محمود مروايد

خاص / المجالات المشتركة بين أصول الفقه والفلسفة التحليلية ..(1) ماهية الفلسفة التحليلية

خاص الاجتهاد: يستعرض التقرير التالي الذي نقدم لكم في ثلاثة أقسام، مضمون المحاضرة التي قدمها الدكتور محمود مرواريد عضو الهيئة التدريسية في معهد الفلسفة التحليلية في مؤسسة العلوم الأساسية، والتي جاءت تحت عنوان ” المجالات المشتركة بين أصول الفقه والفلسفة التحليلية “.

مرواريد ألقى محاضرته هذه في الورشة التعليمية البحثية الأولى “فلسفة علم الأصول” الخاصة بطلاب المستويين الثالث والرابع في الحوزة العلمية وأساتذتهما، وبطلاب الدراسات العليا في الجامعات، والتي أقيمت برعاية قسم الفقه ومباني الاجتهاد في مركز “الآخوند الخراساني التخصصي”، وقسم الفقه التطبيقي في معهد الإسلام الحضاري في مكتب التبلیغ الإسلامي- فرع محافظة خراسان الرضوية.

مقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم

البحث الذي أريد بيانه اليوم يتكوّن من خمسة أقسام:

القسم الأول: ماهية الفلسفة التحليلية وتعريفها، وما هي مقومات هذا المنهج المعروف باسم منهج التفلسف التحليلي، وماهي خصائصه؟

القسم الثاني: بيان أفرع الفلسفة التحليلية.

القسم الثالث: تاريخ الفلسفة التحليلية.

القسم الرابع: سأشير إلى ما تعرّضت له الفلسفة التحليلية في إيران أحيانا من حالات سوء فهم، وعدد من الموضوعات ذات الشأن بهذه الفلسفة.

القسم الخامس والأخير: سأتحدث بما يسمح به الوقت حول مجالات العمل التطبيقي والمقارن بين الفلسفة التحليلية ومجموع تراثنا الفكري؛ ولا سيما أصول الفقه؛ حيث سأستعرض خمسة أو ستة محاور للمجالات التي يمكن فيها القيام بعمل تطبيقي ومقارن بين الفلسفة التحليلية وبين علم أصول الفقه.

القسم الأول:

ما هي الفلسفة التحليلية؟

تاريخياً شاع القول أنّه ظهر في العالم الغربي في القرن العشرين مدرستان فلسفيتان بارزتان؛ تعود جذورهما إلى الماضي، أي أنّها كانت موجود بالفعل، لا أريد أن أقول أنّها ظهرت، إحداهما هي الموسومة بالفلسفة التحليلية، والثانية يطلق عليها اسم “الفلسفة القارية” (Continental philosophy)،

وقد راجت الأولى في الدول الناطقة بالإنجليزية؛ كـ : إنجلترا، والولايات المتحدة الأمريكية، وأستراليا، وبطبيعة الحال انتقلت تدريجياً إلى سائر أنحاء أوربا ومختلف أرجاء العالم، واليوم تغلغلت هذه الفلسفة في كثير من البلدان الأخرى ومنها ألمانيا، وفرنسا، – طبعا هذا الانتشار يُسمى تغلغلا من وجهة نظر الألمان؛ حتى أنّها أثارت دواعي قلق الفلاسفة الألمان التقليديين-، ولا يهمنا كثيراً الخوض في قضية هذا التوسع الجغرافي التاريخي، ولكن أصل النظرية هو المهم.

وهناك نقطة تاريخية أخرى وهي أنّه حيثما وجدنا كلاما مكتوبا حول تاريخ الفلسفة التحليلية نراهم يقولون: أسَّسَ هذه الفلسفة ثلاثة: فریجه، وراسل، وفيتغنشتاين، والأول كان ألمانياً، والثالث نمساويا، أما راسل فهو إنجليزي، وعليه تكون جذور هذه الفلسفة قارية بامتياز؛ أي أنها ترجع إلى القسم القاري من أوروبا، ولكنّ مظاهرها تجلّت في إنجلترا، وأمريكا.

مقومات الفلسفة التحليلية

هناك اختلافات واسعة في مسألة تحديد مقومات الفلسفة التحليلية، وسأحاول هنا استعراض هذه الاختلافات باختصار، النقطة المهمة هنا أنّ قوام الفلسفة التحليلية يكمن في أسلوبها، أي أنّ الفلسفة التحليلية ليست بمدرسة؛ فنحن نقول: الفلسفة المشائية تمثّل مدرسة في علم الفلسفة، وكذا الفلسفة الإشراقية، وهذا ينطبق على الحكمة المتعالية أيضاً،

ومولانا الإمام علي(ع) لديه مدرسة، وفي الحقيقة هذا لا ينطبق بتاتاً على الفلسفة التحليلية؛ حيث يكاد لا توجد مسألة فلسفية إلا واختلفت حولها الآراء والنظريات في داخل الفلسفة التحليلية إلى حد الاختلاف بين النقيضين،

وعليه يجب ألا نتصور أنّ الفلسفة التحليلية تعبر عن مدرسة في الحكمة، الأمر ليس كذلك البتة، وبناء عليه إذا ما سألنا ما هو رأي الفلاسفة التحليليين في المسألة الفلانية؟ فهو سؤال غير قويم؛ فالفلاسفة التحليليون عندهم مئات الآراء في تلك المسألة.

ولكن إن لم تمثل هذه الفلسفة مدرسةً فما هو سبب تصنيفنا لفئة من الفلاسفة على أنّهم فلاسفة تحليليون؟!

والجواب أنّ السبب في ذلك هو أسلوبهم ومنهجهم واستراتيجيتهم العامة في تناول القضايا الفلسفية؛ ولو أنّ هذا المنهج يؤدي إلى آراء ونظريات متعددة؛ فإذن قوام الفلسفة التحليلية في منهجها.

ولكن ما هو ذلك المنهج الذي تقوم عليه هذه الفلسفة؟ هذا الموضوع كان محلا لاختلاف الآراء، ولكن يمكن أن استعرضها بشكل تقريبي فيما يلي.

الأعزاء يعلمون أنّه يجب العمل بكثير من الحذر والدقة في أثناء وضع التقسيمات والتصنيفات العلمية؛ فهناك إبهامات ونقاط تداخل وتماس؛ وعليه سوف أتحدث في هذه المسألة معتمدا التقريب دون التحديد والقطع،

وقد تتبعت الخصائص التي يمكن نعت منهج الفلاسفة التحليليين بها؛ فوجدت منها أحد عشر، ولعل بيانها للإخوة يوجد في أذهانهم تصورا عاما عن الفلسفة التحليلية.

الخصيصة الأولى: الخصيصة الأولى لمنهج وأسلوب الفلاسفة التحليليين أنّهم عندما يتعرضون لمسألة فلسفية عامة فهم يحاولون قدر الإمكان أن يجزؤوها إلى قضايا أصغر وأكثر جزئية، ومن ثمّ يمعنون في دراسة هذه القضايا الجزئية وتحليلها.

الخصيصة الثانية: عندما تطرح كلمة ما في الفلسفة التحليلية يحاولون قدر الإمكان تحليل هذه الكلمة وبيان المقصود منها، وكذلك عندما يُعرض رأي فلسفي ما على شكل جملة أو قضية، يحاولون بيان هيكلية هذه الجملة وبناءها؛

فالفلاسفة التحليليون يعتقدون أنّه إذا ما تمّ تحديد وتبيين البنية المنطقية للمسائل الفلسفية الخلافية فإنّ كثيرا منها سيصبح أكثر وضوحا، وسيمكن حله بطريقة أبسط وأسهل.

الخصيصة الثالثة: عندما يقدمون برهاناً ما فهم يركزون كثيرا _بما يصل أحيانا إلى حد يشبه الوسواس_ على الفصل الدقيق بين التعاريف والفرضيات والاستدلالات، وتحديد هذه الأمور بدقة متناهية، ويجهدون لكيلا يحدث خلط بين هذه الجزئيات؛ حتى لا تحصل في البين مغالطة المصادرة على المطلوب،

ولذلك إذا ما راجعتم مقالات الفلاسفة التحليليين تجدونها مشحونة من أولها لآخرها بالترقيم، مثلا يكون فيها سبعون أو ثمانون رقما، حتى يُرجِع صاحب المقالة القارئ إلى هذه الأرقام حيثما اقتضت الحاجة؛ ليقول أنّ الرقم الفلاني هو فرضية، والرقم الآخر تعريف أو استدلال؛ حتى لا يحصل خلط فيما بينها، والهدف من كلّ ذلك التزام الدقة المتناهية في البرهان.

الخصيصة الرابعة: أنّهم كلما أرادوا الخوض في برهان ما، يجهدون في تفكيك مراحل البرهان عن بعضها الآخر بمنتهى الاتقان، وهنا أيضا يلجؤون إلى الترقيم في كثير من الأحيان، مثلا ترون أحيانا برهانا في مقالة فلسفية مؤلفا من عشرين خط، هم يقومون بتفكيك مراحل الاستدلال بدقة وإحكام، ويحددون كلّ خطوة ويبينون ماهيتها والأدلة التي تعاضدها وتلك التي تخالفها وتردها، لذلك ترون أنّهم ينحون في منهجهم منحى التحليل الدقيق والبحث العميق، وليصلون إلى هذا الأمر نجدهم يكثرون من استخدام قواعد علم المنطق.

الخصيصة الخامسة: الأسلوب التحليلي، استخدام المنطق.

نحن نعلم أنّ المنطق الجديد قد تكوّن في قلب الفلسفة التحليلية، أي أنّ مؤسس المنطق الجديد هو نفسه مؤسس الفلسفة التحليلية، وهو الفيلسوف الألماني فريجه، وكذلك تكونت في ثنايا الفلسفة التحليلية مناهج ومدراس في المنطق أكثر تطورا، نسميها اصطلاحا “غير تقليدية”،

فهم أرادوا إضفاء الصبغة المنطقية على أبحاثهم وبراهينهم عبر استخدامهم منطق الموجهات، والمنطق متعدد القيم، والمنطق الحدسي، وغيرها، وفي الحقيقة يمكن القول أنّ المنطق الجديد والفلسفة التحليلية قد تطورا معا وجنبا إلى جنب في القرن العشرين.

الخصيصة السادسة: يتجنب فلاسفة التحليل قدر الإمكان التعقيد والغموض في الكتابة؛ نعم عباراتهم فنية تخصصية، ولكن هذا يختلف تماماً عن التعقيد وعدم الوضوح في الكتابة، ويختلف عن الكتابة التي تشبه الأحاجي والألغاز؛ فمثلا لو قرأتم نصاً في علم الرياضيات فستجدونه بلا شك نصاً فنياً تخصصياً، ويحتاج فهمه إلى درك مصطلحات هذا العلم؛ ويلزم القارئ شهورا عدة من المطالعة لمجرد فهم تلك المصطلحات،

ولكن بعد التعرف عليها وفهمها سوف يمكن فهم ذلك النص الرياضي، ولن يكون معقداً وغامضاً بالنسبة للقارئ، ويحاول الفلاسفة التحليليون الحركة بهذا الاتجاه، ومن المعروف أنّ هدف الفلاسفة التحليليين هو تقريب الفلسفة قدر الإمكان من العلوم الدقيقة.

الخصيصة السابعة: التواضع الفلسفي والنظرة الجزئية التي يتصف بها فلاسفة التحليل.

وهي خصيصة هامة للغاية، ولكن ماذا نقصد بالتواضع الفلسفي؟ الجواب: أننا قلّما نرى فيلسوفا تحليليا يدعي تأسيسه لنظام فلسفي جامع قد فسّر فيه جميع مسائل المبدأ، والإنسان، والعالم، و… أي أننا لا نرى نظاماً مثل نظام هيجل الفلسفي، أو مثل نظام الملا صدرا، لا أريد أن أقول أنّ هذا الأمر غير موجود على الإطلاق في الفلسفة التحليلية، ولكن قلما نراه.

ولا نقول أنّ النظرة الجزئية هي فضيلة، فمن تعاريفها أنّنا قلّما نرى في الفلسفة التحليلية أنظمة تامة وجامعة، وأحد أسباب هذا الأمر أنّ الفيلسوف منهم، وبسبب الدقة والتفصيل في منهجه الفكري وفي نظرته إلى المسائل، لن يكفي عمره لتأسيس نظام متكامل؛ فيكتفي بالتخصص في فرع واحد من أفرع هذه الفلسفة، إلا إذا كان فيلسوفا متميزا وفريدا، يتمكن في آخر عمره من تكوين نظام منسجم من آرائه الفلسفية. وفي هذا التواضع الفلسفي تكمن فكرة مهمة سأشير إليها فيما يأتي من خصائص.

الخصيصة الثامنة: إيلاء فلاسفة التحليل مسألة الحدس أهمية كبيرة.

نواجه في نصوص الفلسفة التحليلية مصطلحا يتكرر بكثرة، وهو (intuition) أو الحدس، وقد ترجمت هذه الكلمة إلى الفارسية بكلمة (شهود)،

ولكن هذا الشهود ليس له أي علاقة بالشهود العرفاني المعروف، ربما من الأفضل أن يترجم بكلمة (ارتكاز)، وهو الارتكاز الذي نتحدث عنه في أصول الفقه وفي فلسفتنا،

والارتكازي شبيه بالبديهي، وهو الشيء الذي يدركه الإنسان بطبعه وفطرته الأولية، ويشبه مفهوما آخر وهو المشهورات أو العرفيات (Common Sense)، فصار لدينا هنا أربعة مصطلحات قريبة من بعضها البعض، وطبعا هناك تمايزات وفروق فيما بينها، لا يسعنا تفصيلها الآن.

وفلاسفة التحليل يولون أهمية فائقة للبديهيات أو المرتكزات أو الحدس، ويعملون على وضع نظرياتهم وآراءهم الفلسفية بناء عليها، وكل نظرية فلسفية تغطي مقدارا أكبر من هذه البديهيات والمرتكزات أو الحدسيات تكون أكثر قوة وترجيحاً.

وقد يسأل البعض: إنّ الأمر هو كذلك في الفلسفة الإسلامية؛ أي أن نظرياتها تُبنى على البديهيات؛ وهذا كلام صحيح؛ فمن هذه الجهة هناك تشابه كبير بين الفلسفتين الإسلامية والتحليلية، ولكن هناك فرق وتمايز أساس في نظرة كل من الفلسفتين للبديهيات.

فأحد أوجه الاختلاف فيما يخص مسألة البديهيات أنّه على الرغم من أنّ كلا الفريقين يعيرونها اهتماما ملحوظا؛ إلا أنّ الفلسفة الإسلامية تنظر عادة إلى البديهيات على أنّها لا تقبل الخطأ، أو على الأقل يكون صدقها مضمونا، وليس الأمر كذلك عند الفلاسفة التحليليين، الذين ينظرون إلى البديهيات على أنّها تقبل الخطأ؛ دون أن يمنع ذلك من اعتمادها أساساً للآراء الفلسفية؛ وهم يذهبون إلى الأخذ بالبديهيات معترفين بإمكان الخطأ فيها، إلا أنهم يقولون بالتمسك بها إلى أن يثبت عدم صحتها، وفي الاصطلاح يسمون البديهيات هنا مبررة أو مسوغة (Justification) وهو اصطلاح في علم المعرفة يقبل الصحة والصواب، ويمكن مع بعض الملاحظات أن نضع هذا التسويغ جانباً.

وبناء على ما سبق يمكن أن ألخّص كلامهم بشكل تقريبي كما يلي:

يقولون: نحن نثق بالظنيات في الفلسفة أيضا؛ فعلى سبيل المثال هناك مرتكزات ظنيّة وغير قطعية، ولكنها تكفي لأن يكون لدي في الفلسفة آراء في حدودها الدنيا، ويضيفون أنّه لو ادّعى أحدٌ ما أنّه من الضروري في الفلسفة الاعتماد فقط على اليقينيات والأمور التي لا تقبل الخطأ فهنا لن يكون لدينا فكر فلسفي حقيقي، لأنّه باستثناء قضية أو اثنتين ليس لدينا قضايا يقينية بالمعنى الدقيق للكلمة، وهذه القضايا اليقينية القليلة لا تكفي لإيجاد بناء فلسفي.

وهنا أودّ أن أشير إلى مسألةٍ تتعلق بموضوع التبرير وقابلية التبرير (التسويغ) للخطأ أو (Justification)، وسوف نلاحظ في المباحث الآتية أنّهم يفصلون في علم المعرفة بين المعرفة والتبرير؛

فللمعرفة شأن أعلى ومكانة أسمى، فالهدف هو أن نصل إلى العلم والمعرفة في مسألة ما؛ أحيانا لا يمكننا الوصول ولكن نصل إلى التبرير في الحد الأدنى؛ أي أننا نمتلك دليلا على صحة مدعانا، رغم أنّ هذا الدليل قد لا يكون بالمستوى الذي يؤهله ليعتبر معرفة، الفلاسفة التحليليون يقولون أنّ هذه الحدسيات وهذه المرتكزات تؤمن لك ذلك الدليل؛ ولو أنّه قد لا يصل إلى درجة المعرفة وأنّه قد يكون منافيا للصواب.

سؤال: إذا كان من المقرر أن ينتهي كلّ شيء بالبديهيات والمرتكزات فمن أين يمكننا أن تكتشف خطأ أو صواب هذه البديهيات والمرتكزات، فلاسفة التحليل يقولون أنّه لو علمتم بخطأ البديهيات والمرتكزات فضعوها جانبا، ولكن كيف نعلم بوجود هذا الخطأ من عدمه؟

الجواب أنّه لو علمتم معارضة هذا البديهي لمجموعة من البديهيات التي تكون أكثر قوة فعلينا أن نضع ذلك البديهي جانباـ فنسأل هنا ما هو المقصود بعبارة “أكثر قوة”؟ هذه مسألة مستقلة بحد ذاتها.

وعليه يمكن أن ألخّص منهج الفلاسفة التحليليين بالآتي: هم يقولون نحن نستخدم الفطريات والمرتكزات والبديهيات، ولكن يمكننا أن نضعها جانبا إذا اقتضى الأمر ذلك، وهذا يعبّر عن جانب من جوانب التواضع الفلسفي الذي يتصفون به، فالواحد منهم يقول: لو طرحتُ نظرية فلسفية ما، ودافعت عنها وتبنيتها؛ فهذا لا يعني أنني أجزم بصحة هذه النظرية؛ بل ربما تكون باطلة.

ونحن لا نرى مثل هذا الأمر في الفلسفة الإسلامية، ففيها اعتقاد بأنّ النظرية التي تُبنى بالشكل الصحيح تصبح قطعية الصحّة، ولا يمكن أن يدانيها الخلل؛ إلا إذا كان المُطالع لهذه النظرية لم يفهم المقصود منها.

الخصيصة التاسعة: تنوع أساليب الاستدلال في الفلسفة التحليلية.

بالنسبة للفلسفة التقليدية لدينا أسلوب رائج ومعتبر ومقبول في الاستدلال وهو أسلوب “القياس”، وفي الفلسفة التحليلية هناك أساليب أخرى تضاف إلى القياس؛ ومنها الاستدلالات الاحتمالية، أي أنّه يكون لديك مقدمات ولكنها لا تؤدي إلى النتيجة بصورة قياسية، غير أنها تزيد من احتمال صدق النتيجة، وهذا استدلال جيدا جدا ورائج،

فالاستدلال في هذه الفلسفة والنتيجة المتمخضة عنه يحتملان الخطأ، وهذا جانب آخر من التواضع الفلسفي عندهم؛ إذ يقولون: نحن لا ندعي الجزم بحتمية صدق النتائج، وكذا لا ندعي عدم إمكانية إبطالها.

أمّا الاستدلال الآخر الرائج لديهم _ وهو باعتقادي هام للغاية_ فهو ما يسمونه استدلال ” IBE “، وهو اختصار لعبارة (Inference to the best explanation) وترجمتها “الاستدلال لصالح أفضل تفسير” وهذا أسلوب استدلالي رائج جدا في الفلسفة التحليلية، وهو مأخوذ من العلوم التجريبية، وهو ليس نوعا من القياس،

ومعناه أننا نرى ظواهر كالخسوف والكسوف مثلا، وهي ظواهر سماوية، ونحن نجزم بصدق وقوعها وحصولها، وهناك نظريات كثيرة تفسر هذه الظواهر وتشرحها، وإذا وجدنا هنا فرضية تفسر وتشرح هذه الظواهر بشكل أفضل من غيرها من النظريات؛ فنقول نحن لدينا استدلال لصالح هذه الفرضية، وطالما لم تأت فرضية أخرى أفضل منها تبقى هذه الفرضية موثوقة عندنا،

وهذا نوع من الاستدلال غير القياسي، وهو يعتمد على أفضل الشروح والتفاسير لظاهرة ما، وهو بالتأكيد محتمل الخطأ وغير قطعي الجزم، فهذا ما أثبته العلم لنا في مرحلة ما كان علم الهيئة البطليموسي يشرح ويفسر هذه الظواهر، ثمّ حلت مكانه فيزياء نيوتن، ثم جاءت نظرية أينشتاين، ويحتمل أن تأتي في المستقبل نظريات أفضل في تفسير وبيان تلك الظواهر.

ويستخدم الفلاسفة التحليليون أسلوب الاستدلال هذا بكثرة؛ فهم يقولون هناك ظواهر ليست طبيعية بل هي فلسفية، ونحن علينا أن نقبل النظريات التي تفسر هذه الظواهر بالشكل الأفضل، وتلك النظريات تبقى صالحة طالما أنّه لم تأت نظرية أجود أو تفسير آخر أكثر إقناعا.

وفيما يتعلق بمعايير الفرضية أو النظرية الأفضل أو التفسير الأفضل هناك بحوث كثيرة وكلام كثير؛ ولكن سوف أعرض هنا لمعيارين أساسين:

الأول أن يكون شمول الفرضية أوسع، وصحة تفسيرها أفضل؛ أي أنها تقدم تفسيراً لعدد أكبر من الظواهر. والمعيار الثاني أن تكون أكثر بساطة من باقي الفرضيات، ولكن ما هو معنى هذه البساطة؟ هذه مسألة مستقلة بحد ذاتها.

لا حظنا إلى الآن كيف أنّ الفلاسفة التحليليين يصلون إلى النتائج الفلسفية بناء على ثلاث قواعد تنتهي إلى نظريات في المعرفة تحتمل الخطأ،

القاعدة الأولى هي أنّ البديهيات تحتمل الخطأ،

والثانية أنهم يلجؤون إلى الاستدلالات الاحتمالية؛ وهي ليست استدلالات قياسية،

والثالثة: أنهم يعتمدون مبدأ ” IBE ” أو (Inference to the best explanation)

وهو استدلال لا يعطينا نتيجة يقينية أيضا، وهي جميعا تشكل مكونات ومباني هذه الفلسفة. وإذا ما سنحت الفرصة سوف أشرحها بمزيد من التفصيل، فالكثير من الفلاسفة التحليليين يذهبون للقول بالبراهين المحتملة الخطأ وغير اليقينية. هذا كان كلاما بين قوسين، وسوف أعود إليه إن سنحت الفرصة.
إذن الخصيصة التاسعة التي استعرضتها كانت تنوع أساليب الاستدلال لدى الفلاسفة التحليليين.

الخصيصة العاشرة: الاهتمام بالعلوم التجريبية.

وقد حصل هذا الاهتمام من جهتين؛

الأولى: الاستخدام الوافر لمعطيات ومعلومات العلوم التجريبية في الفلسفة التحليلية حيثما أمكن ذلك، فمثلا تستخدم هذه المعطيات بكثرة في فلسفة الذهن، كما يستفيدون من علم النفس وعلم البيئة في أبحاث ما وراء الطبيعة؛

فعلى سبيل المثال أدّعى بعضهم أنّ نظرية أينشتاين النسبية تنسجم مع بعض النظريات الميتافيزيقية (نظريات ما بعد الطبيعة)، ولا تتوافق مع بعضها الآخر.

أمّا الجهة الثانية لارتباط هذه الفلسفة بالعلوم التجريبية فتتمثل في أنّ هذه العلوم تخضع للتأمل والبحث بكثرة وعمق في الفلسفة التحليلية، وليس الكلام هنا حول استعمال واستخدام معطيات العلوم التجريبية في نظريات هذه الفلسفة؛ بل المقصود هو أنّ نفس العلوم التجريبية بما هي علوم تصير محلا وموضوعا للتأمل الفلسفي، وفي الحقيقة هذا هو ما نسميه (فلسفة العلوم)؛

فمثلا تبحث فلسفة العلم حول مباني الموثوقية في العلوم التجريبية، ما هي المباني التي تمنح الاعتبار للتجربة، أو ما هو التفسير الفلسفي للمفاهيم المستخدمة في العلوم التجريبية كمفهوم العِليّة مثلا، إذن تولي الفلسفة التحليلية أهمية كبيرة للعلوم التجريبية من هاتين الناحيتين.

الخصيصة الحادية عشرة: اهتمام الفلسفة التحليلية بالرياضيات من الناحيتين السابقتين.

تستعمل المعطيات الرياضية في الفلسفة التحليلية، ولا سيما في أبحاث المنطق، كما أنّ علم الرياضيات يقع محلا للبحث والتأمل في هذه الفلسفة؛ فمثلا يبحثون في ماهية علم الرياضيات، وماهية المعرفة في علم الرياضيات.
إذا ما أردنا تلخيص الخصائص الأحد عشر السابقة يمكننا أن نوجزها جميعا في كلمات ثلاث: الدقة، التحليل، الاستدلال.

وهنا قد يسأل سائل: أولم تكن عناصر “الدقة، والتحليل، والاستدلال” موجودة عند قدماء الفلاسفة؟ ألم يكن ابن سينا وأرسطو وكانت يؤكدون على هذه الأمور في فلسفتهم، ويحرصون على البحث عنها وإحرازها؟

يجيب الفلاسفة التحليليون عن هذا السؤال بالإثبات، ويقولون: نعم هؤلاء جميعا اتبعوا نهجا مؤسَسَا على هذه العناصر، وبالتالي هم وغيرهم ممن اتبعوا هذا النهج يمكن عدّهم من الفلاسفة التحليليين، ولا يستنكفون عن اعتبار هؤلاء الفلاسفة مفكرين وحكماء على منهج الفلسفة التحليلية؛

نعم البعض بنظرهم لم يكن على هذا النهج ومنهم: هيجل، وهايدجر. ولكن الكثيرين كانوا على هذا النهج؛ _بل يمكن القول أنّ تصورنا التقليدي (نحن المسلمين) عن فلسفتنا مبني على هذا الأساس؛ أي أنّ الفلسفة هي علم يجب أن يُبنى على البرهان والاستدلال_

أمّا تمايزهم عمن سبقهم من الفلاسفة فيكمن في أنّ الفلاسفة التحليليين منحوا الدقة التحليلية حضورا واسعا في البرهان؛ أي أنّها اتسمت عندهم بعمق كبير، وأسسوا لأدوات ومناهج يصلون عبرها إلى هدفي التحليل والدقة في الاستدلال؛ حيث لا نرى مثل هذا العمق في الماضي؛ مع أنّ نفس الموضوعات كانت موجودة سابقا.

البعض يقول أنّ معنى الفلسفة أساسا هو الفلسفة التحليلية، فهدفها هو البرهان والاستدلال، والبعض يعتبرهما مترادفين، وهنا لم أتوقف كثيرا عند هذا الشعار الأيدلوجي، ولكن يمكن القول أنّ الكثير من قدماء الفلاسفة أو الفلاسفة الماضين هم في صف واحد مع الفلاسفة التحليليين.

 

يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky