الاجتهاد: يصادف الأول من شهر جمادي الأول ذكرى انتشار فتوى المجدد الشيرازي الكبير آية الله العظمى السيد محمد حسن الشيرازي قدس سره بتحريم التنباك . حيث أدّت الى إفلاس الشركة البريطانية المتاجرة بالتبغ، والتي كانت غطاء التغلغل في ايران والسيطرة على الحكم والإقتصاد في سنة 1891 ميلادية.
فقد وافقت حكومة الشاه ناصر الدين القاجارية سنة 1312 هجرية على منح إمتياز زراعة وتجارة التبغ في إيران للشركة البريطانية، وهذه كانت بّوابة لدخول الإستعمار في بلاد الإسلام وفرض الهيمنة السياسية والإقتصادية والثقافية على المسلمين في ايران، وبالتالي في غيرها من بلدان المنطقة.
فلم يمض على توقيع هذه المعاهدة الإستعمارية الخطيرة وقت طويل حتى تصدّى لها الإمام الميرزا الكبير المجدد آية الله العظمى السيد محمد حسن الشيرازي قدس سره بإصدار فتوى حرَّمت إستعمال التنباك وهذا نصّها:
«إستعمال التنباك والتتن حرام بأي نحو كان، ومن إستعمله كان كم حارب الامام المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشريف».
أثر الفتوی
كانت فتوى المجدد الشيرازي الكبير بمثابة ثورة ضد الإستعمار البريطاني، فقد أيقظت العالم الإسلامي وإعطته الوعي السياسي في تاريخه الحديث، حيث تنبَّه المسلمون بفضلها الى الأخطار التي يسببها النفوذ الأجنبي في بلادهم.
ولم تؤثر الفتوى هذه على الشعب الإيراني فقط، بل سرى أثرها حتى الى بلاط الشاه، فعندما شاع خبر الفتوى بين الناس ترك جميع افراد الشعب الايراني التدخين وكُسرت كُل نارجيلة وكُل آلة تستعمل للتدخين حتى ان نساء وخادمات القصر الملكي في طهران كسرن كل نارجيلة وجدت في زوايا القصر (النارجلية كانت آلة التدخين في ايران آنذاك وكانت تستعمل على نطاق واسع)
وقد حدث كلّ ذلك في فترة قصيرة والشاه لايعلم بما حصل، فطلب من خادمه المُقرّب اليه أن يُعدّ له نارجيلةً حسب الاُصول وان يأتيها اليه على عادته في فترات معينه من كل يوم، فذهب الخادم وعاد دون ان يأتي بنارجيلة معه فامره الشاه باحضارها فذهب وعاد بودنها حتى فعل ذلك ثلاث مرات وفي المرة الثالثة غضب الشاه ونهره بشدةٍ فأجابه الخادم بالقول: عفواً سيدي لم تبق في القصر نارجيلة واحدة الاّ وكسرتها الخانمات «السيدات» وهنّ يقلن: ان الميرزا الشيرازي قد حرّم التدخين.
وحُكي ان بعض الفسقة كانوا جالسين في احدى المقاهي فعندما سمعوا ان الميرزا الشيرازي قد حرّم التدخين قاموا على التو بكسر وتحطيم نارجيلاتهم، فقال لهم بعض الجالسين في المقهى: انتم ترتكبون كل منكر ولاتتورعون عن فعل المُحرّم وكيف والحالة هذه تمتثلون لفتوى الشيرازي وتمتنعون عن التدخين وتكسرون آلته، ان هذا الامر مستغرب منكم، فقالوا اننا نفعل المعاصي ولنا أمل بالرسول وآله بيته ان يشفعوا لنا الى الله سبحانه وتعالى ويطلبوا لنا غفران ذنوبنا، والميرزا الشيرازي اليوم هو نائبهم وحامي شرعهم ومُؤدّيه الى الناس فنحن نأمل ان يشفع لنا عندهم فاذا اغضبناه فمن الذي يشفع لنا ويسأل من الله غفران ذنبوبنا؟
ان هذا الكلام البسيط يبرهن لنا كيف ان فتاوى الميرزا الشيرازي كانت تترك تأثيراً عميقاً وعلى اوسع نطاق سواء في الوسط الشعبي او في الاوساط السياسية الحاكمة.
وهكذا ترك الملايين من مواطني ايران آنذاك التدخين عملاً بفتوى الميرزا الشيرازي فاضطر الشاه الى فسخ الامتياز مع الشركة الانجليزية ودفع ما خسرته بسبب ذلك، وقد تكون فتوى الشيرازي قد تسبب في خسارة الحكومة الايرانية في حينه لكنها صانت بلاد الاسلام من تغلغل النفوذ الاجنبي ومن الاحتكارات الاستعمارية التي لو انتصرت بحصولها على امتياز التبغ والتنباك في ايران لتمادت في امتصاص خيرات بلاد الاسلام ولفرضت بالتدريج هيمنتها وسلطتها على مقدرات الاسلام والمسلمين، ومن هنا كانت فتوى الميرزا الشيرازي نابعة عن تبصّر وبُعد نظرٍ وحرصٍ شديد على صيانة أرض الاسلام وحماية مصالح المسلمين بوجه اطماع الاجانب.
ثم لا اله الا الله
عندما أصدر المجدّد الشيرازي الكبير فتواه، بعث الحاكم ناصر الدين شاه (القاجاري) مندوباً الى الامام الشيرازي ليشرح له فوائد المعاهدة مع البريطانيين، لعله يقنع السيد في سحب فتواه.
دخل المندوب على السيد الشيرازي، وأخذ يتكلم بكلام مسهب حتى انتهى بعد اطناب وتملّق.
فكان جواب الشيرازي الكبير، هذه الكلمة الشريفة فقط: «لا اله الاّ الله».
ثم أمر السيد باحضار القهوة، اشارة الى ختام الجلسة.
خرج المندوب الايراني، وعاد مرة أخرى في اليوم الثاني، وهو يعيد كلامه الاول بأسلوب آخر. ولما انتهى من كلامه، اعاد السيد الشيرازي، كلمته باضافة (ثم) فقال: «ثم لا اله الاّ الله».
وهكذا أمر بإحضار القهوة اشارة الى انتهاء اللقاء.
ولمّا رجع مندوب الشاه، سأله الشاه: ماذا كانت النتيجة؟
فقال المندوب الذي كان مرهقاً من سفرته الى العراق:
«لا شيء، فقد قال السيد: لا اله الاّ الله».
من تاريخ المجدد الشيرازي الكبير
آية الله العظمى السيد محمد حسن الشيرازي، المشهور بالمجدد، عميد اُسرة الشيرازي. ولد في 15 جمادي الاولى سنة 1230 هجرية، وتوفي عام 1312 هجرية. هاجر الى مدينة النجف الأشرف سنة 1259 هجرية ثم الى مدينة سامراء المشرفة عام 1291 هجرية.
تربّى في حجر خاله المفضال السيد الجليل الميرزا حسين الموسوي طاب ثراه.
تتلمذ عند العلماء الأعلام أمثال:
السيد حسن المدرس، والمحقق الكلباسي وصاحب الجواهر، والشيخ مرتضى الأنصاري رضوان الله تعالى عليهم.
آلت إليه المرجعية سنة 1281 هجرية بعد وفاة استاذه الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره.
قارع الإستعمار البريطاني في ايران وقاد ثورة التنباك بإصدار فتواه المشهورة. كما وقف بوجه الفتنة الطائفية التي أحدثها ملك أفغانستان عبد الرحمن خان، حيث أخذ يقتل الشيعة هناك وعمل المنائر من رؤوس القتلى في كل مكان.
شخصيته
قد تسالم المؤرخون على وصف الامام المجدد الشيرازي الكبير قدس سره بأنه:
إماماً عالماً فقيهاً ماهراً محققاً، رئيساً دينياً عامّاً وورعاً نقياً، ثاقب الفكر، بعيد النظر، مصيب الرأي، صائب الفراسة، يوقّر الكبير ويحنو على الصغير، ويرفق بالضعيف، اُعجوبة في أحاديثه وسعة مادته وجودة قريحته.
كتب الشيخ عباس القمّي رحمه الله تعالى في (الكنى والألقاب): نذكر هاهنا ملخّص ما أورده بعض الأفاضل، قال ولده رضي الله عنه في 15 ج 1 سنة 1230: وحضر درس المحقق السيد حسن المدرّس وبحث المحقّق الكلباسي، وقصد العراق في حدود سنة 1259، وحضر الأندية العلمية حتى نصّ صاحب الجواهر باجتهاده في كتاب له إلى والي فارس واختصّ في التلمذة والحضور بأبحاث المحقّق الأنصاري قدس سره حتى صار يشار إليه بين تلاميذه، وله الحظوة الكبرى عنده إلى أن قضى الشيخ رحمه الله نحبه، فماجت الناس في تعيين المرجع، فنصّ لمة من تلامذة الشيخ بتعبية للمرجعية الكبرى منهم الحاج ميرزا حسن الآشتياني، والعلاّمة الحاج ميرزا حبيب الله الرشتي، والآقا حسن الطهراني، والميرزا عبدالرحيم النهاوندي رضوان الله عليهم أجمعين وهؤلاء أعيان تلامذة الشيخ ووجوه أصحابه.
وحجّ بيت الله سنة 1288 وهاجر إلى سامراء في شعبان سنة 1291 ثم تبعه أصحابه وتلاميذه فصارت سامراء مباءة للعلم والعمل، ومنبثق الفضيلة والكمال، وأخذ منه كثير من فحول العلماء، منهم العلاّمة الحاج ميرزا اسماعيل ـ ابن عمه ـ، والسيد محمد الأصبهاني، والميرزا محمد تقي الشيرازي، والحاج آقا رضا الهمداني، والحاج الشيخ فضل الله النوري، والفاضلان، والكاظمان، والسيد عبدالمجيد الكرسي، والحاج الشيخ حسن علي الطهراني،
والميرزا إبراهيم الشيرازي، والسيد إبراهيم الدامغاني، والدزودي، والمولى علي النهاوندي، والشيخ إسماعيل الترشيزي، والحاج ميرزا أبوالفضل الطهراني، والحاج ميرزا حسين السبزواري، والحاج ميرزا السيد حسين القمّي، والمولى محمد تقي القمّي وأولئك الذين ربّاهم وهذّبهم عادوا أئمة يقتدى بهم، قد نشروا علمه الجم وفضله الباهر من على صهوات المنابر، وبين طيّات الكتب والدفاتر. وله قدس سره في سجاحة الأخلاق وأصالة الرأي، وقوّة العارضة، وسداد الذاكرة، إصابة الحدس، وحدّة التفرّس، والحصافة في القول، ووفور العطاء، وقضاء الحوائج، وتواصل العبادة والزهد البالغ مع توجّه الدنيا عليه مقامات، أو كرامات لم يدلّنا التاريخ على اجتماعها في رجل واحد، ولكن:
ليـس على الله بمسـتنكر
أن يجمع العالم في واحد
وبذلك كلّه تقلّد رئاسة كبرى حتى لا يذكر معه غيره، وانقادت له الأمور بأسرها، وعنت له الوجوه، وأذعن به العلماء، وهابته الملوك، وانثالت عليه الأموال من أقطار المعمورة، يدرّها على الطلبة والفقراء؟ في المشاهد المقدسة أجمع، لايمكن حصر فضائله الشريفة(1).
قصص من حياته
خير تلميذ لخير استاذ
تسنّم آية الله المجدّد، الميرزا محمد حسن الشيرازي قدس سره. بعد استاذه الشيخ مرتضى الانصاري رحمة الله عليه منصب الزعامة الدينية للشيعة وتصدّى للمرجعية العليا مدة ثلاثين عاماً بلا منازع ؛ وذلك لقوة شخصيّته الاسلامية الفذّة التي رعت شيعة العالم وقادتها الى قفزات متقدمة. ولها تاريخ مشرق قد أعجبت الصديق والعدو على السواء، فمواقفه الجريئة وأفكاره الناضجة قد جدّدت في حياة الامة روحها وبعث فيها النشاط والتطلعات الكبيرة، فلقبه كبار العلماء بالامام المجدّد.
كان في بداية أمره عالماً من أساتذة الحوزة العلمية في أصفهان، فقدم منها لاجل الزيارة الى مدينة النجف الاشرف، وفي ذلك الوقت كان الشيخ الانصاري كبير المراجع والاساتذة المجتهدين يدير الحوزة العلمية في النجف الاشرف.
ولما فرغ السيد الشيرازي من زيارة مرقد الامام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام أراد يعود الى اصفهان. ذهب بعض العلماء الذين كانوا يعرفون شخصية الشيرازي وذكائه الخارق وكفائته البارعة الى الشيخ الانصاري وقالوا: ينبغي أن يبقى هذا الرجل عندنا، حاول بأي طريقة أن تصرفه عن نظره من العودة الى اصفهان.
فاجتمع به الشيخ الانصاري في مجلس، وتناول بحثاً علمياً في مسألة اقتصادية تُعرَف في الفقه الاسلامي ب (البيع الفضولي) ومفاده هل ان الاجازة فيه من المالك فيما بعد البيع كاشفة عن وقوع الملكية للمشتري في حين وقوع البيع الفضولي، أم الاجازة اللاحقة ناقلة للملكية بمعنى انها تتحقق منذ صدور الاجازة، ولهذا البحث العلمي آثار عملية.
فأخذ الشيخ الانصاري يثبت رأياً فيه بأدلته العلمية. فسّر الشيرازي بذلك الدليل وتفاعل مع الرأي. ثم أخذ الشيخ الانصاري يفنّد هذا الرأي الذي اثبت صحته وسرد أدلة أخرى في جهة النقيض.
فتعجّب الميرزا الشيرازي من قوة هذا الدليل الذي فنّد به الشيخ ذلك الرأي الاول، فتفاعل مع هذا الرأي الثاني بدليله الاقوى.
ولكنه ضاع في التحيّر والاستغراب عندما جاء الشيخ الانصاري بأدلة علمية أخرى وأقوی تفنّد أدلة هذا الرأي الثاني أيضاً. ولم يتوقف الشيخ مرتضى الانصاري ذلك المتبحّر في العلوم الفقهية وغيرها عند ذلك الحدّ، إذ استرسل في اثبات رأي ثالث بأدلته ثم تفنيده بأدلة أقوى حتى بلغ الى ثمانية آراء في تلك المسألة الاقتصادية وتشعباتها الدقيقة، وانتهى بعدها الى أصوب الآراء. والنتيجة أن الميرزا الشيرازي غاص في بحر نائية القعر لما وجد نفسه أمام بحر من العلم، فأنشد يخاطب استاذ الفقهاء الشيخ الانصاري الكبير ما مضمونه:
عين المسافر حين تقع على جمالك أنت
فَعَزمُ رحيله يتبدّل الى عزم الاقامة لديك
وهكذا انصرف السيد محمد حسن الشيرازي عن العودة الى اصفهان، وبقي في النجف الاشرف يدرس عند الشيخ مرتضى الانصاري، فصار خير تلميذ لخير استاذ، وكانت عاقبة تلميذه هذا أن صار يلقّب بلقب «المجدّد الشيرازي الكبير».
العظماء في صغرهم
اذا أردت المزيد من التعرّف على شخصية الميرزا محمد حسن الشيرازي هذا المجدد الكبير لحياة الاسلام في عصره. اقرأ السطور التالية عن خلفيته يوم كان صغيراً، وكيف نشأ؟
بدأ يدرس العلم منذ الرابع من عمره. وخلال عامين وأربعة أشهر فرغ من تعلّم الكتابة وقراءة القرآن الكريم واللغة الفارسية.
وكان عمره يومئذ ستّ سنوات، فشرع في مطالعة الكتب العربية، وبلغ العشرين من عمره وهو حائز على درجة الاجتهاد في الشريعة الاسلامية.
كان آية في ذاكرته وحافظته، وكان متميّزاً بالفطنة والذكاء. يقال لما كان عمره ثمانية أعوام أراد خاله أن يجعل منه خطيباً بارعاً، فأعطاه كتاب (أبواب الجنان) وطلب منه أن يحفظ صفحة منه ويلقيها على منبر مسجد الوكيل في شيراز وبالرغم من كون تلك الصفحة كانت مسجّعة وذات قافية يصعب حفظها، فقد حفظها واعتلى المنبر وقرآها بفصاحة وبلاغة نادرة.
وحيث لم تكن لهذه البراعة من سابقة، لانه طفل ذوثمان سنوات، خاف عليه خاله من عيون الحاسدين، فقلّل من القاءه ليلياً الى القاء في ليلة أو ليلتين في الاسبوع. كان الميرزا حسن الشيرازي يكثر من حفظ القرآن الكريم، وكان حافظاً لادعية شهر رمضان المبارك بلياليه ونهاره، وكان أيضاً حافظاً لزيارات الائمة من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وكان رحمة الله كثير البكاء من خشية الله تعالى وكان رقيق القلب عطوفاً للغاية.
من أجل وحدة المسلمين
من المعروف ان مدينة سامراء تسكنُها اكثريّةٌ مُسلمة سنّية وفي هذه المدينة يُوجد مرقدُ الامامين علي الهادي والحسن العسكري عليهما السلام وموقع غيبة الامام المهدي المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشريف، ومن هذه الناحية تُعتبر سامراء مدينة مقدسة جداً بالنسبة للشيعة الذين يسافرون اليها جماعات وفرادى لزيارة العتبات المقدسة فيها، ولهذا فهي مُلتقى السنة والشيعة كليهما، وفي الماضي حينما كانت الانتماءات المذهبية والطائفية على أشدّها الى حدّ انها كانت تتخذ طابع التحدّي كان يحصل بعض المناوشات والنزاعات بين الفريقين.
وعندما نقل السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي حوزة درسه وسدة رئاسته الدينية الى مدينة سامراء حاول بكل جهد الوقوف ضدَّ أي عمل أو قول قد يُثير حفيظةَ السُنّة على الشيعة أو بالعكس بل سعى الى أن تسود روح السلم والوئام والتعايش الودّي بين الفريقين، أما اذا ما وقع شيءً ينبأ عن تصادم فانه كان يبادر على الفور الى تطويقه وحلّه بالحسنى، لانه كان يعلم جيداً ان القوى الأجنبية الطامعة تتربص وتتحين الفرص لأستغلال أي نزاع أو تصارع بين الطوائف الاسلامية في تحقيق غاياتها الاستعمارية وفرض هيمنتها على المسلمين جميعاٍ، ومن هنا كان يحرص على وحدة الكلمة الاسلامية.
وفي هذا الصدد نقل حفيدهُ العلامة المحقق المفضال السيد رضي الشيرازي – نزيل طهران – حكايات عن بعض تصرفاته التي تُنبيء عن حكمته وتبصّره وحرصه على صون روح الوئام بين المسلمين.
قال: عندما شرع السيد الميرزا المجدد الشيرازي ببناء مدرسته الدينية العلمية الكبرى في مدينة سامراء وهي من جملة المنشآت التي اقامها في هذه المدينة خلال سنوات اقامته فيها، تشجّع المسلمون السُنّة بدورهم لبناء مدرسة دينية لعلمائهم، ولكنهم لم يتمكنوا من إتمام بناءها نظراً لانهم كانوا يفتقدون المال اللازم لها ولم يكن أمامهم من حيلة سوى الرجوع الى السيد الشيرزاي لطلب مساعدة مالية منه، وعندما ألتمسوا منه مثل هذه المساعدة قام على الفور بتلبية طلبهم وزوّدُهم بمنحةٍٍ مالية سخيّة، وكانت هذه اللفتة الكريمة منه عاملاً من عوامل الانسجام والوئام بين سكان الدينة.
الرعاية الأبويّة في التوجّه الوحدوي
حصل أن تشاجر رجل مسلم سنّي مع رجل دين شيعي في سامراء واشتدّ النزاع بينهما فتدخل آخرون في الصراع ممّا ادى الى تفاقم الموقف ووصل الأمر الى أن بعض الجُهّال قاموا برشق بيت السيد الشيرازي بالحجارة والأساءة اليه فشاع الخبر في انحاء البلاد وكاد أن يتطور الموقف الى نزاع مسلح وفتنة طائفية عويصة لو لا حكمة وتبصّر السيد المجدد الشيرازي وقيامه بتطويق الازمة وتهدئة الحالة بنفسية الزعيم المسالم والمصالح الرؤوف الذي يضعُ مصلحة الامة والدين فوق كل اعتبار، وأرادت جهاتٌ اجنبية طامعة أن تستغل الموقف لصالحهها، ومن هنا قام القنصلان البريطاني والروسي في بغداد بالسفر الى سامراء لاعلان تأييد حكومتيهما للسيد الشيرازي لكسب ودّه ولتحقيق غاياتهما في النكاية بالحكومة العثمانية، وعندما وصل القنصلان الى سامراء رفض الشيرازي استقبالهما والاجتماع بهما وأبلغهما بالواسطة أن ليس هناك ما يدعو للقلق لقد حصل شيء ما بين ابنائنا ونحن قادرون على تجاوزه بالحسنى ولسنا بحاجة لمساعدة أحد.
ومن جانب آخر أعلن رؤساء العشائر العربية القاطنة في منطقة الفرات الاوسط وهي تدين بالمذهب الشيعي تأييدهم للسيد الشيرازي وأبلغوه أن ثمانين ألف رجل مسلم بالسيوف المشهرة مُستعدون لخوض المعركة الى جانبه وأنهم رهن إشارته فردّ عليهم السيد بالقول ليست هناك حاجة لذلك فنحن كفيلون بحلّ ما وقع بين ابناءنا وتجاوزه بالسلم والمصالحة،
وبهذه الصورة استطاع السيد الشيرازي أن يُهدّأ الموقف ويحولَ دون تأزمّه وأن يسدَّ الطريقَ على المُتربصين الدوائر ضدّ المسلمين ومصالحهم العليا، وعندما علم والي بغداد العثماني بها الموقف النبيل للسيد الشيرازي سافر الى سامراء ومعه كتاب شكر من السلطان العثماني وحالما وصل الى سامراء استقبله السيد الشيرازي بوصفه فرداً مسلماً حيث أعرب له الوالي عن آيات شكر حكومته وعن تقديره له على مساعيه الحميدة في تجنب البلاد الاسلامية من الوقوع في فتنة طائفية لاتحمد عقباها وكادت أن تكون كارثة على الحكومة العثمانية، خاصة وانها كانت في صراع خفي ومعلن مع الحكومة البريطانية آنذاك، وكانت الحكومتان تستغلاّن المواقف والأحداث والوقائع في دول الشرق الاوسط ضدّ بعضهما بعضا.
بيدَ انَّ الوالي العثماني حسن باشا كان هو في الأصل منشأ النزاعات والمشاجرات بين السنة والشيعة في سامراء لحقدٍ دفين في نفسه على الميرزا المجدد الشيرازي، إذ أنه كان قد زار الميرزا فلم يعتن به، جرياً على عادة السيد في عدم الاهتمام بالمسؤولين الحكوميين فحقد الوالي عليه واوغر بالشيعة بعض المتعصبين من الأهالي في سامراء ممّن ثقل عليهم توطّن الميرزا الشيرازي في بلدهم.
وبالرغم من أن الحكم العثماني في العراق كان يُعاديه ويضع العراقيل امامه ويثيرُ حفيظةَ بعض الفرق الاسلامية ضدَّه الاّ أنه لم يرض اطلاقاً بالدخول في محاور سياسيةٍ ضدَّ الحكم ولم يقبل بمساعدة أية جهة غير اسلامية وفي هذا الصدد كان ردَّه على عرض المساعدة من جانب بريطانيا في الفتنة الطائفية التي وقعت في سامراء سنة 1311 هجرية «ان لا حاجة لدسّ أنف بريطانيا في هذا الامر الذي لايعنيها، لاننا والحكومة العثمانية على دين واحد وقبلةٍ واحدة وقرآن واحد » ويبدو من ذلك بجلاء أنه كان حريصاً على وحدة الجماعة الاسلامية رغم الخلاف المذهبي مع الدولة العثمانية، وقطع الطريق أمام تدخلات القناصل الاوربيين، وخاصة الانجليز الذين كانوا ينشطون لاقامة أوسع العلاقات مع القيادات الاجتماعية والأعيان في المدن والريف داخل العراق تمهيداً لأحتلاله وهو ما حصل بالفعل.
وممّا يجدر ذكره هنا أن اسلوب الحكم الذي مارسه الأتراك خلال فترة سلطتهم على العراق كان اسلوباً بتميّز الى حدّ كبير بالتعصب الشديد ضدّ الشيعة، ومن هنا فان الشيعة كانت تتحيّن الفرص دوماً للخروج على طاعتهم وللثورة ضدّ حكمهم وقد تمثلت مناهضة الشيعه للحكم التركي المُتزمت والمتعصب في سلسلة من الثورات والانتفاضات الشعبية التي قامت بها القبائل الشيعية. القاطنة في منطقة الفرات الأوسط، وكذا أهالي المدن الشيعية المقدسة في العراق مثل كربلاء والنجف.
ومما ينبغي الاشارة إليه بعد ذكر المجدّد الكبير الميرزا الشيرزاي وخلفه المرجع الكبير السيد ابي الحسن الاصفهاني (اعلى الله مقامهما ) هو التشابه بين مرجعيتيهما الناجحتين في تاريخ الشيعة.
إذ يجب القول أن الميرزا الشيرازي كان مجدداً لرونق الدين ورفعة شعائره وهو الذي جلب لرجال الدين وعلماء المذهب سمعة لائقة بهم ومكّنهم من أن يحتلّوا مكانة اجتماعية وسياسية مرموقة بعد مرحلة فتور انزوى فيها علماء الدين عن الساحة الاجتماعية والشؤون الزمنية واُمور المسلمين المعاشية بسبب تغلب نوع من الزهد المُغالي فيه بما يشبه الرهبانية على بعضهم،
فكان هو رحمه الله بمثابة المصلح والمجدّد الديني الذي منح الحوزات والمحفل الدينية الامامية دفعاً قوياً الى الأمام فيما تسلم السيد الاصفهاني الرئاسة والمرجعية بينما الحوزات العلمية ناشطة والحركة العلمية الدينية على أشدّها فأوجد لنفسه مكانة دينية فاقت الآخرين من أقرانه بفضل ما تحلّى به من كياسة وتبصّر وبُعد نظر وعقل راجح ورأي صائب فاجتمعت كلمة المسلمين الإماميين حوله فكان خير خلف لخير سلف.
من مؤلفاته.
1. تحريرات في الاُصول / مخطوطة
2. تحريرات في الفقه / مخطوطة
3. كتاب الطهارة / مخطوطة
4. كتاب الصلاة / مخطوطة
5. رسالة الاجتماع في الأمر والنهي / مخطوطة
6. كراريس فيها السؤالات بخط سماحته / مخطوطة
7. حاشية على نجاة العباد / مطبوعة
8. رسائل عملية اخرى / مطبوعة.
علماً بأن الميرزا الكبير لم يكن يرغب بنشر كتبه ومؤلفاته، إستحقاراً منه لها، كما ذكره الشيخ آغا بزرك الطهراني قدس سره، صاحب الذريعة في كتاب (هداية الرازي الى الامام المجدد الشيرازي ص 59 الفصل الرابع).
1/ الكنى والألقاب/ للشيخ عباس القمّي رحمه الله تعالى/ ج3/ ص 222.