الاجتهاد: هل عقد التأمين من العقود المستحدثة؟ وهل يحتاج إلى إمضاء الشارع المقدس؟ وهل عموم “أوفوا بالعقود ” يشمل العقود التي لا يعلم بها العقلاء؟ ما هو العوض في عقد التأمين؟ هل عقد التأمين معاملة ربوية أم لا؟ ما الدليل على عدم مشروعية التأمين عند أهل السنة؟ شبهة إلحاق العقد بالقمار و … أسئلة يجيب عنها سماحة آية الله الشيخ محمد جواد فاصل اللنكراني.
إن عقد التأمين هو من العقود المستحدثة في زماننا، ومقصودنا من العقود المستحدثة كل عقد حصل بعد الشريعة الاسلامية ومقصودنا من الشارع هو الله تعالى والرسول الاكرم “ص” والائمة المعصومين “ع” وبناء على هذا ان جميع العقود المتعارفة في زمن حضور الائمة المعصومين “عليهم السلام” من العقود المشمولة بالادلة، واما اذا لم تكن في عصر الشارع فهي عقود مستحدثة، والبعض يرجع عقد التأمين الى العصور السابقة ولكن الانصاف ان عقد التأمين بهذا الشكل هو من العقود المستحدثة التي حصلت في القرون الاخيرة.
بناء على هذا، تحت أي عنوان يكون هذا العقد المستحدث مشروعاً؟
يبدو أننا لا نستطيع أن نعتبر عقد التأمين أحد عقود في زمن الشارع، ونصححه باستخدام كاحد العناوين المتعارفة في الفقه مثل: الصلح، والهبة المشروطة، أو الهبة المعوضة، وما إلى ذلك. ولو بمقدار أن نطبقها على هذه الامثلة، ولكن في النهاية ان العقلاء لا يرون هذا صلحا ولا هبة، ومن الواضح انه لا بد أن تدخل هذه المعاملة تحت احد عناوين المعاملات.
على سبيل المثال حينما نقول لامر أنه بيع، فلا بد أن يعتبره العقلاء مصداقا للبيع، وحينما نقول للشيء هبة فلا بد أن يراه العقلاء هبة حقيقة، وبعبارة أخرى فلا يكفي مجرد التعريف للعقد من حيث الجنس والفصل به، اذا عرفناه بذلك الجنس والفصل اصبح عقدا معينا .
هناك مطلب يذكر المرحوم المحقق النائيني (اعلى الله مقامه) في بحث المعاملات وهو قريب مما نذكره وهو: ما هي الأمور التي يمكن أن تكون سبباً لتحقق البيع؟ فهل اخراج الخاتم من الجيب يدل على أني بعت أموالي، أو أن الشخص الاخر قد لبس الخاتم فهل هذا يدل على أنه اشتراه، وهل يدل هذا الفعل على التملك والتمليك؟ فهل يمكن أن يكون مجرد قصد التملك والتمليك يجعل المعاملة من مصاديق البيع؟ ولو أن سبب تحقق البيع ينحصر عقلا بالصيغة او بيع المعاطاة.
ويرى العقلاء في باب النكاح لا بد عقلا من الالتزام القلبي واللفظي في النكاح كي يتحقق النكاح، وبالرغم من أنّنا نقول من باب التعبد بالادلة، بأنه يعتبر في عقد النكاح اللفظ ولا نقول بجريان المعاطاة في عقد النكاح، ولكن لو دققنا قليلاً فان نفس العقلاء اذا لم يبرز الطرفين الرضا القلبي بالنكاح فان اللفظ لا يكفي في صحة النكاح.
ونظير هذا البحث يطرحه المرحوم النائيني في اسباب المعامالات يمكن طرحه في عقد التأمين ايضاً، اي يجب ان نرى ما الذي يراه العقلاء مصداقا للبيع وما هو الذي يكون مصداقا للصلح وما هو الشي الذي يكون مصداقا للهبة؟ ولا يكفي انطباق التعاريف او قصد الطرفين في اندراجه تحت هذه العقود. وحينما نرجع الى العقلاء فيرى العقلاء ان عقد التأمين بيعا او صلحا او هبة بل يرى انه عقد مستقل لا مصداقا من مصاديق العقود المتعارفة في زمن الشارع.
ألا ترون أن عقد التأمين مصداق أو مناط لعقد “ضامن الجريرة” في زمن الشارع؟
سأوضح في المسائل الاتية ان الضمان في عقد التأمين يختلف عن الضمان في ضامن الجريرة. نعم، ضمان الجريرة قريب جدا الا انه ليس من مصاديق عقد التأمين.
وبناء على هذا فلعلّكم تصححون عقد التأمين من خلال العمومات من قبيل (اوفوا بالعقود)؟
كلا، حينما نقول في باب المعاملات أن كل معاملة سواء كانت في زمن الشارع وكل معاملة حدثت بعد زمن الشارع يجب أن تدخل تحت العمومات مثل عموم (أوفوا بالعقود) أو (تجارة عن تراض) أو (أحل الله البيع)، وبعبارة اخرى من الناحية الفنية يجب أن نقول:
أن كل معاملة تحتاج الى الامضاء لان المعاملات أمور امضائية، فإما أن تثبت بامضاء عام أو دليل عام أو دليل خاص وهذا احد المباني.
المبنى الآخر وقد اخترناه في مباحث المعاملات وفي عدة مواضع من كتاب البيع وهو اننا نستفيد من الأدلة أن الشارع يقول عند امضائه للمعاملة: ان لم تكن المعاملة ربوية أو لم يكن فيها غرر او قمار او تعليق فهي صحيحة وليس من المهم ان تدخل ضمن عنوان من عناوين العقود، وعليه فإذا عقد اثنان بينهما عقداً ولم يدخل هذا العقد تحت أي عنوان من العناوين ولم يكن عند العقلاء هكذا عقد، فمادام ليس فيه ربا ولا غرراً وليس هو من مصاديق القمار، فهذا يكفي في صحة المعاملة.
وغرضی من ذكر هذا الأمر توسعة دائرة صحة المعاملات لاننا إن قلنا بأن العقود المستحدثة يجب ان تكون عقلائية اي بما ان عقد التأمين عقد عقلائي فيشمله عموم أوفوا بالعقود وعليه فيكون صحيحاً، الا اننا نريد ان نوسع من ذلك ونقول حتى لو لم يكن عقدا عقلائياً فهو قابل للتصحيح ايضاً، وذلك لاننا نستفيد من الادلّة أنه لو عقدت معاملة ما بين شخصين ولم تشتمل على الربا ولا الغرر ولا القمار فهذا يكفي لصحتها.
وعليه فالبحث إلى هنا كالتالي بالرغم انه لا ينطبق على عقد التأمين، الصلح المشروط او الهبة المعوضة، الا أنه بما أن العقلاء لا يرون ان هذا العقد من مصاديق الهبة أو الصلح فلا يمكن تصحيح عقد التأمين بأدلة الصلح والهبة.
إن المرحوم السيد وجماعة صححوا عقد التأمين من باب الصلح المشروط، إلا أن الاشكال فيه أن عقد التأمين لا يدخل تحت هذه العناوين.
فيجب أن يقال أن عقد التأمين من العقود المستحدثة العقلائية ونحن نرى ان السيرة المستحدثة التي لم ينه عنها الشارع حجة، وعليه فيكون هذا العقد معتبرا.
او هذا المطلب الثالث الذي نعتقد به، وهو أن نقول أننا بقطع النظر عن العقلاء، فلو فرضنا وجود هذا العقد فحتى لو لم يكن عند العقلاء هذا العقد. لأن حينما يقع عقد التأمين بين شخصين ثم بين عدة افراد لم تنعقد سرة حتى الان، لكنها تنعقد شيئاً فشيئا اذن فما هو وجه تصحيحها في ذلك الزمان؟
فطريق التصحيح هو ان يقال بالضابطة الفقهية وهي: إذا وقع عقد ولم يكن فيه شي ء من الربا ولا المجهولية ولا الغررية وليس فيه قمار فمثل هذا العقد قد امضاه الشارع، واما بالنسبة الى التعليق فبما أنه لدينا اجماع على انه يبطل المعاملة فوجود هذه العناوين يخل بالمعاملة واما اذا لم توجد هذه العناوين في المعاملة فهي صحيحة.
س: في الحقيقة تريدون أن تقولوا أن عموم أوفوا بالعقود يشمل العقود التي لا يعلم بها العقلاء؟
يجب أن يصدق العقد اولاً حتى يشمله عموم اوفوا بالعقود. ولكن الخلاف في أن هذا العموم هل يختص بالعقود التي كانت في زمن الشارع او انه يشمل العقود بعد زمن الشارع؟ غاية الامر ان العقود العقلائية يعني ما يعتبره العقلاء عقدا.
فلو بقينا نحن وعموم اوفوا بالعقود أو أحل الله البيع اي ما يعد عند العقلاء بيعاً، فسواء كانت هذه المعاملة في زمن الشارع او ظهرت بعد ذلك بين العقلاء، فان البيع عبر الانترنت يعد في زمننا بيعاً عند العقلاء فان عموم اوفوا بالعقود يشمل كلا الامرين، غاية الامر أننا هنا ايضا وسعنا في هذا الامر فاننا في مقام الاستدلال على مشروعية عقد التأمين لا نحتاج الى هذه العمومات فان عدم وجود الربا والغرر والقمار في المعاملة كاف في صحتها ولو لم تكن تلك المعاملة تعد عقدا عند العقلاء.
المقصود من العموم في السؤال السابق هو العموم اللغوي للعقود لا العموم الاصطلاحي عند العقلاء، ولذا اني اكرر السؤال مرة اخرى فهل أن مقصودكم بما ان العقد الواقع بين شخصين يصدق عليه العقد من حيث اللغة، اذن فالشارع يمضيه ويكون مشمولاً لعموم اوفوا بالعقود؟
كلا! إن العموم اللغوي يمكنه ان يشمل هذا العقد، لكن مع ذلك لا يصح هذا الكلام لانه عند كثير من العقلاء من المسلم ان المراد من العقد في اوفو بالعقود هو العقد الذي يراه العقلاء عقداً، وعليه فالمراد بالعقد هو العقد العقلائي او بحسب تعبير الشيخ الانصاري في كتاب المكاسب هو العقد العرفي، وعليه فمن المسلم ليس المراد من العقد هو العقد اللغوي، نعم إذا وجدنا شخصا يقول ان المراد من العقد هو العقد اللغوي فيصح ذلك، إلا انه حتى الان لم نجد شخصاً قال بان المراد هو العقد اللغوي.
إذن فما هو امضاء العقود غير العقلائية؟
وجه الامضاء هو عدم وجود الربا والغرر والقمار، وهذا الكلام يمكن بيانه بتقريبين:
التقريب الاول: ان هذه المعاملات لا تحتاج الى الامضاء اصلاً ولا تحتاج لشمول العمومات لها. لان المعاملات اليوم قد اصبحت باشكال جديدة واذا اراد الفقه ان يتوقف في ان هذه المعاملات لا تدخل تحت عنوان من العناوين المتعارفة فاننا سنواجه مشكلة في كثير من المعاملات لانه كلما تقدم الزمان تخرج معاملات جديدة.
على سبيل المثال المعاملات في البورصة او البيع الزماني فانها لا تدخل تحت عنوان البيع، ولا الاجارة ولا الصلح بل هي معاملة جديدة. اذن فمن وجهة نظرنا يستفاد من الادلة اننا لا نحتاج الى امضاء الشارع في تصحيح المعاملات، بل يكفي عدم وجود الربا والغرر والقمار في المعاملة.
والتقريب الثاني: ان يقال ان مبنى المشهور القريب من الاتفاق بين الفقهاء ان المعاملة تحتاج الى الامضاء ونفس عدم وجود الربا والغرر لازمه ان الشارع قد امضى ذلك، والنتيجة ان جميع هذه المعاملات التي لا تشتمل على تلك الامور مضاة من قبل الشارع.
نظراً الى لزوم المالية والمعلومية العوض في المعاملات، فما هو العوض في عقد التأمين من وجهة نظركم؟ البعض يرى أن العوض هو تعهد صاحب التأمين أو العوض هو رفع هاجس المقدم على التأمين فهل هذا الرأي صحيح؟
إن هذا الامر من جملة الامور التي ينبغي ان يجاب عليها في الشبهات، فمن جانب واضح ان صاحب التأمين يضع اموالا شهريا عندهم اما ما هو العوض الذي يكون مقابلا للتلك الاقساط ؟ هل التعهد في عقود الحوادث والحريق هو العوض والالتزام بالدفع فقط او ان العوض هو نفس الاموال التي يقدمها عند حدوث خسارة مالية خارجية؟
من وجهة نظرنا ان الالتزام والتعهد بمفرده لا يمكن ان يكون عوضا لان غرض صاحب التأمين لا يتحقق بمجرد هذا التعهد فاذا اعطى من يريد التأمين امولا فهل يكتفي من صاحب التأمين بمجرد التعهد؟ فاذا نحن نعتقد بان هذه المعاملات عقود امضائية او اعقلائية فيجب ان نرى ان العقلاء يدفعون تلك الاقساط في مقابل اي شئ وما هو العوض عندهم؟
وعليه فمن جملة طرق التعرف على تشخيص العوض والمعوض هو الغرض والطريق الامثل هم العقلاء انفسهم فنسألهم ما هو العوض عندهم في عقد التأمين؟ فهل ان نفس التعهد يعد عوضا او ان العوض هو دفع الخسارة المالية او جبرانها؟
ويبدو ان العوض هو نفس جبران الخسارة المالية بالرغم من المحتمل عدم حصول خسارة مالية اطلاقاً، نعم قد يكون العوض في بعض اقسام عقود التأمين قطعياً، من قبيل عقد تأمين العمر او التقاعد ولكن في كثير من عقود التأمين مثل عقود تامين الحوادث وعقود التأمين الطبية ليس الامر كذلك وما يقال من ان نفس الالتزام والتعهد فيه مالية وهو العوض فهذا غير صحيح لانه لا معنى لمالية التعهد.
نعم الذمة تعد امرا عقلائيا، ولكن لم يتعلق به غرض صاحب التأمين ولا العقلاء يرون ان الملاك هو الذمة والتعهد وانما الملاك هو الخسارة المالية.
هل ان العقد في هذه الحالة يبتلي بالتعليق؟
بالرغم من ان التعليق مبطل للعقد اجماعا الا اننا سنذكر ان عقد التأمين بجميع اقسامه خال من التعليق.
يتبع..
المصدر: موقع مكتب آية الله الفاضل اللنكراني على النت
عقد التأمين بين الرفض والقبول (2).. حوار مع الأستاذ الفاضل اللنكراني