الفقه الولائي

الفقه الولائي ومعاييره الخاصة به .. حوار مع آية الله السيد أحمد المددي

الاجتهاد: الفقه الولائي له معاييره الخاصة به. ومع الأسف لم ندوِّن أصلاً واحداً له. ومن الضروري أن نقوم بهذا العمل. افترِضْ أننا بحثنا في ولاية الفقيه ولم نستعرض مسألة كيفية انتخاب الفقيه، فإن بعض معاصرينا ممَّنْ يكتبون في ولاية الفقيه حاولوا أن يكتبوا الإشكالات التي تعترض مسألة تنصيب الفقيه على أنه حاكم.

ما هي البحوث التي يجب أن تطرح في بحوث أصول الفقه الولائي ؟

في الاجتهاد والتقليد، وبمناسبة معرفة وظيفة الفقيه ـ أنا لا أعبِّر بكلمة مجتهد؛ إنما أقول: فقيه. وهذا اللفظ أطلقه أهل البيت(عليهم السلام)، فكلمة مجتهد تختصّ بأهل السنة ـ فإن إحدى وظائفه الفتوى؛ والثانية القضاء؛ والثالثة مهامّ الولاية.

تفضَّلتُم بالقول: إن العلماء لم يفطنوا إلى الفقه الولائي ، وإلا يجب أن تكون أصول فقهنا ولائية أيضاً. فهل يمكن أن تعطينا تحليلاً للذي حصل حتّى لم يفطنوا إلى هذا الموضوع، وعليه لم تصبح أصول فقهنا ولائية؟

نعم، في ذلك الوقت في الإسلام كانت لـ (عمر) سيطرة خاصة على مجريات الأمور، حتّى في مسائل الفقه الاستنباطي التي كانوا يسألون عنها، وهو يرى أن يجيب كيف شاء. هذا الموضوع بالنسبة لي عجيب جدّاً.

ينقل الشافعي في كتابه الرسالة، وأعتقد في الثلث الأول، أن شخصاً سأل عمر فجاوبه. ويقول بعد ذلك أن من الصحابة مَنْ كان حاضراً، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد سئل رسول الله عن هذه المسألة، فسمعناه يجيب عنها بهذا الجواب، فقال عمر للسائل: الجواب ما قاله الرجل، اعمل به، ودَعْ ما قلتُ لك. بعد ذلك يقول الشافعي: انظروا عندما يسمع عمر بقول رسول الله يتراجع عن قوله الذي قاله(1).

فلاحِظْ جيداً هم يعتبرون أن هذا المقدار نوعٌ من الحرية، ومن الجائز أن الشافعي قد ناور بصفحةٍ كاملة بعد هذا الأمر.

وأنت تعلم أن عمر حَسْب قولهم كان أحد المسلمين الأوائل في مكة ـ كان يعيش عدّة سنوات في مكة وسبع أو عشر سنين في المدينة، وهذا ليس مزحة ـ فكيف لم يسمع هذا الحكم من رسول الله، وشخصٌ عاديّ كان على علمٍ به.

فإشكالنا معهم في ما حصل مع أولئك غير مهمّ، وليس مهمّاً أيضاً إذا كان الخليفة لا يعلم، ولكن لماذا عندما لا يعلم يطلق حكماً؟ انظر ما دقّة هذا العمل؟ هذا الذي يقول: أنا وليّ أمر، وأطلق الحكم، فيأتي صحابيّ، وليس إنساناً مثل أمير المؤمنين”علیه السلام”، بل صحابيّ عادي، ليقول: أنا سمعتُ خلاف ما قلتَ من رسول الله.

إذاً كانت مسألة الفقه بهذا الشكل، ثم بعد ذلك بقيَتْ على ما هي عليه. فإذا ما لاحظت في التاريخ، عندما أرادوا أن يقطعوا يداً ألقيت خطبة، وكتب إلى الخليفة، فجمع الخليفة القضاة، وقال الإمام الهادي”علیه السلام” شيئاً، وأجال النظر، وذلك يعني أن هذه السنة باقية حتّى في مسائل الفقه الاستنباطي، يختلف أيضاً القضاة والفقهاء، فيذهبون إلى الخليفة، وأيّ شيء يقوله يأخذون به، حتى إنْ كان إنساناً جاهلاً غير متعلِّم. وهذا الأمر بقي كما هو بين المسلمين.

ثم تدريجاً بعد عمر تقدَّمت حركة الفقه ـ والآن تمَّتْ صياغته أم لا؟ هذه مسألةٌ تبقى لوقتٍ آخر ـ وتمّ تناول البحوث الفقهية، ودائماً يتمّ السؤال عن الفروع والاستفتاء، ودائماً يسألون عن فروع جديدة.

وهذا الأمر أصبح شائعاً في سنة 80هـ، في زمن الإمام السجاد”علیه السلام” وما تلاه، أي إنه أول شعبة للعلوم الدينية لنا كانت في حقيقة الفقه، ودونت في السنين ما بين 180 ـ 190. لذا فإن الأصول أخذت من الفقه. وهذا له اعتبارات كثيرة، وإن شاء الله في البحث القادم إذا كان هناك مجال سوف أقوم بعرضها.

في السنوات من 160 إلى 180 بدأت البحوث الرجالية: هذا الرجل ثقة أم لا؟ و… وأكملت بالأصول، خصوصاً عرضوا الأصول على أنها مقدار من الكبريات، والرجال من الصغريات. وعلى سبيل المثال: تناولوا أصول هذا البحث أن المرسل حجة أم لا؟

وبناء على هذا فما وجدناه تدريجاً في الفقه أنه في سنة 80هـ وبعدها كان في الحقيقة فقهاً استنباطياً؛ لأن الفقيه لم يكن في دائرة الدولة، إلاّ إذا كان هناك حكمٌ يذهب إلى الخليفة، أو يقول شيئاً.

هذا الأمر صحيح أم لا بحث آخر. كان في المدينة أكابر الفقهاء، فقد كان مالك يعتقد أنّه إذا قال فقهاء المدينة شيئاً فإن قولهم حجّة. والإمام السجاد”علیه السلام” نفسه كان يسكن المدينة، والإمام الباقر والصادق’ كانا كذلك، والفقهاء، أمثال: أبو حنيفة، كانوا يسكنون الكوفة.

وهناك فقهاء كانوا يسكنون البصرة، أمثال: سليمان بن حيان، وبعض المفسِّرين، مثل: قتادة ودعامة وحسن البصري، والأخير له فروع من العلم، غير الفقه، حيث لم يكن علمه منحصراً في الفقه، وهناك فقهاء في الشام، مثل: الأوزاعي. وأيضاً فقهاء في مصر، مثل: قيس بن أبي ربيع، وفقهاء في خراسان، مثل: عبد الله بن المبارك. ولكن أعلى مستوى للفقه كان في المدينة.

واختلافهما كان في أن الفقه في المدينة كان يعتبر مأثوراً، حيث إنه يستند على الروايات، وفي الكوفة يستندون في فقههم على الرأي والقياس، فمدرسة الرأي هي الكوفة، ويقصدون بمدرسة الحديث المدينة.

وطبعاً أصل انتشار الرأي بدأ منذ عهد عمر، ولكنْ في زمان عمر حيث كان القرن الأول يقولون بالرأي، وفي القرن الثاني جعلوا من هذا اللفظ القياس.

بعد ذلك في زمن أحمد بن حنبل والشافعي ومالك وأمثالهم من الفقهاء كانت الحكومة بيد أناسٍ آخرين. وبما أن أول فقه قد كتب في ذلك الوقت، وانتزع منه الأصول، بنفس المعايير التي قد عرضتها، وبما أن الفقه والفقهاء تدريجاً انفصلوا عن الدولة، وأصبحت الحكومة بيد أناسٍ آخرين، لذا شاؤوا أم أبوا فإن المجال الفقهي اختلف عن المجال الحكومي، وبطبيعة الحال فإن الفقهاء انفصلوا عن الحكومة.

فعلى سبيل المثال: نفس أحمد بن حنبل، الذي حسب قوله: فقيه عالم بالحديث، وقد كتبت له كرامات عديدة، منها أن الرسول| رآه في المنام إلى آخره ـ حيث لا أريد أن أذكر هذا الكلام ـ، فقد جُلب لدى المعتصم العبّاسي لميله إلى القول بمسألة خلق القرآن، كان أحمد يقول بقِدَم القرآن، فأحضر بين يدي الخليفة؛ كي يرجع عن كلامه، فلم يتراجع عمّا قال، فكان يضرب كلّ يوم 120 سوطاً. وبعد ما ناله من تعبٍ والضرب أُرجع إلى بيته، فأرسلوا جاسوساً من عند النظام؛ ليطّلع على أوضاعه.

فمثلاً: كان يقول: إن الخليفة يعمل هكذا وهكذا، وقد ضربك بالسوط، فتعالَ نخرج عن طاعته، فيرد عليه أحمد بن حنبل: لا، لا نخرج عن طاعة الخليفة. كان الخليفة يأمر بضربه، ويضرب بالخشب، ثم يقول: لا نخرج عن طاعة الخليفة. لماذا؟ لأنه يرى الولاية من جهاتٍ أخرى.

أو على سبيل المثال: لم يكن أبو حنيفة في النظام، وكان من ضمن المخالفين له، فهو لم يكن على وفاق مع المنصور، والأخير أمر بسجنه، وضرب بالسوط، وقتل أيضاً في ذلك السجن، أو بعد أن خرج من السجن مباشرةً قتل، فقد كان يقول: إن الحاكم لم يكن جيداً، ويجب علينا أن نخرج عليه، وكان يقلقه الخروج،

وفي تاريخ بغداد: «كان أبو حنيفة يرى السيف»، أي إنه كان ينادي بالثورة المسلحة، ويشجع على الخروج مع إبراهيم القتيل، أو حمران أخو محمد ذو النفس الزكية، حتى أن أحد أهل البصرة قال له: أنت تشجِّع على خروج الناس مع ابراهيم، وأخي خرج معه وقتل، فلماذا لم تذهب أنت؟ فأجابه: يوجد عندي أمانات، ولو لم تكن لخرجت. لذا كان يقلقه الخروج، ولم يكن يتبع الأحكام الولائية.

كان يفكِّر بتغيير الحاكم، ولكنه لم يفكِّر أن يجلس هو مكانه، وتصبح له دولة. نعم، كان أبو يوسف مصدراً في ترويج الفقه الحنفي. ذهب أبو يوسف في أوّل الأمر ضمن حكومة هارون، ولم يكن أبو حنيفة كذلك، إنما كان من ضمن المخالفين. وأبو يوسف كان في بداياته من الطلبة الفقراء.

ورأيت في أحد كتب أهل السنّة عبارة أنه بكى عندما أحضر له أوّل مرّة فالوذة، وقال: لما كنت في الكوفة كنت فقيراً وبائساً لدرجة أني كنت أمرّ بجانب الدكان، وكنت أتمنى أن آكل فالوذة، ولم يكن معي نقود لذلك. والآن عندما رأيتُها من شدّة شوقي لها بكيت، لهذا عندما جاء أبو يوسف على أساس أنه فقيه قامت سلطة هارون بتأييده.

كان لديه كتابٌ باسم كتاب خراج أبي يوسف، حيث كان أوّل كتب النظام المالي في دولة الإسلام. طبعاً قد تطرَّق لجميع الأموال، وذكر فيه الخمس والغنائم، وليس له اختصاصٌ بالخراج.

مالك أيضاً كان أقلّ فقيه في رجال الحاشية المالكة.

كان هناك عشرات الفقهاء في الكوفة، مثل: سفيان بن سعيد الثوري، الذي لم يكن مع السلطة، بل كان مخالفاً لها، ولكنْ ليس هناك من مخالف كان يريد الولاية لنفسه. هم كانوا يعملون في الخفاء وحَسْب. وأصدر المنصور أمراً بتعقُّبه، فاختفى عن الأنظار ولم يظهر لأحدٍ إطلاقاً. لذلك فإن أولئك الذين يتعاملون مع هذه الأمور كانوا على أنواع متعدِّدة، ومن أهمّ مشاكل العالم الإسلامي كان هذا النوع.

لم يدَّعوا الولاية لأنفسهم إطلاقاً، ولكنْ في نفس الوقت كانوا يقولون: إن الخليفة بعنوان الحاكم الحقّ، وله أعمال الولاية يديرها، وهم لا يشكّون في ولايته، ويعتبرونها نافذة عليهم.

إذن، وبناءً على هذا، فقد كتبوا الأصول الاستنباطية؛ لأن الفقه الذي كان بين أيديهم كان استنباطياً. والفقيه لا يرى لنفسه الحقّ في التدخل في أمور الولاية، وهو أيضا ليس له أيّ ولاية. وطبعاً ليس الأمر هكذا بحيث إن الفقه الولائي لم يتدخّل في الفقه، بل أحياناً يكون له تأثيرٌ فيه.

في مسائل المجتمع المعروفة مثل الأمر والنهي، والتي هي الفقه الاستنباطي، يصرِّح فخر الدين الرازي في كتاب أصوله (المحصول) بأنّه يجب أن نقول بالامتناع طبق القاعدة؛ وذلك أن الصلاة في الدار المغصوبة باطلة، ولكنْ بما أن الخلفاء يصلّون في دار مغصوبة، والصحابة يقتدون بهم، إذن الصلاة صحيحة.

لذا بما أنهم يرَوْن الولاية من جهاتٍ أخرى فإن الفقه انفصل عن الحكومة، ويرى الناس للفقيه ولاية علمية، لا ولاية تنفيذية. نحن اليوم نرجع الولاية العلمية لأهل الخبرة، وندَّعي أنّه إذا قال أحد الجامعيين أو طالب ثانوية: أنت مصاب بالمرض الفلاني، وعليه استعمل الدواء الفلاني، فلا نصغي لما يقول، أما إذا قال متخصِّص فإننا نسمع لقوله. وهذه النقطة هي نفسها الولاية العلمية لأهل الخبرة. وهذا الأمر في المجتمع الإنساني عقلائي. وهذه القاعدة تقليدية.

وطبعاً ذاك الذي يقول: إن التقليد عمل القرد قد التبس عليه الأمر بين التقليد الفارسي والتقليد العربي. فالتقليد العربي عبارة عن الرجوع. وهذا الذي يُقال عنه في الفارسي: «أذهب الناس تقليدهم أدراج الرياح»، ويقال في العربية: إن المحاكاة مأخوذة من الحكاية.

ومرادف كلمة التقليد(2) في الفارسية هو وضع الشيء أو الأمر في الرقبة أو نزعه عنها، دليلاً على إناطة أمر ما بعهدة شخصٍ أو مسؤولية آخر؛ لينوء به، كما تقول للطبيب: إني أضع سلامتي بين يديك.

وعلى هذا فالناس لا يرَوْن مثلاً أنّه بما أن الذي يقلِّدونه يلبس العمامة فيجب عليهم أن يلبسوا عمامة أيضاً. فإذا ما قاموا بهذا الأمر يقال له: تقليد بالفارسية، ومحاكاة بالعربية.
والآن لماذا أصبحت طبيعة الفقه استنباطية؟ لأنهم يرَوْن أن الحاكم شخص آخر، ولا يرَوْن الحاكم أبا يوسف وأبا حنيفة.

وُجدتْ في زمان الإمام “علیه السلام” نقطة تحوّل في التاريخ الإسلامي. لقد احتلّ الفقيه مكانةً عالية من حدّ الإفتاء إلى حدّ الولاية، وقال(3): «إني قد جعلته عليكم حاكماً».

وهناك طبعاً يوجد تداخل مع القضايا السياسية. وتداخله بالقضايا السياسية هي عندما شعر الناس ببساطة أن الحاكم قد خرج عن المعايير والضوابط الإسلامية، وأصبح يشرب الخمر، ويغتصب، ويقوم بأعمال أخرى، فظهر على الساحة السؤال التالي: ما هو العمل حيال ما يجري؟

وكان هناك أجوبة أخرى في العالم الإسلامي أيضاً. فيما بين الشيعة كان أقسى جواب لدى الزيديين، الذين كانوا يؤمنون بوجوب الثورة المسلَّحة، وإقصاء الحاكم عن الحكم. أما هذا الجواب بين السنّة فقد كان أشدّه بين الخوارج، حيث إنّهم فقط هم الذين كانوا يؤمنون بالثورة المسلحة.

كانت هناك فرقةٌ تقول: إذا قال الحاكم: اشربوا اليوم الخمر سوف نشرب؛ قال: صلّوا نصلّي، قال: لا تصلّوا لا نصلّي. كلّ ما يقوله لنا سلطاننا نتبعه. فقط يبقى مسألة واحدة، وهي أننا مع السلطان إذا لم يقُمْ بما يخالف الشرع(4)؛ إذ «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». كان هذا أحد الآراء، أن لا نقاوم السلطان، نتنحّى جانباً، ولا نتدخَّل من قريب ولا من بعيد.

ليس عندنا إلاّ رأيٌ واحد، وهو منحصر بما ارتآه الإمام الصادق”علیه السلام”، وينصّ على أن لا ثورة، ولا تأييد للسلطان، ولا الجلوس مكتوفي الأيدي، بل على الشيعة أن ينشئوا حكومةً داخل الحكومة الإسلامية.

وحسب ما يصطلح عليه في يومنا هذا: دولة داخل دولة، أو دولة الظلّ. هذا الأمر لم يسبق إليه أيّ عالم إسلامي، إنما هو من خصوصيّات الإمام الصادق”علیه السلام”.

وعلى سبيل المثال: لم يقُلْ أبو حنيفة لأصحابه: عليكم أن تشكِّلوا دولةً خاصة بكم، واتَّخذوا لكم حاكماً، ولم يعرف لهم حاكم كذلك. وعلى هذا المنوال أحمد بن حنبل.

أصدر الإمام الصادق (عليه السلام) هذا الأمر عندما لم تكن الظروف مهيَّأة للثورة، يعني الجوّ الذي كانوا يعيشون فيه يلزمهم بالتقية.

أنا أوضحت هذا الأمر في موقعه. كلمة «في» في العبارة «دولة في الدولة» ليست قيداً، إنما هي ظرف، أي إن المقصود هو أننا ما دمنا نعيش في ظلّ إحدى الدول ننشئ بعد ذلك دولةً، وهو إنما يقصد أيّها الشيعة شكِّلوا حكومتكم الخاصّة بكم.

فإن تمكنتم من أن تشكِّلوا دولة حقيقية لكم يُشار إليها بين الدول ليكُنْ ذلك، ولم يقيِّد بأنّه يجب عليكم إنشاء دولة تستظلّون بها تنافس الدول الأخرى.

وهذا يعني أن ليس هناك من نظرةٍ إلى دولة أخرى. كان هذا المشروع ينحصر بالإمام الصادق”علیه السلام” لا غير. ولا نملك في المدارس الإسلامية مثل هذا المشروع. أمعِنْ النظر بهذا المشروع، فماذا ترى؟ إن فقيه أهل البيت يختلف كلّياً عن فقيه غير أهل البيت. طبعاً كان يفكِّر بتشكيل دولةٍ مستقلّة.

نعم، كان من الطبيعي أن يرى في بحوثه العملية الفقهية أن له الحقّ في الولاية، ولم يكن أهل السنّة يرَوْن أن هذا من حقّه. وكما ذكرتُ سابقاً إن الأصول تمّ تدوينها في أواخر القرن الثاني، وقد أُخذت من الفقه نفسه، ذلك الفقه الذي لم يكن يرتئي فيه الفقيه الولاية لنفسه، فهم يرَوْن الولاية تتبع بيعة المسلمين، وأيّما رجل بايعه المسلمون يصبح وليّاً للأمر، وليكن الفقيه مَنْ يكون.

هنا أسأل سؤالاً، وهو: إذا افترضنا الفقه الولائي فما موقع الأصول، وما هو الفرق بينها وبين أصول الفقه الاستنباطي؟ والجواب هو إذا كان هناك الفقه الولائي فإن الأصول تصبح ولائية أيضاً، والبحوث التي تتحدث عن كيفية انتخاب الحاكم عن طريق مبايعة الناس له أو بالنصّ الإلهي، أو المسائل مثل ما هو معيار المصلحة، وأحدها: هل باستطاعة الحاكم أن يغيِّر الحكم الإلهي، كما يراه الشيخ المطهري.

في بحوث الاجتهاد والتقليد أوضحنا أنّه بما أن الأحكام الإسلامية تابعة المصالح الواقعية ونفس الأمر، والمصالح معقّدة أيضاً، حيث إننا الآن لا نريد أن نخوض في هذا البحث، فإذا جدّ مشكِلٌ ما في زمانٍ من الأزمنة؛ من أجل إجراء حكم من الأحكام،

ولنفترض في أحد الأزمنة اعترضنا إشكال عند إجراء حكم المتعة، فيجب علينا أن نجري هذا البحث، وهذه البحوث من الفقه الولائي ، بحيث إذا ما أصيب حكمٌ شرعي في أحد الأزمنة فمن الطبيعي لن يكون هذا المشكل مستمراً إلى الأبد؛ لأنه لا يتناسب مع الملاكات.

فيكون هذا الإشكال مؤقتاً، وله حلول متعدِّدة: أحدها: أن يقوم الحاكم بإسقاط ذلك الحكم؛ الحلّ الثاني: ما اقترحناه، وهو أن الحاكم في الأساس لا يستطيع أن يقوم بهذا العمل، وقد تعرَّضنا في بحث الأصول الفقهية الولائية لهذا الأمر، على أن للحاكم حقّ أن يضع قيوداً على هذا الإشكال؛ كي يتمكَّن من حلِّه؛ لأنه من الأحكام التي ليس بها إشكالٌ، وأحكام الله تبارك وتعالى من هذا النوع لا يمكن أن يدخل عليها إشكالٌ.

لهذا زيد قيدٌ في العقد الدائم اليوم، ويكتب في المحضر (المحضر الرسمي للعقود)، أمّا الورقة التي كتبت في المحضر، والتي هي ليست حكماً إلهياً، أو بسندات ملكية، يجب أن يكتبها المحضر؛ لأن ذلك كان يتمّ عن طريق العلماء، ويضعون عليه ختمهم، وله حساب وكتاب خاص، أما بعد ذلك قاموا بتنسيق ذلك، وجعلوا مكتباً خاصّاً للزواج.

فإنْ كنت في إيران تريد أن تقلِّل دية الكفّار إلى النصف فسوف تتصرَّف معك الدول الأوروبية نفس الشيء، فمن الممكن أن نقول هنا: نتَّخذ أسلوباً دبلوماسياً، ونضغط عليهم؛ أو مؤقَّتاً تدفع حكومتنا الفَرْق في الدية، أو بنحو المصالحة والحكم الثانوي حسب قول العلماء، ولا نقول: إنّ مقدار الدية هكذا، إنما نقول: الدية ثمانمئة درهم، لكنّنا فعلاً نأخذ منك 9200 درهم أيضاً، مثلما يحصل الآن عندما يأخذون الضرائب الزائدة على الوجوه الشرعية.

معايير الفقه الولائي

كيف تصوّر معايير الفقه الولائي ؟

الفقه الولائي له معاييره الخاصة به. ومع الأسف لم ندوِّن أصلاً واحداً له. ومن الضروري أن نقوم بهذا العمل. افترِضْ أننا بحثنا في ولاية الفقيه ولم نستعرض مسألة كيفية انتخاب الفقيه، فإن بعض معاصرينا ممَّنْ يكتبون في ولاية الفقيه حاولوا أن يكتبوا الإشكالات التي تعترض مسألة تنصيب الفقيه على أنه حاكم.

في نفس هذا البحث قد تناولت الموضوع على أن ولاية الفقيه لأوّل مرّة تكون بهذا المعنى، وهو أن تم تنفيذ هذا الأمر بصورةٍ رسمية عن طريق الصفويّين، وهو تحمل القيام بمسؤولية المجتمع. الرسالة، والدستور، وحسب قولهم الأمر الملكي، الذي كتبه الملك طهماسب للمحقِّق الكركي، متنها موجود في بعض الكتب، من جملتها(5) كتاب شهداء الفضيلة للشيخ الأميني.

من الجائز لك أن تتعجَّب هنا، وهي أن المناصب والأشياء المتعلِّقة بالفقيه، والتي تم ذكرها ليست موجودة في قانوننا الأساسي. أحدها(6) على سبيل المثال أنّ بإمكانه عزل وتنصيب رؤساء العسكر، الأمر الذي لم يأتِ في قانوننا الأساسي. كتب على سبيل المثال: بما أن الشيخ علي يريد أن يرجع إلى العراق فإذا أراد رؤساء العشائر أن يلاقوه فلا يتوقعوا أنه سيقوم بملاقاتهم، وذلك يعني أنهم تطرَّقوا إلى الجزئيات البسيطة الراجعة للمحقِّق الكركي وما له من مقدّمات…

قمتُ في بحث ولاية الفقيه بالمقارنة بين هذا الأمر الملكي الصادر في حدود سنة تسعمئة ونيف وبين الرسالة التي كتبها الخواجه(7) مؤيّد الدين السبزواري رئيس حكومة سربداران للشهيد الأول،

يدعوه فيها أن اقدم من لبنان إلى خراسان؛ كي نشكل حكومة شيعية و… ولم تكن هناك أيّ إشارة لولاية الفقيه في رسالته، مع أن الأئمة”علیهم السلام” قد ذكروا أنه تناط الأمور بيد الفقهاء.

والمدة التي بين رسالة الملك طهماسب والطلب الذي تقدّم به الخواجه مؤيد الدين للشهيد الأول أن اقدم إلى سبزوار لإدارة الحكومة الشيعة مئتي عام.

ينقل في مرآة العقول ذيل حديث عمر بن حنظلة، والذي نستفيد منه التنصيب، ويقول: ما هو الهدف الذي يرنو إليه بعض الأفاضل من المعاصرين الذين لا أعرفهم؟ وقد جعل للتنصيب إشكالاً؛ حيث ينقل خمسة إشكالات على تنصيب ولاية الفقيه، أهمّ مما يشكله الكاتب المعاصر.

وأعتقد أنه يجب أن يجيب عنه بموقعٍ مناسب، في أصل ثبوت الفقه الولائي ، وفي حدوده، وفي كيفية انتخاب الوليّ الفقيه، وفي دائرة مهامه أيضاً، وبحوث أخرى.

على سبيل المثال: نرى السيد الخميني يذكر في كتابه البيع: «فإن وفِّق أحدهم لتشكيل الحكومة يجب على غيره الاتّباع» (8). هذا الأمر مهمّ جدّاً. وقد عرضنا حول «لا يجوز نقض حكمه» إذا كان مجتهداً، لماذا كتب «يجب اتّباعه» إنْ كان يراه باطلاً. فعندما يكون للولي الفقيه حكم بما أني بعنوان مجتهد أعلم أن هذا باطلٌ فكيف يسوغ لي اتباعه؟!

حسناً هذه المسائل حاضرة بيننا، ونعتقد أن جميع هذه البحوث يجب أن تجمع في مكانٍ واحد، بعنوان أصول الفقه الولائي .

حسب رأيك هذا الفقه الولائي ، الذي يجب أن يكون له أصول ولائية، من الناحية الهيكلية في أيٍّ من أقسام الأصول ورد؟ وعلى أيّ مسائل يشتمل؟

إن أصل الموضوع ووروده في الأصول في بحث الاجتهاد والتقليد. نضع في الاجتهاد والتقليد فصلاً بعنوان شروط المفتي، حيث نضع فصلاً بالأوصاف والشروط تحت تصرّف الفقيه، من حيث حجّية فتواه، الرجوع في الحكم والذي نخالفه نحن. في السابق كنا متوافقين معه، ولكنْ بعد ذلك رجعنا عن قولنا.

السيد الخوئي مخالف أيضاً. كان سابقاً موافقاً على هذا الرأي، وبعد ذلك رجع عن قوله السابق. فهو لا يقبل تنصيب القاضي. يعتبر القاضي عن طريق حكم العقلاء، لا أنه كما نصبه الأئمة”علیه السلام”.

طبعاً عيبه هو أنه يعتبر تنفيذ الولاية له، يعني أنه يقوم بتنفيذ الحدود. ولا يرى إقامة صلاة الجمعة مشروطة بالإمام المعصوم”علیهم السلام” أو المنصوب. والغرض من هذا أن فتاوى السيد الخوئي كانت لها حالة خاصة.

من البحوث الأخرى حول أصل ولاية الفقيه هي هل أن ولايته ثابتة أم لا؟ إذا لم تكن ثابتة فولاية عدول المؤمنين، ونحوها من ولاية العدول، كيف يكون لهم الولاية، تنفيذ هذه الولاية، العدد الذي تحتويه، مسألة الانتخاب، مسألة الإدلاء بالأصوات، مسألة الشورى، مسألة التنصيب والصلاحيات الراجعة لها، جميع هذه البحوث يجب أن تدرس هنا.

أنا مثلاً أميل أكثر ما يكون إلى أن الفقيه إذا يريد أن يعطي شخصاً وكالة في الخمس وسهم الإمام والزكاة وأمثالها بإمكانه ذلك، ولكنْ يعطيه وكالةً على الأنفال، في المدينة الفلانية أو القرية حيث يذهب، يقسِّم الغابات أو رؤوس الجبال.

بعض المسائل يجب على الفقيه أن يتصدّى لها، ومباشرته لها شرطٌ أساسي. غير أنّ هذا بالنسبة لي فيه إشكالٌ، أي إنّ المسائل المالية مهمة للغاية، ويعمل لها حساب كبير في عالم الاقتصاد. لنفترض أن جميع عيون النفط في إيران لها حساب خاصّ، وتعتبر أحد رؤوس الأموال الإيرانية. هنا الفقيه يجب أن يتصدّى لهذا الأمر بنفسه.

فالفقيه يجب أن نجعله مبسوط اليد. ولهذا أعتقد أن هذا جزءٌ من البحوث التي تدخل في مهام ولاية الفقيه، وكذلك مسائل الأموال الموجودة في أقسام المسائل المالية للدولة الإسلامية، والتي يجب أن يتصدّى له الولي الفقيه، وليس له الحق في أن ينقلها إلى الغير.

الهوامش 

(*) آية الله السيد أحمد المددي – أحد الفقهاء وأساتذة الدراسات العليا في الحوزة العلمية، في مدينة قم.
(1) المصدر نفسه.
(2) تصرّف من المترجم لصالح النصّ.
(3) الكافي 1: 67.
(4) الفقيه 2: 621، باب الحقوق؛ وسائل الشيعة 11: 59 ـ 157.
(5) شهداء الفضيلة: 202 ـ 204.
(6) المصدر السابق: 203.
(7) شهداء الفضيلة: 168 ـ 170.
(8) الإمام الخميني، كتاب البيع 2: 624.

 

المصدر: موقع سماحته على النت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky