حجية الخبر

حجية الخبر عند السيد المرتضى”ره” .. حوار مع آية الله السيد أحمد المددي

الاجتهادفي زمن السيد المرتضى كان المتعارف في الجانب العقلي هو الكلام رغم حضور الجانب الفلسفي أيضا لكن الطابع العقلي العام الموجود آنذاك بين الإسلاميين هو الكلام وإن تم مزجها – الفلسفة والكلام – على يد المحقق الطوسي “رحمه الله”، أما النقلي فيتمثل في الروايات، والسيد المرتضى “رحمه الله” قوّى الجانبين: العقلي والنقلي، ونحن هنا نحاول تسليط الضوء على مباني السيد المرتضى في باب حجية الخبر بالخصوص.

لا إشكال في أن السيد المرتضى شخصية عظيمة وله أثر كبير في تبيين المعارف الدينية وتأثير قوي في تقدّم العلم ورقيّه في مختلف الجوانب الأدبية والتاريخية والكلامية، ويُعدّ في ضمن الرعيل الأول من العلماء والمفكرين ورائداً عظيماً في الفكر الإسلامي ليس عند الشيعة فقط بل عند أهل السنة أيضا.

مضافا إلى هذا كله انه كان يمتلك مكتبة كبيرة جدا يقال إنها كانت تحتوي على ثمانين ألف کتاب، و لعلّ أخاه السيد الرضي “رحمه الله” اعتمد في جمع نهج البلاغة على النسخ التي كانت متوفرة في مكتبة أخيه، فانه بحسب معلوماتنا كان للرضي مصادر مهمة تحتوي على خطب وكلام أمير المؤمنين “عليه السلام” ، وتوجد بعض الشواهد تدل على أنه كان يتمتع بالتشرف برؤية بعض الكتب بخط أمير المؤمنين “عليه السلام”.

يحتوي تراث السيد المرتضى على جوانب علمية متعددة كالفقه والأصول والحديث والأدب والكلام وما سواها، مضافاً إلى ذلك كان “رحمه الله” يقظاً أمام ما يدور ضد الشيعة إذ كان يتابع ذلك بدقة مثل ما عمله في مقام الرد على معاصره الكبير ” القاضي عبد الجبار، فكتب كتاب الشافي في اربع مجلدات في الرد على كتاب الإمامة من المغني.

وسنحاول هنا تسليط الضوء على رأي السيد المرتضى حول حجية الخبر وكيفية تلقيه.

مما لا إشكال فيه انّ مبحث الخبر وكيفية تلقّيه وعدم تلقّيه يعد من الأمور المهمة في مجال المعرفة الإنسانية، إذ أن التاريخ، التراجم، السيرة، الرجال، الحدیث، والأصول وغيرها بل ربط الإنسان بماضيه، كل هذا يتوقف على مسألة تحليلنا للخبر ولولا هذا الربط لما قامت الحضارة الإنسانية، إذ انّ النقل والخبر يُعد أهم القواعد والقوائم التي ابتنت عليها الحضارة ولولا النقل والخبر لما وصلت إلينا علوم القدامى ولانقطعنا عن الماضي واكتفينا بالحاضر وبما عندنا.

وبعبارة أخرى أن الإنسان للتقدّم والرقي العلمي يحتاج إما إلى العقل وإما إلى النقل، فهو إما أن يتعقّل بنفسه ويحلل ويفسر جملة من الأمور ويقال لها إدراكات وإبداعات العقل، وإما أن يعتمد على النقل.

وهذا النقل ذو أهمية كبرى للإنسانية أجمع ولا يختص بالمسلمين، مثلا هل هذا الكتاب لأرسطو وأفلاطون، هل للمنجم الفلاني أو الطبيب الفلاني، أو هل هذا القول المنقول صحيح وثابت واقعاً، فالجانب النقلي يشكل ثروة علمية كبيرة في حياة الإنسان، بل نستطيع القول إن المنقول في حياتنا اليوم أكثر تأثيراً من المعقول.

أما في الجانب الإسلامي فالنقل له أثر كبير في منظومتنا المعرفية، مثلا كيف وصل إلينا القرآن الكريم، كيف وصل إلينا تفسيره، كيف وصلت إلينا العقائد المنقولة عن رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” والأئمة “عليهم السلام” والصحابة والعلماء، سيما في مجال الفقه وزد عليه الأخلاقيات والعلم بالمبدأ والمنتهى والحديث وغيرها من المعارف العامة المستندة إلى النقل.

ومن هنا يظهر مبحث الحجية أي: كيف نتعامل مع الخبر والنقل، هل هو حجة أعمل به أم لا، هل هو منجز ومعذّر أم لا، هل أنا مؤاخذ في تركه أم لا… وهكذا.

فهذه المسألة تعد الحجر الأساس في المنظومة المعرفية الإسلامية إذ لا يمكن أن يصل إنسان إلى مقام علمی رفيع إلا أن يحدد موقفه مسبقا و مبناه العلمي من هذه المسألة أي: كيف يتعامل مع الأخبار و النقولات المختلفة.

طبعاً لابد من التنويه إلى انّنا عندما ندرس النصوص التاريخية يكون اتجاهنا بصفة كلية إزاء معرفة الواقع، ولما ندرس النصوص الدينية سيما المتعلقة بالعقائد والفقه يكون اتجاهنا اتجاه الحجية، بمعنى أن هدفنا تارة الوصول إلى الواقع وأخرى تشخيص الحجة، أي: ما هي الحجة لنا في هذا الشأن وفي هذا الأمر، إذاً ينبغي أن يُفرَّق بين الاتجاهين وإن ذهب بعض العلماء إلى عدم وجود فرق بين المقامين، فكما اننا نتجه في النصوص التاريخية إزاء معرفة الواقع فكذلك الأمر في النصوص الدينية أيضاً.

هذا هو الجانب العقلي والنقلي للتقدم والرقيّ العلمي، و في زمن السيد المرتضى كان المتعارف في الجانب العقلي هو الكلام رغم حضور الجانب الفلسفي أيضا لكن الطابع العقلي العام الموجود آنذاك بين الإسلاميين هو الكلام وإن تم مزجها – الفلسفة والكلام – على يد المحقق الطوسي “رحمه الله”، أما النقلي فيتمثل في الروايات، والسيد المرتضى “رحمه الله” قوّى الجانبين: العقلي والنقلي، ونحن هنا نحاول تسليط الضوء على مباني السيد المرتضى في باب الخبر بالخصوص.

لا إشكال في أنّ معرفة الأحكام الإسلامية كانت سهلة في زمن رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” بل بعده أيضا نوعا ما خصوصاً فيما اتفق عليه الأصحاب وكان مورد ابتلاء الناس كالصلاة والصيام والزكاة وغيرها،

ولكن تدريجا بعد مضي الزمان سیما مع توسع العلوم وتوسع الرقعة الإسلامية وامتدادها من مكة والمدينة إلى العراق والشام وإيران، وبعد حدوث وسائط بينهم وبين المصدر الأصلي للتلقي، شعر المسلمون باحتياجهم إلى وضع أسس وضوابط معينة لمعرفة تلك الأخبار سيما وقد أصبحت تلك الوسائط مجهولة،

فبدأوا بالتفتيش والتنقيب عن الرجال ويقال أن أول من فتش عن الرجال في العراق هو “شعبة بن الحجاج” من أهل البصرة إذ يقال له أمير المؤمنين في الحديث وتوفي بعد عام 160هـ وأظن ان هذا التفتيش بدأ منذ عام 140 أو 150 هـ أي في زمن الإمام الصادق “عليه السلام” أي بعد 140 سنة من وفاة النبي.

فبدأ العلماء يبحثون في الأخبار والأحكام بأن هذا الحكم الفلاني مثلاً – الذي لم يرد أكثره في القرآن – من الذي رواه ؟ أو الحديث المروي عن فلان عن فلان ما حكمه؟ فلذا حصل تدريجاً شيء جديد عبروا عنه بالحجية أي الحديث المروي عن فلان وفلان حجة في حقه، فتولّد بعدئذٍ مبحث مهم عُبّر عنه اصطلاحاً بحجية الخبر.

الحجية يعني ما يحتج به كلُّ على الآخر، فالكلام الذي يكون بين الطرفين: بين القانون والمواطن، بين الأب وابنه وهكذا، هذا الكلام الذي يكون واسطة إنما يكون حجة إذا كان عن طريق مقبول بين الطرفين بحيث يمكن أن يحتج كلّ واحد به على الآخر.

هذه المسألة حدثت في أواسط القرن الثاني وعُبّر عنها فيما بعد بالحجية، وذلك نظراً إلى طول المدة بين المسلمين وبين رسول الله”صلى الله عليه وآله وسلم” (بحدود 140 سنة) وبروز مشاكل مختلفة من حيث النسيان والتحريف وتعمد الكذب وغيرها، والسبب الآخر هو تقديس العلماء للحقائق الدينية وحرصهم للوصول إليها من طريق صحيح وموثوق، سيّما وان هذه الشريعة هي الشريعة الخاتمة.

أهم مبدأ علمي حصل في ذلك الزمان هو أن ما يرويه العدل الضابط عن مثله إلى آخر السند حجة، هذا المبنى اشتهر بين علماء السنة من القرن الثاني وعلى ضوئه دونت الكتب في القرن الثالث كصحيح البخاري، طبعاً مع وجود خلافات علمية في هذا المجال بل ربما يقال قلّما توجد في مسألة من الخلاف كما هو في هذه المسألة وذلك لأهميتها.

أما بالنسبة إلى الشيعة بالخصوص فانّهم آنذاك (أي عام ۱۵۰هـ) لم يحتاجوا إلى هذه المسألة وما كانت مورد ابتلائهم لانهم آمنوا بإمامة الأئمة “عليهم السلام” فلم يحتاجوا لملء هذا الفراغ (أي بين الرسول والإمام الصادق عليه السلام) بمسألة حجية الخبر بل ملأوا الفراغ بعصمة الأئمة “عليهم السلام” وانّ کلامهم هو البيان الواقعي لسنة النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” وللقرآن وسائر المعارف الدينية، ولذا حصل بيننا وبين أهل السنة اختلاف من هذا المنطلق وليس هو اختلافاً يسيراً.

وبعبارة أخرى انّ الإمامية بدل الانشغال لملء هذا الفراغ في تلك البرهة، بدأوا بالأخذ من كتب أصحابنا وما فيها من مرويات الإمام الباقر والصادق “عليهما السلام” وسائر الأثمة بعدهما، فالشيعة تولدت عندهم كتب الأصحاب ومصادرهم، خصوصا أن الأئمة “عليهم السلام” سيما الإمام الرضا “عليه السلام” أكدوا على الكتابة، فقد قال الإمام الرضا “عليه السلام”:

” اكتب وبثّ علمك للناس فأنه سيأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم”، فهذا مبدأ الاختلاف والافتراق بيننا وبين جملة من المذاهب الإسلامية، أي في كيفية تلقي سنة رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” والحقائق الدينية.

إن أصحاب الأئمة بدأوا بالكتابة من سنة 80 إلى 150 هـ تقريبا، وكانت أكثر هذه المؤلفات في الكوفة ثم البصرة والمدينة، وتدریجا انتقلت إلى قم و خراسان ولكن الأساس كان للكوفة، ثم في سنة ۱۵۰هـ أو قبلها انتقل تراث الطائفة إلى بغداد، و من هنا ظهرت مدرسة بغداد الأولى حيث بدأت من سنة 150 هـ وإلى سنة ۳۱۰ هـ تقريبا، وانتقل شيء من التراث إلى قم أيضا ما بين سنة ۲۰۰ إلى 400 هـ.

وبعد مجيء الشيخ الكليني إلى بغداد في حدود سنة ۳۲۰هـ، بدأت مدرسة بغداد الثانية، والشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي من كبار هذه المدرسة، وانتهت هذه المدرسة في سنة 450 تقريبا عند هجرة الشيخ الطوسي إلى النجف.

وقد اشتملت مدرسة بغداد الثانية على جميع المعارف الدينية التي تدرس الآن في حوزتنا العلمية من الكلام والفقه والأصول والتفسير إلى الرجال والحديث، ولا نعدم القول لو قلنا أن ۹۰٪ من معارفنا الدينية التي ندرسها اليوم مدينةٌ لمدرسة بغداد الثانية، بمعنى ان قوة تلك المدرسة أثرت تأثيراً بارزا في الفكر الشيعي، والدور الأكبر كان للشيخ الطوسي، وإن كان للسيد المرتضى “رحمه الله” تأثير كبير أيضا.

ثم إن مسألة الحجية وإن كانت في البداية مسألة أصولية صرفة، لكنها أخذت جانب عقلية أيضا ودخلت في المباحث الكلامية، وبدأ المتكلمون بالتنظير حول حجية الخبر، وفي بغداد ذهب بعض علماء الكلام سيما المعتزلة إلى أن التعبد بالخبر غير معقول أي طرحوا إشكالاً عقلياً، وذهب قسم آخر من المعتزلة إلى ان التعبد معقول لكن الشارع لم يتعبدنا به، أما الأشاعرة فذهبوا إلى أن التعبد بالخبر صحيح وحادث واستدلوا على ذلك بوجوه عقلية ونقلية، وهناك من أفرط في القول – کابن حزم – واعتقد انّ كل ما يرويه العدل الضابط عن مثله فحكمه حكم القرآن وهو حكم الله الواقعي، حيث يذهب في كتابة الأحكام إلى أن قوله تعالى: « انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون” يعني بالذكر: الآيات و ما يرويه العدل الضابط.

وخلاصة القول في هذه المسألة ان الأقوال في مسألة حجية الخبر ثلاثة:

١- الحجية التعبدية، وقد ذهب إليها كثير من أهل السنة وجملة من الشيعة فيما بعد، إذ أن الشيعة في بداية الأمر ما كانت تذهب إلى هذا الرأي بحسب الشواهد الموجودة، ومعنى الحجية التعبدية أن هناك أدلة شرعية تدل على حجية كل خبر تتوفر فيه الشروط المطلوبة، و لذا اشتهر عند أهل السنة حجية كل خبر ورد عن طريق العدل الضابط عن مثله.

وهذا المسلك كما قلنا ما كان موجودة عند الشيعة آنذاك لا في بغداد ولا في قم، نعم ظاهر كلام الشيخ الطوسي يؤيد هذا المسلك لكن عندما نلاحظ مجموع كلامه في كتب الحديث والفقه والرجال والأصول نرى انه لا يذهب إلى ذلك، وقد ورد هذا المسلك في الفقه الشيعي منذ القرن الثامن على يد العلامة الحلي “ره” واستمر عليه بعض علمائنا فيما بعد.

۲- الحجية العقلائية، والمراد منها وجود شواهد عقلائية – أي عند العقلاء – تدل بمجموعها على ان الكلام الفلاني صدر عن رسول الله أو الإمام ، طبعا جملة من هذه الشواهد عقلائية صرفة لا تتعلق بالمسلمين فقط، وجملة أخرى منها تختص بالمسلمين ولم تكن عقلائية صرفة، وبعبارة أخرى، لا يوجد تعبد خاص بمعيار خاص في الحجية بل مجموعة من الشواهد التاريخية، التفسيرية، الروائية تعتضد بعضها ببعض لتدل على حجية الخبر وصدوره عن المعصوم.

ان هذا المسلك قد ذهب إليه قدماء الأصحاب تقريباً سيما المدرسة البغدادية الثانية، وذلك نتيجة تواجدهم في بغداد عاصمة الإسلام آنذاك ووجود كثير من التيارات الفكرية المختلفة وكان الطابع العام غير شيعي.

وقد ذكر ابن قتيبة في كتابه (الإمامة والسياسية) أن في زمن هارون أي في حدود سنة ۱۸۰ هـ أو ۱۹۰ هـ وصل العلم إلى درجة عالية من التقدم بحيث أمكن أن يستبحر شخص في الأصول والعلم والروايات والأسانيد ويناقش فيها وهو ابن إحدى عشرة سنة، عدا فترة حكم بني أمية وبني مروان أي من سنة 41 إلى ۱۳۲ هـ حيث يذكر أحمد أمين أن هذه الفترة لم تشهد تقدما علميا، ولم تبن ولم تؤسس ولا مدرسة واحدة.

وعلى كل حال فعلماء الشيعة في بغداد لاختلاطهم بذلك المجتمع كانوا يجمعون الشواهد من مختلف المصادر، أما علماؤنا في قم فكانوا يعتمدون على الشواهد المذهبية وعلى ما ورد في كتب علماء المذهب لغلبة الطابع الشيعي فيها، فكلا المدرستين تشترك في الرجوع إلى الشواهد، لكن الشواهد في مدرسة بغداد كانت عقلائية دينية ومذهبية، أما الشواهد في مدرسة قم فكانت عقلائية مذهبية، وهذا ما أدى إلى ظهور اختلاف منهجي فيما بعد بين المدرستين.

ولكن بعد مجيء الشيخ الكليني إلى بغداد و ظهور المدرسة البغدادية الثانية، حصل تقدم جيد في الحديث، وأضيف إلى الجانب الكلامي الذي كان سائدا آنذاك عند علمائنا؛ الجانب النقلي أيضا، واستمر هذا المذهب إلى الآن تقريبا، بمعنى ان كثير من علمائنا أمثال النائيني والأصفهاني والعراقي يعتمدون على الخبر الذي يحصل الوثوق به من مجموعة الشواهد، مع لحاظ الخلاف الموجود في تعداد الشواهد وكيفيتها، فهذا هو المذهب المعروف قديما وحديثا عند علمائنا.

٣- قبال هذا المذهب ظهر مذهب السيد المرتضى، وقد استمر بين أصحابنا إلى مدة لكنه لم يستمر ولم يحظَ بالقبول فيما بعد.

وخلاصة مذهبه عدم حجية الخبر لا على المبنى الأول ولا على المبنى الثاني، ولم يقصد المرتضى من عدم حجية الخبر ترك الروايات وعدم العمل بها، بل مراده انّ أحكام الشريعة والعقائد وكل ما يرجع إلى المعارف الدينية لابد من حصول الوثوق لا بعنوان الخبر ، مثلا هل یستحب كذا؟ هل يجب كذا؟ هل كان المعراج جسمانية أم روحانية؟ فإنه يقيم الشواهد على الحكم نفسه لا على الأخبار الواردة، فلذا يجعل الأخبار شاهداً من الشواهد، أو بعبارة اُخرى السيد المرتضى ينظر إلى المضمون ولا ينظر إلى اللفظ، فالخبر عنده حجة بلحاظ مضمونه لا بلحاظ لفظه؛ بخلاف المسلكين الأولين.

فالسيد المرتضى عند مواجهة الخبر يبحث عنه وعن مصادره والنسخ التي ورد فيها وهل فيه تشويه وتعارض أم لا، فهو لا يعتمد على الخبر بنصه بل يعتمد على الحكم، مثلا يجب كذا ودليله الآية الفلانية أو جملة من الأخبار، فهو يرى ان هذا المضمون هل يستفاد من مجموع الأخبار أم لا، فنظره إلى المضمون وليس إلى اللفظ، فمراده من عدم الحجية هذا المعنى وليس نفي الأخبار كلية، بل ان الخبر بها هو نص الفظي ليس بحجة مع انه يشتمل على حكم أو مسألة من المعارف الكلامية والحقائق الدينية.

مثلا السيد المرتضى يتعرض لزواج أم كلثوم وينظر إليه من الزاوية التاريخية ويقول إن هناك من أنكر وجود أم كلثوم في التاريخ، لكنه يستبعده لأن جملة من الشواهد التاريخية تدل على وجودها – مع اني شخصيا أذهب إلى عدم وجودها أيضا – فالمهم ان السيد المرتضى عندما ينظر إلى هذا الجانب لا ينظر إلى الخبر بعينه وبنصّه لوجود إشكالات في الخبر، فهو لا يقول بان حجية الخبر غير معقولة لا بل معقولة و ممكنة لكن لم يقع التعبد به بالفعل، طبعا لو سألنا السيد المرتضى وقلنا له: ما هو الطريق الأمثل والأحسن و الأعلى في كيفية معرفة الأحكام عند الرجوع إلى الأخبار؟

فانه سيجعل الطريق الأمثل في ذلك تلقي العلماء بالقبول، ولذا يعبر عن هذا التلقي بالإجماع، مثلا بما أن العمل الفلاني لم يكن مشهوراً عند العلماء ففيه إشكال، و مسلکه هذا عام يشمل: العقائد، الكلام، التفسير والفقه، فإذا كان متلقيا بالقبول يؤمن به، فإذا جاء خبر خاص أو خبران بخلاف هذا المتلقی بالقبول فلا يعمل به، وهذا مبحث مفضل يشمل جوانب متعددة من كيفية أخذ هذا التلقي؟ ومن يكون المعتمد؟ هل علماء بغداد أو بعضهم؟ و غيرها من المباحث.

هذا المذهب راج نوعا ما آنذاك بين علماء الطائفة، وأصبح هو المنهج الكلامي والعقلي لعلمائنا أمثال ابن إدريس وابن زهرة وجملة من كبار المفسرين أمثال صاحب مجمع البيان، والقطب الراوندي و محمد بن عبد الجليل الرازي وأبي الفتوح الرازي، وغيرهم من المتكلمين الذين تأثروا بمنهج السيد المرتضى، وربما لاقى هذا المنهج نوع قبول في بعض مجتمعاتنا العلمية.

وقد أشكل الشيخ الطوسي على مبنى السيد هذا بانّه صحيح إننا نرجع إلى التلقي والشواهد، ولكن التلقي وهذه الشواهد موجودة و محرزة في كثير من كتب الأصحاب المعروفة أمثال کتب حسين بن سعيد، الحسن بن محبوب، حریز، معاوية بن عمار، وذلك بفضل جهود الأئمة وتأكيدهم على الكتابة ثم مدارسة العلماء ومناقشتهم لها، كل هذا أوجب الوثوق والاطمئنان بجملة كثيرة من الروايات، وهذه النقطة لنا مجال واسع في مناقشة السيد المرتضى حولها.

وقد يستفاد من الشيخ الطوسی “ره” انّ مراد السيد من انه لا يعمل بالخبر أي لا يعمل بغير هذه الطائفة من الأخبار يعني لا يعمل بغير أخبار هؤلاء العلماء، وإجمالا مبنى السيد المرتضی عمومأ علمي ولا بأس به إجمالا، سيما عندما ندرس التاريخ ونرى الروايات والنقل التاريخي المختلف، لكن بالنسبة إلى الفقه والعقائد والتفسير وسائر معارف أهل البيت “عليهم السلام ” لا يجري، إذ أن أئمتنا “عليهم السلام ” ومن بعدهم العلماء أتعبوا أنفسهم رغم صعوبة الظرف وقلة الإمكانات وقلة الشيعة وكثرة المشاكل، وأوصلوا هذا التراث النقي إلينا.

والسيد المرتضی ربّما وقع في هذا عندما رأى ما أصيب به التراث الروائي السني آنذاك من الفجوة الزمنية الكبيرة بينهم وبين رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” حيث تبلغ ما يقارب 400 سنة تقريباً، في حين هذه الفجوة الزمنية عند الشيعة أقل بكثير وتكون بحدودد أقل من ۲۰۰ سنة حيث كانت إلى سنة ۱۵۰ هـ أي فترة الإمام الصادق “عليه السلام” ، وثانياً لم يكن هناك حديث شفاهي، قال فلان عن فلان، أو حدثني فلان، بل هناك من عهد الأئمة “عليهم السلام ” كانت الكتب الموجودة والموثوقة، فالإشكال على رواياتنا أقل بكثير، وخلال تلك الفترة ملأ الأصحاب كتبهم بالتحديث عن الإمام لا مباشرة أو بواسطة فاحتمال الخلاف في النقل يكون أقل وقيمة اللفظ يكون أكثر .

فنحن إذا وجدنا أن الشيخ الكليني يقول مثلا: علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد عن حريز عن زرارة عن أبي عبد الله”عليه السلام ” ، فهذا الحديث يعني عند أهل السنة تخلل خمسة أشخاص بين الكليني والإمام الصادق “عليه السلام “، ولكن ليس الأمر كذلك عندنا بل هذا هو طريق الكليني إلى كتاب حريز و حریز معاصر للإمام الصادق “عليه السلام ” مع انه لم يلاقه ولم يكتب عنه بل كتب عن أفضل تلميذه وأكبر علماء الطائفة وهو زرارة بن أعين الشيباني وزرارة ينقل عن الإمام مباشرة، فكتاب حریز دُوّن في سنة 140هـ تقريبا وقد وصل إلى الشيخ الكليني، وفي الواقع هذا السند هو عبارة عن إجازة للشيخ الكليني حول الكتاب.

وفي الاصطلاح إذا كان المتن رواية نسمّي الطريق إسناداً، وإذا كان كتاباً نسميه إجازة، فهذا السند هو إجازة للشيخ الكليني.

فالسيد المرتضى كان ينبغي له أن يلتفت بالفارق الموجود بيننا وبين ذلك المعتزلي مثلا الذي يستشكل على روايات أهل السنة؛ للفاصلة الزمنية الكبيرة، وعليه فنحن مع احترامنا لأصل هذه الفكرة ورغم انها لا بأس بها إجمالاً إذ أن الجانب النقل يحتاج إلى مزيد تأكد، لكن بخصوص روايات أصحابنا فانهم كانوا يتأكدون منها عملا بوصية أئمتهم “عليهم السلام ” كما قال الإمام الباقر “عليه السلام “: «انّ حديثكم هذا دين فانظروا عمن تأخذون دینکم». فكانوا ينظرون إلى كتاب حریز ککتاب مقدس يبين لهم وظائفهم الدينية.

والخلاصة أن ما ذهب إليه السيد المرتضى هو عدم حجية الخبر لفظاً، وان المهم هو المضمون، وهذا المسلك كما قلنا لا بأس به إجمالا ولكن تفصيلا يصعب قبوله بالنسبة إلى تراث الطائفة، كما قال الشيخ الطوسي، ولذا نستفيد من مجموع کلمات الشيخ الطوسي أن هذا التراث تراث نقي وأنه لابد من الحفاظ عليه، نعم هناك مشكلة وهي مشكلة التعارض وقد حاول الشيخ الطوسي حلها بطريق خاص، ولكن السيد المرتضى بما انه لم يؤمن بحجية الخبر يرى نفسه في غنى عن هذا البحث، فإذا كان الخبر غير حجة فلا يهمنا تعارضه من عدمه، ولكن هذا المطلب لا يمكن المساعدة عليه بوجه قوي، نعم بعض الشواهد تؤيد كلامه ونحن أيضا نميل إليه ولكن ليس هكذا، بل انه لابد لنا من حل التعارض کی نؤمن بالحجية، والا فالتعارض بالمعنى المصطلح لا يوجد في روايات أهل البيت”عليهم السلام ” ، لان هذا التعارض المصطلح مبني على الحجية التعبدية ولم يقل بها قدامى العلماء. وختاما يمكن إيراد بعض الملاحظات على مسلك السيد المرتضى من جهة الاختلاف في الصغرى دون الكبرى، لأن جملة من هذه الروايات يمكن الاعتماد عليها ولا يصح رفضها كليا.

 

المصدر : حوار مجلة ” العقيدة” العدد الثالث مع آية الله المددي

 

السيد أحمد المددي [دامت بركاته]
السيد أحمد بن السيد محمد علي بن السيد علي مدد القائيني المشهور بالمددي،ولد في النجف الأشرف عام١٣٧٠للهجرة الموافق لعام ١٩٥٠م، وانتقل مع والده وجده إلى مشهد المقدسة وهو صغير السن ،نشأ في ظل أسرة علمية عريقة عرفت بالفقاهة والتقى،أخذ مقدمات العلوم الدينية عند:
والده السيد محمد علي.
الشيخ محمد تقي الأديب النيشابوري.
وفي عام١٣٨٩للهجرة هاجر من مشهد المقدسة إلى النجف الأشرف ليحضر بقية السطوح فحضر عند:
الشيخ الشهيد الميرزا علي الغروي.
السيد محمد علي الموحد الأبطحي.
السيد محمد مفتي الشيعة.
الشيخ عباس هاتف القوچاني.
ثم انتقل إلى مرحلة بحث الخارج فحضر عند:
السيد أبو القاسم الخوئي.
زوج خالته السيد محمد حسن البجنوردي.
السيد روح الله الخميني.
السيد علي السيستاني.
وعد من أبرز تلامذة الأخير منهم ويلاحظ عليه شدة تأثره به ،وكان إلى جانب حضوره دروس الأعلام قام بتدريس العلوم الدينية من المقدمات إلى نهاية السطح العالي،فحضر درسه الكثير من الفضلاء وبعضهم صار من كبار أساتذة الحوزة العلمية،وفي عام ١٤٠٠للهجرة توجه لحج بيت الله الحرام وبعد أداء مناسك الحج لم يتمكن من العودة إلى النجف الأشرف فتوجه نحو قم المقدسة وما أن وطأت قدماه أرض قم حتى بدأ بتدريس السطوح العالية وبحث الخارج وكان درسه الخارج يتميز بإلقاءه باللغة العربية وكان من الدروس الفريدة من ناحية العمق وكونه يلقى بالعربية عند من لم يتقن الفارسية،وهو اليوم يعد من كبار علماء الإمامية .
مؤلفاته:
دروس في المكاسب المحرمة:تقرير تلميذيه يحيى عبد إلهي و كاظم دليري.
قاعدة التسامح في أدلة السنن:تقرير تلميذه الشيخ أمين آل درويش.
نگاهي به دريا.
مناهج الإجتهاد وطرائق المحدثين.
المختار في محمد بن سنان.
المصدر: صفحة رياض العلماء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky