشارك الجماهير محنتها، بل كان(رضوان الله عليه) هو الحاضر الأبرز الذي يستلهم منه العلماء والنخب والجماهير روح الصبر والشجاعة والعنفوان والتصميم على الاستمرار في طريق الجهاد ضد نظام الشاه.
لقد كان حضور الإمام في ذلك الظرف العصيب هو ضرورة يمليها الواقع العصيب الذي يحتاج فيه الجمهور المكلوم المصدوم إلى وقفة حانية ممن يؤمل فيهم وينظر إليهم، ويتطلع إلى توجيهاتهم، تماماً كما يحتاج أفراد الأسرة إلى تواجد رب الأسرة عندما تمر الأسرة بظرف صعب ليزيل عنها آثاره وألم صدمته.
وفي هذا السياق ينقل لنا الكثيرون من العلماء والمرافقون للإمام ومعاصروه أنه فتح بيته، ورفض غلق الباب ليعلن التحدّي ويكسر حاجز الخوف في نفوس الناس.
” كتب أحد العلماء ـ الحاضرين في منزل الإمام حينها ـ في مذكراته يقول: استماح أحد الطلاب الإمام بالقول: “اسمحوا لنا بإغلاق باب المنزل، فقد يتعرض منزل سماحتكم للهجوم.
فقال الإمام: “لا أسمح بذلك”.
عندها علّق سماحة آية الله السيد صادق اللواساني ـ أحد أصدقاء الإمام، وكان جالساً إلى جانبه ـ بالقول: أرى أنه اقتراح لا بأس به فلتسمحوا بغلق الباب فالوضع خطير.
فقال الإمام: “قلت كلا، وإذا أصررتم فإني سأخرج من المنزل واذهب إلى الشارع لتلقّي الضرب بهذه العصي، أيضربون الطلاب وأُغلق أنا بيتي، أي كلام هذا؟!”.
ثم توضأ وصلّى بالحاضرين في ساحة المنزل، ثم ألقى كلمة قصيرة رائعة.
ج ـ ألقى في الحاضرين في بيته خطبة قوية مؤثرة جداً وصفها آية الله الخامنائي(دام ظله) بقوله:
” وعندما أنهى الإمام كلامه شعرت بأنني قوي إلى حد أنني قادر على مواجهة فوج من الجيش لوحدي إذا هجموا البيت. كان لحديث الإمام تأثير كبير بحيث شعرت أنني لا أخاف من أي شيء وحاضر للدفاع لوحدي.”.
وكان مما جاء في خطبة الإمام (أعلى الله مقامه):
” بسم الله الرحمن الرحيم
.. لا تستاؤوا ولا تقلقوا ولا تضطربوا، وأبعدوا الخوف والرهبة عن أنفسكم، فأنتم أتباع أئمة صبروا وثبتوا أمام المصائب والفجائع، وما نشاهده اليوم ليس شيئاً بالنسبة إلى تلك المصائب. إنّ أئمتنا العظام جازوا حوادث شتى، كيوم عاشوراء، وليلة الحادي عشر من المحرم، وتحمّلوا أشد المصائب في سبيل دين الله، فماذا تقولون أنتم اليوم؟
وممّ تخافون؟
وممّ اضطرابكم؟
إنّ من المخجل أن يُهزم مَن يدّعي أنه من أتباع أمير المؤمنين والإمام الحسين (عليهما السلام)، بفعل تصرفات النظام الحاكم المتسافلة والمخزية.
إنّ النظام الحاكم ـ بارتكابه هذه الجريمة ـ قد أخزى نفسه وفضحها، وكشف بوضوح عن حقيقته المتوحشة. وإنّ النظام المتجبّر ـ بإقدامه على ارتكاب هذه الفاجعة ـ جعل من هزيمته وزواله أمراً حتمياً.
نحن الذين انتصرنا، فقد كنا نتمنى أن يكشف هذا النظام عن حقيقته، وأن يفضح نفسه. لقد قُتل عظماء الإسلام في سبيل حفظه وحفظ أحكام القرآن الكريم، ودخلوا السجون، وقدّموا التضحيات ليتمكنوا من حفظ الإسلام إلى يومنا هذا وإيصاله إلينا.
إنّ تكليفنا اليوم حيال الأخطار التي تواجه الإسلام والمسلمين هو أن نكون على استعداد لتحمّل أي نوع من المصاعب، حتى نتمكن من قطع أيدي الذين خانوا الإسلام، ونقف بوجه أهدافهم ومطامعهم”.
ولا شك أن سماع هذه الكلمات الثورية المدوّية الشجاعة في ذلك الوقت الرهيب، وبعد تلك المجزرة الفظيعة، ومن نفس هذا القائد العظيم الشجاع، يختلف عن قراءتها، خصوصاً بالنسبة لمن لم يمرّ بظروف شبيهة، ولا يعرف مقدارها إلا من عايشها، أو مرَّ بظروف شبيهة لها، ويدرك أن الكلام في مثل تلك الأوقات كم يحتاج إلى تسليم عظيم لأمر الله تعالى، وشجاعة كبيرة!
د ـ أفتى بحرمة التقية ولزوم إظهار الحقائق. قال السيد الإمام الخامنائي(دام ظله) :
” ومن العوامل التي أدت إلى إنكسار ذلك الجو(يقصد جو الرعب التي خلفته مجزرة الفيضية) فتوى الإمام التي قال فيها:
” التقية حرام، وإظهار الحقائق واجب ولو بلغ ما بلغ” وقد كانت حركة عجيبة فتحت طريقاً للثورة. لقد كان لهذه الجملة أثر كبير في تحطيم جو الرعب وإبعاد أفكار الإستسلام عن الطلاب، وقد كانت إلى سنين طويلة حجة يتذرع بها المرجفون والمراؤون”.
هـ رفض دعوة المرجع الديني العظيم آية الله العظمى السيد محسن الحكيم(رضوان الله عليه) الموجهة إلى العلماء بالهجرة إلى النجف.
فقد ” أرسل آية الله الحكيم بعد فاجعة الفيضية برقية إلى العلماء يطلب فيها منهم أن يغادروا كلهم إلى العتبات العالية حتى نتمكن من إصدار الرأي حول الحكومة. وفي جلسة للإمام مع علماء قم، رد الإمام هذا الاقتراح بشكل قاطع، فأرسل برقية إلى السيد الحكيم وقال فيها: إن أي تراجع عن الطريق نكون أفسدنا ما مضى، ولا سبيل لنا إلا إدامة الطريق، وسننال في هذا الطريق المقدس إحدى الحسنيين، إما النصر، وإما الشهادة، مع أن الشهادة في نفسها نوع نصر، ومقدمة للنصر النهائي”.
2ـ دعا الناس إلى زيارة الجرحى بأنفسهم، ولقد أراد بذلك تحقيق عدة أمور:
أ ـ مواساة الجرحى وإشعارهم أنهم ليسوا لوحدهم، بل تهنئتهم على شرف الإصابة والجرح من أجل الإسلام!
لقد كان القائد العظيم(أعلى الله مقامه) صامداً كالجبل، شامخاً شموخ المنتصر، حيث يصفه بعض أصحابه ويقول:
” بعد مصيبة الفيضية جيء بعدد من الجرحى ومن انكسرت يده ورجله إلى منزل الإمام، وكان في المنزل هيجان عجيب والجميع يبكي إلا أن الإمام عندما شاهد المشاهد المؤثرة، وأراد الكلام لم يبكِ أبداً وقد وضعوهم بجانب الإمام فأطلعوهم على سواد أبدانهم جراء الضرب، والكسور في أيديهم ورؤوسهم، إلا أن الإمام مسك بأيديهم وقال لهم:
” إني أهنئكم لما أصابكم، فما نالكم قد كان في سبيل الله!”.
وقال لبعض المجروحين:
” هنيئاً لك، هنيئاً لك، إن النظام يعيش أنفاسه الأخيرة!”.
ب ـ فضح جريمة الشاه ونظامه من خلال معاينة الناس بأنفسهم للجريمة البشعة.
وجاء في هذه الدعوة التي أطلقها في بيته في إحدى كلماته:
” يتعيّن على الجماهير زيارة المدرسة الفيضية، والإطلاع عن كثب على الجرائم الوحشية للنظام الحاكم. كما ينبغي على الجميع عيادة الطلبة المجروحين والمصابين، لكي يرَوا ويدركوا حقيقة ما فعله النظام الحاكم”
3ـ عمل على الإطلاع على تفاصيل المجزرة وتوثيقها. وفي هذا السياق نقرأ ما يلي:
” بعد فاجعة مدرسة الفيضية نقلت للأصحاب ما كانت تحمله القوى الخاصة.
في اليوم التالي جاءني الشيخ حسن صانعي إلى المنزل وقال: آية الله الخميني يطلبك.
ذهبت للقاء الإمام فقال لي: كيف أخذوك؟ وإلى أين؟
قلت: أخذوني من الشارع إلى مركز الشرطة الرئيسي ومن هناك إلى الساواك.
قال: سمعت أنك رأيت السلاح الذي كانوا يحملونه؟
قلت: نعم.
قال: أردت أن أعلم ماذا كانوا يحملون؛ إذ لم ينتبه أحد في هذه الحادثة إلى ذلك بدقة.
قلت: كان معهم خناجر، سلاسل، قبضات حديدية، أسياخ حديدية طولها ثمانية سم.
قال: كانوا يضربون الطلاب بهذه الأسياخ؟
قلت: نعم بالتأكيد وإلا لماذا حملوها؟
من شدة تأثر الإمام أعاد ظهره إلى الخلف، ثم قال:
سمعت أنهم عثروا على أحد هذه الأسياخ في باحة الفيضية، وأنه موجود عند ” ما شاء الله” خادم المدرسة.
اذهب وقل له: يقول فلان أعطني السيخ. ثم صوِّره، سنحتاج إلى ذلك يوماً”.
4ـ أمر كل من شاهد المجزرة أن ينشرها في بلده، وفي هذا السياق نقرأ:
” كان الإمام جالساً ويتحدث بصورة مستمرة ويقول: توجّهوا إلى المناطق وأخبروا الناس بالجرائم التي رأيتموها.”.
5ـ “أعرب الإمام الخميني (قده) عن تقديره للأهالي والعلماء الذين تجمّعوا في منزله، وأشاد بثباتهم وصمودهم في مقابل الشدائد “.
6ـ ذهب بعد فترة ـ مع مجموعة من طلاب العلوم الدينية ـ سيراً على الأقدام إلى المدرسة الفيضية. ” لم يكن يخطر ببال أحد أن يقدم الإمام الخميني على مثل هذا التحرّك، وإحياء حادثة الفيضية. لقد أصبحت المدرسة الفيضية بعد الحادثة خالية غير مسكونة، وأبواب الغرف مختلعة، والنوافذ منكسرة، والجدران محطمة، وكل شيء فيها متناثر، لا ترتيب ولا نظافة. والطلاب الذين كانوا يسكنون فيها لم يجرؤا على العودة إليها للعيش فيها بعد أن انتهكت حرمة المدرسة فكان احتمال تجدد الهجوم في كل لحظة أمراً وارداً”..
7ـ أعلن للناس أن يقدم كل واحد منهم بعض المال للمساهمة في ترميم المدرسة. ” مع أن الإمام كان قادراً على التوجه إلى بعض الأغنياء المقلدين له وتكليفهم ببناء المدرسة، وكأن شيئاً لم يحصل، إلا أن الإمام أراد بهذه الخطوة أن يدعوا الناس للنزول إلى ساحة المواجهة مع الشاه لأن الناس سيسألون عما جرى للفيضية؟
فإذا علموا بالخراب الذي أصابها فسيسألون عن الفاعل، فإذا عرفوا أنه الشاه سيسألون عن السبب، وهو ما يريده الإمام إذ سيعلم الجميع بعداوة الشاه للإسلام”.
8ـ دعى الناس إلى الصبر والاستعداد للمواجهة، تحمّل البلاء في سبيل ذلك، وأوصى العلماء وخلّص أصحابه بذلك:
” إذا اعتقلوني وحاكموني فأطلقوا صرخاتكم في وجه النظام، وإذا كنا أهلاً للشهادة فإن ذلك يعد رأسمالاً كبيراً بالنسبة إليكم، استثمروا دمائي ووظفوها لصالح الثورة. لماذا تخشون من أمر هو في صالح الإسلام؟” مذكرات حبيب الله عسكر أولادي
وفي هذا السياق نفسه يقول آية الله محمد رضا توسّلي:
” لا زلت أذكر من اليوم الأول قول الإمام لأحد الأكابر: هيئ نفسك، فلعني أنا وأنت نعلّق على حبل المشنقة مثل المرحوم الشيخ فضل الله النوري..”.
واستمرت هذه التوجيهات، والنظرة للأمور طوال نهضته المبارك، فحين أُخبِر ـ بعد نفيه إلى تركيا ـ بأن ابنه مصطفى(قده) قد اعتقل قال: ” هذا عمل جيد لأن السيد مصطفى في السجن يصبح أقوى! “.
******************
9ـ حوّل قضية الصراع من إسقاط حكومة “علم” إلى مواجهة مع الشاه والعمل على إسقاطه. لقد طالب بتحديد الجهة المسؤولة عن تلك المجزرة، وأصر على ذلك.. ومما قاله في هذا الصدد:
” إن ذنبنا هو الدفاع عن الإسلام واستقلال إيران.. نحن بانتظار السجن والتعذيب والإعدام.. إنهم يطردون مرضانا من المستشفيات، فلم نستطع خلال الأربعين يوماً الماضية الحصول على أرقام دقيقة عن عدد قتلانا وجرحانا والذين تعرّضوا للنهب، مشكلتنا أننا كلما اتجهنا إلى مسؤولي جهة حكومية، قالوا لنا: ( إن ما حدث كان بأمر من معالي الشاه). كلهم يقولون هذا ابتداء برئيس الوزراء وانتهاء بمدير الشرطة، وقائمقام قم، كلهم يؤكدون أن الشاه هو الذي أمر بالهجوم على الفيضية، وهو الذي أمر بمهاجمة الجامعة وقتل الطلاب.. فإن لم يكن ذلك صحيحاً، وإذا كان ما حدث انتهاكاً للقانون، وأنهم ينسبون هذه الممارسات اللاإنسانية إلى الشاه، فلماذا لا يدافع الشاه عن نفسه لكي يعرف الشعب عندها واجبه تجاه الحكومة؟”.
وحين لم يجد من الشاه ونظامه أذناً صاغية، حوّل جهوده إلى العمل على إسقاط الشاه نفسه ونظامه الفاسد الدموي. وفي ذلك نجده يقول(رضوان الله عليه):
” كانت القضية في لسابق مع حكومة علم، وكان الوقوف في وجهه، أما الآن فقد نزل الشاه نفسه إلى الساحة فالمطلب أشد وأصعب لكن يجب الوقوف بتصميم وجدية، ويجب الإستعداد لكل مصاعبه”.
عند ذلك بدأت معالم مرحلة جديدة دشنها الإمام وسار فيها حتى النهاية بكل عزيمة وثبات، وهي مرحلة العمل على إسقاط نظام الشاه، وإقامة نظام جمهوري إسلامي، وقد أعلن بكل قوة وصراحة:
” إن كان لدي قطرة من دماء أبي عبد الله(عليه السلام) لن أرتاح حتى أسقط هذا النظام الملكي الظالم، وليس هذا فقط بل سأذيق أمريكا الذل والمهانة”..
لقد واصل نهضته المباركة، ورفض اللقاء بالشاه، واستقبال أي من المسئولين قبل أن يعلنوا الاستقالة، ورفض كل وساطات الصلح مع نظام الشاه(1)، أو تبديله بعميل آخر يختاره الغرب، نعم، رفض كل الوساطات ـ أو التهديدات ـ التي تقدمت بها عدة دول منها أمريكا، وفرنسا، وباكستان، وعدة دول عربية، ولم يستشعر الوحدة أو الضعف في وسط جو كان كله ضد نهضته، وقام لله (تعالى)، وربط حزام التفاني والجد، يناصره شعب عشق الشهادة من أجل الحياة الكريمة، فكانت نهضته مدرسة شاملة لا تنضب.
السلام عليك أيها القائد الإسلامي العظيم، الذي كشفت شيئاً من عظمة المعصومين(عليهم السلام)، السلام عليك يوم ولدت، ويوم قُدت الأمة بكل بسالة وكفاءة وإقدام وعنفوان، ويوم رحلت وأفجعتنا ـ أيما فجيعة من بعدك ـ ويوم تبعث حياً، ورحمة الله وبركاته.
الفاتحة.
ــــــــــــ
1ـ كان الاستكبار يعمل بكل قوته على اسقاط الثورة، أو محاولة سرقتها، وفي سبيل ذلك كانت مجموعة من الوساطات، نذكر منها ما يلي فقط:
الأولى:رفض لقاء الشاه رفضاً باتاً بعد تلك المجزرة برغم كل المحاولات التي بذلها النظام لذلك.
الثانية: رفض توسّط وتهديد الرئيس الأمريكي كارتر: ” جاء شخص من طرف الإليزة في باريس إلى الإمام، وجاء معه شخص آخر وهو ممثل كارتر يحمل معه رسالة، هي أن بختيار منا، ونحن من عينه وعليك أن تتبعه وإلا فسنقضي عليكم.
طبعاً هو لم يقل” سنقضي عليكم” بصراحة بل بطريقة الكناية، وكان حاداً إلى حد أن ممثل جيسكار دستان كان يعتذر مرة بعد أخرى، وكان يقول:
لا دخل لنا بهذا، وآية الله ضيفنا.
كرّر ممثل كارتر كلامه قائلاً:
لست أمزح. لقد أتينا ببختيار، وإذا خالفته فإنك تلعب بروحك.
بعد أن سمع الإمام هذا الكلام قال:
قل لكارتر:
لقد سُئل الخميني بكثرة عن الأمريكيين الموجودين في إيران وأننا ماذا سنفعل بهم، لكني حتى الآن لم أصدر أي قرار بهذا الشأن.
آمل بأن لا ينجر الأمر إلى أن أصدر فتوى بهم!
ثم قام الإمام وذهب وترك ممثل كارتر وممثل جيسكار دستان في حيرة من أمرهما، وهما يظنان أنهما كانا سيدخلان في مباحثات طويلة مع الإمام”.
الثالثة: ” امتنع الإمام عن استقبال وفد مصري علمائي برئاسة وزير أوقاف مصر. وكان الوفد قد أرسله أنور السادات إلى باريس ليقنع الإمام بالإعراض عن إزالة النظام الملكي”.
المصادر:
ـــــــــ
1ـ الكوثر، مجموعة من خطابات الإمام الخميني (قده)، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني (قده).
2ـ حكايات وعبر، حيدر بلال البرهاني، دار الحوراء، بيروت.
3ـ قبسات من سيرة الإمام الخميني ـ القيادة. غلام علي رجائي، الدار الإسلامية، بيروت ـ لبنان.
4ـ تاريخ إيران السياسي المعاصر. سيد جلال الدين المدني، منظمة الإعلام الإسلامي، طهران ـ إيران.
5ـ التاريخ الإيراني المعاصر، غلام رضا نجاتي، دار الكتاب الإسلامي، قم ـ إيران.
6ـ مذكرات حبيب الله عسكر أولادي.