الاجتهاد: موضوع البحث عبارة عن دراسة تحليلية واستدلالية لفقه ثورة الإمام الحسين عليه السلام” لدى الفريقين من خلال مبانيها التي تمثّل روح الكتاب والسنة المطهرين. وباختصار هو المنطلقات الشرعية والمبادئ العامة التي أرادت الثورة أن تحققها في واقع الحياة الإنسانية. بقلم: عبدالإله نعمة شعيب
ومن دواعي اختيارنا لهذا الموضوع وضرورة تناوله مایلي:
أولا: وضع القارئ والباحث الإسلامي معاً على صورة من الفهم الواعي لشخصية الامام الحسين من خلال النافذة الفقهية الأصيلة لمباني ثورته المباركة.
ثانيا: تجنيب الثورة مناهج تخصيصها بزمان ومكان معين وتجنبها وسائل استغلالها من قبل البعض في الضغط عليها وعلى مبانيها الشرعية.
ثالثاً: التركيز على مرجعية الثورة الحسينية لجميع السياقات الجهادية التي تريد ان تشق طريقها في الثورة على الظالمين.
رابعاً: بیان حاکمية مباني الثورة ومعياريتها في تشخيص الصحيح والخطأ على ضوء ما فيها من أصالة واستحکام شرعي ملازم للكتاب والعترة الطاهرة.
ولعل ما يميز هذا الكتاب:
(أ) الريادة في بحت هذا الموضوع الذي تكفّل بدارسة المباني الفقهيه للثورة، إذ لم يقع نظری – بحدود استقرائي للمكتبة الحسينية الضخمة الآثار والمتنوعة – على عنوان يتعرض لهذه المهمة بشكل مفصل و مستقل.
(ب) الاهتمام بالمباحث الفقهية للثورة أو التي ترتبط بها بالشكل الذي يعطي الثورة صورتها الفقهية المستقلة. و ابراز مبانيها التي انطلقت منها وتأسست عليها.
(ج)، أنّ بحث قضية الإمام الحسين ونهضته يعتمد غالباً على الآيات والروايات وأخبار التاريخ والسير، والمنهج الذي اعتمدناه أخرج القضية من كونها مفردة من مفردات البحوت التاريخية إلى كونها فضية كلية تمتدّ بأحكامها و مبانيها عبر الزمان والمكان، من خلال ما تمتلك من رصد فقهي سياسي هائل.
مقدمة المركز
تحظى ثورة الإمام الحسين بأهمية فائقة في مجال البحث العلمي، لاسيما على صعيد الفقه السياسي؛ لما اتّسمت به من خصائص ومميزات فريدة جعلتها ذات مؤهلات كبيرة، وتبرز بصفتها أحد أهم الموضوعات في مجال الفقه السياسي،
ولعل من أبرز هذه السمات وأهمها:
1. امتلاكها أدبیات فقهية:
أدبيات الثورة الحسينية كانت تدور في مدار فقهي، فقول الامام الحسين إبان نهضته: «لا أبايع» و «انما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي…» و «أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، و «أسير بسيرة جدي وأبي» و «هیهات منا الذلة» وغيرها من العبارات والتراكيب تشير جميعها إلى سلوك ورؤية معينة على المستوى السياسي، و تندرج في دائرة الفقه السياسي. إذ أن السلوك وطبيعة التصرف في المجال السياسي تنضوي – عادةً – تحت مظلّة الفقه السياسي.
٢. احتوائها على مواد للتنظير في مجال الفقه السياسي
لو اعتبرنا الفقه السياسي متكوناً من عنصرين: الأحكام السياسية والتنظير السياسي، فمن شأن هذه القضية أن تمثّل أساساً رصيناً للتنظير على هذا الصعيد، لاسيما وأنه تمّ في واقعة مؤلمة هزت كيان الانسانية، ولم يزل يتحدث عنها التاريخ بملء، فمه وذلك من خلال:
(أ) تحلیل واقع التقابل بين الفريقين المتواجهين في كربلاء وماهية الأحداث المنتهية إلى الثورة.
