لم يهتم أصولُ الفقه، وتبعاً له لم يهتم الفقه، بالمنظومة الأخلاقية والمعايير القيمية ومجالاتها المحورية وروافدها الملهمة، وأثر الضمير الأخلاقي في بناء الحياة الإنسانية الأصيلة، ولم يحدّد موقعَها في الشريعة الإسلامية، على الرغم من أن المنظومةَ الأخلاقية والمعاييرَ القيمية منبثةٌ في سياق الآيات باختلاف موضوعاتها.
الاجتهاد: يمكن افتراض أن المعرفة الفقهية تتحرك في نطاق بنى منهجية محددة متمثلة في علوم المنطق واللغة وأصول الفقه.., بمعنى أنها تخصصية إلى الحد الذي تنأى معه عن تناول المفاهيم المفتوحة على الثقافات والتصورات البشرية التي تتدفق بشكل مستمر وفق متغيرات الواقع,
فالفقه غير معني بالنقد الثقافي أو بحوار الحضارات بل له مهمة محددة باستنباط الاحكام الشرعية, مع أن تلك الأحكام تؤدي فيما بعد إلى خلق نسق ثقافي, والنسق الثقافي كنتيجة حتمية لمنتجات المعرفة الفقهية هو ما يشكل الانعطاف العسير للمعرفة الفقهية,
فالفقيه وهو يتحرى حكما شرعيا عبر قراءات متعددة ومكثفة للنص التشريعي ليس من شأنه –وفق السياقات المعرفية للاجتهاد- أن يقدم منظومة متكاملة معصومة عن الزلل, وغالبا ما يتم إغفال الفارق بين الفقه كفهم بشري وبين النص كوحي إلهي, مما يثير إشكالية النقد حول المخرجات الفقهية, فالفقه عملية منفصلة عن منظومة الاعتقاد والعقائد, من ناحية الممارسة المعرفية, فمجال الفقه لا كمجال العقائد من حيث النشاط الذهني والمعرفي لكليهما, لكن الفقه في آخر المطاف ينتج نسقا ثقافيا يواجه الكثير من الاشكاليات والعقبات,
لذا فعندما يوجه النقد للمخرجات الفقهية بعد أن تصبح نسقا ثقافيا فإن استعدادات الإجابة تنطلق من المجال العقائدي, بمعنى أن ما يواجهه الفقه من شبهات يتم الرد عليها من خلال منظومة العقائد, ومعنى ذلك أن الدفاع عن الفقه يكون من خارج علم الفقه لأن علم الفقه ذا منحى تخصصي تأويلي خاص يُعنى بتفسير النص التشريعي, وليس أمام الفقيه سوى اللجوء إلى المضادات التي يقدمها علم العقائد والكلام, وهذا ربما يكون اجراء مناسبا وطبيعيا وفق طبيعة البنية المنهجية لكل من مجال الفقه والكلام.
ينطلق النقد غالبا من الواقع الذي يضغط على التراث ويثير الكثير من التساؤلات حول الكثير من المعارف الدينية, ويتميز ذلك النقد بأنه لا يأخذ طابعا معرفيا من حيث أنه يطالب بالأدلة والمصادر المعرفية للمعرفة الفقهية فحسب, بل يطالب بضمان عقلانية النتائج والنهايات التي ينتهي إليها الفقه, بوصفها واقعا قائما يختزل الكثير من المشكلات, من هنا تتعسر الإجابة, لأن النقد يأتي في إطار محاكمة قاسية وصارمة تتجاوز حدود البنى المنهجية في المعرفة الدينية مما يدعو إلى مواجهة مغايرة ذات نمط خاص.
ومع ملاحظة جدل القيم الانسانية ودعوى أن الفقه في حالة أزمة مع القيم لابد من تحديد مصطلح القيم بشيء من الدقة, وقد يثير مصطلح (القيم الانسانية) اشكالية تتحدد بتقابل الدين مع القيم الانسانية بحيث تأخذ تلك المقابلة شكل التضاد بين الدين والانسانية, وتؤسس إلى اعتبار أن القيم الانسانية تقابلها قيم دينية,
لكن الدقة تقتضي انصاف تلك الثنائية بشيء من التفصيل, فعلى المستوى التداولي والاستعمالي ترسخت تلك الثنائية بين القيم الانسانية والقيم الدينية على وفق ما تمخض عن الجدل الفكري حول محورية الإنسان مقابل محورية الإله في التصورات الغربية, فتم تقرير ان النزعة الانسانية نزعة لا دينية, بوصفها اتجاه فكرى عام تشترك فيه العديد من المذاهب الفلسفية والأدبية والأخلاقية والعلمية، ولقد ظهرت واكتملت بوضوح في عصر النهضة.
كما أن النزعة الإنسانية تمثل مذهب فلسفي أدبي مادي لاديني، يؤكد على فردية الإنسان ضد الدين ويُغلب وجهة النظر المادية الدنيوية.
وتمثل النزعة الإنسانية تيارا ثقافيا ازدهر في أوروبا وينظر إلى العالم بالتركيز على أهمية الإنسان ومكانه في الكون[1], فعلى وفق هذه الصورة تشكل موقفا لادينيا, على أساس أن أصحاب تلك النزعة لا دينيين, ذلك بأنها – حسب (أندريه لالاند)- مركزية إنسانية متروية، تنطلق من معرفة الإنسان، وموضوعها تقويم الإنسان وتقيمه واستبعاد كل من شأنه تغريبه عن ذاته، سواء بإخضاعه لقوى خارقة للطبيعة البشرية، أم بتشويهه من خلال استعماله استعمالًا دونياً، دون الطبيعة البشرية[2],
فيجري استبعاد الغيب بكل تجلياته السماوية أو غيرها, من دون اكتراث إلى أي إرث ديني مهما كان راسخا في عمق التاريخ ومهما بلغت انجازاته المعرفية لأن النزعة الإنسانية: تقوم على الاعتراف بأن الإنسان هو مصدر المعرفة وأن خلاصه يكون بالقوى البشرية وحدها، وهذا اعتقاد يتعارض بشدة مع المسيحية بل يتعارض مع جميع الأديان التي تعتقد في خلاص الإنسان بالله وحده.
ونفس المعنى ورد فى “قاموس الفلسفة” إذ تم تحديد مفهوم النزعة الإنسانية بأنها نظرية ترفض تبنى كل أشكال الاغتراب والاضطهاد وتطالب باحترام الكرامة الإنسانية وحتى الأشخاص في أن يعاملوا كغايات في ذاتها.
ولكن هذا لا يعنى أن النزعة الإنسانية في الفكر الغربي، هي خروج على الدين، فيمكن أن نميز بين النزعة الإنسانية المسيحية المؤمنة وهى لا تزال تمثل تيارًا فلسفيًا حتى هذه اللحظة في أوروبا يكفى أن نذكر كأمثلة عليها فلاسفة كبار مثل “كارل ياسبرز” الألماني ” جابريل مارسيل” الفرنسي[3].
ويمكن تقرير أسبقية التداول لمصطلح (النزعة الانسانية) من قبل الجانب المختلف أو المناقض للدين, فأصبحت تقترن بالاتجاه الالحادي فقد مثل النزعة الإنسانية المُلحدة في العصر الحديث “سارتر – وهيدجر” والتي تعنى التمرد على الله من أجل العناية بالإنسان، وهكذا شكلت النزعة الإنسانية أو الأنسنة من خلال التنوير الأوروبي واحداً من أعمدة الحداثة الغربية، خاصة وأن الأنسنة تعطي أهمية كبيرة للإنسان وعقله في التمييز وإدراك وبناء الأحكام المعيارية، ومعناه أيضا رفض كل أسبقية دينية أو ميتافيزيقية يمكنها أن تحد من إبداع الإنسان وفعاليته في التاريخ، أي أن الأنسنة أو النزعة الإنسانية بهذا المعنى تمثل” قطيعة حاسمة مع كل نظرة لاهوتية صادرت كيان الإنسان باسم الإيمان وتمثل في الوقت نفسه تأسيساً لفلسفة جديدة لرؤية جديدة تحل الإنسان محل المركز من الوجود بعد أن كان من الوجود على هامشه[4].
وتتضح لا دينية النزعة الإنسانية من خلال الوصف الذي يقدمه (علي حرب) من كونها ثمرة لعصر التنوير وانقلابا على الرؤية اللاهوتية للعالم والإنسان، أي ثمرة رؤية دنيوية ومحصلة فلسفة علمانية ودهريه، بهذا المعنى فإن الأنسنة هي الوجه الآخر للعلمنة، فما أنجزته الحداثة الغربية هو كونها أحلت سيادة الإنسان وسيطرته على الطبيعة محل الذات الإلهية وهيمنتها على العالم، وذلك على العكس ما كان سائدًا في القرون الوسطى، من خلال استقلالية الذات البشرية وتحرير عقلها أو روحها[5].
إن البيئة الفكرية التي انتجت أدبيات القيم الإنسانية وحتى لائحة حقوق الإنسان, تختلف كثيرا عن البيئة الدينية, فقد تمخضت عن خلفيات تاريخية تضمنت صراعات طويلة بين العقل والكنيسة, ومهما يكن فإن ذلك لا يمنع من تناول النزعة الإنسانية في الدين وردم الهوة بين الدين والقيم الإنسانية, على أساس المجاورة لا المقابلة ذلك أن القيم الإنسانية قيم فطرية قبل أن تكون قيما دينية أو لا دينية.
وبما أن الفقه يمثل المساحة العملية والواقع التطبيقي للدين, فإنه في الوقت نفسه يواجه هذه الإشكالية بشكل ملحوظ, فكم هو حجم المفارقة بين الفقه والقيم الانسانية ؟
قد يبدو غريبا لدى المعنيين بالمعرفة الدينية افتراض المفارقة بين الفقه والقيم, مع ملاحظة أن الفقه ينطلق من النص الديني (القرآن والسنة) الذي يؤسس لمنظومة القيم بعدة صياغات, لكن المسألة تخضع لمجموعة من السياقات المعرفية التي يمكن أن تكشف فيما بعد عن وجود تلك المفارقة ولو في بعض الجوانب, ذلك أن بعض مخرجات الفقه الاسلامي تكاد تفارق الواقع الانساني, من خلال بروز بعض الاشكاليات التي تكرس دعوى ابتعاد الفقه الاسلامي عن القيم الانسانية,
يشير الدكتور عبد الجبار الرفاعي إلى إشكالية الفقه والقيم من خلال قوله: (لم يهتم أصولُ الفقه، وتبعاً له لم يهتم الفقه، بالمنظومة الأخلاقية والمعايير القيمية ومجالاتها المحورية وروافدها الملهمة، وأثر الضمير الأخلاقي في بناء الحياة الإنسانية الأصيلة، ولم يحدّد موقعَها في الشريعة الإسلامية، على الرغم من أن المنظومةَ الأخلاقية والمعاييرَ القيمية منبثةٌ في سياق الآيات باختلاف موضوعاتها.
كذلك أهمل أصولُ الفقه، وتبعاً له أهمل الفقهُ، الدلالاتِ القرآنيةَ للحياة الروحية، وتعبيراتها العميقة في الحياة، والروافد التي تستقي منها، ولم يحدّد موقعَها في الشريعة الإسلامية، على الرغم من أنها تسري في سياق الآيات باختلاف موضوعاتها كالمنظومة الأخلاقية والمعايير القيمية)[6], وفي ضوء هذا التصور فإن القيم لم تكن حاضرة في المنهج الفقهي, مع أن النصوص التي يعتمد عليها الفقيه هي ذاتها التي تؤسس للمنظومة القيمية,
لكن يمكن الملاحظة عليه من عدم حضور القيم في المنهج الفقهي من خلال ما أشرت إليه سابقا حول تخصص الفقه وأنه علم قائم بقواعد خاصة بعيدة عن التنظير للقيم, ومع وعي حقيقة المشكلة فإن مخرجات الفقه ربما تتعارض مع بعض القيم الراسخة, وهو ما يستدعي أن تكون هناك لائحة تشتغل على مساحة (فلسفة التشريع) تؤدي بدورها إلى إبراز الجانب القيمي في الشريعة الاسلامية, وهو الجهد الذي طالما يتم إهماله للأسف,
فالحركة العلمية تغور بالاستدلال وتفاصيله الدقيقة من دون وضع ركائز عامة للتشريع تعالج كل ما يطرح من شبهات معاصرة حول الاحكام التي ينتجها الفقه, وهو ما يعبر عنه بالفقه الفردي والجزئي, وعدم الاهتمام بالفقه المجتمعي, الذي يعالج قضايا كلية, على انه ليس من المنصف تعميم القصور على طول خط الممارسة الفقهية,
والجدير أن نلاحظ أن المشكلة في الفهم لا في أساس التشريع, وكمثال على ضعف حضور القيم الانسانية في التفكير الفقهي هو ما آلت إليه فتاوى التكفير من مختلف المذاهب الاسلامية, بسبب ضيق الأفق في الرؤية و التركيز على ما هو جزئي وتجاهل ما هو كلي، لذا كان من الجدير تناول الجانب المشرق من المعرفة الفقهية التي تنهل من الوحي ما يحي الضمير الإنساني من خلال غرس القيم في عمق السلوك الفردي والاجتماعي, وهو ما يسهم في تقويض أي شبهة من خلال تجديد الخطاب الفقهي وتحديث أساليب العرض والتناول ولو على المستوى الأكاديمي, والاهتمام بمجال فلسفة التشريع لكونه العتبة الأولى أمام مواجهة مختلف الجدليات التي تختزل الاشكاليات المزمنة على الفكر الديني.
الهوامش
[1]- د.عماد الدين ابراهيم خليل, النزعة الإنسانية (الأنسنة) ..الجذور والنشأة, مقال منشور على (دراسات وبحوث) تصدر عن مؤسسة المثقف, (http://www.almothaqaf.com)
[2] – أندريه نتاف: الفكر الحر، ترجمة. رندة بعث، تدقيق جمال شحيد، المؤسسة العربية للتحديث الفكري، دار المدى، دمشق، ط1، 2005، ص63.
[3]- أندريه لالاند: موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب. خليل أحمد خليل، المجلد2، منشورات عويدات، بيروت،باريس، ط1، 1996، ص569.
[4]- هاشم صالح: مدخل إلى التنوير الأوروبي، ص77.
[5]- ظ: د.على حرب: الماهية والعلاقة، نحو منطق تحويلي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1998، ص214.
[6]- الرفاعي, عبد الجبار, الاخلاق والمدونة الفقهية, مقال منشور في موقع مؤمنون بلا حدود
المصدر: كلية الفقه جامعة الكوفة / قسم علوم الحديث الشريف.