دساتير الدول الإسلامية

دور الفقه في دساتير الدول الإسلامية

إنّ دساتير مختلف الدول الإسلامية التي يشکّل الإسلام دينها الرسمي أو الأساسي، تقرّ سبل حکم مختلفة من الملکية والجمهورية مرورًا بالوراثية والدورية بصلاحيات مختلفة قد تعبر عن منهج دکتاتوري أو منحی ديموقراطي أحيانًا، وعلی الرغم من هذا التنوع في أشکال الحکم، إلاّ أّننا لم نلاحظ حکم تأسس علی مبدأ فقهي يحدد شکل الحکم وکيفية إنشائه.. بقلم الحقوقی الدكتور حسين مهربور.

الاجتهاد: ثمّة اهتمام ملحوظ في عملية تحديد بنية الحکم للشريعة والمبادئ الفقهية في إطار الحقوق الدستورية وأحکام الدستور في أغلب الدول الإسلامية، يتبين من خلال عرض الأمور التالية:

١. عرفية الأحکام الخاصّة ببنية الحکم في الدساتير

إن شکل الحکم وبنية الدولة وحدود السلطة في دساتير الدول الإسلامية، غالبًا ما اعتمدت على الدساتير الغربية وبصورة عرفية لا تمت والشريعة الإسلامية والمبادئ الفقهية بصلة.

ومن الممکن العثور علی مبررات شرعية في بعض مبادئ هذه الدساتير کالاحتکام إلی الشعب عن طريق الاستفتاء أو اختيار المسؤولين ضمن انتخابات علی مبدأ الغالبية أو مشارکة الشعب في عملية صنع القرار أو إنشاء مجالس الشوری المحلّية أوتکليف الناس بالتعاون مع الحکومة، وملائمتها مع المبادئ الفقهية، لکن ما نشاهده علی أرض الواقع يتعارض مع هذا الوضع.

فليس من المعمول عمومًا أن تبدأ دراسات فقهية يتمّ من خلالها تحديد المبادئ الشرعية، ومن ثَمَّ تجری وفقها صياغة مواد الدستور في مختلف شؤون الحکم.

٢. التعبير عن الحکم بالولاية والأمانة الإلهية في إعلان القاهرة

يمکن اعتبار إعلان القاهرة الصادر في الخامس من أغسطس عام ١٩٩٠ م حول حقوق الإنسان في الإسلام، وثيقة عامّة شبه رسمية ترتبط بشکل ما بالحکم، وصادق عليها وزراء خارجية الدول الإسلامية بعد مناقشات فقهية موسّعة من قبل مختلف خبراء هذه الدول.

وجاء في المادة ٢٣ من هذا الإعلان مايلي:

أ – الولاية أمانة يحرم الاستبداد فيها وسوء استغلالها تحريمًا مؤكدًا ضمانًا للحقوق الأساسية للإنسان.
ب – لكلّ إنسان حق الاشتراك في إدارة الشؤون العامّة لبلاده بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كما أنّ له الحقّ في تقلد الوظائف العامّة وفقًا لأحكام الشريعة.

إنّ دساتير مختلف الدول الإسلامية التي يشکّل الإسلام دينها الرسمي أو الأساسي، تقرّ سبل حکم مختلفة من الملکية والجمهورية مرورًا بالوراثية والدورية بصلاحيات مختلفة قد تعبر عن منهج دکتاتوري أو منحی ديموقراطي أحيانًا، وعلی الرغم من هذا التنوع في أشکال الحکم، إلاّ أّننا لم نلاحظ حکم تأسس علی مبدأ فقهي يحدد شکل الحکم وکيفية إنشائه، حتّی بالنسبة للمملکة العربية السعودية والتي کما أشرنا في المقدّمة علی أّنها تعتبر القرآن والسنّة بمثابة الدستور، فالنظام القائم ملکي وراثي في ابناء عبدالعزيز مؤسس المملکة، وليس من الواضح کيف استشفّ هذا الشکل من الحکم الملکي الوراثي من القرآن والسنّة؟ وما هو المبدأ الفقهي التي قامت المملکة علی أساسه؟

٣. المراد من أولي الأمر

إلی جانب المبدأ العقلي الذي يقرّ بلزوم وجود نظام للحکم ومن يقوم بهذه المهمّة، ولزوم تنفيذ الأوامر الصادرة من قبل الحکومة، تصرّح الآية الشريفة من سورة النساء علی طاعة الناس للحکم حين تخاطب المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (1).
فالآية تؤکّد علی لزوم بذل الطاعة لرسول الله الذي يبلغ ما أمر به الله،إلی جانب طاعة الله، فللرسول الولاية علی الناس من قبل الله، کما أن هناك تصريح بطاعة أولي الأمر وشرعية حکمهم من قبل الأمة. والخلاف القائم بين طوائف المسلمين يأتي من تحديد هؤلاء، فمن هم وکيف يتم اختيارهم؟ هل يتمّ تعيينهم بالنصب أم يتمّ اختيارهم من خلال الانتخاب؟

والظاهر أنّ أبناء السنّة والجماعة يقولون باختيار ولي الأمر: إما من خلال انتخاب عامّة المسلمين أو اختيار أهل الحل والعقد، بينما يذهب الشيعة إلى أنّ أولي الأمر هم الأئمة الاثنا عشر المنصوبون من قبل الله، معصومون يجب بذل الطاعة لهم بصورة مطلقة دون قيد أو شرط إلی جانب طاعة النبي” صلى الله عليه وآله وسلم”.(2)

4. طريقة اختيار ولي الأمر في فقه أهل السنّة

ميدانيًا يتمّ اختيار خليفة النبي” صلى الله عليه وآله وسلم” وتقلّد منصب ولاية الأمر وفقًا لمبادئ أهل السنّة الفقهية، بطريق الانتخاب والانتصاب. فأبوبکر الخليفة الأوّل تمّ تعيينه بواسطة أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار(3)، بينما قام هو بنصب عمر الخليفة الثاني.
وأمّا عثمان بن عفّان فقد اختير من قبل الشوری السداسية التي عيّنهم الخليفة الثاني قبيل وفاته. وبالنسبة للإمام علي بن أبي طالب فقد اختلف الأمر برمّته. وذکر الإمام في خطبته المعروفة بالخطبة الشقشقية ملابسات نصب الخليفة الثاني وتعيين الخليفة الثالث من قبل اللجنة السداسية (4).

فالإمام وبمعزل عن رأي الشيعة في نصبه بولاية الأمر من قبل النبي،” صلى الله عليه وآله وسلم” قد أختير بالفعل بإقبال الأمة إليه والتوجّه الجماهيري نحوه.

ويقول الشيخ المرحوم محمّد عبده في شرحه لنهج البلاغة : ونَوَدُّ أنْ نُشيرَ هنا إلى أنَّ علياً هوَ الخليفة الوَحيدُ الّذي وَصَلَ إلى الخلافةِ بإختيارِ الشَّعبِ لهُ اختياراً حُرّاً، وهكذا فإنَّ الشَّعْبَ حينَ تُرِكَ و رأيه عَرَفَ طريقُهُ الصحيح.(5)

وکّلنا يعلم ما جری بعد فترة خلافة أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) وصلح الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) مع معاوية حيث تقلّد أناسٌ منصب الخلافة والحکم بناء علی القوة والسلطة أو ورثوها عن الآباء، والبيعة لم تؤخذ لهم إلاّ بعد التربّع علی کراسي الحکم، ومن الطبيعي أن هکذا بيعة لاتعني مشارکة الناس في التصويت أو الحرية في اختيار الحکام، وهذا النوع من الاختيار نراه في دستور المملکة العربية السعودية عند الحديث عن بيعة الشعب مع الملك، فقد جاء في الفقرة (ج) من المادة الخامسة من الدستور ما نصّه “تتم الدعوة لمبايعة الملك، واختيار ولي العهد وفقًا لنظام هيئة البيعة “.

وورد في المادة السادسة”يبايع المواطنون الملك على كتاب الله تعالى وسنّة رسوله وعلى السمع والطاعة في العسر واليسر والفرح والحزن.

مع هذا فعلی رأی بعض فقهاء أهلّ السنة والجماعة، يطلق عنوان ولي الأمر حتّی علی الذين تولوا السلطة قهرًا وزورًا ويجب بذل الطاعة لهم، کما أن غالبية فقهاء هذه الطائفة اعتبروا البيعة عقد بين الأمة والخليفة ومبدأ أساسيًا لتعيين الخليفة أو الحاکم بعد الرسول” صلى الله عليه وآله وسلم”، حيث يقوم أهل الحل والعقد وهم المجتهدون والعلماء والکبار المتصفون بالعدل والعلم والتدبير والتقوی باختيار الحاکم ومبايعته بالنيابة عن الناس، يقول وهبة الزحيلي في هذا الإطار ” لقد أجمع المسلمون ما عدا الشيعة الإمامية على أنّ تعيين الخليفة يتمّ بالبيعة، أي الاختيار والاتفاق بين الأمة وشخص الخليفة، فهي عقد حقيقي من العقود التي تتم بإرادتين على أساس الرضا”.

وهذه النظرية سبقت نظرية العالم الفرنسي جان جاك روسو الذي افترض أنّ أساس السلطة السياسية أو السيادة هو عقد اجتماعي بين الشعب والحاكم.

ويضيف الزحيلي: وأهل الحل والعقد يمثلون الأمة في اختيارهم الخليفة، باعتبار أنّ نصب الإمام من الفروض الكفائية على الأمة بمجموعها، وأنّ لها الحق في عزله حال فسقه.”

وينتهي بنتيجة مفادها ” وهذا يدلّنا على أنّ الأمة هي مصدر السلطة التنفيذية؛ لأنّ حقّ التعيين والعزل ثابت لها”.(6)

وقال أيضًا « رأي فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم أنّ الإمامة تنعقد بالتغلّب والقهر، إذ يصير المتغلّب إمامًا دون مبايعة أو استخلاف من الإمام السابق وإنّما بالاستيلاء، وقد يكون مع التغلّب المبايعة أيضًا فيما بعد(7).

کما توجب حسب رأي ابن حجر، طاعة السلطان المتغلّب ” أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلّب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء.”(8)

ويبدو أنّ البيعة التي في الدستور السعودي هي من هذا النمط، أي تعتبر البيعة فرض وإلزام، وفي هذه الحالة لا يصدق علی هذه البيعة، التعريف الوارد أعلاه علی أّنها تتم بإرادتين علی أساس الرضا.

وأکّدت دساتير الدول الإسلامية کالباکستان (9) وأفغانستان(10) والعراق ما بعد الاحتلال(11) علی إسلامية نظام الحکم، لکّنها لن تقدّم مبدأ فقهيًا واضح الملامح لاختيار شکل الحکم وبنيته، وإنّما تبنّوا نفس الطرق العرفية السابقة لكن بأشکال مختلفة.

الهوامش

1 – سورة النساء: الآية 59.
2 – أنظر:العلامة الطباطبائي:تفسير الميزان:ج ٤،ص ١٣٢ وبعد بيان ولاية النبي ووجوب طاعته:” هذا كله في حياة النبي وأما بعده فالجمهور من المسلمين علی أن انتخاب الخليفة الحاکم في المجتمع إلى المسلمين، والشيعة من المسلمين علی أن الخليفة منصوص من جانب الله ورسوله وهم اثناعشر امامًا علی التفصيل المودوع في کتب الکلام.” وانظر کذلك: المصدر نفسه، ص ٤١٥ في لزوم عصمة ولي الأمر.
3 – الإمامة والسياسة، ابن قتيبه الدينوري: ج ١،ص ٢٦.
4 – نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده ، ص88 ” فَيَا عَجَبا بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآِخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ … حَتَّى إِذا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا في جَمَاعَة زَعَمَ أَنَّي أَحَدُهُمْ.
5 – المصدر السابق، ص ٨٥
6 – وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته: ج ٦،ص 683 – 684.
7 – وهبة الزحيلي، المصدر السابق: ج ٤،ص ٦٨٢
8 – المصدر نفسه: ج ٤،ص ٦٨٣
9 – يعلن الدستور الباکستاني في مقدمته أن الدولة تشکّل حسب أسس العدالة الاجتماعية الإسلامية وجاء في المادة الأولی أن اسم الدولة هو جمهورية باکستان الإسلامية، وفي المادة الثانية أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي.
10- تنص المادة الأولی من الدستور الأفغاني علی أنّ الدولة تسمی بجمهورية أفغانستان الإسلامية، والمادة الثانية علی أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، کما تمنع المادة الثالثة إقرار قوانين تتعارض مع الأحکام الإسلامية الثابتة.
11- ينص دستور العراق الجديد في مادته الثانية علی أن الإسلام دين الدولة الرسمي وأحد مصادر التشريع الأساسية، کما يمنع إقرار قوانين تتعارضمع الأحکام الإسلامية الثابتة.

 

المصدر: مقتطف من مقالة بعنوان: علاقة الفقه والقانون الدستوري والخاصّ في نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية للدكتور حسين مهربور، أستاذ القانون بجامعة الشهيد بهشتي في إيران.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky