الاجتهاد: بالرغم من تصريحات عن الولاية والنيابة العامة للفقيه عن المعصوم (ع) إلى حد تصنيفها لدى بعضهم مسلمةً من مسلمات الفقه الشيعي، فإن ما يثير التعجب هو إصرار بعضهم على أن فقهاء الشيعة إلى ما قبل العصر الراهن كانوا يرون ولاية الفقيه منحصرة بالأمور الحسبية، والولاية السياسية للفقيه إنما هي من الأمور المستحدثة الفقهية.
يعود تاریخ ولاية الفقيه إلى بدايات الفقه نفسه، فمنذ بداية تاريخ الاجتهاد والفقه كان هناك اعتقاد بولاية الفقيه في بعض الأمور، ومن هذه الناحية يمكن تصنيف هذه المسألة مسلمة من مسلمات الفقه الشيعي، والخلاف الموجود بين فقهاء الشيعة فيها إنما يدور حول دائرتها ونطاقها.
إن تقرير الولاية للفقيه، في موارد من قبيل الإفتاء والقضاء والأمور الحِسبية، مما اتُّفق عليه تقريبا(1)، ومحل البحث واختلاف النظر إنما هو ولاية الفقيه في الأمور الاجتماعية والسياسية، والتي يعبر عنها بالولاية العامة للفقيه، أو النيابة العامة له عن المعصومين (ع).
يؤكد بعضهم أن الولاية العامة للفقيه – والتي تجاوز الولاية على القضاء والأمور الحسبية – ظاهرة حديثة البروز في تاريخِ الفقه الشيعي، وهي تعود إلى مرحلة معاصرة ومتأخرة للفقه، ومن هنا قام بالتشكيك في مدى أصالة هذه النظرية، والحال أن الولاية العامة للفقيه حظيت بمعتقدين كبار على امتداد التاريخ الفقهي الشيعي منذ عصر القدماء وحتى زماننا الحاضر، كما أفتى بها أساطين الفقه والفقاهة أيضا، ونشير هنا إلى بعضهم وفق مقاطع تاريخية.
يقول الشيخ محمد بن النعمان البغدادي الملقب بالشيخ المفيد (ت ۶۱۳ هـ ق) – وهو من أكابر فقهاء الشيعة – في كتابه المقنعة: “فأما إقامة الحدود فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله تعالى، وهم أئمة الهدى من آل محمد (ص)، أو من نصبوه لذلك من الأمراء والحكام، وقد فوضوا النظر فيه إلى فقهاء شیعتهم مع الإمكان (2).
وهذا البيان صريح في أن الأئمة (ع) – بوصفهم سلاطين للإسلام – يمكنهم زمن حياتهم نصب الولاة والحكام لمقام الولاية على إجراء الحدود الإلهية، وقد فوضوا هذا المنصب في عصر الغيبة إلى فقهاء الشيعة، والولاية على إجراء الحدود الإلهية – يتعدی بمراحل – الولاية على القضاء في المنازعات، بل هي من شؤون الولاية السياسية.
وتشير كتب الأحكام السلطانية عادة – في المواضع التي تأتي فيها على ذكر وظائف الوالي والحاكم الإسلامي ومسؤولياته – إلى مسألة إجراء الحدود الإلهية كوظيفة من تلك الوظائف (3).
ويشير الشيخ المفيد، في موضع آخر من كتاب المقنعة، إلى تخطي ولايةِ الفقيه للأمور الحسبية؛ حيث يقول: “ليس للوصي أن يوصي إلى غيره إلا أن يشترط ذلك الموصي، فإن لم يشترط له ذلك لم يكن له الإيصاء في الوصية، فإن مات كان الناظر في أمور المسلمين يتولى إنفاذ الوصية على حسب ما كان يجب على الموصي أن ينفذها، وليس للورثة أن يتولوا ذلك بأنفسهم، وإذا عدم السلطان العادل في ما ذكرناه من هذه الأبواب كان لفقهاء أهل الحق العدول من ذوي الرأي والعقل والفضل أن يتولوا ما تولاه السلطان، فإن لم يتمكنوا من ذلك فلا تبعة”(4).
والعبارات الأخيرة لهذه الفتوى تفيد أن فقهاء الشيعة العدول وأصحاب الفضل والنظر والعقل لهم الولاية في كافة الموارد التي كان للسلطان العادل فيها ولاية (وسلطان الإسلام هنا بمعنى الأئمة الأطهار)، وهذا معناه أن بإمكانهم التصدي وإدارة الأمور، إلا إذا حال أمر ما أو لم تكن لهم قدرة وممكنة خارجية على القيام بذلك.
ويقول حمزة بن عبدالعزيز الديلمي، الملقب بسلّار (ت 463 هـ ق)، في كتابه المراسم: “فقد فوضوا إلى الفقهاء إقامة الحدود والأحكام بين الناس بعد أن لا يتعدوا واجبا ولا يتجاوزوا حداً وأمروا عامّة الشيعة بمعاونة الفقهاء على ذلك (5).
فوفقاً لهذه الفتوى فوضت إقامة الحدود والأحكام الإلهية – وهما من شؤون الولاية السياسية ويتجاوزان ولاية القضاء – للفقهاء الشيعة، كما طلب الأئمة من الناس مساعدة الفقهاء على إنجاز هذه المهمة.
ونتجاوز القرنين الرابع والخامس إلى القرن العاشر؛ حيث نلاحظ المحقق الكركي – فقيه ذلك العصر- يصرح، في رسالته عن صلاة الجمعة، بالولاية العامة للفقيه العادل الجامع للشرائط،
ويرى أن هذا الموضوع اتفاقي و مورد قبول فقهاء الشيعة كافة، فهو يقول: “اتفق أصحابنا على أن الفقيه العادل الأمين الجامع الشرائط الفتوى – المعبّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية – نائب من قبل أئمة الهدى (ع) في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل… بل لولا عموم الولاية لبقي كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطّلة”(6).
وقد تضاعف عدد الفقهاء الذين صرحوا في كتبهم بالولاية العامة للفقيه في القرنين الأخيرين، بل إن بعضهم كتب رسالة مستقلة خصصها لبحث ولاية الفقيه، وفي الكثير من كلماتهم جاء ذكر الولاية العامة للفقيه كأمر اتفاقي مجمع عليه.
يقول المحقق الهمداني: “وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في نيابة الفقيه الجامع لشرائط الفتوى عن الإمام (ع) حال الغيبة في مثل هذه الأمور، كما يؤيده التتبع في كلمات الأصحاب حيث يظهر منها كونها لديهم من الأمور المسلمة في كل باب، حتى أنه جعل غير واحد عمدة المستند لعموم نيابة الفقيه لمثل هذه الأشياء الاجماع “(7).
وينسب المحقق النجفي – صاحب الجواهر – عموم ولاية الفقيه إلى ظاهر کلام فقهاء الشيعة، ويذكر التزامهم – عملا وفتوی – بهذا العموم في الأبواب المختلفة، ويعتبر ذلك قريبا من المسلمات والضروريات الفقهية(8).
وبالرغم من هذه التصريحات جميعها عن الولاية والنيابة العامة للفقيه عن المعصوم (ع) إلى حد تصنيفها لدى بعضهم مسلمةً من مسلمات الفقه الشيعي، فإن ما يثير التعجب هو إصرار بعضهم على أن فقهاء الشيعة إلى ما قبل العصر الراهن كانوا يرون ولاية الفقيه منحصرة بالأمور الحسبية، والولاية السياسية للفقيه إنما هي من الأمور المستحدثة الفقهية.
وبالرغم من أنه لم يجر التأكيد، في العبارات السالفة الذكر، على خصوص الولاية السياسية، بيد أنها أخذت شأناً عاماً للفقيه العادل يشمل كافة الأمور التي كانت قابلة لتصدي الإمام (ع) لها، فعندما يصرّح المحقق الكركي بأن للمجتهد العادل قابلية النيابة عن المعصوم (ع) في كافة الأمور، ویری اتفاق علماء الشيعة وفقهاؤهم على ذلك، فمن الواضح حينئذ شمول ذلك للحكومة على مجتمع المسلمين، ذلك أن الزعامة السياسية على الأمة شأن من شؤون الإمام المعصوم، ومما يقبل النيابة عنه فيه.
الهوامش
1 – لقد أوضحنا الأمور الحسبية في نهاية الفصل الثالث فراجع.
3 – المقنعة، الشيخ المفيد، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص ۱۲۹، مجموعة الجوامع الفقهية.
3 – يرى الماوردي، في الأحكام السلطانية، ص ۱6، أن إقامة الحدود هي الوظيفة الرابعة من وظائف الوالي والإمام، وهكذا الحال مع أبي يعلى أيضا حيث يذكر عشر وظائف للإمام، ويعد هذه الوظيفة الرابعة، راجع الأحكام السلطانية:۲۷، أبو يعلى محمد بن الحسين الغرّاء، مكتب الإعلام الإسلامي، 1406 ه ق.
4 – المقنعة، کتاب الوصية: ۱۰۲، مجموعة الجوامع الفقهية.
5 – الجوامع الفقهية: 569، مكتبة آية الله المرعشي النجفی، قم، 1404 هـ ق.
6 – رسائل المحقق الكركي، تحقيق محمد الحسون، المجموعة الأولى،رسالة في صلاة الجمعة: 142. ۱4۳،قم، ۱4۰۹هـ ق.
7 – مصباح الفقيه 14: ۲۹۱، کتاب الخمس، الشيخ الهمدان.
8 – جواهر الكلام 16: ۱۷۸، محمد حسن النجفي، طهران، دار الكتب الإسلامية.
المصدر : كتاب : الدولة الدينية تأملات في الفكر السياسي الشيعي . تأليف أحمد واعظي – ترجمة حيدر حب الله – منشورات الغدير
الشیخ الدكتور أحمد واعظي من الأسماء المعروفة في الوسط الثقافي الإيراني الساعية لتأصيل مفاهيم النظام الإسلامي في إيران بالاعتماد على المقولات المعاصرة والأجهزة المعرفية الحديثة. وهذا الكتاب يأتي في سياق جملة من الأبحاث التي أصدرها الكاتب بقصد الإجابة على مختلف الإشكالات الموجهة إلى التركيب السياسي والفكري للدولة الإيرانية.
ويتألف الكتاب من أربعة فصول رئيسة.
يجري في الفصل الأول منها شرح حقيقة الحكومة والدولة الدينية وماهيتها، فيما يخصص الفصل الثاني لبحث المذهب العلماني، ذاك المذهب الذي لا يتفاعل مع أصل تركيب الدين والدولة، وينكر بالتالي مرجعية الدين في الأمور الاجتماعية، والسياسية، كما سوف يجري في هذا الفصل أيضاً-وضمن تعريف العلمانية-التعرض لأهم الاستدلالات التي أثارها العلمانيون لنفي الدولة الدينية، ومن ثم الإجابة عنها.
أما الفصل الثالث فيحاول-ابتداءً-دراسة التساؤل الآتي: هل أسّس النبي (ص) دولةً؟ وهل كان لهذه الدولة طابع ديني أو أن الدولة قد قامت بناءً على طلب وإرادة الشعب، وبالتالي فليس لدى الحديث أية دعوة لتشكيلها؟ واستمراراً لهذا البحث ستكون هناك دراسة للفكر السياسي للمذهبين الكبيرين المسلمين، أي المذهب الشيعي والمذهب السني.
أما الفصل الرابع والأخير، فيختص بالبحث عن الفكرِ السياسي الشيعي في عصر الغيبة، أي عن ولاية الفقيه، ويهدف إلى ذكر بعض المباحث المطروحة عن هذه النظرية.
تحميل الكتاب