الإمام الخميني منهجه في الاجتهاد ومدرسته الفقهية

مدى الحاجة إلى علم الأصول في استنباط الأحكام .. الشيخ سعيد ضيائي فر

عادة ما يدرس الفقهاء القائلون بدور كبير لعلم الأصول في الاستنباط، علم الأصول في مرحلة الخارج ضمن دورات متعددة، تستغرق كل دورة فترة طويلة جداً، قد يصل بعضها إلى عشرين عاما، وتبحث فيها موضوعات لاتمت بصلة إلى الاستنباط؛ لكن الإمام الخميني (قده) من جهةٍ درس الأصول لمدة لا تزيد عن 18 عاما (1364- 1382هـ)، ومن جهة ثانية انتقد مرارا طرح الأبحاث التي لا ترتبط بالاستنباط في علم الأصول.

الاجتهاد: من الأمور التي تسهم بشكل كبير في ظهور المدارس الفقهية، الاعتقاد بدور علم أصول الفقه – كماً وكيفاً – في الاستنباط. وعلى الرغم من أن فقهاء الإمامية ذهبوا مذاهب مختلفة في حجم الدور الذي يؤديه علم الأصول المدّون في الاستنباط، يمكن حصر الأقوال في ثلاثة آراء كلية:

الشيخ سعيد ضيائي فر
الشيخ سعيد ضيائي فر

الأول: نفي الحاجة إلى علم الأصول المتعارف، وهو ما ذهب إليه الأخباريون.

الثاني: وجود حاجة ضرورية وكبيرة لعلم أصول الفقه على مستوى واسع .

الثالث: إلى جانب أهمية علم الأصول والحاجة إليه، لا تأثير شامل له في عملية الاجتهاد، وإنما يقتصر دوره على الذوق الفقهي، والأنس بالمحاورات العرفية، والأنس بالكتاب والسنة.

وعلى هذا الأساس، أكد هذا الرأي لزوم معرفة القواعد الأصولية ووجوب اعتمادها في الاستنباط، لكنه لا يراها كافية في جميع الموارد؛ ولذا كثيرا ما يحتاج- فضلا عن القواعد الأصولية الجافة و غير المرنة- إلى الاستفادة من المباني الكلامية و التمسك بأمور من قبيل أهداف الشارع وأغراضه، ومذاق الشريعة، وملاكات الأحكام و …

القول الأول: عدم الحاجة إلى علم الأصول المدون و المتداول

یری علماء المسلك الأخباریّ من الإمامية أن جميع الأحكام التي يحتاجها الناس غالبا ما تكون موجودة بصورة واضحة في الروايات المأثورة عن الأئمة من أهل البيت (ع). وإذا ما دعت الحاجة إلى الاستنباط في بعض الموارد، فإنّ قواعده و ضوابطه مذكورة في الروايات، ولا ينبغي الاعتماد على علم الأصول المتداول المأخوذ من أهل السنة.

وفي هذا المجال، قال أحد علماء الأخباريين:

إن علم الأصول ملفّق من علوم عدة، و مسائل متفرقة، بعضها حق وبعضها باطل، وضعه العامة لقلة السنن الدالة على الأحكام عندهم، وبنوا عليه استنباط المسائل الشرعية النظرية ولم يقع في علم من العلوم ما وقع فيه من الخبط والخلاف، الذي أكثره أشبه شيء بالهذيان» (۱).

وقد صرح سائر الأخباريين بما يشبه هذه الرأي بشأن علم الأصول؛ ولذا سنطوي صفحا عن نقل كلماتهم.(2)

 القول الثاني: الحاجة الملحة إلى علم الأصول المدون والمتداول

ذهبت ثلة من فقهاء الإمامية إلى أن علم الفقه والاجتهاد بحاجة ماسة إلى علم أصول الفقه، بحيث لا يمكن استنباط أي مسألة فقهية دون القواعد الأصولية.

وقد برز هذا التوجه بعد تجديد علم الأصول على يد الوحيد البهبهاني (المتوفی 1205ه)، وازدهر بشدة في عصر الشيخ الأنصاري (المتوفی 1281ه)، ثم بلغ ذروته على يد الآخوند الخراساني (المتوفى 1329ه) وتلامذته.

ومن هنا، قال الآخوند الخراساني في بحث مقدمات الاجتهاد حول دور علم الأصول في الاجتهاد: عمدة ما يحتاج إليه هو علم الأصول؛ ضرورة أنه ما من مسألة إلا ويحتاج في استنباط حكمها إلى قاعدة أو قواعد بُرهن عليها في الأصول، أو برهن عليها مقدمة في المسألة الفرعية نفسها، كما هو طريقة الأخباري» (3)

وقد صرح أكثر تلامذة الآخوند المباشرين وغير المباشرين بمثل هذا الرأي بشأن دور علم الأصول . (4)

القول الثالث: الرؤية الوسطية

انتهجت مجموعة من فقهاء الإمامية الرؤية الوسطية في هذا المجال، فلمتنكر أصل الحاجة إلى علم الأصول كما فعل الأخباريون، ولم تعتبره محورا أساسيا للاستنباط بحيث لا يتسنی استنباط أيّ مسألة من دون القواعد الأصولية كما فعل الأصوليون.

فصحيح أن القواعد الأصولية ضرورية ولازمة لاستنباط الأحكام الشرعية، ولكن:

أولا: ليست ضرورية لجميع المسائل بحيث يتعذر استنباط أي مسألة دون الاستناد إليها(5).

ثانيا: قد لا تجدي القواعد الأصولية الجافة نفعا في بعض الموارد؛ بل لا بد من اللجوء إلى أمور أخرى، من قبيل الذوق الفقهي، الأنس بالمحاورات العرفية والنصوص المقدسة، مذاق الشريعة و..

ويمكن إدراج الإمام الخميني (قده) ضمن المجموعة الأخيرة من الفقهاء(6) ، وذلك لوجود قرائن متعددة في كلامه تؤيد ذلك:

ا- اعتبر الإمام في بحث مقدمات الاجتهاد علم الأصول من العلوم المهمة في الاجتهاد، ثم أشار إلى الرأيين السائدين (الأخباريين والأصوليين المتطرفين) حول مدى دخالة علم الأصول في الاجتهاد، وناقش قول الأخباريين بعدم الحاجة إلى علم الأصول في الاستنباط، واعتبره من التفريط، كما عدّ قول الأصوليين المتشددين من الإفراط، ثم قال: فطالب العلم والسعادة لابد من أن يشتغل بعلم الأصول بمقدار الحاجة إليه -وهي ما يتوقف عليه الاستنباط -ويترك فضول مباحثه أو يقلله، ويصرف الهمّ والوقت في مباحث الفقه، خصوصا في ما يحتاج إليه في عمله ليلا ونهارا»(7) . فهذا الكلام يدل بوضوح على أنه مثلما رفض إنكار الحاجة إلى علم الأصول، انتقد أيضا التعصب الشديد تجاه هذا العلم.

2 – في مقابل تأكيد الرأي الثاني دور الأصول، شدد الإمام الخميني على دور الكتاب والسنة في الاستنباط، واعتبرهما الشروط المهمة جدا واللازمة للاجتهاد، ثم أشار إلى الأنس بالأخبارالصادرة عن أهل البيت (ع)، فإنها برأيه رحى العلم، وعليها یدور الاجتهاد، والأنس بلسانهم وكيفية محاوراتهم ومخاطباتهم، بدلا من سبر أغوار علم الأصول.(8)

3  – عوّل في سيرته الاستنباطية على أمور من قبيل الارتكاز(9) ، مذاق الشارع والشرع(10) ، الوجدان(11) . فبينما تعتبر القواعد الأصولية ذات أطر منضبطة ومتصلبة،تعد الأمور المذكورة مرنة ومستقاة من تتبع الفقيه للآيات والروايات، وفي الحقيقة لا يبلغ الفقيه روح الشريعة إلا بعد كثرة التوغل والتضلع والتأمل في الآيات والروايات وكثرة التمرس فيها. كما إن الإمام اعتمد في استنباطاته بعض الأحيان على أهداف الشارع .(12)

عادة ما يدرس الفقهاء القائلون بدور كبير لعلم الأصول في الاستنباط علم الأصول في مرحلة الخارج ضمن دورات متعددة، تستغرق كل دورة فترة طويلة جدا، قد يصل بعضها إلى عشرين عاما، وتبحث فيها موضوعات لا تمت بصلة إلى الاستنباط؛ لكن الإمام الخميني (قده) من جهةٍ درس الأصول لمدة لا تزيد عن 18 عاما (1364- 1382هـ)(13)،ومن جهة ثانية انتقد مرارا طرح الأبحاث التي لا ترتبط بالاستنباط في علم الأصول .(14)

 

الهوامش

(1) – حسين الكركي العاملي، هداية الأبرار إلى طريق الأئمة الأطهار، ص 234.
(2) انظر على سبيل المثال: محمد أمين الأسترآبادي، الفوائد المدنية، ص 75 فصاعدا، محمد بن الحسن الحرالعاملي، الفوائد الطوسية، ص 463؛ محمد بن الحسن الحر العاملي، الفصول المهمة فيأصول الأئمة، ص 199؛ محمد بن الحسن الحر العاملي، بداية الهداية، ص 120محمد باقرالمجلسي، بحار الأنوار، ص 120؛ حسين البروجردي، الحاشية على الكفاية، ج 2، ص 21. وللاطلاع على مناقشة هذه الآراء، انظر: روح الله الخميني، الاجتهاد والتقليد ص11-12؛ علي السيستاني، الرافد في علم الأصول، ج 1، ص 12.
(3) محمد کاظم الخراساني، كفاية الأصول، ص 468
(4) انظر: محمد حسين النائيني، فوائد الأصول، ج 1، ص8؛ أجودالتقريرات، ج 1، ص 2؛ ضياء الدين العراقي، نهاية الأفكار، ج 4، ص 237؛ محسن الطباطبائي الحكيم، حقائق الأصول، ج2، ص 607 ؛ روح الله الخميني، الاجتهادوالتقليد، ص12.
(5) انظر: حسين البروجردي، نهاية الأصول، ص 11؛ حسين البروجردي، لمحات الأصول، ص 346؛ وانظر كذلك: حوار مع آية الله مکارم الشيرازي بعنوان: القضاء على التضخم والعرف في علم الأصول، المطبوع في كتاب: جایگاه شناسی علم اصول، ج 1، ص293فصاعدا.
(6) ذكر الإمام في بحث مقدمات الاجتهاد أمورا جعلها على ثلاث مراتب من الأهمية، فمنها ما هو شرط فقط، ومنها ما هو من المهمات، ومنها ما هو الأهم الألزم،بحسب تعبيره. وقد عدّالعلم بمسائل الأصول من الشروط المهمة لا الأهم. (انظر: روح الله الخميني،الاجتهاد والتقليد، ص 9-12). هذا في الوقت الذي ذهب بعض الأصوليين إلى أن التسلط على علم الأصول من الشروط المهمة جداّ.
7 – روح الله الخميني، الاجتهاد والتقليد، ص12۔
(8) المصدر نفسه، ص 12-13
(9) انظر: روح الله الخميني، کتاب البیع، ج 1، ص 245 و 398: ج 3، ص 447 ج 5، ص 50، روح الله الخميني،کتاب الطهارة، ج 1، ص 150 و369، 386 و389 و 500؛ ج 2، ص 180 و239 و266 . ج3، ص93 و138.
(10) انظر: روح الله الخميني، کتاب البيع، ج 1،364؛ ج2، ص725، ج 3، ص 608؛ ج4، ص433، روح الله الخميني، الرسائل، ج 2، ص 177؛ روح الله الخميني، المكاسب المحرمة، ج1، ص 171 و 269 ؛ ج 2، ص 380
(11) انظر: روح الله الخميني، المكاسب المحرمة، ج2، ص49 و 252؛ روح الله الخميني، کتاب البيع، ج2، ص 515 ج 5، ص12 و16 و 365؛ روح الله الخميني، کتاب الطهارة، ج 1، ص 10 |و36، ج3، ص 284.
(12) انظر: روح الله الخميني، کتاب البيع، ج2، ص542_543 و 548؛ ج5، ص527.
(13) انظر: حسين البروجردي، لمحات الأصول، المقدمة، صکز – کخ؛ پژوهشنامه متین، العدد 7، ص 246
(14) انظر: روح الله الخميني، أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية، ج1، ص317، الهامش رقم 1، ص349؛ روح الله الخميني، الاجتهاد والتقلید، ص10-12؛ روح الله الخميني، تهذيب الأصول، ج 1، ص 91 و 393.
 

المصدر: كتاب ” الإمام الخميني منهجه في الاجتهاد ومدرسته الفقهية” تأليف: سعيد ضيائي فر ( الصفحة 38)- ترجمة: رعد الحجاج – مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي- اسم الكتاب بالفارسية: مكتب فقهي امام خميني.

  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky