الاجتهاد: حين يفرض الحجر الصحي على الأفراد المصابين أو المشتبه بهم، فإن مقتضيات الأخلاقيات الناظمة لمسائل الصحة العامة تستلزم أن تكون جميع الإجراءات التي تحد من الحقوق والحريات مدعومة بالبيانات والأدلة العلمية، وأن يتم التعامل مع الجمهور بشفافية وأن توفر له كافة المعلومات، وأن يتم شرح كافة الإجراءات بشكل واضح للمحجور عليهم وللجمهور، وأن تخضع كافة الإجراءات للمراجعة المنتظمة ويعاد فيها النظر وفق المستجدات والتطورات.
وضع معهد سرقوسة الدولي للعدالة الجنائية وحقوق الإنسان ISISC ومقره إقليم سرقوسة في إيطاليا، ما يعرف بمبادئ سرقوسة وهي مبادئ غير ملزمة تبناها مجلس الأمم المتحدة الاقتصادي والاجتماعي عام 1984 وتضمنت ضوابط لضبط الحرية الفردية في حالات الطوارئ الصحية،
حيث قررت بأن القيود المفروضة على حقوق الإنسان في ظل ميثاق الحقوق المدنية والسياسية يجب أن تكون متوافقة مع القانون، وقائمة على ضرورة سائغة ثابتة بالدليل، وتفرض تدريجيا وبشكل متناسب وملائم، ومن الأسباب السائغة التي قد تستند إليها الدولة لتقييد حقوق الإنسان هي مقتضيات حماية الصحة العامة، وبالتالي فإن الحجر على الأفراد لدواع صحية يجب أن يكون ضروريا،
بما معناه أن يكون هدفه مشروعاً وهو الحد من انتشار المرض واحتواؤه وأن يلبي حاجة عامة ملحة وأن يكون الحجر في أضيق الحدود وبمقدار الضرورة وألا تشوبه شبهة التمييز والتفرقة بين الأفراد دون أسس موضوعية وأن ينحصر في نطاق الولاية القضائية jurisdiction التي تتمتع بها الدولة.
ضرورة التعامل بشفافية
حين يفرض الحجر الصحي على الأفراد المصابين أو المشتبه بهم، فإن مقتضيات الأخلاقيات الناظمة لمسائل الصحة العامة تستلزم أن تكون جميع الإجراءات التي تحد من الحقوق والحريات مدعومة بالبيانات والأدلة العلمية، وأن يتم التعامل مع الجمهور بشفافية وأن توفر له كافة المعلومات، وأن يتم شرح كافة الإجراءات بشكل واضح للمحجور عليهم وللجمهور، وأن تخضع كافة الإجراءات للمراجعة المنتظمة ويعاد فيها النظر وفق المستجدات والتطورات.
ضمانات لعدم إيذاء المصابين
من واجب الدولة الأخلاقي أن توافر بعض الضمانات للمحجور عليهم مثل ألا يتم إيذاء الأشخاص المصابين بالعدوى سواء كان إيذاء جسدياً أو معنوياً وألا يتم تهديدهم أو ابتزازهم أو الانتقاص منهم أو إهانتهم، وأن توفر للمحجور عليهم الحاجات الأساسية مثل الطعام والشراب والملابس والأدوية، وأن يسمح لهم في حدود الممكن بأن يتواصلوا – بما لا تنتقل معه العدوى – مع أهاليهم وأحبائهم، وألا يتم التمييز بين الأفراد فيما يتعلق بتطبيق إجراءات الحجر الصحي وتقييد الحريات، وأن يتم تعويض المحجور عليهم بشكل عادل عن خسائرهم الاقتصادية والمادية بما في ذلك رواتبهم أو معاشاتهم أثناء فترة الحجر.
الحجر الصحي في المعاهدات الدولية
عقدت العديد من الدول الأوربية منذ عام 1852 مؤتمرات متعددة بهدف مكافحة الأمراض السارية وضبطها، وكان أغلبها يتعلق بمرض الكوليرا، وكثير منها لم تخرج منه تلك الدول بنتيجة تذكر، إلا أنه قد أبرمت بعض المعاهدات الدولية في نهاية المطاف بهذا الشأن منها اتفاقية البندقية لعام 1892 والتي تتعلق بمرض الكوليرا في طريق قناة السويس، واتفاقية عام 1893 في شأن مرض الكوليرا في الدول الأوربية، واتفاقية باريس لعام 1894 في شأن مرض الكوليرا في طرق مرور الحجاج، واتفاقية البندقية لعام 1897 في شأن انتشار وباء الطاعون في الشرق والمؤتمر الذي عقد على مستوى دولي لتحديد الخطوات والإجراءات التي يتوجب اتخاذها للحيلولة دون انتشار الطاعون في أوروبا وانتقاله إليها، ثم تم توقيع معاهدة إضافية في باريس عام 1903.
وفي عام 1912 أبرمت اتفاقية صحية متعددة الأطراف في باريس، وكانت تتسم بالتفصيل والاستيعاب ووضعت كبديل عن كافة الاتفاقيات والمعاهدات السابقة لها، وقد وقعت عليها 40 دولة وتتكون الاتفاقية من 160 مادة، كما تبادل المصادقة عليها 16 دولة من الدول الموقعة في باريس عام 1920، ثم وقعت اتفاقية أخرى متعددة الأطراف في باريس عام 1926 كبديل عن اتفاقية عام 1912 ووقع عليها 58 دولة من مختلف دول العالم وتتكون من 172 مادة.
قسم من مقال بعنوان ” الأمراض السارية والحجر الصحي … بين القانون المحلي والاتفاقيات الدولية” لمحمد جاسم دشتي