الاجتهاد الجماعي

الاجتهاد الجماعي: معناه وأشكاله .. أ.د. أحمد الريسوني

الاجتهاد: مشروعية الاجتهاد الجماعي وأولويته، لم تكن موضع اختلاف في يوم من الأيام. وبالرغم من أن المتقدمين – أصوليين وفقهاء وغيرهم – لم يعالجوا هذه المسألة بشكل مستقل وباصطلاح خاص، كما نفعل نحن اليوم، فإن مؤلفاتهم زاخرة بأشكال ونماذج فعلية للاجتهاد الجماعي، وخاصة في العصر الأول الأمثل.

إذا كان مصطلح «الاجتهاد» معلوماً وبدهياً منذ العصر الإسلامي الأول، فإن صفة «الجماعي» ومعناها، هي أيضاً آخذة في الشيوع والتداول في هذا العصر.

وبغض النظر عن الاختلاف في الصيغ التعريفية المفضلة عند كل واحد، فلا أحد يخالف في أن «الاجتهاد الجماعي»: هو الذي ينبثق مضمونه ويصدر عن جماعة من العلماء، بعد التشاور والتحاور في المسألة المجتهد فيها. فدخول عنصري «الجماعة، والتحاور» في الجهد الاجتهادي، وفي الموافقة على نتيجته، هو الذي يعطي الاجتهاد صفة «الجماعي».

فلو اتفق عدد من العلماء على اجتهاد معين، دون تلاق ولا تحاور بينهم، فلا يكون اجتهادهم واتفاقهم اجتهاداً جماعياً. وكذلك إذا تلاقوا وتحاوروا في المسألة، لكنهم اختلفوا وعبّر كل منهم عن اجتهاده ووجهة نظره.

نعم إذا لم يتفقوا جميعاً، وصدر الاجتهاد – أو الفتوى – باسم فريق منهم، فإنه يكون اجتهاداً جماعياً، لا سيما إذا كان المتفقون هم الأكثرية.

الاجتهاد الجماعي: مشروعيته وأولويته:

مشروعية الاجتهاد الجماعي وأولويته، لم تكن موضع اختلاف في يوم من الأيام. وبالرغم من أن المتقدمين – أصوليين وفقهاء وغيرهم – لم يعالجوا هذه المسألة بشكل مستقل وباصطلاح خاص، كما نفعل نحن اليوم، فإن مؤلفاتهم زاخرة بأشكال ونماذج فعلية للاجتهاد الجماعي، وخاصة في العصر الأول الأمثل.

فمنذ العصر النبوي وعصر الصحابة، بدأ العمل بالاجتهاد الجماعي، بعد أشكال وفي عدة مجالات اجتهادية، ولعل العنوان الجامع لأشكال الاجتهاد الجماعي ومجالاته في هذه الحقبة هو: «الشورى»، وخاصة في المجالات الثلاث:

1 – الشورى في تدبير القضايا السياسية وغيرها من المشاكل والقضايا العامة.

2- الشورى في استنباط الأحكام الشرعية التي لا نص فيها.

3- الشورى في الأحكام القضائية.

وكل المشاورات التي كانت تتم في الصدر الأول، في هذه المجالات الثلاثة، كانت في الحقيقة عبارة عن اجتهادات جماعية. فكلها كانت بحثاً عن الأحكام الشرعية، وعن الحلول الشرعية. وكلها كانت بحثا عن دليل الشرع، وعن مقتضى الشرع. وهذا هو عين الاجتهاد. وبالنظر إلى وقوع هذه الاجتهادات بهيئة تشاركية تشاورية، فهي أيضاً عين «الاجتهاد الجماعي».

ولما كانت قضايا الصنف الأول وأمثلته مشهورة ومعروفة، لكونها تتعلق بأحداث عامة وتاريخية، فإني أقتصر على ذكر أمثلة من الصنفين الثاني والثالث.

– ففي مجال الاجتهاد الفقهي الصرف، نجد الاجتهاد الجماعي، أو الشورى الفقهية، مسلكاً معمولاً به منذ حياة رسول الله(ص)، كما نرى في هذه الوقائع.

روى ابن عبدالبر بسنده إلى علي بن أبي طالب “رضي الله عنه” قال: «قلت يا رسول الله: الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم تمض منك فيه سنة؟ قال: اجمعوا له العالمين – أو قال العابدين – من المؤمنين، اجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد».

وهذا التوجيه النبوي نحو اعتماد الاجتهاد الجماعي فيما لا نص فيه، وكذلك السؤال الوارد في الموضوع، ليسا خاصين بما بعد رسول الله(ص) بل بالصيغة عامة في السؤال كما في الجواب. بل إن النبي الكريم كان يٌشرك أصحابه معه وفي حضرته، في بعض المشاورات الفقهية، ويأخذ بآرائهم فيها.

نقل الحافظ ابن حجر قول الداودي «ومن زعم أنه – أي النبي(ص) كان يشاورهم في الأحكام، ثم رد عليه بقوله: «وفي هذا الإطلاق نظر، فقد أخرج الترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان، من حديث علي قال: «لما نزل (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول) الآية، قال لي النبي(ص) ما ترى؟ دينار؟ قلت: شعيرة. قال: إنك زهيد. فنزلت (أأشفقتم) الآية. قال: فَپي خفف الله عن هذه الأمة» قال الحافظ: ففي الحديث المشاورة في بعض الأحكام».

«وروى ابن سعد في (الطبقات) من حديث أبي هريرة أن النبي(ص) كان يخطب وهو مستند إلى جذع، فقال: إن القيام قد شق عليَّ: فقال له تميم الداري: ألا أعمل لك منبراً كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبي(ص) في ذلك، فرأوا أن يتخذوه…».

وإذا كانت المشاورات النبوية للصحابة في استنباط الأحكام قليلة أو نادرة، فيها، وإنما كان يستشير في ذلك ليسنَّ لمن بعده ولما بعده. فالاحتياج الحقيقي للشورى في هذا المجال، إنما هو بعد غياب رسول الله(ص) وانقطاع الوحي. قال ابن العربي: «فأما الصحابة – بعد استئثار الله به علينا – فكانوا يتشاورون في الأحكام، ويستنبطونها من الكتاب والسنة».

وممن ناقشوا هذه المسألة كذلك أبو بكر الجصاص الذي يرى أن الشورى تكون في كل ما ليس فيه نص، دنيوياً كان أو دينياً. فقد ذكر رأي من يرون أن الشورى التي أمر بها رسول الله(ص) إنما هي في أمور الدنيا خاصة. ثم قال: «وقال آخرون: كان مأموراً بمشاورتهم في أمور الدين والحوادث التي لا توقيف فيها عن الله تعالى، وفي أمور الدنيا أيضاً، مما طريقه الرأي وغالب الظن».

وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى، وكان ذلك من أمور الدين».

ثم انتصر لهذا الرأي فقال: «ولما لم يخصَّ الله تعالى أمر الدين من أمور الدنيا في أمره(ص) بالمشاورة، وجب أن يكون ذلك فيهما جميعاً…» .

وفي خلافة عمر(رض) ثار الاختلاف والنقاش بين الصحابة حول الجماع الذي تتحقق به الجنابة ويوجب الغسل منها، هل هو الذي يحصل فيه نزول المني، أو هو كل جماع التقى فيه الفرجان، ولو لم ينته إلى إنزال؟.. وقد وجد من الصحابة من يقول بهذا ومن يقول بهذا، ولكل سنده وفهمه من السنة النبوية، فكان لابد من التشاور والبحث والنظر فيما عند كل طرف، لأجل الوصول إلى وجه الصواب في المسألة.

وقد أورد ابن القيم خلاصة النقاشات والمشاورات التي دارت بين الصحابة في هذه المسألة، وما استقر عليه الأمر فيها، نقلا عن أپي بكر بن أبي شيبة، قال: «حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن حبيب عن معمر بن أبي حبيبة مولى بنت صفوان، عن عبيد بن رفاعة عن ابيه رفاعة بن رافع قال: بينما أنا عند عمر بن الخطاب(رض) إذ دخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين هذا زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة،