فقد يشكّل التمايز السلوكي بين الفريقين المتواجهين في صحراء كربلاء موضوعاً خصباً للبحث في المجالات السياسية، ولعل أبرز أوجه التمايز بينهما هو التمايز بين طبيعتيهما:
الأول: جيش الشام الكثيف والمدجّج بالعدّة والعدد. يأتمر لقيادة غير مستقية في القول ولا في السلوك والعمل.
والثاني: فئة لا يتجاوز عددها المائة شخص من أهل وأصحاب الحسين فيهم أطفال رضّع وصبيان؛ حيث اجتمعوا في أرض مكشوفة من غير ميعاد، فيلاحظ التقابل شديداً، والتعارض جاداً بينهما.
إن البحث في هذا الموضوع في غاية الأهمية بالنسبة إلى الفقه على الصعيد السياسي، فما أن انقضى نصف قرن على هجرة الرسول الأكرم حتى برز لونان من السلوك، متنافیان تماماً في الرؤية والتطبيق، ويحملان مواصفات متناقضة بعضهما عن البعض الآخر:
أحدهما: ظالم في سلوكياته ومواقفه إلى أبعد الحدود. ولا يتوانى في السير بالكذب والحيلة، والتمسك بأنواع الوسائل من أجل بلوغ غاياته.
والآخر مقيّد بسلوك إنساني رفيع، و ملزم بتعاليم الدين الحنيف وقواعد الخلق الكريم.
ويعزو أهمية هذا الموضوع بالنسبه إلى الفقه السياسي إلى كون هد البحث يدور حول محاور أساسية للباحث في مثل هذه المجالات؛ کالبحت عن أجوبة لتساؤلات ساخنة و مؤثرة في مسار تقصّي الحقائق، من قبيل:
– ما هي طبيعة وماهية هاتين الفئتين الناشئتين في مجتمع إسلامي واحد خاض الصعاب في سبيل تأسيس دولة مستقلة ترفع راية التوحيد والعدل، وتخشاها سائر الدول، سيّما وأنه لم يمض على غياب قائدها ومؤسسها أكثر من نصف قرن؟
– هل ينبغي على الفقيه ضمن رؤيته إلى الأوضاع السياسية التي كانت سائدة آنذاك أن يجد ذلك الواقع مادةً خصبة في تفعيل هذا العلم؟
– هل يمكن للفقيه أن يستفيد من ذلك كلّه في طرح نظرية سياسية مثلاً؟
إن هذا التقابل في الرؤيا والطبيعة العامة بوسعه أن يشكّل اللبنة الأساسية للتنظير في مجال الفقه السياسي، وبناءً على ذلك جرى التأكيد على هذا المسار بسبب وجود شخصية تتمتع بميزات فريدة، من إنسانية بكل ما للكلمة من معنىً، والتزام بخط الرسالة المحمدية، وتفان في سبيل الآخرين، ومحبّة تجاه الناس جميعاً ولو كانوا أعداءه !
وكان يجسّدها سبط النبي الأكرم وخامس أصحاب الكساء: الحسين بن علي ، الذي لم يكن يؤمن بالظلم والجور کمبدأ في الحياة السياسية، ولا يعتقد بالاستسلام والخضوع للظالم والتنازل عن القيم والمبادئ كسياسة عامة في الحياة، كما لم يكن يؤمن بالاضطهاد والعنف كوسائل لبلوغ الغايات السياسية، ولا يعتبر الحرب والقوة كعوامل ضغط على الآخرين لنيل المكاسب السياسية.
وفي المقابل ثمة شخصية تمثّل الانحدار الإنساني، والقمع السياسي، تؤمن بالعنف والقتال کوسائل لنيل أهدافها، وتعتقد بأن التلويح بالعصا دائماً هي السياسة المناسبة لقيادة الآخرين! ويجسدها الحاكم یزید بن معاوية الذي مثّلت حكومته أوج القسوة البربرية. و تجاوز قوانين البشر.
وهذه المعادلة غير المتوازنة يمكن أن تعين على دراسة الواقع السياسي والاجتماعي للمجتمع المسلم آنذاك، و تنظير الفقه السياسي أيضاً.
(ب) تحليل انعكاسات و تداعيات الثورة الحسينية
إن انعكاسات وتداعيات الثورة الحسينية قد اتخذت مساراً متميزاً على الصعيد السياسي والديموغرافي، وقد بدا واضحاً من خلال ما تلتها من أحدات ووقائع متعددة.
فقد أثارت هذه الثورة جملة من ردود الأفعال والمواقف السياسية المختلفة. منها ثورية، وأخرى استسلامية، وثالثة معتدلة، ورابعة أطبقت صامتة على مضض على من التاربخ، كما أفرزت معطيات عدة أسهمت في إسراء الفقه السياسي الإسلامي، وكانت من السعة بحيث شملت جميع المسلمين، السنة والشيعة معا على السواء، وتمثّلت بالتصريحات والمواقف الكلامية تارةً، والنهضات والثّورات تارة أخرى، مما جذبت أنظار الرأي العام الذي راح يبدي اهتماماً مفرطاً بالثورة الحسينية، وعلى نطاق واسع وكبير حتى من قبل غير المسلمين أيضاً.
وهذه الأمور مما لا ينبغي للفقه السياسي إغفالها و عدم أخذها بعين الاعتبار، بل يجب على الفقيه بحثها، والتقاط العبر و الدروس منها، على ضوء ما ارتكز في ذهنه من انعكاسات وجدها مؤثرة على الانسان خاصة و المجتمع عامة.
٣. وجود عناصر المرجعية الفقهية فيها
تتوفر في هذه الثورة عناصر تؤهلها لأن تلعب دور المرجعية الفقهية في إصدار الأحكام الفقهية، وعليه لابد من الاجابة على هذه الأسئلة:
– ما هي العناصر المتوفرة في الثورة الحسينية؟ إذ لابد من معرفة وتحديد العناصر الدخيلة في هذه الثورة التي ساهمت في توسيع نطاقها. وازدیاد تاثيراتها، و عدم إخماد جذوتها، و انطفاء شعلتها.
– وهل أن هذه العناصر مما تقبل التعريف والتميز في إطار الفقه السياسي؟ وهل يمكن تحويلها إلى عناوين تخصصية في هذا الفقه؟
– وهل يمكن الاستفادة منها في عملية استنباط الحكم للموضوعات على المستوى السياسي؟
4. انتهاء دراستها الفقهية إلى نتائج ضخمة ومهمة
هناك نتائج عظيمة تتحصل من الدراسات الفقهية للثورة الحسينية. يمكن تلخيصها بمايلي:
(أ) إذا ما أجريت دراسة فقهية علمية على هذه الثورة كحركة سياسية وانسانية، فسوف يزول الكثير من التشويش والتهافت الموجود في الفقه السياسي السائد في الوقت الراهن.
فمن جهة يمكن – من خلال ذلك – منع وقوع النزاعات الطائفية و الصراعات الداخلية وانتشارها في المجتمعات الإسلامية، ومن جهة أخرى يؤدي الرجوع إلى حيثيات الثورة الحسينية، وإبراز مبانيها الفقهية إلى وعي المسلمين بواقعهم السياسي في المقاومة والتصدّي المسلّح، وإبطال و تحريم العمليات الانتحارية العشوائية التي باتت عاملاً مقلقاً ومؤثراً في شق الصف الاسلامي، و تهديد الوحدة الاسلامية، بعد أن لجأ إلبها بعض الأطراف والفرقاء كوسيلة للتعبير عن السخط، وتجلّت أبشع صورها في العراق مؤخراً.
(ب)، أنّ من خلال بيان مباني الثورة الحسينية الفقهية والسياسية تبرز الصورة الواقعية لرؤية أهل بيت محمد تجاه الكفاح المسلح ضد الطغيان والظلم، وتتضح شرعية بعض الممارسات في المقاومة، وعدم شرعية أخرى، بعدما تظهر الصورة حول تعاطي الامام الحسين مع مخالفيه، وأنّ نهضته كانت بعيدة كل البعد عن كونها عملاً انتحارياً. بل أنّ جميع سلوكياته وأصحابه تحمل رسائلة واضحة مفادها: ضرورة الحد من سفك الدماء، و تفادي إراقتها.
(ج) أن ما جرى في كربلاء لم یکن نوعا من أنواع التضحية فحسب، بل جرى وفق معايير شرعية، و قانون خاص قائم علی مبانٍ مؤسسة على القرآن والسنة المطهرة، وليست هي نهضة انتحارية – كما يحلو للبعض تسميتها – اريد منها قتل الأبرياء طلباً للملوكية وقلب نظام الحكم!
(د) اتضاح الوجهات الشرعية للأهداف والنشاطات السياسية في المجتمعات الاسلامية بواسطة دراسة الثورة الحسينية دراسة فقهية و علمية كاملة، حيث تجعل القارئ والباحث يقف في مدار الكتاب الكريم والسنة الشريفة، فلا يخرج عنهما أبداً.
(هـ) أن الرسالة الحسينية ما برحت تؤكد الجانب الإنساني والعاطفي للسياسة التي غالباً ما تكون مقرونة بالعنف والكذب و الحيوانية، وأنها تبرز رؤية خاصة وأصيلة نابعة من العاطفة الانسانية النبيلة التي فُطر الناس عليها. وهو ما يمثّل درساً كبيراً في هذا المضمار.
وبناء على ما سبق يجب التأكيد على ضرورة مواصلة مثل هذه الدراسات الفقهية؛ لأننا – وللأسف – نفتقر إلى دراسة فقهية وافية وشاملة في خصوص الثورة الحسينية، وأن ما جرى الاهتمام به لم يكن سوى محاولات سطحية تتناول بعض الأبعاد العامة للثورة، وإن أجريت دراسات في هذا الاتجاه فهي لا تكاد تتناول: إما أبعاداً غير فقهية ولا علمية، وإما كونها دراسات غير ممنهحة ولا تامة
وفي نهاية المطاف يجب أن نعترف بأنه لم يتم إجراء دراسة فقهية مبنائية حادة للثورة الحسينية حتى الآن.
ثمة نقطة مهمة يجدر ذكرها هنا، وهي: أن الثورة الحسينية قد حدثت في زمن كان الجور والظلم والتجاوز يطال الجميع: الشيعة والسنة معاً، ولم يكن يفرّق بين طائفة وأخرى بالرّغم من أن جمهور المسلمين كانوا في ظل تعایش سلمي، وكان هدف الامام الحسين من نهضته وثورته: إحياء الاسلام فكراً و عملاً وتطبيق التعاليم الاسلامية الصحيحة، ولم يكن يخاطب الشيعة فقط، وإنما كانت خطاباته ونداءاته موجهة إلى الجميع: الشيعة والسنة معاً، مما يشير إلى دوره في مجال التقريب، وتكريس الوحدة بين المسلمين واتحادهم ضد عوامل الظلم والطغيان.
وعليه فلو أريد اليوم القيام بدراسة علمية موسعة حول الثورة الحسينية ومبانيها وأهدافها و..، يجب إجراؤها في إطار تقريبي وشامل وعام، وبعبارة أخرى، في دراسة مقارنة، إذ لا ينبغي تحجيم هذه الثورة. وقصرها على بيئة معينة وفضاء ضيّق ومحدود.
وليس جزافاً أن تكون طبيعة الخطابات الحسينية ومستواها متميزة وشفّافة، والتي نجدها صريحة عبر العدد الكبير من النصوص التي تنقلها لنا أمهات المراجع الفقهية لكافة المذاهب الإسلامية، وليس ذلك إلا من أجل تطابق الرؤی تجاء الدور الرسالي الذي أدّته شخصية الامام، والمكانة التي تتمتع بها ثورته عند فقهاء وعلماء المسلمين جميعاً.
ومن هذا المنطلق خطا مركزنا: مركز الدراسات العلمية التابع للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية خطوته الأولى المتمثلة في هذا الكتاب النفيس الذي يقدمه لعشاق ومحبي ومتابعي الثورة الحسينية، من تأليف حجة الاسلام والمسلمين سماحة الشيخ عبدالإله نعمة الشبيب الذي خاض غمار هذه التجربة على صعيد طرح قسم كبير من المباني الفقهية لهذه الثورة المعطاءة، ودراسة للثورة الحسينية دراسة مېنائية يمكن أن تعد دراسة رائدة في هذا المجال، وخطوة أولى في هذا الاتجاه.
تحميل الكتاب
فهرس المحتويات