الاجتهاد: قد وقفنا في هذه الأيام على مقال نشر في العدد الثاني من مجلة «الواضحة»، الصادرة عن دار الحديث الحسنية في المغرب المؤرخ في 1425هـ/2004م تحت عنوان: «أصول الفقه عند الشيعة الإمامية: تقديم وتقويم»، بقلم: الدكتور أحمد الريسوني، الأستاذ في جامعة محمد الخامس بالرباط.
وقد قرأت المقال ووجدت أن المواضيع التي تخضع للبحث والنقاش فيه عبارة عما يلي: 1. تأخر الشيعة في تدوين علم الأصول عن السنة. 2. أدلة الأحكام عند الشيعة الإمامية، ومنها: سنة الأئمة الاثني عشر والإجماع. 3. الإمامية ترفض الأخذ بالقياس، والاستصلاح، لأنها أدلة ظنية، وفي الوقت نفسه يعملون بالظنيات كالعمل بأخبار الآحاد. 4. الإمامية يقولون بحجية الدليل العقلي، بينما يرفضون القياس، وهو من بديهيات العقول وأولياتها. 5. الإمامية ترفض حجية المصلحة؟! ولكنهم يأخذونها بأسماء وأشكال متعددة.
لقد قمنا بزيارة المملكة المغربية في مستهل عام 1425هـ، وتعرفت على رجال الفكر والثقافة في تلك البلاد من خلال إلقاء المحاضرات في غير واحدة من جامعاتها، وحول مواضيع مختلفة من الفقه وأصوله، والعقائد والكلام، والتي كان لها دور خاص في تحقيق التفاهم والتعارف بين الطائفتين.
(و قد دوّنت خاطراتنا حول هذه الرحلة في كتاب سمّي «على ضفاف جبل طارق» و سيصدر قريبا إن شاء اللّه تعالى.)
ومما يجب ذكره أني قد ألقيت محاضرة حول تطور أصول الفقه عند الإمامية في جامعة القرويين في مدينة فاس بتاريخ 4 محرم الحرام 1425هـ، وذكرت فيها التطور الذي أحدثه علماء الإمامية في علم الأصول عبر القرون على نحو لا يرى نظيره في المدارس الأخرى، وذكرنا نماذج من تقدم الحركة الأصولية، وقد أعقبت هذه المحاضرة مناقشات واستفسارات أجبنا عنها حسب ما سمح لنا الوقت بذلك.
وفي اليوم الأخير من سفرنا والذي غاردنا فيه المملكة المغربية زرنا صباحا مؤسسة دار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا التي يديرها الدكتور أحمد الخمليشي، وقد استقبلنا بحفاوة وتكريم، وتعرفنا هناك على عدد من الأساتذة المحترمين من أصحاب الاختصاصات المتنوعة، وقد دار الحديث خلال هذه الزيارة في مواضيع عديدة لا يسمح المجال لذكرها هنا.
كل ذلك كان بفضل ربنا سبحانه وتعالى حيث التقينا بشخصيات علمية بارزة، ولمسنا منهم حب المعرفة والاطلاع على مذهب الشيعة الإمامية والتقريب بين المسلمين، والاهتمام بالتبادل الثقافي بين الجمهورية الإسلامية والمملكة المغربية.
وقد وقفنا في هذه الأيام على مقال نشر في العدد الثاني من مجلة «الواضحة»، الصادرة عن دار الحديث الحسنية في المغرب المؤرخ في 1425هـ/2004م تحت عنوان: «أصول الفقه عند الشيعة الإمامية: تقديم وتقويم»، بقلم: الدكتور أحمد الريسوني، الأستاذ في جامعة محمد الخامس بالرباط.
ومن حسن الحظ أنا قد التقينا بصاحب المقال مرتين:
الأولى: خلال إلقاء محاضرة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، والتي كان موضوعها: «الفقه الإسلامي وأدواره التاريخية».
الثانية: كانت خلال الحفل الذي أقيم في سفارة الجمهورية الإسلامية في المغرب لتكريم ضيفها.
ونشكر الله الذي هيأ لنا هذه اللقاءات الأخوية.
وقد قرأت المقال ووجدت أن المواضيع التي تخضع للبحث والنقاش فيه عبارة عما يلي:
1. تأخر الشيعة في تدوين علم الأصول عن السنة.
2. أدلة الأحكام عند الشيعة الإمامية، ومنها: سنة الأئمة الاثني عشر والإجماع.
3. الإمامية ترفض الأخذ بالقياس، والاستصلاح، لأنها أدلة ظنية، وفي الوقت نفسه يعملون بالظنيات كالعمل بأخبار الآحاد.
4. الإمامية يقولون بحجية الدليل العقلي، بينما يرفضون القياس، وهو من بديهيات العقول وأولياتها.
5. الإمامية ترفض حجية المصلحة؟! ولكنهم يأخذونها بأسماء وأشكال متعددة.
هذه هي المحاور التي يدور عليها مقال الدكتور الذي مارس النقد البناء، واستعرض وجهة نظره بعبارات مهذبة، ونحن نتناول تلك الأمور بالبحث والمناقشة ضمن فصول، خضوعا لما أفاده في مقدمة مقاله قائلا:
على أنني حين أضع هذا المقال في سياق التقريب والسعي نحو التفاهم، فإني لا أنفي حتمية النقاش الصريح والنقد الحر المتبادل، لأن التقريب المنشود لا يمكن أن يبنى على المجاملة أو المحاباة، ولكنه بحاجة إلى تحسين الظن، وتهذيب الخطاب، وتحمل النقد، بحثا عما فيه من حق لقبوله، لا بحثا –فقط- عما فيه من مداخل لنقضه وتسفيهه.
1 – التقدّم في التأسيس أو التدوين :
إن واقع العلم المنتشر قائم بأمرين:
1. إلقاء الأفكار التي تقدح في أذهان المؤسسين إلى تلاميذهم.
2. تدوين الأفكار من قبل المؤسسين أو تلاميذهم الذين اقتبسوا من أضوائهم واستلهموا تلك الأفكار.
وليس علم الأصول شاذا عن هذه القاعدة.
إذا كانت الغاية من علم الأصول هو تعليم الفقيه كيفية إقامة الدليل على الحكم الشرعي واستنطاق الأدلة الشرعية لاستنباط الحكم الشرعي في الحقول المختلفة، فإن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لا سيما الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) هم السابقون في هذا الميدان، فقد أملوا على أصحابهم قواعد كلية تتضمن قواعد أصولية تارة، وقواعد فقهية تارة أخرى، فربوا جيلا كبيرا من الفقهاء في مجال الاجتهاد والاستنباط حفلت معاجم الرجال والتراجم بأسمائهم وآثارهم.
فمن سبَر ما وصل إلينا من آثار الفقهاء في القرن الثاني والثالث ممن تربوا في أحضان أهل البيت (عليهم السلام) يقف على مدى رقيهم في سلم الاجتهاد، فمن باب المثال انظر إلى ما بقي إلى هذا الوقت من اجتهادات تلاميذ الإمامين الصادقين (عليهما السلام) ، نظير:
• زرارة بن أعين (ت150هـ) الذي يقول في حقه ابن النديم: «زرارة أكبر رجال الشيعة فقها وحديثا».
• محمد بن مسلم الثقفي (المتوفى عام 150هـ).
• يونس بن عبد الرحمن (المتوفى عام 208هـ).
• الفضل بن شاذان (المتوفى عام 260هـ)، مؤلف كتاب “الإيضاح” المطبوع.
إلى غيرهم من الفقهاء البارزين الذين تركوا تراثا فقهيا مستنبطا من قواعد أصولية وفقهية على نحو يبهر العقول، وقد ذكرنا شيئا من فتاواهم واجتهاداتهم في كتابنا: تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره (ج ١ ص ١٩٥- ٢٠٢)،
وقد كانت اجتهاداتهم واستنباطاتهم على ضوء قواعد تلقوها عن أئمتهم (عليهم السلام) واستضاءوا بنور علومهم.
وقد جاءت هذه القواعد مبثوثة في ضمن أحاديث موجودة في جوامعنا الحديثية.
وقد قام جماعة من المحدثين بفصل هذه الروايات وجمعها في مكان واحد، نذكر منهم:
1. العلامة المجلسي (1037-1110هـ) ضمن موسوعته الكبيرة “بحار الأنوار” في كتاب العقل العلم.(1)
2. الشيخ الحر العاملي (ت1104هـ) في كتاب أسماه “الفصول المهمة في أصول الأئمة”، وقد اشتمل على ستة وثمانين بابا أودع فيها الأحاديث التي تتضمن قواعد أصولية وفقهية مما يبتني عليها الاستنباط.
3. المحدث الخبير السيد عبد الله شبّر (ت1242هـ) في كتاب أسماه “الأصول الأصلية والقواعد الشرعية” يحتوى على مائة باب، وقد طبع الكتاب في ثلاثمائة وأربعين صفحة.
4. أخيرهم لا آخرهم العلامة الفقيه السيد محمد هاشم الخوانساري الأصفهاني (ت1318هـ) الذي خاض بحار الأحاديث وصرف برهة من عمره في جمع هذا النوع من الروايات المروية عن أهل البيت (عليهم السلام) -والتي تتضمن الأصول والقواعد التي يبتنى عليها الاستنباط- في كتاب سماه “أصول آل الرسول”، وأورد فيه خمسة آلاف حديث من هذا النوع، ولو أسقطنا المتكرر منها لكان في الباقي غنى وكفاية، وهذا يشهد على تقدم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في تأسيس الفكرة وهداية الأمة إلى تلك القواعد والأصول.
هذا وإن كثيرا من أئمة الفقه كانوا سباقين في التأسيس لا في التدوين. وإنما قام بالتدوين تلاميذ منهجهم، ومن المعلوم أن الفضل للمؤسس لا للمدون.
هذا الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت (80-150هـ) أحد أئمة المذاهب الأربعة، ومؤسس الفقه الحنفي قد أسس مدرسة فقهية توسعت على يد تلاميذه، وأخض بالذكر منهم تلميذه المعروف محمد بن الحسن الشيباني (131-189هـ)، وتلميذه الآخر القاضي أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري (113-182هـ)،وهذان الفقهيان اتصلا بأبي حنيفة وانقطعا إليه وتفقها على يديه، وبهما انتشر المذهب، والفضل للمؤسس لا للمدون.
وهذا هو أحمد بن محمد بن حنبل (164-241هـ) الحافظ الكبير حيث لم يصنف كتابا في الفقه يعد أصلا ومرجعا، وإنما جمع أصوله تلميذ تلميذه “الخلال” من الفتاوى المتشتتة الموجودة بين أيدي الناس، وجاء من جاء بعده فاستثمرها وبلورها حتى صارت مذهبا من المذاهب. يقول الشيخ أبو زهرة: «إن أحمد لم يصنف كتابا في الفقه يعد أصلا يؤخذ منه مذهبه ويعد مرجعه ولم يكتب إلا الحديث». (2)
ومع هذا فقد صقل تلاميذه مذهبه وألفوا موسوعة فقهية كبيرة، كـ”المغني” لابن قدامة..
وأما مسألة التدوين، فهي وإن كانت أمرا مهما قابلا للتقدير، لكن لا نخوض فيها، على الرغم من وجود تآليف في أصول الفقه للشيعة الإمامية يعود تاريخها إلى نهاية القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري.
ومن سبر تاريخ الحديث والفقه ودور الأئمة الاثني عشر وخاصة الباقر والصادق (عليهما السلام) في حفظ سنة النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) وتوعية الناس، يقف على أن حضور مجالسهم كان واسعا جدا، فكان يحضر فيها فئات مختلفة من طوائف المسلمين، وكانت خطاباتهم موجهة إلى عامة الحاضرين..
فإن الفوارق التي نشاهدها اليوم بين السنة والشيعة لم تكن في عصر الإمامين (عليهما السلام) على حد تصد غير شيعتهم عن الاختلاف إلى مجالسهم ومحاضراتهم، فقد كان يشهد حلقات دروسهم فريق من التابعين وتابعي التابعين، من غير فرق بين من يعتقد بإمامتهم وقيادتهم أو من يرى أنهم مراجع للعقائد والأحكام.
هذا هو التاريخ يحكي أن حلقة درس الإمام الصادق كانت تضم عددا كبيرا من رجال العلم، وها نحن نذكر فيما يلي أسماء البارزين منهم:
1- النعمان بن ثابث (ت150هـ) صاحب المذهب الفقهي المعروف، يقول محمود شكري الألوسي في كتابه “مختصر التحفة الاثني عشرية”: هذا أبو حنيفة (ض) وهو من بين أهل السنة كان يفتخر ويقول بأفصح لسان: «لولا السنتان لهلك النعمان”، يريد السنتين اللتين صحب فيهما –لأخذ العلم- الإمام جعفر الصادق.(عليه السلام)(3)
يقول أبو زهرة: «وأبو حنيفة كان يروي عن الصادق كثيرا، واقرأ كتاب الآثار لأبي يوسف، والآثار لمحمد بن الحسن الشيباني، فإنك واجد فيهما رواية عن جعفر بن محمد في مواضيع ليست قليلة».(4)
2 – مالك بن أنس (ت179هـ): وكانت له صلة تامة بالإمام الصادق (عليه السلام) ،وروى الحديث عنه، واشتهر قوله: ما رأت عين أفضل من جعفر بن محمد.
3 – سفيان الثوري (ت161هـ): من رؤساء المذاهب وحملة الحديث، وكان له اختصاص بالإمام الصادق، وقد روى عنه الحديث، كما روى كثيرا من آدابه وأخلاقه ومواعظه.
4 – سفيان بن عيينة (ت198هـ): وهو من رؤساء المذاهب البائدة.
5 – شعبة بن الحجاج (ت160هـ): خرج له أصحاب الصحاح والسنن.
6 – فضيل بن عياض (ت 187هـ): أحد أئمة الهدى والسنة، خرج له البخاري.
7 – حاتم بن إسماعيل (ت180هـ) خرج له البخاري ومسلم، أخذ عن الصادق (عليه السلام)، وأخذ عنه خلق كثير.
8 – حفص بن غياث (ت 194هـ) روى عن الصادق (عليه السلام) وروى عنه أحمد وغيره.
9 – ابراهيم بن محمد أبو إسحاق المدني (ت 191هـ): روى عن الصادق.
10 – عبد الملك بن جريج القرشي (ت 149هـ).
هذه عشرة كاملة، ومن أراد أن يقف على حملة علمه وتلامذة منهجه من السنة، فعليه بكتاب “الإمام الصادق والمذاهب الأربعة”(ج ١ ص ٤٠٠- ٤٢١.) لأسد حيدر.
هذه نبذة ممن استناروا بنور الصادق (عليه السلام) الوهاج، وانتهلوا من نميره العذب، وتلقوا عنه الفقه والحديث كما تلقاها عنه غيرهم من شيعته.
2- أدلة الأحكام عند الإمامية:
اتفقت الشيعة الإمامية على أن منابع الفقه ومصادره لا تتجاوز الأربعة، وهي:
الكتاب، السنة، الإجماع، العقل.
وما سواها إما ليست من مصادر التشريع، أو ترجع إليها.
هذا هو فقيه القرن السادس محمد بن ادريس الحلي (543-598هـ) يذكر الأدلة الأربعة في ديباجة كتابه “السرائر” ويحدد موضع كل منها، ويقول: فإن الحق لا يعدو أربع طرق: إما كتاب الله سبحانه، أو سنة رسوله المتواترة المتفق عليها(5)، أو الإجماع، أو دليل العقل؛ فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحققين الباحثين عن مأخذ الشريعة، التمسك بدليل العقل فيها، فإنها مبقاة عليه وموكولة إليه، فمن هذا الطريق يوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه، فيجب الاعتماد عليها والتمسك بها.(6)
تقسيم الأدلة إلى اجتهادية وأصول عملية:
تقسيم الأدلة إلى اجتهادية وأصول عملية من خصائص الفقه الشيعي، وأما الفرق بينهما فهو كالتالي:
وهو أنه لو كان الملاك في اعتبار شيء حجة على الحكم الشرعي هو كونه أمارة للواقع وطريقا إليه عند المعتبر فهو دليل اجتهادي كالأدلة الأربعة، فإن الملاك في حجيتها هو ما ذكرنا، فإن كلا من الكتاب والسنة حتى الخبر الواحد منها طريق إلى الواقع، وكاشف عنه إما كشفا تاما كما إذا أفاد القطع، أو كشفا غير تام كما في خبر العدل، وعلى كل تقدير، فالملاك لاعتباره حجة هو كاشفيته عن الواقع.
وأما إذا كان الملاك بيان الوظيفة ووضع حلول عملية للمكلفين عند قصور يد المجتهد عن الواقع فهو أصل عملي، فالملاك لاعتبار هذا القسم من الأدلة هو رفع التحير وإراءة الوظيفة عند اليأس عن العثور على دليل موصل للواقع، ولذلك أخذ في لسان حجيتهم الجهل بالواقع وعدم توفر طريق في متناوله،
وهذه الأصول العامة التي تجري في عامة أبواب الفقه لا تتجاوز الأربعة، وهي:
1. أصالة البراءة.
2. أصالة الاشتغال.
3. أصالة التخيير.
4. وأصالة الاستصحاب.
مجاري الأصول العملية:
ولكل منها مجرى خاص:
أما الأولى: صالة البراءة
فمجراها هو الشك في التكليف، فإذا كان المجتهد شاكا في أصل الوجوب أو الحرمة، وتفحص عن مظان الأدلة ولم يقف على دليل وحجة على الحكم الشرعي، فوظيفته الحكم بالبراءة عن التكليف،
كما إذا شك مثلا في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا، أو ما أشبه ذلك، والأصل له رصيد قطعي وهو:
أ – قول الرسول : رفع عن أمتي تسعة.. وما لا يعلمون.
ب – حكم العقل بقبح عقاب الحكيم دون بيان واصل.
وأما الثانية: أصالة الاشتغال
فمجراها فيما إذا علم بالحكم الشرعي، ولكن تردد الواجب أو الحرام بين أمرين، فيجب عليه الجمع بين الاحتمالين بالإتيان بهما عند تردد الواجب، والاجتناب عنهما عند تردد الحرام، مثلا، إذا علم بفوت صلاة مرددة بين المغرب والعشاء يجب عليه الجمع بينهما، أو إذا علم بنجاسة أحد الإناءين من غير تعيين يجب الاجتناب عن كليهما.
وأما الثالثة: أصالة التخيير
إذا دار حكم الشيء بين الوجوب والحرمة ولم يقف على دليل شرعي يوصله إلى الواقع، فالوظيفة العملية هي التخيير.
وأما الرابعة: أصالة الاستصحاب
وهو ما إذا ما علم بوجوب شيء أو بطهارته، لكن شك في بقاء الحكم أو بقاء الموضوع وتفحص ولم يقف على بقائه أو زواله، فالمرجع هو الأخذ بالحالة السابقة أخذا بقول الإمام الصادق (ع) : «لا يُنقض اليقين بالشك».
هذه هي الأصول العملية الأربعة التي استنبطها المجتهدون من الكتاب والسنة، وليس لها دور إلا عند فقد النص على الحكم الشرعي، ولكل مجرى خاص، وليس الملاك في اعتبارها كونها كاشفة عن الواقع، بل كونها مرجعا للوظيفة الفعلية.
تقسيم الأصول إلى أصل محرز وغير محرز:
إن الأصول العملية تنقسم إلى أصول محرزة وأصول غير محرزة: والمراد من الإحراز هو إحراز الواقع والكشف عنه، وذلك لأن بعض الأصول فيه جهة كشف عن الواقع كشفا ضعيفا، لكن العقلاء لا يعتبرون في معاملاتهم وسياساتهم كونه حجة لهذه الجهة، بل الملاك لاعتباره هو تسهيل الأمر في الحياة، ووضع حلول عملية في ظرف الجهل والشك، كما أن الشارع الذي أمضاه واعتبره حجة في الفقه لم يعتبره لهذه الغاية حتى يكون أمارة عقلانية كخبر الثقة.
ومثلوا لذلك بالأصول العملية الثلاثة:
1. الاستصحاب.
2. وقاعدة اليد.
3. قاعدة التجاوز.
فالأول منها أصل عام يجري في عامة أبواب الفقه، بخلاف الأخيرين فإنهما خاصان ببعض الأبواب. وما سوى ذلك أصل غير محرز كأصالة البراءة والاشتغال والتخيير.
هذه هي أدلة الأحكام عند الشيعة الإمامية، فهلم معي ندرس ما ذكره الأستاذ حول أدلة الأحكام عند الشيعة لنرى فيه مواقع الخطأ والالتباس على ضوء الدراسة الصحيحة لأصول الفقه عند الإمامية.
1 – مسلك الشيعة مسلك الغزالي :
يقول الأستاذ: جعلت الشيعة أدلة الأحكام المعتمدة أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل. ثم قال: ولا يخفى على الدارس أن هذا هو مسلك الإمام الغزالي في باب الأدلة(7).
يلاحظ عليه: لا نظن أن الأستاذ يتهم الشيعة بمتابعتهم الغزالي في حجية الكتاب والسنة، فإن المسلمين قاطبة يقولون بذلك، وإنما مظنة التهمة قولهم بحجية العقل.
فنقول: هناك فرق واضح بين المسلكين: الإمامي والغزالي، فإن الأول يعتمد على التحسين والتقبيح العقليين، والغزالي تبعا لإمام مذهبه يرفض ذلك ويقول: «إن لله عز وجل إيلام الخلائق وتعذيبهم من غير جرم سابق، لأنه متصرف في ملكه».(8)
والعقل الذي هو مصدر التشريع عند الإمامية أو كاشف عن التشريع الإلهي على الأصح هو العقل المعتمد على حكمين ينبعان من صميم العقل:
• التحسين والتقبيح العقليان.
• الملازمات العقلية.
وأين الغزالي ومنهاج أستاذه عن القول بهما ؟
وتضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت (ع) على حجية العقل قبل أن يولد الغزالي بقرون، قال الإمام الصادق (ع): «حجة الله على العباد: النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله: العقل».(9)
وقال الإمام موسى بن جعفر (ع) (ت 183هـ) مخاطبا هشام بن الحكم: «يا هشام، إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول».(10)
إن أئمة أهل البيت (ع) أعطوا للعقل أهمية كبيرة، فهذا الإمام الباقر (ع) يقول: «إن الله لما خلق العقل استنطقه إلى أن قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلا في من أحب، أما إني إياك آمر وإياك أنهى، وإياك أعاقب وإياك أثيب».(11)
فكان المترقب من الأستاذ المحترم أن لا يقضي في الموضوع إلا بعد الإحاطة بأصول الشيعة الإمامية.
2 – تقييم تعريفه للأدلة الاجتهادية والأصولية العملية:
قد تعرفت على ما هو الفرق بين الأدلة الاجتهادية والأصولية العملية، وعلى تقسيم الأصول إلى أصل محرز وغير محرز.
وللأستاذ كلام في هذا الصدد نأتي به:
أ- الأدلة الأربعة المعتمدة المشار إليها آنفا تسمى الأدلة المحرزة -الكتاب والسنة والعقل والإجماع- ويقابلها الأصول العملية باعتبارها تعطي حلولا عملية للمكلفين حين يتعذر عليها إحراز الحكم الشرعي من دليله.
يلاحظ عليه: أنه أصاب في التفريق بين الأدلة الأربعة والأصول العملية، إلا أن وصف الأدلة الأربعة بالأدلة المحرزة خلاف المصطلح، وإنما يوصف بها بعض الأصول، فمنها أصل محرز ومنها غير محرز كما تقدم في كلامنا، وإنما توصف الأدلة الأربعة بالأدلة الاجتهادية.
ب- ويدخل ضمن هذه الأصول العملية جملة قواعد: أهمها قاعدة الاحتياط، انطلاقا من أن الأصل هو شغل الذمة بالتكليف وأن لله في كل نازلة حكما يتعين الالتزام به، وقاعدة البراءة الأصلية، انطلاقا من أن الأصل براءة الذمة من التكليف، وقاعدة الاستصحاب التي تقضي بإبقاء ما كان على ما كان انطلاقا من أن اليقين لا يرتفع بالشك.(12)
يلاحظ عليه: أن قاعدة الاحتياط تنطلق من العلم القطعي بنفس التكليف في الواقعة بلا تردد فيه، والجهل بالموضوع كما إذا علم بفوت إحدى الصلاتين المغرب أو العشاء، فيجب عليه قضاؤهما، وما ذكره من المنطلق يعني أن “الأصل هو شغل الذمة بالتكليف” له لا صلة له بقاعدة الاحتياط، بل أساسه هو العلم بالتكليف والجهل في المتعلق.
والعجب أنه عندما يفسر قاعدة الاحتياط عند الإمامية، يقول: الأصل شغل الذمة بالتكليف.
وعندما يفسر قاعدة البراءة عندهم بقوله: «الأصل براءة الذمة من التكليف”، وهذا هو نفس التناقض، فلو كان الأصل هو الاشتغال فما معنى كون الأصل هو البراءة؟!
وهذا يكشف عن أن الأستاذ لم يكن ملما بأصول الفقه عند الإمامية حيث ارتكب في بيانها التناقض. كما أن ما ذكره “إن لله في كل نازلة حكما يتعين الالتزام به” وجعله منطلقا للاحتياط عجيب جدا، لأن العلم بأن لله في كل نازلة حكما لا يسبب الاحتياط، وإذ من المحتمل أن يكون حكم الله في المورد هو الإباحة أو الكراهة، أو الاستحباب.
3- هل سنة وراء سنة النبي ؟:
السنة هي المصدر الثاني للعقيدة والشريعة، سواء أكانت منقولة باللفظ والمعنى، أو كانت منقولة بالمعنى فقط، إذا كان الناقل ضابطا في النقل. وقد خص الله بها المسلمين دون سائر الأمم حيث إنهم اهتموا بنقل ما أثر عن النبي من قول وفعل وتقرير، وبذلك صارت السنة من مصادر التشريع الإسلامي.
وقد أكد أئمة أهل البيت (ع) على أن السنة الشريفة هي المصدر الرئيسي بعد الكتاب، وأن جميع ما يحتاج الناس إليه قد بينه سبحانه في الذكر الحكيم أو ورد في سنة نبيه .
قال الإمام الباقر (ع) : «إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله، وجعل لكل شيء حدا، وجعل عليه دليلا يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا».(13)
وقال الإمام الصادق عليه (ع): ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة”(14)
وروى سماعة عن الإمام أبي الحسن موسى الكاظم (ع) قال: «قلت له: أكل شيء في كتاب الله وسنة نبيه، أو تقولون فيه ؟ قال: بل كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه».(15)
روى أسامة قال: «كنت عند أبي عبد الله (ع) وعنده رجل من المغيرية(16) فسأله عن شيء من السنن فقال: «ما من شيء يحتاج إليه ولد آدم إلا وقد خرجت فيه سنة من الله ومن رسوله، ولولا ذلك ما احتج علينا بما احتج؟”؛ فقال المغيري: “وبم احتج؟” فقال أبو عبد الله (ع): قوله (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)(17)، فلو لم يكمل سنته وفرائضه وما يحتاج إليه الناس، ما احتج به».(18)
روى أبو حمزة عن أبي جعفر قال: قال رسول الله في خطبته في حجة الوداع: «أيها الناس اتقوا الله، ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد نهيتكم عنه وأمرتكم به»(19) .. إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة عن أئمة أهل البيت (ع) من التأكيد على السنة والركون إليها.
* أئمة أهل البيت (ع) حفظة سنن الرسول (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم):
كان النبي الأكرم يقوم بأمور ومهام لها صلة بالجوانب المعنوية بالإضافة إلى إدارة دفة الحكم، وهي:
1 – تبيين الأحكام الشرعية والإجابة عن الحوادث المستجدة التي لم يبين حكمها في الكتاب ولا في السنة الصادرة إلى يومها.
2 – تفسير القرآن الكريم وتبيين مجملاته وتقييد مطلقاته وتخصيص عموماته.
3 – الرد على الشبهات والتشكيكات التي يطلقها أعداء الإسلام من اليهود والنصارى بعد الهجرة.
ومن المعلوم أن من يقوم بهذه المسؤوليات سوف يورث فقده فراغا هائلا في نفس هذه المجالات، ومن الخطأ أن نتهم النبي -والعياذ بالله- أنه قد ارتحل من دون أن يفكر في ملء تلك الثغرات المعنوية الحاصلة برحيله..
فإذا رجعنا إلى أحاديث النبي نقف على أنه قد سد هذه الثغرات باستخلاف من جعلهم قرناء الكتاب وأعداله، وأناط هداية الأمة بالتمسك بهما، ونذكر نماذج من كلماته في هذا المجال:
1 – روى ابن الأثير الجزري في “جامع الأصول” عن جابر بن عبد الله قال: «رأيت رسول الله في حجة الوداع يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي».(20)
2 – وأخرج مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم قال: «قام رسول الله يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، وحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه.. ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي».(21)
3 – أخرج الترمذي في صحيحه عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: «رأيت رسول الله في حجة يوم عرفة على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي».(22)
4 – أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود الى السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض.(23)
وهذا الحديث المعروف بحديث الثقلين رواه عن النبي أكثر من ثلاثين صحابيا، ودونه ما يربو على ثلاثمائة عالم في كتبهم في مختلف العلوم والفنون، وفي جميع الأعصار والقرون، فهو حديث صحيح متواتر بين المسلمين، وقد عين النبي ببركة هذا الحديث من يسد هذه الثغرات ويكون المرجع العلمي بعد رحيله وليس هو إلا أهل بيته.
وبهذا يتبين أن العترة (ع) عبية علم الرسول، وخزنة سننه، وحفظة كلمه، تعلموها بعناية من الله تبارك وتعالى كما تعلم صاحب موسى بفضل من الله دون أن يدرس عند أحد، ولذلك تمنى موسى (ع) أن يعلمه مما علم، قال سبحانه حاكيا عن لسان نبيه موسى (ع) (قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا).(24)
وعلى ضوء ذلك فليس لأئمة أهل البيت (ع) سنة ولا تشريع، وما أثر عنهم من قول وفعل وتقرير فإنما يعتبر لكونهم حفظة سنن النبي ، فلا يصدرون ولا يحكمون إلا بسنته. فلو قيل: إن قول الإمام (ع) أو فعله أو تقريره سنة إنما يراد به أنهم تراجم سنة النبي وأقواله وأفعاله.
فما قاله العلامة الشيخ المظفر (قد) من أن المعصوم من آل البيت (ع) يجري قوله مجرى قول النبي من كونه حجة على العباد إنما يريد ذلك. وما أحسن قوله «يجري مجرى قول النبي »، فلو كان أئمة أهل البيت (ع) أصحاب سنن في عرض سنة النبي فلماذا قال: «ويجري قولهم مجرى قول النبي »؟!
هذه عقيدة الإمامية من أولهم إلى آخرهم، فالتشريع لله سبحانه فقط، والنبي الأكرم هو المبلغ عن الله سبحانه في ما شرعه، وأئمة أهل بيته خلفاء رسول الله وحفظة سننه وتراجم كلمه، والمبلغون عنه السنن حتى يجسدوا إكمال الدين في مجالي العقيدة والشريعة.
وحين قال سبحانه: (اليوم أكملت لكم دينكم)(25) فإنما هو لأجل نصب علي (ع) أول أئمة أهل البيت (ع) للخلافة لكي يقوم بنفس المسؤوليات التي كان النبي قائما بها طيلة أيام رسالته، ويملأ الثغرات التي أعقبتها رحلته ، غير أنه نبي يوحـى إليه و هذا وصي حافظ لسننه.
* سنة الصحابة في مقابل سنة النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم):
لقد تبين لنا أن الأستاذ قد عجب من وجود سنة لأهل البيت (ع) ،وقد فسرنا معنى ذلك عند الإمامية، وقلنا بأنه ليس للأئمة سوى سنة النبي ، ولكن ألفت نظره إلى أن أهل السنة قد قالوا بوجود سنن أخرى بعد سنة النبي ، واليك ما يشير إلى ذلك:
1- الحديث المعروف عندهم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجد».
يقول ابن قيم الجوزية في تفسير الحديث: «فقد قرن سنة خلفائه بسنته وأمر باتباعها كما أمر باتباع سنته،وهذا يتناوله ما أفتوا به وسنوه للأمة وإن لم يتقدم للنبي فيه شيء، وإلا كان ذلك سنة»(26). فالرواية تدل على أن للصحابة سنة كسنة النبي ، فعندهم سنة أبي بكر وسنة عمر وسنة عثمان وسنة علي.
2- روى السيوطي أن حاجب بن خليفة قال: «شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة، فقال في خطبته: على أن ما سن رسول الله وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه، وما سن سواهما فإنا نرجئه».(27)
أبعد هذه النصوص يصح للأستاذ أن يستغرب من وجود سنة لأئمة أهل البيت (ع) ، أعلام الهدي، ومصابيح الدجى، وقرناء الكتاب، وثاني الثقلين..
ولولا المخافة من تكدير مياه الصفاء لبسطنا القول في ذلك.
طرق علم الأئمة بالسنة:
قد أشرنا إلى أنه ليس لأئمة أهل البيت (ع) سنة خاصة، بل هم حفظة سنن النبي ، ولسائل أن يسأل: ما هي طرقهم إلى سنن النبي وأكثرهم لم يعاصروه ولم يسمعوا عنه مباشرة، ومن المعلوم أن النبي قد عاصره الإمام علي والإمامان الحسن والحسين (ع) فقط ؟
والإجابة عن هذا السؤال واضحة لمن عرف أحاديث الشيعة وأنس بجوامعهم، فإن لهم (ع) طرقا إلى سنن النبي نأتي ببعضها:
الأول: السماع عن رسول الله :
إن الأئمة (ع) يروون أحاديث رسول الله سماعا منه بلا واسطة أو بواسطة آبائهم، ولذلك ترى في كثير من الروايات أن الإمام الصادق (ع) يقول: “حدثني أبي عن زين العابدين عن أبيه الحسين بن علي عن علي أمير المؤمنين عن الرسول الأكرم”. وهذا النمط من الروايات كثير في أحاديثهم.
فأئمة أهل البيت (ع) رووا أحاديث كثيرة عن رسول الله عن هذا الطريق.
الثاني: كتاب علي (ع).
كان لعلي (ع) كتاب خاص بإملاء رسول الله ، وقد حفظته العترة الطاهرة (ع)، وصدرت عنه في مواضع كثيرة، ونقلت نصوصه في موضوعات مختلفة، وقد بث الحر العاملي في موسوعته الحديثية أحاديث ذلك الكتاب حسب الكتب الفقهية من الطهارة إلى الديات، ومن أراد فليرجع إلى تلك الموسوعة.
وإليك شذرات من أقوال الأئمة بشأن هذا الكتاب الذي كانوا يتوارثونه وينقلون عنه ويستدلون به:
قال الإمام الحسن المجتبى (ع): «إن العلم فينا، ونحن أهله، وهو عندنا مجموع كله بحذافيره، ومنه لا يحدث شيء إلى يوم القيامة، حتى أرش الخدش، إلا وهو عندنا مكتوب، بإملاء رسول الله وخط علي بيده».(28)
وقال أبو جعفر الباقر (ع) لأحد أصحابه -أعني حُمران بن أعين- وهو يشير إلى بيت كبير: «يا حمران، إن في هذا البيت صحيفة، طولها سبعون ذراعا، بخط علي (ع) وإملاء رسول الله ، ولو ولينا الناس لحكمنا بما أنزل الله، لم نعدُ ما في هذه الصحيفة».
وقال (ع) أيضا لبعض أصحابه: «يا جابر، إنا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله ».
وقال الإمام الصادق (ع) عندما سئل عن الجامعة: «فيها كل ما يحتاج إليه الناس، وليس من قضية إلا فيها حتى أرش الخدش».
وقال الإمام الصادق (ع) في تعريف كتاب علي: «فهو كتاب كوله سبعون ذراعا إملاء رسول الله من فلق فيه، وخط علي بن أبي طالب (ع) بيده، فيه والله جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة، حتى فيه أرش الخدش، والجلدة، ونصف الجلدة».(29)
ويقول سلمان بن خالد: «سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: “إن عندنا صحيفة طولها سبعون ذراعا، إملاء من رسول الله ، وخط علي (ع) بيده، ما من حلال ولا حرام إلا وهو فيها، حتى أرش الخدش».
وقد كان علي (ع) أعلم الناس بسنة الرسول ، وكيف لا يكون كذلك وهو القائل: «كنت إذا سألت رسول الله أعطاني، وإذا سكت ابتدأني».(30 )
الثالث: أنهم محدثون.
لأجل إيقاف القارئ على المحدث في الإسلام ومفهومه نذكر شيئا في توضيحه.
المحدث من تكلمه الملائكة بلا نبوة ورؤية صورة، أو يلهم له ويلقي في روعه شيء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى، أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره.
فالمحدث بهذا المعنى مما أصفقت الأمة الإسلامية عليه، بيد أن الخلاف في مصاديقه، فالسنة ترى أن عمر بن الخطاب من المحدثين، والشيعة ترى عليا وأولاده الأئمة منهم.
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال النبي : «لقد كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم فعمر”(31).
وقد أفاض شراح صحيح البخاري في الكلام حول المحدث.(32)
وللمحدثين من أهل السنة كلمات حول المحدث نأتي بملخصها:
يقول القسطلاني حول الحديث: يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوة.(33)
وأخرج مسلم في صحيحه باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي : «قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم».
وقال النووي في شرح مسلم: «اختلف تفسير العلماء في المراد بـ”محدثون”، فقال ابن وهب: ملهمون، وقيل: يصيبون إذا ظنوا كأنهم حُدِّثوا بشيء فظنوه، وقيل: تكلمهم الملائكة، وجاء في رواية مُكَلمون».(34)
وقال الحافظ محب الدين الطبرسي في “الرياض”: «ومعنى “محدثون” -والله أعلم- أن يلهموا الصواب، ويجوز أن يحمل على ظاهره، وتحدثهم الملائكة لا لوحي، وإنما بما يطلق عليه اسم حديث، وتلك فضيلة عظيمة».(35)
وحصيلة الكلام أنه لا وازع من أن يخص سبحانه بعض عباده بعلوم خاصة يرجع نفعها إلى العامة من دون أن يكونوا أنبياء أو معدودين من الرسل، والله سبحانه يصف مصاحب موسى بقوله (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما)، ولم يكن المصاحب نبيا، بل كان وليا من أولياء الله سبحانه وتعالى، بلغ من العلم والمعرفة مكانة دعت موسى وهو نبي مبعوث بشريعة إلى القول (هل اتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا).(36)
ويصف سبحانه وتعالى جليس سليمان –آصف بن برخيا- بقوله (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي).(37)
وهذا الجليس لم يكن نبيا، ولكن عنده علم من الكتاب، وهو لم يحصله من الطرق العادية التي يتدرج عليها الصبيان والشبان في المدارس والجامعات، بل كان علما إلهيا أفيض عليه لصفاء قلبه وروحه، ولأجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربه ويقول: (هذا من فضل ربي).(38)
والإمام علي والأئمة من بعده الذين أنيطت بهم الهداية في حديث الثقلين ليسوا بأقل من صاحب موسى (ع) أو جليس سليمان، فأي وازع من أن يقفوا على سنن النبي عن طريق الإشراقات الإلهية.
الرابع: الاستنباط من الكتاب والسنة.
هذا هو الطريق الرابع، فقد كانوا (ع) يستدلون على الأحكام الإلهية بالكتاب والسنة بوعي متميز يبهر العقول ويورث الحيرة، ولولا خشية الإطالة في المقام لنقلنا نماذج كثيرة من ذلك،
ونكتفي هنا بأنموذج واحد، وهو:
قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحد، فأسلم: فقال يحيى بن أكثم: الإيمان يمحو ما قبله، وقال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود، فكتب المتوكل إلى الإمام علي الهادي (ع)(39) يسأله، فلما قرأ الكتاب كتب: يضرب حتى يموت، فأنكر الفقهاء ذلك، فكتب إليه ليسأله عن العلة، فقال (ع):
(بسم الله الرحمن الرحيم فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا باسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون)(40)، فأمر به المتوكل فضرب حتى مات(41).
إن الإمام المهدي ببيانه هذا شق طريقا خاصا لاستنباط الأحكام من الذكر الحكيم، طريقا لم يكن يحلم به فقهاء عصره، وكانوا يزعمون أن مصادر الأحكام الشرعية هي الآيات الواضحة في مجال الفقه التي لا تتجاوز ثلاثمائة آية، وبذلك أبان للقرآن وجها خاصا لدلالته، لا يلتفت إليه إلا من نزل القرآن في بيته، وليس هذا الحديث غريبا في مورده، بل له نظائر في كلمات الإمام وغيره من آبائه وأبنائه (ع).
هذه إلمامة عابرة في بيان طرق أهل البيت (ع) إلى النبي .
فما روي عن الإمام موسى بن جعفر (ع): حول علمهم بالسنة فإنما هو ناظر إلى ما سبق ذكره.
سئل الإمام موسى بن جعفر (ع): أكل شيء في كتاب الله وسنة نبيه، أو تقولون فيه؟ فقال: «لا، بل كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه».(42)
فالإمام يريد بالسنة ما ذكرنا (مصادرها وطرقها) لا خصوص السنة الموجودة في أفواه الناس وعلى ألسنتهم، وإن كان ربما يلتقي علمهم بالسنن بما رواه الناس عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) في بعض المواضيع.
هذه الرواية العابرة توقفنا على مدى ما تلقاه الأئمة (عليهم السلام) من سنن النبي، أ فبعد هذا يصح أن نعتمد على ما رواه البخاري عن أبي جحيفة الّذي قال: قلت لعلي: عندكم كتاب؟ قال لا إلّا كتاب اللّه، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل و فكاك الأسير و لا يقتل مسلم بكافر. (43)
كيف لا يكون عند علي (عليه السلام) كتاب يجمع فيه سنن النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و هؤلاء هم أبناء علي (عليه السلام) ينقلون عنه و يعتمدون عليه؟!
و العجب ما ورد في هذه الرواية من أنّ الصحيفة الّتي كان يحتفظ بها علي لم تشتمل إلّا على جمل محدودة، فلو لم يكن عند علي و أبنائه المعصومين إلّا ما جاء في هذه الرواية، فمن أين هذه العلوم الموروثة عنه و عن أبنائه الصادقين الّتي بهرت العقول؟!
كيف لا يكون عند علي (عليه السلام) سوى هذه الصحيفة أو ما في ألسن الناس مع أن المسلم عند الفريقين أن عليا كانت عنده علوم وأسرار لم تكن عند غيره، وكان الصحابة يرجعون إليها في المشاكل والمسائل العويصة؟، فهذا عمر بن الخطاب وسائر الخلفاء كانوا يرجعون إليه ويسألونه، كيف لا وهو باب مدينة علم النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم)..
وقد قام زميلنا الجليل المغفور له الشيخ علي الأحمدي(44) بجمع ما ورد في كتاب علي (ع) مما هو مبثوث في الجوامع الحديثية، ورتبه على 26 بابا، وما جمعه إنما هو غيض من فيض وقليل من كثير مما كان في الأصل.
4- تقييم الإجماع عند الإمامية:
عد الأصوليين الإجماع أحد الأدلة الشرعية، غير أنهم اختلفوا في ملاك الحجية، فالمحققون من السنة قالوا: إن الإجماع يجب أن يكون مستندا إلى دليل شرعي قطعي أو ظني كالخبر الواحد، والمصالح المرسلة، والقياس، والاستحسان.
فلو كان المستند دليلا قطعيا من قرآن أوسنة متواترة، يكون الإجماع مؤيدا معاضدا له(45)، ولو كان المستند دليلا ظنيا فيرتقي الحكم بالإجماع من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع واليقين. ومثله إذا كان المستند هو المصلحة أو دفع المفسدة، فالاتفاق على حكم شرعي -استنادا إلى ذلك الدليل- يجعله حكما شرعيا قطعيا إلهيا وإن لم ينزل به الوحي.(46)
وعلى ضوء ذلك، فالإجماع عند أهل السنة من مصادر التشريع في عرض الكتاب والسنة، لكن بشرط أن يكون الحكم مستندا إلى دليل ظني فعندئذ يجعله إجماع العلماء حكما قطعيا.
وأما عند الشيعة، فالإجماع بما هو هو ليس من مصادر التشريع، وإنما يكشف عن وجود الدليل، فالاتفاق مهما كان واسعا لا يؤثر في جعل الحكم شرعيا إلهيا، وإنما المؤثر في ذلك المجال نزول الوحي به فقط.
نعم، للإجماع دور في كشف الدليل الأعم من القطعي والظني، وقد اختلفوا في كيفية كشفه إلى أقوال يجمعها أمران:
• استكشاف الدليل بالملازمة العادية بين فتوى المجمعين وقول الإمام.
• استكشاف الإجماع موافقة الإمام (ع) لكونه من جملة المجمعين.
أما الثاني فمشروط بشرطين:
1 – أن يكون الإمام ظاهرا لا غائبا.
2 – أن تتوفر الحرية في الفتوى، ويكون للإمام حرية تامة في إظهار رأيه، ومثل ذلك لم يتفق في عصر الحضور إلا في فترة قليلة، وهي التي عاصرها الإمامان الصادقان: الباقر والصادق (ع).
وبسبب عدم توفر هذين الشرطين في عصر الأئمة لم يلتفت إليها إلا القليل من العلماء، وإنما المهم استكشاف وجود الدليل عن إجماع المجمعين بأحد الطريقين التاليين:
أ – تراكم الظنون مورث لليقين بالحكم الشرعي، لأن فتوى كل فقيه وإن كانت تفيد الظن، إلا أنها تعزز بفتوى فقيه ثان فثالث، إلى أن يحصل للإنسان من إفتاء جماعة على حكم، القطع بالصحة، إذ من البعيد أن يتطرق البطلان إلى فتوى هؤلاء الجماعة.
ب – الإجماع كاشف عن دليل معتبر.
إن حجية الإجماع ليس لأجل إفادته القطع بالحكم، بل لأجل كشفه عن وجود دليل معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا، وهذا هو الذي اعتمد عليه صاحب الفصول، وعدة من المتأخرين.
قال صاحب الفصول: «سنكشف قول المعصوم عن دليل معتبر باتفاق علمائنا الذي كان ديدنهم الانقطاع إلى الأئمة في الأحكام وطريقتهم التحرز عن القول بالرأي والاستحسان».(47)
قراءة صاحب المقال للإجماع عند الشيعة:
إن الدكتور أحمد الريسوني حفظه الله بعد أن ذكر أن الإجماع عند الشيعة ليس حجة بما هو هو، وإنما ملاك حجيته كشفه عن الدليل، حاول أن يطبق نظرية أهل السنة على نظرية الشيعة، فقال: «وهذا القول في حقيقة الإجماع وحقيقة حجيته ليس بغريب على أصوليي السنة، فهو بعض ما يتضمنه قولهم: “الإجماع لا بد فيه من مستند”. ثم ذكر كلام إمام الحرمين والشريف التلمساني».(48)
وما استنتجه من التوفيق بين النظريتين عمل مشكور عليه، إلا أننا نشير إلى أنهما ليستا متحدتين بالشكل الذي ذكره الأستاذ، وإنما هما متحدتان في شيء، ومختلفتان في شيء آخر:
1) تشتركان في أن إجماع المجمعين لا بد أن يكون على أساس دليل، ولا يصح إفتاؤهم بلا دليل.
2) وتختلفان في أن للإجماع عند أهل السنة دورا في إضفاء المشروعية على الحكم المجمع عليه، بحيث يجعله حكما كسائر الأحكام الواردة في الكتاب والسنة، سواء أصح المستند الظني في الواقع أم لم يصح، وكأن الاتفاق عملية كيميائية تقلب النحاس ذهبا، إما مطلقا وفي عامة الموارد،
أو فيما إذا كان مستند الإجماع مثل القياس والمصالح والمفاسد العامة، وهذا ليس شيئا خفيا على من له إلمام بأصول الفقه لدى السنة، وقد وقفت على كلام الفقيه المعاصر “وهبة الزحيلي” حتى أن الكاتب صرح بذلك في مقاله الذي يقول فيه:
«وقد يكون إجماعهم ناشئا عن قياس ظني في أصله، ولكن الإجماع على الحكم أضفى عليه صوابا ويقينا(49) لا يحتمل الشك. وقد يكون الإجماع منعقدا عن نظر استصلاحي سديد، ومن خلال الإجماع عليه تأكدت موافقته القطعية للشرع وللمصالح التي اعتبرها».
هذا الذي عليه السنة، وأما الشيعة فهم عن بكرة أبيهم لا يقيمون للإجماع دورا سوى الكشف عن الدليل: القطعي أو الظني، وليس له دور في إضفاء الصواب على الدليل والمشروعية على الحكم، لو فرض عدم صحته، فلذلك ليس الإجماع بما هو هو من مصادر التشريع.
نقد الإجماع الدخولي:
قد عرفت أن ملاك حجية الإجماع هو كشفه عن الدليل بأحد الوجهين التاليين:
• كشفه عن دخول الإمام في المجمعين.
• كشفه عن وجود الدليل والحجة.
أما القسم الأول فقد عرفت اختصاصه بعصر الحضور، لكن بشرط أن تسود الحرية عامة أهل الفتوى في البلد الذي يقيم فيه المعصوم، كالمدينة المنورة، كما كان ذلك في بعض الأعصار أيام نشوب الصراع بين الأمويين والعباسيين.
فلو وصل إلينا أن كل من يؤخذ عنه الفتوى في المدينة أفتوا على حكم من الأحكام ولم يشذ منهم أحد، نكشف اتفاق الإمام الباقر والصادق معهم، لأن لسان الإجماع هو كل من يؤخذ عنه الفتوى، وهما من أبرز من يؤخذ منهم الفتوى.
وعلى ضوء ذلك نقف على مدى صحة رأي الأستاذ حول الإجماع الدخولي، قال:
ولست أدري كيف استساغ علماء الإمامية وأذكياؤهم هذا التناقض الواضح، إذ يعتبرون الإجماع كاشفا عن قول المعصوم، ثم يشترطون دخول هذا المعصوم؟ وإذا دخل المعصوم في الإجماع -بحيث كان قوله معروفا وثابتا- فأي كشف بقي للإجماع أن يقوم به؟ ثم إذا كان قول المعصوم حجة في ذاته فأي حاجة وأي قيمة للإجماع مع ثبوت قول المعصوم؟ (الصفحة ٩٣).
ويلاحظ عليه: أنه تصور أن الإجماع الدخولي عبارة عن معرفتنا بدخول الإمام شخصيا ضمن المجمعين، فرتب عليه ما رتب، حيث قال: «فعند ذلك أي كشف بقي للإجماع أن يقوم به».
وبعبارة أخرى: تصور أن الإجماع الدخولي عبارة عن رؤية الإمام شخصيا بين المجمعين، أو سماع صوته منهم، أو ثبوت تواجده بين المجمعين بخبر قطعي، فعند ذلك قال: فأي دور بقي للإجماع بعد معرفة الإمام.
ولكن خفي عليه واقع هذا القسم من الإجماع، فالمراد به ما إذا ثبت بخبر قطعي أن علماء المدينة وكل من يؤخذ عنه الفتوى اتفقوا على حكم من الأحكام الشرعية، وكان أهل البيت يتمتعون بالحرية لإظهار رأيهم وإبداء ما عندهم، فعند ذلك نستكشف دخول الإمام المعصوم في المجمعين وتواجده فيهم على نحو لولا هذا الإجماع والاتفاق بالنحو الذي عرفت لم يكن لدينا طريق لمعرفة قول الإمام، وعندئذ يكون للإجماع دور الكشف عن دخولهم فيهم.
وبذلك تقف على ما هو المقصود للمحقق حيث قال: «فلو خلت المائة من علمائنا من قوله، لما كان حجة ولو حصل في اثنين كان قولهما حجة».
إن الممعن في كلامه من أوله إلى آخره يقف على أن الغاية من هذا المقال هو التركيز على أن حجية الإجماع لأجل وجود الإمام في المجمعين إما دخولا أو كشفا عن دليل وصل إلى يد المجمعين عنهم (ع) فجاء قوله كمثال يبين مقصده.
5- خبر الواحد والقياس ظنيان، فلماذا التفريق بينهما ؟
قد عجب الدكتور أحمد الريسوني من تفريق الإمامية بين خبر الواحد والقياس في الحجية قائلا بأنهما ظنيان، فلماذا فرقت الإمامية بينهما وقالوا بحجية الأول دون الثاني؟ وقد أطال الكلام في ذلك،
وما ذكرناه لب إشكاله، ولإيضاح المقام نقدم أمورا:
الأمر الأول: اتفقت الأمة الإسلامية على أن البدعة أمر محرم كتابا وسنة وإجماعا وعقلا، وهي عبارة عن إدخال ما لم يعلم أنه من الدين في الدين، هذا من جانب.
ومن جانب آخر أن الاعتماد على الظن الذي لم يقم على حجيته دليل قطعي من الشارع، والإفتاء على وفقه والالتزام بأن مؤداه حكم الله تعالى في حقه وحق غيره: وهو نفس البدعة ومن مصاديقها.
فبضم القسم الثاني إلى الأول يتشكل قياس منطقي ينتج حرمة العمل بالظن الذي لم يقم الدليل القطعي على حجيته، فتكون صورة القياس كالتالي:
• العمل بالظن الذي لم يقم على حجيته دليل شرعي بدعة في الدين.
• البدعة في الدين حرام بالاتفاق.
فتكون النتيجة: العمل بالظن الذي لم يقم على حجيته دليل شرعي حرام بالاتفاق.
وعلى ضوء هذا تقول الإمامية بأن الضابطة الكلية في العمل بكل ما لم يقم دليل على حجيته، سواء أكان مفيدا للظن أو لا، هي المنع، لكونه تشريعا قوليا وبدعة فعلية وعملية، وتقولا على الله بغير علم.
نعم، لو قام الدليل القطعي على حجية ظن مثلا في مورد أو موارد يؤخذ بهذا الظن بحكم الشرع، لأنه يكون العمل عندئذ بإذن الشارع وأمره فيخرج عن الضابطة الكلية: “العمل بالظن الذي لم يقم دليل شرعي على حجيته: بدعة”.
الأمر الثاني: ذهب جمهور الإمامية إلى خروج عدة من الظنون عن الضابطة خروجا عن الموضوع لا خروجا عن الحكم، وهي الظنون التي قام الدليل على حجيتها، ولأجل ذلك توصف بالظنون العلمية، أي أنها ظنون،
ولكن دل الدليل العلمي على جواز العمل بها، وهي عبارة عن:
1 – خبر الواحد إذا أخبر عن حس.
2 – حجية الظواهر على القول بأنها ظنية الدلالة.
3 – الإجماع المنقول –بخبر الواحد- في مقابل الإجماع المحصل، إذا كشف نقل الإجماع عن وجود دليل معتبر عن المجمعين، إلى غير ذلك.
هذا هو رأي جمهور الإمامية، نعم ، قد خالف في حجية خبر الواحد قليل من المتقدمين كالسيد المرتضى والقاضي ابن البراج وأمين الإسلام الطبرسي وابن إدريس الحلي، رضي الله عنهم.
ثم إن القائلين بالحجية ألفوا في ذلك المجال كتبا ورسائل أجابوا فيها عن شبهات النافين، شأن كل مسألة نظرية لا تخلو من مخالف.
هذا إجمال الكلام حول حجية خبر الواحد الذي عليه بناء العقلاء، وعليه تدور رحى حياتهم ومعاشهم بالشروط المذكورة في محلها.
وأما القياس فقد رفضه علماء الإمامية عن بكرة أبيهم إذا كان مستنبط العلة، لأجل أن القياس مفيد للظن، والضابطة الكلية في الظن حرمة العمل به ما لم يقم دليل على حجيته.
ثم إنهم استثنوا من حرمة العمل بالقياس موارد،
أبرزها ما يلي:
1) إذا كانت العلة منصوصة من جانب الشرع، كأن يقول: الخمر حرام لكونه مسكرا، فيحكم بحرمة كل مسكر.
قالوا: إن ذلك في الحقيقة ليس عملا بالقياس، وإنما هو عمل بالسنة، أي عموم العلة كما لا يخفى.
2) القياس الأولوي: فإذا قال الشارع (فلا تقل لهما أف)(50) يفهم منه حرمة الشتم والضرب بطريق أولى، لحصول القطع والعلم بالحكم.
ثم إن رفض الإمامية العمل بالقياس في مجال مستنبط العلة، لأجل أن استخراج علة الحكم بالسبر والتقسيم مظنة للاشتباه، وذلك بالبيان التالي:
أولا: نحتمل أن يكون الحكم في الأصل معللا عند الله بعلة أخرى غير ما ظنه القائس، مثل كونه صغيرا أو قاصر العقل، في قوله «لا يزوج البكرَ الصغيرَ إلا وليها»، حيث ألحق بها أصحاب القياس الثيب الصغيرة، بل المجنونة والمعتوهة، وذلك بتخريج المناط وأنه هو قصور العقل، وليس للبكارة مدخلية في الحكم، فهل يمكن ادعاء القطع بذلك، وقد قال سبحانه: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).(51)
إن الإنسان لم يزل في عالم الحس تتكشف له أخطاؤه، فإذا كان هذا حال عالم المادة الملموسة فكيف بملاكات الأحكام ومناطاتها المستورة عن العقل إلا في موارد جزئية، كالإسكار في الخمر، أو إيقاع العداء والبغضاء في الميسر، أو إيراث المرض في النهي عن النجاسات؟
وأما ما يرجع إلى العبادات والمعاملات خصوصا فيما يرجع إلى أبواب الحدود والديات، فالعقل قاصر عن إدراك مناطاتها الحقيقية، وإن كان يظن شيئا.
قال ابن حزم: وإن كانت العلة غير منصوص عليها، فمن أي طريق تعرف ولم يوجد من الشارع نص يبين طريق تعرفها؟
وترك هذا من غير دليل يعرف العلة ينتهي إلى أحد أمرين: إما أن القياس ليس أصلا معتبرا، وإما أنه أصل عند الله معتبر، ولكن أصل لا بيان له، وذلك يؤدي إلى التلبيس، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فلم يبق إلا نفي القياس.
ثانيا: لو افترضنا أن القائس أصاب في أصل التعليل، ولكن من أين يعلم أنها تمام العلة، ولعلها جزء العلة، وهناك جزء آخر منضم إليه في الواقع، ولم يصل القائس إليه ؟
ثالثا: احتمال أن يكون القائس قد أضاف شيئا أجنبيا إلى العلة الحقيقية لم يكن له دخل في المقيس عليه.
رابعا: احتمال أن يكون في الأصل خصوصية في ثبوت الحكم، وقد غفل عنها القائس.
ولأجل وجود هذه الاحتمالات التي لا تنفك عن ذهن القائس، رفضت الإمامية العمل بالقياس إذا كان مستنبط العلة.
التفريق بين الظنين : لماذا؟
إن الدكتور أحمد الريسوني حفظه الله قد أخذ على علماء الإمامية بموارد، قائلا: إنهم يقولون بعدم حجية الظن، ومع ذلك يعملون به في الموارد التالية:
• الخبر الواحد.
• الظواهر.
• المرجحات الظنية عند التعارض.
• الأصول العملية.
وإليك دراسة هذه الموارد من رؤية الدكتور، وما يمكن القول حولها، ونذكر كلامه ضمن مقاطع، قال:
1– «إن الإمامية إذ يرفضون الأخذ بالقياس والاستصلاح باعتبار أن إفادتهما ظنية، فإنهم يقبلون الظنيات في كثير من أصولهم وقواعدهم، في مقدمتها أخذهم بأخبار الآحاد، وهم يسلمون بكون أخبار الآحاد في معظمها لا تسلم من الظنية والاحتمال، وأذن الشرع استثناء في اعتبارها، ويحكون الإجماع لديهم على حجيتها».(52)
أقول: هذا ملخص كلامه، والقارئ الكريم -بعد الاطلاع على ما ذكرنا من أمور- يقف على الفرق الواضح عندهم بين خبر الواحد العدل والقياس، فإن الأخذ بالأول ليس بملاك إفادته الظن، بل لأجل قيام الدليل الشرعي على حجيته، ولو كان الدليل قائما على حجية القياس لأخذوا به.
وبعبارة أخرى: إن خبر الواحد مما قام الدليل القطعي على حجيته، فصار ظنا علميا، أي ظنا بالذات، ولكن ذو رصيد علمي، بخلاف القياس، إذ لم يرد عندهم دليل يثبت حجيته، لو نقل بقيام الدليل على خلافه.
ولأجل أن يقف الأستاذ الكريم على الفوارق بين خبر الواحد والقياس نقترح عليه مراجعة كتابنا المعنون: “أصول الفقه المقارن فيما لا نص فيه”.
2– «ومن المواطن التي أخذوا فيها بالظنيات أيضا قولهم بحجية الظواهر، أي أنهم يعتمدون اعتمادا أساسيا… على ما يفهم من ظواهر النصوص، والظواهر كما هو معلوم لا تكاد تسلم من الظنية والاحتمال». (53)
أقول: إن العمل بالظواهر مما أطبق العقلاء على العمل به، ولا نجد بينهم من ينكر حجية الظواهر، فإن رحى الحياة في المجتمع الإنساني تدور عليها، وليس كل كلام نصا في مدلوله.
إن النبي الأكرم وأئمة أهل البيت (ع) وأصحابهم يعلمون الناس بظواهر كلماتهم، والمستمعون يتلقونها حجة شرعية دون أن يناقشوا في حجية الظواهر.
فأين الظواهر من القياس الظني الذي تضاربت فيه الآراء، وأنكر حجية أئمة أهل البيت ولفيف من الصحابة والتابعين. أضف إلى ذلك قيام الدليل على حجية الظواهر دون القياس، فهذا هو الفارق بينهما.
3– إن الترجيحات عند تعارض الخبرين كلها أو معظمها ترجيحات ظنية تعليلية وتقريبية، فقد جرى ديدنهم على ترجيح ما ظهر أنه الأقرب إلى واقع الحكم الشرعي الحقيقي، وهذا كما لا يخفى ليس إحرازا للحكم الشرعي بالضرورة وإنما هو ظني وتقريب.(54)
أقول: هذا هو المورد الثالث الذي أثار إعجاب الأستاذ من التفريق بينه وبين القياس والاستحسان وأمثالهما حيث أخذوا بالمرجحات الظنية ورفضوا القياس والاستحسان.
ولكن الإجابة عنه واضحة، وهي قيام الحجة على لزوم الترجيح بالمرجحات، وقد تضافرت الأخبار التي تثبت حجيتها على لزوم الترجيح بالمرجحات المنصوصة كموافقة الكتاب وموافقة السنة وموافقة المشهور وغيرها.
نعم، هناك من يستنبط من هذه الرؤيات لزوم الترجيح بكل مرجح، وإن لم يكن منصوصا، كالشيخ الأنصاري في فرائده، ومنهم من لا يقبل ذلك، وعلى كل تقدير فالفارق بين العمل بالمرجحات والقياس والاستحسان وجود الدليل على لزوم الترجيح بها وعدمه في القياس والاستحسان.
ولو أن صاحب المقال أحاط بأصول الفقه عند الإمامية لما أثار عجبه هذا التفريق، بل وجه اهتمامه إلى التركيز على موضوع آخر وهو طرح القياس على صعيد البحث على ضوء دراسة أدلة المثبتين والنافين دون أن يربط العمل بالقياس بالعمل بخبر الواحد والظواهر.
4- ومما أخذه الأستاذ على الإمامية هو العمل بالأصول العملية، أعني: البراءة، والاشتغال، والتخيير، والاستصحاب، فقد قال: «إن ما يسمونه أصولا عملية إنما هي قواعد توصل إلى الظن والرجحان، ومع ذلك أجازوا بل أوجبوا العمل بها عند عدم الدليل الصريح».(55)
أقول: أظن أن القارئ في غنى عن تكرار الجواب، فإن الإشكال في الجميع واحد، والجواب مثله، وهو أن الفارق وجود الدليل على حجية الأصول، سواء أكانت مفيدة للظن أم لا، ومن درس الأصول العملية في الكتب الأصولية للشيعة الإمامية يقف على أنهم يستدلون عليها بطرق مختلفة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، فكيف يقاس ذلك بالقياس الذي تواتر النهي عن العمل به عن أئمة أهل البيت (ع)، وهذا قول الإمام الصادق (ع) لأبان بن تغلب: إن السنة إذا قيست محق الدين.(56)
استدلاله على حجية القياس عن طريق العقل :
إن الأستاذ الفاضل يستدل على حجية القياس عن طريق العقل قائلا: «إن الإمامية وبخاصة متأخريهم يجعلون من الأدلة الشرعية “الدليل العقلي”، بينما هم يرفضون القياس وهو من بديهيات العقول وأولياتها، فهو يقوم على قاعدة لا ينكرها عقل ولا عاقل، وهي أن “ما ثبت لشيء ثبت لمثله”، وهذا هو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، وجاءت به الكتب والرسالات».
أقول: لا شك أن العقل أحد الحجج الشرعية، وذلك في مجالات خاصة، مما للعقل إليها سبيل. ونمثل لذلك بنموذجين:
الأول: إذا استقل العقل بحسن فعل بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار أو قبحه وتجرد في قضائه عن كل شيء إلا النظر إلى نفس الفعل يكون حكم العقل كاشفا عن حكم الشرع، وهذا نظير استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان، وحسنه معه، فيستكشف منه أن الشرع كذلك.
الثاني: إذا أمر المولى بشيء واستقل العقل بوجود الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته أو وجوب الشيء وحرمة ضده أو امتناع اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد بعنوانين أو جوازه إلى غير ذلك من أنواع الملازمات فيكشف حكم العقل عن حكم الشرع.
ففي هذين الموردين وما يشبههما يكون العقل قاطعا بالحسن والقبح أو الملازمة بين الوجوبين أو الحرمتين، وعند ذلك نستكشف، من خلال كونه سبحانه حكيما لا يعبث، الحكم الشرعي للحسن والقبح أو للمقدمة وضد الواجب.
وأما القياس فهو ليس دليلا عقليا قطعيا، وإنما هو دليل ظني بشهادة أنه لو كان دليلا قطعيا لما اختلف فيه اثنان، كما لم يختلفوا في حجية خبر المتواتر أو المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم.
فإن إطلاق الدليل العقلي على القياس على وجه الإطلاق غير صحيح، بل يجب أن يقال الدليل العقلي الظني، لأن الدليل العقلي عند الإطلاق ينصرف إلى الدليل العقلي المفيد للعلم.
الخلط بين المماثل والمشابه :
والذي ألفت نظر الأستاذ إليه هو أن القياس ليس من باب المماثلة، بل من باب المشابهة، وكم هو الفرق بين التماثل والتشابه، فما ذكره من أن “ما ثبت لشيء ثبت لمثله” راجع إلى المتماثلين، والفرق بينهما واضح، وذلك لأن التماثل عبارة عن دخول شيئين تحت نوع واحد وطبيعة واحدة، فالتجربة في عدة من مصاديق طبيعية واحدة تفيد العلم بأن النتيجة لطبيعة الشيء لا لأفراد خاصة،
ولذلك يقولون: إن التجربة تفيد العلم، وذلك بالبيان التالي:
إذا أجرينا مثلا تجربة على جزئيات من طبيعة واحدة كالحديد، تحت ظروف معينة من الضغط الجوي، والجاذبية، والارتفاع عن سطح البحر، وغيرها مع اتحادها جميعا في التركيب فوجدنا أنها تتمدد مقدارا معينا، ولنسمه (س)، عند درجة خاصة من الحرارة، ولنسمها (ح). ثم كررنا هذه التجربة على هذه الجزئيات في مراحل مختلفة في أمكنة متعددة، وتحت ظروف متغايرة ووجدنا النتيجة صادقة تماما: يتمدد الحديد بمقدار (س) عند درجة (ح)، فهنا نستكشف أن التمدد بهذا المقدار المعين معلول لتلك الدرجة الخاصة من الحرارة فقط، دون غيرها من العوامل، فعندئذ يقال: “ما ثبت لشيء ثبت لمثله”، أو حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد.
وأما التشابه فهو عبارة عن وقوع فردين مختلفي الطبيعة تحت صفة واحدة توجب التشابه بينهما، وهذا كالخمر والفقاع فإنهما نوعان وبينهما تشابه في الإسكار، فلو أثبتت التجربة أن للخمر أثرا خاصا لا يمكن القول بثبوته للفقاع والنبذي، بل لا بد من التماس الدليل على المشاركة وراء المشابهة.
وأوضح من ذلك مسألة الاستقراء، فإن ما نشاهده من الحيوانات البرية والبحرية، أنواع مختلفة، فلو رأينا هذا الحيوان البري وذلك الحيوان البحري كل يحرك فكه الأسفل عند المضغ ربما نحكم بلا جزم بذلك على سائر الحيوانات من دون أن تكون بينهما وحدة نوعية أو تماثل في الحقيقة، والدافع إلى ذلك التعدي في الحكم وهو التشابه والاشتراك الموجود بين أنواع الجنس الواحد، رغم اختلافها في الفصول والأشكال، ولكن لا يمكن الجزم بالحكم والنتيجة على وجهها الكلي، لإمكان اختلاف أفراد نوعين مختلفين في الحكم.
وبذلك يعلم أن القياس عبارة عن تعميم حكم مشابه إلى مشابه لا حكم مماثل إلى مماثل، ومن المعلوم أن تعميم الحكم من طبيعة إلى طبيعة أمر مشكل لا يصار إليه إلا إذا كان هنالك مساعدة من جانب العرف لإلغاء الخصوصية، وإلا يكون التعميم عملا بلا دليل.
مثلا، دل الكتاب العزيز على أن السارق والسارقة تقطع أيديهما، والحكم على عنوان السارق فهل يلحق به النباش الذي ينبش القبر لأخذ الأكفان؟ فإن التسوية بين العنوانين أمر مشكل، يقول السرخسي: «لا يجوز استعمال القياس في إلحاق النباش بالسارق في حكم القطع، لأن القطع بالنص واجب على السارق».(57)
والحاصل أن هناك فرقا واضحا بين فردين من طبيعة واحدة، فيصح تعميم حكم الفرد إلى الفرد الآخر لغاية اشتراكهما في النوعية، وأن حكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد، لكن بشرط أن يثبت أن الحكم من لوازم الطبيعة لا الخصوصيات الفردية.
وأما المتشابهان فهما فردان من طبيعيتين كالإنسان والفرس يجمعهما التشابه والتضاهي في شيء من الأشياء، فهل يصح تعميم حكم نوع إلى نوع آخر؟ كلا، إلا إذا دل الدليل على أن الوحدة الجنسية سبب الحكم ومناطه وملاكه التام(58)، كما دل الدليل في أن سبب الحرمة في الخمر هو الإسكار، وإلا فلا يصح إسراء حكم من طبيعة إلى طبيعة أخرى بمجرد التشابه بينهما، أو الاشتراك في عرض من الأعراض.
6 -الدليل العقلي وحجية المصلحة:
قد تعرفت على أن العقل أحد مصادر التشريع أو بالأحرى أحد المصادر لكشف الحكم الشرعي.
ومجال الحكم العقلي غالبا أحد الأمور التالية:
1- التحسين والتقبيح العقليان.
2- أبواب الملازمات: من قبيل الملازمة بين وجوب الشيء ومقدمته وحرمة ضده، والملازمة بين النهي عن العبادة أو المعاملة وفسادها إلى غير ذلك مما يرجع إلى باب الملازمة.
3- أبواب التزاحم: أي تزاحم المصالح التي لا بد من أخذها، كإنقاذ أحد الغريقين مع العجز عن إنقاذ كليهما، أو تزاحم المصالح والمفاسد كتترس العدو بالمسلمين، فإن للعقل دورا فيها، وله ضوابط لتقديم إحدى المصلحتين على الأخرى، أو تقديم المصلحة على المفسدة أو بالعكس (وهي مذكورة في مظانها).
ولا غبار على حجية العقل في هذه الموارد، إنما الكلام في حجية المصلحة وعدها من مصادر التشريع فيما لا نص فيه، فقد ذهب عدة من فقهاء السنة إلى حجية المصلحة، وسماها المالكية بالمصالح المرسلة، والغزالي بالاستصلاح، وحاصل دليلهم على حجية المصلحة وكونها من مصادر التشريع كالتالي:
إن مصالح الناس تتجدد ولا تتناهى، فلو لم تشرع الأحكام لما يتجدد من مصالح الناس، ولما يقتضيه تطورهم واقتصر التشريع على المصالح التي اعتبرها الشارع فقط، لعطلت كثير من مصالح الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة، ووقف التشريع عن مسايرة تطورات الناس ومصالحهم، وهذا لا يتفق وما قصد بالتشريع من تحقيق مصالح الناس.(59)
وحاصل هذا الوجه ادعاء وجود النقص في التشريع الإسلامي لو اقتصر في مقام الاستنباط على الكتاب والسنة، لأن حاجات المجتمع إلى قوانين جديدة لا زالت تتزايد كل يوم، فإذا لم تكن هناك تشريعات تتلاءم مع هذه الحاجيات لم تتحقق مقاصد الشريعة.
ثم إن السبب لجعلهم المصالح مصادر للتشريع هو الأمور التالية:
1- إهمال العقل وعدم عده من مصادر التشريع في مجال التحسين والتقبيح العقليين.
2- إقفال باب الاجتهاد في أواسط القرن السابع إقفالا سياسيا، فقد صار ذلك سببا لوقف الدراسات الفقهية منذ قرون، وفي ظل ذلك توهم المتأخرون وجود النقص في التشريع الإسلامي وعدم كفايته لتحقيق مقاصد الشريعة فلجأوا إلى عد المصالح المرسلة من مصادره، وبذلك وجهوا قول من يعتقد بحجية المصالح المرسلة من أئمة المذاهب.
3- عدم دراسة عناوين الأحكام الأولية والثانوية كأدلة الضرر والجرح والاضطرار والنسيان، فإن هذه العناوين وما يشابهها تحل أكثر المشاكل التي كان علماء السنة يواجهونها، من دون حاجة لعد الاستصلاح من مصادر التشريع.
4- عدم الاعتراف بصلاحيات الفقيه الجامع للشرائط بوضع أحكام ولائية كافية في جلب المصلحة ودفع المفسدة أحكاما مؤقتة ما دام الملاك موجودا.
والفرق بين الأحكام الواقعية والولائية هي أن الطائفة الأولى أحكام شرعية جاء بها النبي لتبقى خالدة إلى يوم القيامة، وأما الطائفة الثانية فإنما هي أحكام مؤقتة أو مقررات يضعها الحاكم الإسلامي (على ضوء سائر القوانين) لرفع المشاكل المتعلقة بحياة المجتمع الإسلامي.
هذه هي حقيقة المصالح المرسلة. ثم إنهم مثلوا للمقام بأمثلة، نذكر منها ما يلي:
1. جمع القران الكريم في مصحف بعد رحيل النبي .
2. قتال مانعي الزكاة.
3. وقف تنفيذ حكم السرقة في عام المجاعة.
4. إنشاء الدواوين.
5. سك النقود.
6. فرض الإمام العادل على الأغنياء من المال لا بد منه لتكثير الجند وإعداد السلاح وحماية البلاد وغير ذلك.
7. سجن المتهم كي لا يفر.
8. حجر المفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس.
ثم إن بعض المغالين ربما يتجاوز، فيمثل بأمور لا تبررها أدلة التشريع الواقعي كتنفيذ الطلاق ثلاثا، مع أن الحكم الشرعي هو كونه طلاقا واحد في عصر النبي وبرهة بعد رحيله، وهذا من باب تقديم المصلحة على النص.
ثم إن للإمامية في العمل بالمصالح مذهبا وسطا أوضحناه في كتابنا(60)، وليست الإمامية ممن ترفضه بتاتا كما تصوره الأستاذ أو تقبله في عامة الصور.
هذا إجمال الكلام في المصالح المرسلة -والتفصيل مع مالها وما فيها يطلب من محله
– إذا عرفت ذلك فهلم معي نقرأ ما ذكره الدكتور الريسوني في هذا الموضوع، قال:
«أمّا حجية المصلحة، فإنّهم و إن كانوا ينكرونها بالاسم إلّا أنّهم يأخذون بها بأسماء و أشكال متعدّدة:
«فتارة تدخل تحت اسم “الدليل العقلي” حيث يدرجون ضمنه -مثلا- اعتبار “الأصل في المنافع الإباحة، وفي المضار الحرمة”، وهذا عين اعتبار المصلحة.
كما أن من القواعد المعتبرة عندهم ضمن دليل العقل قاعدة “وجوب مقدمة الواجب”، وهي المعبر عنها بـ«ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، ذلك أن معظم المصالح المرسلة هي من قبيل “ما لا يتم الواجب إلا به”، فهي مقدمات أو وسائل لواجبات أخرى، ومثلها قاعدة “كل ما هو ضد الواجب فهو غير جائز”، فهذا ما يعبر عنه بدرء المفاسد.
وتارة يدخلون العمل بالمصلحة من باب ما يسمى عندهم “السيرة العُقَلائية” أو “بناء العقلاء”، وهو في الوقت نفسه من المصالح المرسلة».(61)
وحاصل كلامه: أنه تدخل تحت حجية المصلحة القواعد التالية:
1) وجوب مقدمة الواجب.
2) حرمة ضد الواجب.
3) حجية بناء العقلاء وسيرتهم.
4) الأصل في المنافع الإباحة، وفي المضار الحرمة.
فهي نفس العمل بالمصلحة مع أنهم يدخلونها تحت “الدليل العقلي”.
يلاحظ عليه: أن اشتمال هذه القواعد على المصالح ودرء المفاسد غير كون المصلحة سببا لتشريعها ومبدأ لتقنينها، فإن الدليل على وجوب مقدمة الواجب أو حرمة ضد الواجب حكم العقل بالملازمة بين الإرادتين، فمن حاول الوقوف على السطح لا محيص له من إرادة نصب السلم، أو ركوب المصعد.
فاشتمال المقدمة على المصلحة أو اشتمال الضد على المفسدة أمر جانبي لا مدخلية له في الحكم بالوجوب والحرمة.
وأما حجية بناء العقلاء، فإن أساسها كونه بمرأى ومسمع من الشارع وهو إمضاؤه، لهذا لو كان غير مرضي عنده لما سكت عن النهي عنه، لقبح السكوت عما يجب إغراء الأمة، ولولا إمضاؤه لما صح الاعتماد عليه في الفقه، كما هو الحال في السير التي رفضها الشارع كبيع الخمر والكلب والخنزير والتملك بالمقارنة.
وبه يظهر حكم القاعدة الرابعة، فإن الحكم بجلب المنفعة أو درء المفسدة هو العقل الحصيف، لا قاعدة المصالح المرسلة، وإن كان في الجلب والدرء مصلحة، وبالجملة: الأمور الجانبية، ليست أساسا لحكم العقل في مورد هذه القواعد.
نحن نفترض أن لهذه المسائل طابعا عقليا كما أن لها طابعا استصلاحيا، فلو كان الوصول إليها من دليل العقل أمرا غير صحيح فليكن الوصول إليها عن طريق الاستصلاح مثله، فلماذا يوجه اللوم إلى الفريق الأول دون الثاني أو ليس هذا المورد من مصاديق المثل السائر: «رمتني بدائها وانسلت»؟
* * *
هذه بعض الملاحظات على كلام الأستاذ حفظه الله ونفعنا بعلومه، وبقيت في كلامه أمور أخرى يظهر النظر فيها من بعض ما ذكرنا.
وفي الختام ندعو له ولعامة الإخوان في المملكة المغربية والأساتذة والطلاب في دار الحديث الحسنية بدوام التوفيق والسداد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قم المقدسة، إيران.
غرة ربيع الأول 1426هـ.
المصدر: كتاب نهاية الوصول إلى علم الأُصول للعلامة الحلي/ الجزء 2 – الناشر : مؤسسة الإمام الصادق( ع) الإشراف : المرجع الديني الشيخ جعفر السبحاني
الهوامش
(١) بحار الأنوار: ٢/ ٢٦٦- ٢٨٣.
(2) ابن حنبل حياته و عصره لأبي زهرة: ١٦٨.
(3) مختصر التحفة: ص ٨ طبع عام ١٣٠١ هـ.
(4) الإمام الصادق: ٣٨.
(5) اشتراط التواتر نظرية خاصّة لقليل من علماء الإمامية، فالجمهور منهم يعملون بخبر العدل أيضا.
(6) السرائر: ١/ ٤٦.
(7) الصفحة: ٨٦ من المجلة المذكورة.
(8) قواعد العقائد: ٦٠ و ٢٠٤.
(9). الكليني: الكافي: ١/ ٢٥، كتاب العقل و الجهل، الحديث ٢٢.
(10) الكافي: ١/ ١٦، كتاب العقل و الجهل، الحديث ١٢.
(11). الكافي: ١/ ١٠، كتاب العقل و الجهل، الحديث ١.
(12). مجلة الواضحة: ٨٧ بتلخيص.
(13 و 14). الكليني: الكافي:١/ ٥٩، باب الرد إلى الكتاب و السنّة،الحديث ٢، ٤.
(15). الكافي: ١/ ٦٢، باب الرد إلى الكتاب و السنة، الحديث ١٠.
(16). هم أصحاب المغيرة بن سعيد، الذي تبرّأ منه الإمام الصادق (عليه السلام).
(17). المائدة: ٣.
(18). المجلسي: البحار: ٢/ ١٦٨ ح ٣.
(19). البحار: ٢/ ١٧١ ح ١١.
(20). جامع الأصول: ١/ ٤٢٤.
(21). صحيح مسلم: ٢/ ٣٢٥.
(22). سنن الترمذي: ٥/ ٦٦٢، باب مناقب أهل بيت النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم).
(23). مسند أحمد: ٣/ ١٤.
(24). الكهف: ٦٦.
(25). المائدة: ٣.
(26). إعلام الموقعين: ٤/ ١٤٠.
(27). تاريخ الخلفاء للسيوطي: ١٦٠.
(28). الاحتجاج: ٢/ ٦؛ بحار الأنوار: ٨٩/ ٤٧.
(29). قد جمع العلّامة المجلسي ما ورد من الأثر حول كتاب علي “ع” في موسوعته بحار الأنوار: ٢٦/ ١٨- ٦٦ تحت عنوان، باب جهات علومهم و ما عندهم من الكتب، الحديث ١٢، ١، ١٠، ٢٠.
(30). المستدرك: ٣/ ١٢٥.
(31). صحيح البخاري: ٤/ ٢٠٠، باب مناقب المهاجرين و فضلهم، دار الفكر، بيروت.
(32). لاحظ: إرشاد الساري، شرح صحيح البخاري للقسطلاني: ٦/ ٩٩.
(33). ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري: ٥/ ٤٣١.
(34). شرح صحيح مسلم للنووي: ١٥/ ١٦٦، دار الكتاب العربي، بيروت.
(35). الرياض النضرة: ١/ ١٩٩.
(36). الكهف: ٦٦.
(37). النمل: ٤٠.
(38). الانصاف في مسائل دام فيها الخلاف: ٢/ ٣٦٥- ٣٦٦.
(39). الإمام العاشر و هو علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق (عليهما السلام).
(40). غافر: ٨٤- ٨٥.
(41). مناقب آل أبي طالب: ٤/ ٤٠٥.
(42). الكافي: ١/ ٦٢، باب الرد إلى الكتاب و السنّة، الحديث ١٠.
(43). صحيح البخاري: ١/ ٦٤ باب كتابة العلم، الحديث ٥٢.
(44). مكاتيب الرسول: ٢/ ١٣٥- ٣١٣.
(45). لا يذهب عليك أنّه إذا كان في المورد دليل قرآني أو سنّة متواترة، فلا حاجة للتأييد و التعضيد، و الأولى أن تخص مورده بما إذا لم يكن في مورده إلّا دليل ظنّي.
(46). الوجيز في أصول الفقه لوهبة الزحيلي: ٤٩.
(47). الفصول في علم الأصول للشيخ محمد حسين الحائري.
(48). الصفحة: ٩١ من المجلة المذكورة.
(49). أمّا اليقين فنعم، و أمّا الصواب فلا، فيما إذا كان غير صحيح.
(50). الاسراء: ٢٣.
(51). الإسراء: ٨٥.
(52). الصفحة ٩٤ من المجلة.
(53). الصفحة ٩٥ من المجلة.
(54). المجلة: ص ٩٦.
(55). الصفحة ٩٦ من المجلة.
(56). الوسائل: ١٨، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي.
(57). أصول السرخسي: ٢/ ١٥٧.
(58). أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه: ١٠٨- ١١٠.
(59). علم أصول الفقه، لعبد الوهاب الخلّاف: ٩٤.
(60). لاحظ أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه للكاتب.
(61). الصفحة: ٩٧ من المجلة المشار اليها.