فقال عمر: عليَّ به، فجاء زيد، فلما رآه عمر فقاله: أي عدو نفسه قد بلغت أن تفتي الناس برأيك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما فعلت، وكنت سمعت من أعمامي حديثا فحدثت به: من أبي أيوب، ومن أبي بن كعب، ومن رفاعة بن رافع، فقال عمر: عليَّ برفاعة بن رافع، فقال: قد كنتم تفعلون ذلك، إذا أصاب أحدكم المرأة فأكسل. أن يغتسل؟ قال: قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله(ص) لم يأتنا فيه عن الله تحريم، ولم يكن فيه عن رسول الله(ص) شيء، فقال عمر: ورسول الله(ص) يعلم ذلك؟

قال: ما أدري، فأمر عمر بجمع المهاجرين والأنصار فجمعوا، فشاورهم فشار الناس أن لا غُسل، إلا ما كان من معاذ وعلي فإنهما قالا: إذا جاوز الْخِتَانُ الْخِتَانَ وجب الغسل، فقال عمر: هذا وأنتم أصحاب بدر قد اختلفتم، فمن بعدكم أشد اختلافاً، فقال علي: إنه ليس أحد أعلم بهذا من شأن رسول الله(ص)

من أزواجه. فأرسل إلى حفصة فقالت: لا علم لي، فأرسل إلى عائشة فقالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فقال: لا أسمع برجل فعل ذلك إلا أوجعته ضرباً.

وأما في المجال القضائي، فإن التشاور والتداول الجماعي قبل البت في النوازل، تكييفاً وحكماً، هي سنة الخلفاء الراشدين.

كان أبو بكر(رض) إذا ورد عليه خصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، فإن لم يجد في كتاب الله نظر أكانت من النبي سنة؟ فإن عملها قضى بها، فإن لم يجد خرج فسأل الناس.. وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به».

ونقل الدكتور محمد عبدالوهاب خلاف عن صاحب (أخبار القضاة) : «أن عثمان بن عفان، كان إذا جلس للقضاء، أحضر أربعة من الصحابة (ص) واستشارهم، فما أفتوه به أمضاه، وهم: علي، وطلحة بن عبيد الله، والزبير، وعبدالرحمن ، وقال للمتحاكمين: هؤلاء قضوا، لست أنا».

وهذا النهج الراشدي في القضاء، يمثل أصلاً أصيلاً لفكرة القضاء الجماعي. كما أنه سابق ومتفوق على نظام المستشارين المحلفين المعمول في الغرب. يقول الأستاذ علال الفاسي: «ويمتاز النظام القضائي الإسلامي في الأندلس والمغرب بالمشاورين، أو المفتين الذين يدعوهم «أي القاضي» لمساعدته على تلمس وجه الحق في المسائل المعروضة عليه. وهو أفضل من نظام المحلَّفين الذي ازدهر في القضاء الإنجليزي، ثم اقتبسته الأنظمة الأوروبية».

صيغ الاجتهاد الجماعي اليوم:

الاجتهاد الجماعي الذي يقع اليوم، يتخذ عدة أشكال وعدة مستويات، نحتاج أن نستحضرها حتى يظهر عن أي اجتهاد جماعي نتحدث.

وهذه أهم الأشكال المعمول بها اليوم:

1 – وجود هيئة قارة، تضم علماء مجتهدين محددين، من عموم الأقطار والمذاهب الإسلامية، تجتمع وتتدارس القضايا المعروضة على أنظارها، وتصدر فيها عن رأي اتفاقي أو أغلبي. والمثال هنا هو المجامع الفقهية العالمية غير المذهبية (مثل: المجمع الفقهي الإسلامي بمكة – مجمع الفقه الإسلامي بجدة – مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر – المجمع الفقهي لأمريكا الشمالية – المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث).

2- وجود هيئة مماثلة، لكنها تقتصر على علماء من قطر واحد، أو مذهب واحد. والأمثلة هنا هي المجامع الفقهية وهيئات الإفتاء القطرية، أو المذهبية. وقد أصبحت هذه الهيئات موجودة ومعمولاً بها لدى معظم الدول الإسلامية.

وكل من هاتين الصيغتين، قد تكون بمبادرة وإشراف، أو بدعم ومساندة، من الدول والحكومات، وقد تكون مبادرة يتنادى لها بعض العلماء من تلقاء أنفسهم.

3 – اجتماع عدد كثير من العلماء (عشرات مثلاً)، بصفة غير منتظمة، من قطر واحد أو من عدة أقطار، وقيامهم بتدارس قضية ما، وإصدار رأيهم الجماعي فيها. ومثل هذا يحصل في بعض الندوات والمؤتمرات العلمية. وهذه الصيغة غالباً ما تتولاها وتعمل بها المؤسسات العلمية والجامعية.

4- قيام أَد العلماء – أو عدد منهم – بإعداد فتوى، أو اجتهاد علمي ما، ثم عرضه على عدد من العلماء، يكثر أو يقل، وقيامهم بدراسته وتقديم آرائهم في شأنه، ثم صياغته على نحو يقبلونه ويوقون عليه بالموافقة. ومثل هذا يحصل اليوم مراراً، خاصة في بعض الأحداث والنوازل الطارئة، التي يُطلب فيها الموقف الشرعي للعلماء بصورة مستعجلة.

وإذا كانت بعض هذه الأشكال الجماعية للاجتهاد، قد تكون محلا لبعض التحفظ أو النقاش، في مدى استحقاقها لوصف «الاجتهاد الجماعي»، فإن الشكل الأول منها على الأقل، يمثل صورة لا غبار عليها للاجتهاد الجماعي المعمول به والمعول عليه في هذا

العصر. وتبقى الأشكال الأخرى داخلة في وصف الاجتهاد الجماعي وفي تعريفه، لكنها قد تكون بحاجة إلى التقييد ببعض الشروط أو بعض الحدود لدائرة لزومها أو صلاحيتها…

الاجتهاد الجماعي: الأثر المحدود والدور المنشود:

حظي الاجتهاد الجماعي في العقود الأخيرة باهتمام كبير ومتزايد. فقد أفرد بعدد من المؤلفات، وخصصت له أطروحات جامعية، وفصول ومباثح في عدد من المؤلفات المتعلقة بالاجتهاد والفتوى، أو بتاريخ الفقه الإسلامي وحاضره وتجديده.. وأما المقالات التي تناولت الموضوع في الصحف والمجلات، فأكثر من أن يتابع أو تُحصر. كما أن الموضوع تم تناوله في عدد من الندوات العلمية المتصلة بالموضوع. وخصصت له ندوة كاملة لمدة ثلاثة أيام، وهي «ندوة الاجتهاد الجماعي في العالم الإسلامي) التي نظمتها كلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات العربية المتحدة في شعبان 1417 (ديسمبر 1996) ، وقد صدرت أبحاثها ومناقشاتها في جزأين.

بموازاة مع هذا الاهتمام العلمي الدراسي، عرفت هذه الحقبة قدراً محلوظاً من النمو والانتشار للمؤسسات الفقهية التي تمارس أشكالاً من الاجتهاد الجماعي.

فهل كان لهذا كله من إضافة نوعية لو ظيفة الاجتهاد والإفتاء؟

أعتقد أن هذه الإضافة النوعية حاصلة، لكنها محدودة مقداراً وأثراً..

فأمّا أن الإضافة النوعية حاصلة، فيظهر ذلك في مجرد قيام هذا العدد من المؤسسات الفقهية الجماعية، وخاصة تلك تجمع العلماء من شتى الأقطار والمذاهب، بل من شتى القارات. كما يظهر في الثروة الكبيرة والنفيسة من الفتاوى والاجتهادات التي صدرت – بصفة جماعية – عن هذه المؤسسات. كما يظهر ذلك في درجة الرشد والتوازن التي تتميز بها عادة الاجتهادات الجماعية. بل إن الفقهاء المشاركين في هذه المجامع أنفسهم، يستفيدون مزيداً من الارتقاء والتعمق العلمي، بفضل ما يجري بينهم من الاحتكام والنقاش وتبادل الأبحاث.

إذا كان هذا حاصلاً وواضحاً، فمن الواضح أيضا محدودية الآثار التي أحدثتها مؤسسات الاجتهاد الجماعي في واقع المسلمين، وفي واقع الاجتهاد والإفتاء للمسلمين. ومما يؤكد ذلك – إن كان بحاجة إلى تأكيد – هذه الشكاوى المتزايدة من فوضى الإفتاء، ومن تضارب الفتاوى، ومن التطفل على الإفتاء. ولقد وصل الأمر إلى حد أن عداً من الدول تحاول اليوم التحكم في الفتوى بواسطة سلطة القانون والقضاء والعقوبات الزاجرة، رغم أن لها مؤسسات فقهية للاجتهاد والإفتاء!!

فأين تكمن المشكلة؟ وكيف يمكن تجاوزها أو تخفيفها؟ وكيف يمكن للاجتهاد الجماعي ومؤسساته تقديم الحل أو جزء من الحل؟

هناك – فيما يبدو لي – مشكلتان جامعتان لأسباب الضعف والقصور في الدور الذي تضطلع به المجامع الفقهية وهيئات الإفتاء الجماعي بصفة عامة. ومن خلال معالجتهما، يمكن الوصول إلى حالة أفضل للإفتاء الشرعي ولرسالته المنشودة اللائقة.

المشكلة الأولى: مشكلة المصداقية:

المشكلة الثانية: مشكلة الفعالية

أولا: المصداقية:

وأعني بها أن تكون مؤسسة الاجتهاد والفتوى ذات مكانة مقدرة ومحترمة، لدى جمهور المسلمين عامة، وفي الأوساط العلمية بصفة خاصة، وأن تكون محل ثقتهم وطمأنينتهم، فيما تقرره وتفتي من خلال أمرين لابد منهما معاً.

الأمر الأول يأتي – تلقائيا – من أعضاء الهيئة أنفسهم، فبقدر مصداقية كل واحد منهم، تتكون مصداقية الهيئة. فحينما يرى الناس أن الهيئة قد ضمت أكثر العلماء علما ونزاهة، فإنهم يضعون فيها ثقتهم وتقديرهم، ويصبحون متطلعين لما يصدر عنها، مستعدين للأخذ به وأمتثاله، وتقديمه على ماخالفه.

وعلى العكس، حينما يرون أعضاء الهيئة على غير الصفة المذكورة، وأن مَن هم خارج الهيئة أعلى وأولى ممن هم فيها، وحين يدركون أن الهيئة لم تتشكل على أسس علمية وموضوعية بريئة ونزيهة، وأن الاعتبارات السياسية، أو الحزبية والانتمائية، أو العلاقات والمحاباة، قد تدخلت في تشكيل الهيئة واختيار مَن اختير من أعضائها، واستبعاد مَن استُبعد منهم، فحينئذ يفقدون الثقة فيها، وينصرفون عنها إلى غيرها..

ولذلك لابد أن يكون العلماء هم مَن يختارون أعضاء المجامع والهيئات الإفتائية، أو على الأقل يختارون أكثرهم، ويصادقون على من تختارهم جهات غير علمية، كالحكومات والمنظمات. ومن بدهيات الاختيار: أن تكون المؤهلات والقدرات العلمية، والضمانات الخلقية، هي المعايير الأساسية والضرورية، المعتمدة فيه.

الأمر الثاني الذي يعطي المصداقية أو ينزعها، هو مدى الاستقلالية في العمل العلمي للمؤسسة الاجتهادية. هي هي حرة مستقلة؟ أم تابعة خاضعة، أو هي بين بين؟ وهل هي أقرب إلى الاستقلالية أم أقرب إلى التبعية؟

الاستقلالية هنا تعني أن الهيئة لا تخضع في تداولاتها وقراراتها، لأي توجيهات أو تعليمات أو ضغوط من خارجها، وتعني أنها لا تجتمع لإصدار فتوى أو موقف محدد سلفاً. نعم يمكن – بل ينبغي – أن تستمع إلهيئة إلى وجهة نظر الحكومات وكل الجهات المعنية أو ذات الصلة، ولكنها بعد ذلك تتداول بكامل الحرية، وتقرر بكامل الاستقلالية.

ومن صور الاستقلالية للمجامع والهيئات الفقهية، أن تكون لها الصلاحية والقدرة على أن تدرج للتداول والبت، أيَّ قضية تراها أو يطالب بإدراجها عدد من أعضائها، مما يهم الناس في دينهم ويحتاجون إلى حكم الشرع فيه. بمعنى ألا تكون هناك قضايا محظورة عليها، بدعوى أنها سياسية أو حساسة أو مثيرة للجدل..

إن تحاشي مثل هذه القضايا والامتناع عن مناقشتها والإفتاء فيها، قد يدل على أن الهيئة تخضع للإملاء والتوجيه والحجر، وهو ما يصيبها في استقلاليتها ومصداقيتها. كما أن هذه القضايا المتروكة سيؤول أمرها ويفوَّض الإفتاء فيها، إلى الأفراد على اختلاف مستوياتهم ومشاربهم، وتكون لهم فيها الكلمة الأولى والأخيرة. وهذا عين ما نشكو منه ومن آثاره وتداعياته…

وإذا كانت مصداقية المؤسسات الاجتهادية، هي لمصلحة هذه المؤسسات وما يصدر عنها، ولمصلحة جمهور الأمة، فإنها أيضا لمصلحة الدول والحكومات. ذلك أن مصداقية هذه المؤسسات الجماعية الراشدة، مع الفعالية الآتي ذكرها، هي أفضل ضمانة وأقوى دعامة للتدين المتزن والمتوازن، المعتدل البناء، ومما يدعو إلى الاستغراب أن نرى بعض الدول تبادر إلى تنصيب الهيئات العلمية والإفتائية، لكي تسد بها الفراغ، وتقدم بديلا لما يسود مجال الفتوى والتوجيه الديني، من تطرف وتضارب وعشوائية، ثم تتعامل معها ومع ما يصدر عنها، على نحو لا يبقي لها أي مصداية أو فاعلية أو وزن، فينتقل ذلك كله إلى غيرها!!

المشكلة الثانية: مشكلة الفعالية:

وأعني بها الاستثمار القوي والواسع للمؤسسة الفقهية، ولمصداقيتها، ولإنتاجها العلمي. فالدور المنوط بهذه المؤسسات، والآمال المعقودة عليها، لا يتحققان بمجرد وجودها وإصدارها بضع فتاوى كل سنة، تدوَّن في بعض الكتب والمجلات.. فالجامع والهيئات الإفتائية المفتقرة للفعالية، لا يكاد يختلف وجودها عن عدم وجودها. ولا يمكن التعويل عليها في شيء ذي بال.

وعنصر الفعالية، أراه أيضا يتحقق بأمرين لابد منهما معا.

الأمر الأول يتمثل في ضرورة الاستيعاب الواسع للقضايا والنوازل والإشكالات المستجدة والمثارة في حياة المسلمين. وسواء تعلق الأمر بالتدين الفردي، أو بالمعاملات الفردية، أو بالأوضاع والعلاقات الاجتماعية، أو بالقضايا السياسية والاقتصادية، أو بالسياسات والقوانين الدولية، فإن فعالية الاجتهاد الجماعي تحتم عليه النظرَ والإفتاء في كل هذه المجالات ونوازلها ومستجداتها، مع إعطاء الأولوية لأكثرها جدة وشيوعاً وتأثيراً بين المسلمين.

لا يمكن أن ننتظر من مؤسسات الإفتاء ترشيدَ الفتوى وضبطها ومَلء الفراغ، والحدَّ من التطفل والتطرف والتضارب، وهي لا تستطيع النظر والبت إلا في وقت متأخر، وفي نسبة ضئيلة مما يشغل الناس ويثير الحيرة والبلبلة في صفوفهم. وهذا يشمل الاحتياجات المتعلقة بعموم الشعوب والجاليات الإسلامية، كما يصدق على الاحتياجات القطرية والوطنية والمحلية.

إن مقدار الفتاوى الصادرة عن الهيئات الجماعية، وسرعة صدورها لتؤدي وظيفتها في الوقت المناسب قبل فوات الأوان، يحددان تلقائياً مقدار ما نستطيع التعويل عليه وانتظاره من هذه الهيئات. فلا ينبغي أن نطلب وننتظر من الاجتهاد الجماعي ما ليس في قدرته. وهذا يقود إلى مسألة أخرى، أكتفي الآن بالإشارة إليها، وهي مسألة الإمكانات البشرية والمالية المفرغة والمخصصة لهذه الهيئات… فنحن لا يمكن أن نحصد إلا على قدر ما نزرع.

الأمر الثاني: يتعلق بمدى الاستفادة الفعلية من الجهود ومن الإنتاجات التي تصدر عن مؤسساتنا الفقهية المنتشرة عبر العالم كله. فإذا كان الإنتاج الكمي هو نفسه ضئيل وبطيء، بالقياس إلى ما هو مطلوب، فإن تمكين هذا الإنتاج من التبليغ والتطبيق. هو أكثر ضآلة ومحدودية وضعفأز ولا أراني أبعد عن الحقيقة إذا قلت: إن المجامع الفقهية تنتج لنفسها وتخاطب أعضاءها، وفي بعض الأحيان يستفيد منها بعض القريبين منها، من المختصين ومن الباحثين.

قد يقال: إن هذا ليس من شأن الفقهاء والمجامع الفقهية، فهي ليست مسؤولة عن التبليغ والتنفيذ. وأقول نعم، هذا صحيح إذا كنا لا نريد سوى إنتاج الفتاوى وختمها وتوقيعها، ثم الانصراف إلى السنة المقبلة لإقرار فتاوى أخرى.

أما إذا كنا نتحدث عن رسالة المفتين والمجتهدين، وعن المسؤولية المنوطة بهيئات الاجتهاد الجماعي سعى إلى تحصين المجال الشرعي، وتحصين سلطة الإفتاء باسمه، وتحصين وظيفة الموقعين عن رب العالمين، فليس هناك من سبيل إلى فصل «صناعة الفتوى»، عن مصير هذه الفتوى، أي عن تسويقها وتطبيقها. لا يمكننا فصل «الاجتهاد العلمي» عن «الجهاد العلمي»، ولا عن «الجهاد الاعلامي».

ومعنى هذا ومقصوده أن إنتاج الاجتهادات والفتاوى، يجب أن يكون متبوعا بالعمل على تبليغها وبيانها والدعوة إلى تطبيقها. إن إنتاج فتوى جماعية واحدة، مع ترويجها والتعريف بها لدى ملايين المسلمين في العالم، خير من إنتاج ألف فتوى لا تغادر مكان ولادتها. إن الجهود والإمكانات المبذولة لإنتاج اجتهادات جماعية راشدة وذات مصداقية، لن تحقق مقصودها ولن تؤتي ثمارها، إلا بتخصيص إمكانات وجهود مماثلة لها، أو أكبر منها، لأجل التبليغ والترويج والبيان والتطبيق. ولا شك أن وسائل إعلام كثيرة، وجهات رسمية وشعبية عديدة، مستعدة للتعاون في هذا الاتجاه. ولكن المبادرة والمتابعة يجب أن تكون من المؤسسات الفقهية نفسها. وهو ما يقتضي وجود أقسام أو لجان دائمة للقيام بهذه الوظائف.

ومما يمكن السعي إليه لخدمة هذا الاتجاه، العمل على دمج الفتاوى الجماعية المعاصرة، في البرامج التعليمية لمدارسنا وجامعاتنا بمختلف مراحلها.

مراجع البحث:

* أحكام القرآن، لأبي بكر الجصاص – 1338 – دار الكتاب العربي – بيروت.

* إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية – د.ت – دار الجيل بيروت.

* تاريخ القضاء في الأندلس، لمحمد عبدالوهاب خلاف ط 1/1413 – 1992م – المؤسسة العربية الحديثة – القاهرة.

* الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي، لعبد المجيد السوسرة الشرفي، سلسلة كتاب الأمة، العدد 62، ذو القعدة 1418.

* الاجتهاد الجماعي ودور المجامع الفقهية في تطبيقه، لشعبان محمد اسماعيل ، ط 1 – 1418/ 1998- دار البشائر بيروت.

* الاجتهاد الجماعي في العالم الإسلامي (ندوة)، نشر جامعة الإمارات العربية المتحدة، كلية الشريعة والقانون.

* ضوابط الاجتهاد والفتوى، لأحمد علي طه ريان، ط 2 – 1418/ 1997، دار الوفا بالمنصورة.

* فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني – 1414هـ – 1992م – دار الفكر – بيروت.

* القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، لأبي بكر بن العربي – تحقيق محمد عبدالله ولد كريم، ط 1/1992 دار الغرب الإسلامي، بيروت.

* مدخل في النظرية العامة لدراسة الفقه الإسلامي ومقارنته بالفقه الأجنبي، لعلال الفاسي – 1985 – شركة مؤسسة علال الفاسي – الرباط.

* موسوعة فقه أبي بكر الصديق، لمحمد رواس قلعة جي ط 2/ 1415هـ – 1994م – دار النفائس – بيروت.

الهوامش:

 

المصدر: مجلة رسالة التقريب العدد 72

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky