الشهيد الصدر

المعالم الفكرية والعلمية لمدرسة الشهيد الصدر (قده) .. آية الله هاشمي الشاهرودي(ره)

الاجتهاد: لا يمكن لأحد إنكار ما لسيدنا الشهيد الصدر (قده) من دور في ترسيخ دعائم المد الاسلامي الظافر، وإسهام في إرساء قواعده على الصعيدين الفكري والعملي، في العالم الإسلامي أجمع، وفي العراق على وجه الخصوص، حتى توج حركة الإسلام ببذل دمه الزاكي، فكان بحق سيد شهداء عصره،أسوة بجده سيد الشهداء (ع). بقلم: آية الله هاشمي الشاهرودي(ره)

لذلك فاستيعاب أبعاد عظمة هذا العالم الرباني، لا يتيسر لأحد في مثل هذه الدراسة المقتضبة، ولكن ذلك لا يعفينا من التعرض لأبرز معالم مدرسته العلمية والفكرية، التي أنشأها، وخرّج على أساسها جيلاً من العلماء الرساليين والمثقفين الواعين، والعاملين في سبيل اللّه المخلصين.. رغم قصر حياته الشريفة التي ابتلاه الله فيها بما يبتلي به العظماء من الصديقين والشهداء والصالحين.

وفي ما يأتي اهم مميزات هذه المدرسة التي ستبقى رائدة وخالدة في تاريخ العلم والإيمان معاً..

1- الشمول والموسوعية: اشتملت مدرسة شهيدنا الراحل على معالجة كافة شعب المعرفة الإسلامية والإنسانية. فهي متعددة الأبعاد والجوانب، ولم تقتصر على الاختصاص بعلوم الشريعة الإسلامية من فقه وأصول فحسب، رغم أن هذا المجال كان هو المجال الرئيس والأوسع من إنجازاته وابتكاراته العلمية،

فاشتملت مدرسته على دراسات في الفقه، واصول الفقه، والمنطق، والفلسفة، والعقائد، وعلوم القرآن، والاقتصاد، والتاريخ، والقانون، والسياسة المالية والمصرفية، ومناهج التعليم والتربية الحوزوية، ومناهج العمل السياسي وأنظمة الحكم الإسلامي، وغير ذلك من حقول المعرفة الإنسانية والإسلامية المختلفة.

وقد جات هذه الشمولية نتيجة لما كان يتمتع به إمامنا الشهيد من ذهنية موسوعية عملاقة، يمكن اعتبارها فلتة يحظى بها تاريخ العلم والعلماء بين الحين والاخر، والتي تشكل كل واحدة منها على رأس كل عصر منعطفاً تأريخياً جديداً في توجيه حركة العلم والمعرفة وترشيدها.

فلقد كان، رحمه اللّه، آية في النبوغ العلمي، واتساع الافق، والعبقرية الفذة.

وقد ظهر نبوغه منذ طفولته، وبداية حياته، وتحصيله العلمي، كما شهد بذلك أساتذته وزملاؤه وتلاميذه، وكل من اتصل به بشكل مباشر، أو التقى به من خلال دراسة مصنفاته وبحوثه القيمة.

2- الدقة في البحث والتحليل، وشمولية المعالجة من النقاط ذات الأهمية الفائقة في اتصاف النظرية، أية نظرية، بالمتانة والصحة مدى ما تستوعبه من احتمالات متعددة، وما تعالجه من جهات شتى مرتبطة بموضوع البحث.

بالإضافة إلى التبويب المنطقي المتناسب مع الموضوع المعالج، وهذه الخصيصة هي الأساس الأول في انتظام الفكر والمعرفة في أي باب من الابواب، بحيث يؤدي فقدانها إلى أن تصبح النظرية مبتورة، ذات ثغرات ينفذ من خلالها النقد والتفنيد للنظرية.

وهذه الدقة في البحث العلمي، كانت من اهم ما ميز بحوث السيد الشهيد الصدر (قده) وظهرت بدرجة عالية في جميع ما كتبه، فلم يكن يتعرض لمسالة من المسائل العلمية، سيما في الأصول والفقه إلا ويذكر فيها من الصور والمحتملات ما يبهر العقول، وهذا ما نجده في حلقاته الأصولية وبحوثه الأخرى، ونذكر منها على سبيل المثال: مباحث القطع، فقد اشتملت هذه المباحث على نكات دقيقة وتخريجات جديدة لم يلتفت لها من قبل.

وقد ظهرت هذه السمة العلمية وهذه الخصيصة كذلك في أحاديثه الاعتيادية، فعندما كان يتناول أي موضوع، ومهما كان بسيطاً واعتيادياً، يصوغه صيغة علمية، ويخلع عليه نسجاً فنياً، ويطبعه بطابع منطقي مستوعب لجميع الاحتمالات والشقوق، حتى يخيّل لمن يستمع إليه أنه إمام تحليل لنظرية علمية تستمد الأصالة والقوة والمتانة من مسوغاتها وأدلتها المنطقية.

3- الإبداع والتجديد ترتكز حركة العلوم وتطور المعارف البشرية على ظاهرة التجديد والإبداع التي يقوم بها العلماء والمحققون في حقل من حقول المعرفة.

وقد كان سيدنا الشهيد الصدر (قده) يتمتع بقدرة فائقة على التجديد، ومحاولة تطوير ما كان يتناوله من العلوم والنظريات سواء على صعيد المعطيات أم على مستوى في الطريقة والاستنتاج.

وكان من ثمار هذه الخصيصة أنه استطاع أن يفتح آفاقاً للمعرفة الإسلامية لم تكن مطروقة قبله.
فكان هو رائدها الاول، وفاتح أبوابها، ومؤسس مناهجها، وواضع معالمها وخطوطها العريضة.
وهذا ما ظهر في بحوثه الاقتصادية، فقد عالج موضوعات ومباحث جديدة على الفقه الإسلامي، واستطاع أن يكتشف المذهب الاقتصادي الاسلامي.

كذلك الامر بالنسبة لأطروحاته المبتكرة حول البنك الإسلامي اللاربوي، ففي هذه البحوث كان سيدنا الشهيد (قده) مبدعاً لم يسبق، ومبتكراً لم ينطلق من بحوث أو دراسات منجزة من قبل في هذه المجالات.

كذلك الأمر بالنسبة لتطبيقاته للمنهج الموضوعي في التفسير والتاريخ، فقد استطاع سيدنا الشهيد (قده) ان يكتشف معالم هذا المنهج الذي يمكننا كما يقول (قده) : «من تحديد موقف نظري للقرآن الكريم، وبالتالي للرسالة الإسلامية من ذلك الموضوع من موضوعات الحياة أو الكون»، وهذا ما أكده واستطاع الوصول اليه في بحوثه حول «السنن التاريخية في القرآن» ووحدة ادوار ائمة اهل البيت في التاريخ، رغم اختلاف ازمنتهم وتنوع مجالات جهادهم.

كذلك الأمر بالنسبة لدراسته المتميزة حول «الاسس المنطقية للاستقراء»، فقد استطاع سيدنا الشهيد الصدر (قده) أن يعالج الثغرات التي كان يعاني منها المنطق الاستقرائي، وقدم تفسيراً جديداً مخالفاً لأرسطو وبرتراند راسل سماه بـ «المذهب الذاتي».

كما استطاع أن يثبت أن الأسس المنطقية التي تقوم عليها جميع الاستدلالات العلمية المستمدة من الملاحظة والتجربة، هي الأسس المنطقية نفسها التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدبر لهذا العالم، كما يقول سيدنا الشهيد (قده) الذي يؤكد في نهاية كتابه هذه الحقيقة قائلاً: «وعليه فإن هناك معادلة صارمة، فإما أن يقبل الانسان بالاستدلال العلمي ككل، فتدخل القضية الالهية في ضمنه، وإما أن يرفضه ككل، ولذا لا بد أن يكذب كل نتائج العلم بما فيها النتائج التي تعتبر صحيحة ومسلمة!؟ وبهذا يرتبط العلم والايمان برباط لا يمكن زحزحته بأي حال من الأحوال».

أما بالنسبة للتجديد، فجميع بحوثه ومؤلفاته لا تخلو أبداً من عناصر تجديدية، خصوصاً بحوثه في علمي الأصول والفقه، فقد أعاد ترتيب مباحث هذين العلمين، وقدَّم للحوزة العلمية مناهج جديدة في علم الأصول نذكر منها كتابه «معالم الأصول» الذي احتضن مقدمة علمية رائعة حول تاريخ علم الأصول ونشأته وتطوره،

أما بخصوص ترتيب أبواب هذا العلم، فقد أدخل تعديلات كثيرة بهدف تمكين الطلبة من استيعاب هذه المادة بشكل جيد ومتدرج، هذا الاستيعاب تظهر ثماره في بحث الخارج، وهناك أمثلة كثيرة عما أضافه السيد الشهيد في علم الأصول، كما ان بحوثه التفصيلية في علمي الأصول والفقه اشتملت على عدد كبير من الاضافات والتجديدات نذكر منها، في مجال الأصول، التجديد الذي أدخله على بحث التعادل والترجيح وما أضاف إليه من فصول بخلاف المنهاج المعهود والمتعارف في هذا البحث، وفي الفقه أخرج الزكاة والخمس من قسم العبادات عندما كتب «الفتاوى الواضحة».

لذلك ستبقى المدرسة الإسلامية مدينة لهذه الشخصية العملاقة في هذه الحقول. وخصوصاً في بحوث الاقتصاد الإسلامي والمنطق الاستقرائي والتاريخ السياسي لأئمة أهل البيت (ع)..

4- المنهج الموضوعي والنظرة الكلية ظهر ذلك بشكل واضح في بحوثه حول التفسير الموضوعي، وكذلك في مجال الاقتصاد، حيث عالج سيدنا الشهيد الصدر (قده) موضوعاته بشكل متكامل، وجمعها تحت عناوين جديدة، بينما كانت تعالج ضمن أبواب فقهية متفرقة مثل (ملكية الأرض، الربا، المزارعة، المضاربة).

كما دعا السيد الشهيد الصدر إلى تطبيق هذا المنهج في جميع حقول المعرفة ليس فقط في مجال الاقتصاد، وإنما في التفسير والتاريخ والسيرة الخ..

وقدم أنموذجاً رائعاً لتطبيق هذا المنهج الموضوعي في بحوثه حول تاريخ ائمة اهل البيت (ع)، وهذا الاتجاه الجديد في البحث كما يقول سيدنا الشهيد (قده): «يتناول حياة كل إمام ويدرس تاريخه على أساس النظرة الكلية بدلاً من النظرة التجزيئية، أي ينظر إلى الأئمة ككل مترابط، ويدرس هذا الكل وتكتشف ملامحه العامة، وأهدافه المشتركة، ومزاجه الاصيل، ويفهم الترابط بين خطواته، وبالتالي الدور الذي مارسه الأئمة جميعاً في الحياة الإسلامية».

وظهر هذا المنهج التوحيدي والموضوعي، كذلك، في التقسيم الذي ابتكره في رسالته الفقهية «الفتاوى الواضحة» ومحاضراته التي ألقاها على الطلبة في النجف الاشرف في التفسير الموضوعي للقرآن، وفيها اكد (قده) على اهمية الانطلاق من الواقع للوصول الى النص القرآني وفقهه، يقول سيدنا الشهيد بهذا الصدد: «التفسير يبدأ من الواقع وينتهي الى القرآن، لا ان يبدا من القرآن وينتهي بالقرآن، فتكون القراءة منعزلة عن الواقع، منفصلة عن تراث التجربة البشرية، بل هذه العملية تبدا من الواقع وتنتهي بالقرآن، بوصفه القيم والمصدر الذي يحدد على ضوئه الاتجاهات الربانية الى ذلك الواقع..».

أما أهداف تطبيق هذا المنهج فهي الوصول كما صرح به سيدنا الشهيد في «المدرسة القرآنية» «الى نظرية قرآنية عن النبوة، نظرية قرآنية عن المذهب الاقتصادي، نظرية قرآنية عن سنن التاريخ، وهكذا عن السماوات والارض…».

5- تنسيق البحث واختيار الطريقة المناسبة للاستدلال في كل موضوع ومن معالم فكر سيدنا الشهيد (قده)، منهجيته العلمية والفنية في معالجة كل ما كان يتناوله بالدرس والتنقيح.

ومن هنا نجد أن طرحه للبحوث الأصولية والفقهية يمتاز عن كافة ما جاء في دراسات المحققين السابقين عليه وبحوثهم، من حيث المنهجية والترتيب الفني للبحث.

فتراه يفرز الجهات والجوانب المتداخلة والمتشابكة في كلمات الاخرين، خصوصا في المسائل المعقدة، التي تعسر على الفهم، ويكثر فيها الالتباس والخلط، ويوضح الفكرة، وينظمها، ويحللها بشكل موضوعي وعلمي لا يجد الباحث المختص نظيره في بحوث الآخرين.

كما كان يميز بدقة طريقة الاستدلال في كل موضوع، وهل انها لا بد من ان تعتمد على البرهان او انها مسالة استقرائية ووجدانية؟ ولم يكن يقتصر على دعوى وجدانية المدعى المطلوب اثباته فحسب، بل كان يستعين في إثارة هذا الوجدان وإحيائه في نفس الباحثين من خلال منهج خاص للبحث، وهو منهج إقامة المنبهات الوجدانية عليه..

وهذه النقطة تظهر بوضوح في أبحاثه الاصولية، فمن ذلك، على سبيل المثال، ما ذكره «قدس سره» من «مبعدات بشان القول ببشرية وضع اللغة بنا على نظريات الاصوليين المشهورة في تحليل حقيقة الوضع، لا على نظريته هو» (انظر تقريراتنا لبحث السيد الشهيد في الأصل: «بحوث في علم الاصول»، (1/85).

6- الجمع بين المنهج المنطقي ومراعاة الوجدان الانساني من معالم فكر سيدنا الشهيد، نزعته المنطقية والبرهانية في التفكير ومعالجة القضايا العلمية، ومراعاة كون تلك المعطيات البرهانية تنسجم وتتطابق مع الوجدان وتحتوي على درجة كبيرة من قوة الاقناع وتحصيل الاطمئنان النفسي بالفكرة، فلم يكن يكتفي بسرد النظرية بلا دليل او مصادرة، بل كان يقدم الادلة والبراهين المقنعة على كل فرضية يحتاج اليها البحث، حتى لا تتعسر عليه صياغة أي برهان موضوعي كالبحوث اللغوية والعقلانية والعرفية.

وهذه السمة جعلت آراء هذه المدرسة ومعطياتها الفكرية ذات صبغة علمية ومنطقية فائقة، يتعذر توجيه نقد اليها بسهولة. كما جعلتها أبلغ في الاقناع والقدرة على افهام الاخرين وتفنيد النظريات والآراء الأخرى.

وجعلتها أيضاً قادرة على تربية فكر روادها وبنائه بناءً منطقياً وعلمياً، بعيداً عن مشاحة النزاعات اللفظية أو التشويش والخبط واختلاط الفهم الذي تسقط فيه الدراسات والبحوث العلمية والعقلية العالية في أكثر الأحيان..

وفي الوقت نفسه لم يكن هذا الفكر البرهاني المنطقي يتمادى في اعتماد الصياغات والاصطلاحات الشكلية، التي قد تتعثر على أساسها طريقة تفكير الباحث فيبتعد عن الواقع ويتبنى نظريات يرفضها الوجدان السليم. خصوصاً في البحوث ذات الملاك الوجداني والذاتي التي تحتاج إلى منهج خاص للاستدلال والإقناع.

فكنت تجده دوما ينتهي من البراهين الى النتائج الوجدانية، فلا يتعارض لديه البرهان مع مدركات الوجدان الذاتي السليم في مثل هذه المسائل، بل كان على العكس يصوغ البرهان لتعزيز مدركات الوجدان، وكان يدرك المسالة اولا بحسه الوجداني والذاتي، ثم يصوغ في سبيل دعمها علميا ما يمكن من البرهان والاستدلال المنطقي.

ومن هنا لا يشعر الباحث بثقل البراهين وتكلفها أو عدم تطابقها مع الذوق والحس الوجداني للمسالة، الامر الذي وقع فيه الكثير من الأصوليين والفقهاء المتأثرين بمناهج العلوم العقلية الأخرى..

من ذلك على سبيل المثال ما ذكره «قدس سره» في مناقشة مدرسة السكاكي في حقيقة المدلول المجازي، حيث أنكرت هذه المدرسة ان يكون المجاز استعمالاً للفظ في غير ما وضع له من المعنى بحسب القانون اللغوي، بل اعتبرته من باب الاستعمال في المعنى الحقيقي،

وإنما العناية والتجوز في تطبيق ذلك المعنى على غير واقعه في الخارج ادعاءً، فقد أكد السيد الشهيد ادلته البرهانية على بطلان هذه النظرية بالوجدان «القاضي بأن إسباغ صفات المعنى الحقيقي ادعاءً على شيء قد يؤدي عكس المقصود للمتجوز، فمن يريد أن يبالغ في جمال يوسف فيقول: إنه «بدر» ليس في ذهنه إطلاقا ادعاءً أن يوسف مستدير كالبدر، وإلا لفقد جماله كإنسان، لأن صفات البدر إنما تكون سبباً للجمال في البدر بالذات لا في شيء آخر.

وعلى هذا الاساس، فما ذكره السكاكي لا يصلح ان يكون تفسيراً عاماً للتجوز» (انظر تقريراتنا لبحث السيد الشهيد: «بحوث في علم الاصول»، 1/119).

وقد استطاع هذا الفكر العملاق، على اساس التوفيق بين خصيصته المنطقية والعلمية في الاستدلال، وبين مراعاة المنهجية الصحيحة المنسجمة مع كل علم، ان يتناول في كل حقل من حقول المعرفة المنهج العلمي المناسب مع طبيعة ذلك العلم من دون تأثر بالمناهج الغريبة عن ذلك العلم وطبيعته.

7- الجمع بين الذوق الفني والإحساس العقلائي الذوق حاسة ذاتية في الانسان يدرك على اساسها جمال الامور وتناسقها.

والذهنية العقلائية هي الاخرى يدرك بها الإنسان الطباع والاوضاع والمرتكزات التي ينشا عليها العرف والعقلاء، ويبني على أساس منها الكثير من النظريات والافكار في مجال البحوث المختلفة كالدراسات التشريعية والقانونية والأدبية.

وهي في الأعم الأغلب مجالات للبحث لا يمكن إخضاعها البراهين المنطقية او الرياضية او التجريبية، وإنما تحتاج الى حاسة الذوق الفني والذهنية العقلائية والحس العرفي الادبي.

ونحن نجد في مدرسة السيد الشهيد الصدر (قده) التمييز الكامل بين هذه المجالات وغيرها في العلوم والمعارف، ونجد انه كان يتناول المسائل في المجال الاول بالاعتماد على الذوق الموضوعي والإدراك العقلائي المستقيم حتى استطاع ان يضع المنهج المناسب في هذه المجالات وان يؤسس طرائق الاستدلال الذوقي والعقلائي، ويؤصل قواعدها ومرتكزاتها،

خصوصا في البحوث الفقهية التي تعتمد الاستظهارات العرفية أو المرتكزات العقلائية، فأبدع نهجاً فقهياً موضوعياً في مجال الاستظهار الفقهي خرجت على أساسه الاستظهارات من مجرد مدعيات ومصادرات ذاتية إلى مدعيات ونظريات يمكن تحصيل الإقناع والاقتناع فيها على أسس موضوعية..

وتحسن الاشارة الى انه قلما تجتمع النزعة البرهانية المنطقية في الاستدلال، مع الذوق الفني والحس العقلائي والذهنية العرفية في شخصية علمية واحدة.

فإننا نجد أنَّ العلماء الذين مارسوا المناهج العقلية والبرهانية من المعرفة وتفاعلوا مع تلك المناهج وطرائق البحث قد لا يحسون بدقائق النكات العرفية والذوقية والعقلائية، ولا يبنون معارفهم وأنظارهم إلا على أساس تلك المصطلحات البرهانية، التي اعتادوا عليها في ذلك البحث العقلي.

وكذلك العكس، فالباحثون في علوم الادب والقانون وما شاكل نجدهم لا يجيدون صناعة البرهنة والاستدلال المنطقي، ولكن نجد ان مدرسة سيدنا الشهيد قد امتازت بالجمع بين هاتين الخصيصتين اللتين قلما تجتمعان معا، وتمكنت من التوفيق الدقيق في ما بينهما، واستخدام كل منهما في مجاله المناسب والسليم من دون تخبط أو إقحام ما ليس منسجماً.

8- القيمة العلمية والحضارية لمدرسة السيد الشهيد الصدر لقد كان سيدنا الشهيد الصدر مدركاً لتحديات الحضارة المعاصرة، وكان من مميزات مدرسته أنها استطاعت التصدي لنسف أسس الحضارة المادية لإنسان العصر الحديث، بمنهج علمي نقدي، يرتكز على الموضوعية في عرضه لهذه الاسس المادية، ثم توجيه النقد الموضوعي لها، وكشف تهافتها وعدم قدرتها على علاج المشاكل التي يتخبط فيها الإنسان المعاصر، سواء في الغرب أم في العالم الاسلامي، وقد جاء انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك دوله وانظمته السياسية، ليؤكد صحة النقد الذي وجهه السيد الشهيد للأسس الفلسفية التي يرتكز عليها هذا المذهب.

أما بالنسبة للمعسكر الرأسمالي فإن المسيء والآلام التي اسفر عنها تطبيق فلسفته المادية وترويجها تزداد اتساعاً وانتشاراً، خصوصا داخل الدول الفقيرة والتابعة لهذا المعسكر.

في المقابل وبالمنهج العلمي والمنطقي نفسه استطاع أن يعيد الثقة بالإسلام وشريعته، عندما اكتشف نظرياته في عدد من الحقول المعرفية المهمة، مثل الاقتصاد والسياسة، ويبرز تفوقها وانسجامها مع الواقع والمجتمع الإسلامي، وقدرتها على انتشال المجتمعات الإسلامية من المشاكل التي تعاني منها، لقد استطاع السيد الشهيد أن يقدم الحضارة الإسلامية شامخة على أنقاض تلك الحضارة المنسوفة، وعلى أسس علمية قويمة.

وضمن بناء شامل ومتماسك ومتين استطاع سيدنا الشهيد من خلاله ان ينزل الى معترك الصراع الفكري الحضاري كأقوى وأمكن من خاض غمار هذا المعترك ووفق إلى تفنيد مزاعم ومتبنيات الحضارة المادية المعاصرة جميعها، واستطاع أن يخرج من ذلك ظافراً مظفراً وبانياً لصرح المدرسة العتيدة والمستمدة من منابع الإسلام الأصيلة والمتصلة بوحي السماء ولطف اللّه بالإنسان.

هذه نبذة مختصرة عن معالم مدرسة هذا المرجع والفيلسوف والعارف الرباني والمجاهد الشهيد التي اسسها واشادها لبنة لبنة بفكره، ونماها مرحلة مرحلة بجهوده العلمية المتواصلة، وهي تعبر بمجموعها عن البعد العلمي، الذي هو أحد أبعاد هذه الشخصية العظيمة الفريدة في تاريخنا المعاصر.

 

المصدر: مجلة المنهاج، العدد الرابع عشر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky