الاجتهاد: يذهب السيد الخوئي(رض) في تعريف الإجماع، إلى ما ذكره الشيخ الطوسي والمحقّق القمّي، وذلك من كلامه في بيان الملاك في حجيّة الإجماع، إذ قال: “فمناط حجيّة الإجماع، إنّما هو كشف أقوال المُجمعين عن قول الإمام(ع)، بحيث تكون أقوالهم سبباً للقطع بقوله(ع)والمقصد في حجيّة الإجماع، هو الكشف عن قول المعصوم،لترتيب الأثر الشّرعي عليه.
لطالما كان الإجماع من المباحث التي تناولها العلماء، والأصوليّون منهم، لما له من أهمية على المستوى العلميّ، وما يمكن الخلوص منه بنتائج على صعيد تأصيل الأحكام الشرعيّة، ومن هؤلاء العلماء والأصوليين الذين بحثوا الإجماع، وكان لهم رأيهم الخاصّ في توجيهه، السيّد أبو القاسم الخوئي(قده).
ونبدأ بتعريف الإجماع:
الإجماع ـ لغةً ـ هو العزم والاتّفاق، أمّا اصطلاحاً، فقد عرّف بتعريفات عدّة، أهمها: اتّفاق أهل الحلّ والعقد، وهو مصطلح إسلامي يقصد به أهل الاجتهاد، حسب مفهوم علماء الأصول. وحسب الإمام النووي، هم العلماء والرّؤساء ووجوه الناس الذين يرجع النّاس إليهم في الحاجات والمصالح العامّة، فشمل بذلك أهل الاجتهاد وغيرهم. والبعض يرى أنهم الأشراف والأعيان.
ومن جملة التعريفات أيضاً، اتّفاق أمّة محمد(ص) خاصّة على أمرٍ من الأمور الدينيّة، وخصّص آخرون بأنّه اتفاق المجتهدين منهم في عصر من العصور، وخصّ من المجتهدين اتّفاق الصحابة. والبعض اعتبر اتّفاق أهل المدينة على وجه الخصوص، كالمالكيّة مثلاً.
ومنها: إجماع الأمَّة بشرط أنْ يُعلم منه دخول المعصوم فيه، وقريب من تعريف المحقّق القمّي، القول باتفاق أهل الحَلّ والعقد الّذين منهم الإمام الملازم لوجوده فيهم .
ويذهب السيّد الخوئي(رض) في تعريف الإجماع، إلى ما ذكره الشيخ الطوسي والمحقّق القمّي، وذلك من كلامه في بيان الملاك في حجيّة الإجماع، إذ قال: “فمناط حجيّة الإجماع، إنّما هو كشف أقوال المُجمعين عن قول الإمام(ع)، بحيث تكون أقوالهم سبباً للقطع بقوله(ع) والمقصد في حجيّة الإجماع، هو الكشف عن قول المعصوم، لترتيب الأثر الشّرعي عليه.
ولعلّ مصطلح الإجماع بحرفيّته، لم يعرفه قدماء الشّيعة المعاصرون للأئمَّة(ع)، فإنهم لا يعرفون لهذه الكلمة اصطلاحاً فيما بينهم، وإن استعملوه، ففي معناه اللّغويّ، كما جاء في الرّوايات: “خذ بالمجمع عليه بين أصحابك”، ولكن من جاء بعدهم، كالشيخ المفيد والطوسي والسيد المرتضى، استعملوا مصطلح الإجماع.
ويتفرّع عن مبحث الإجماع، ما يطلق عليه حجيّة الاجماع المنقول، والمراد منه هو الإجماع الّذي لم يحصّله الفقيه بنفسه، وإنّما ينقله له من حصَّله من الفقهاء، سواء أكان النقل له بواسطةٍ أم بوسائط .
هذا، وذكر علماء الأصول، ومنهم السيّد الخوئي، أنّ الإخبار عن الشّيء له خمس حالات:
الأولى: أنْ يكون إخباراً عن حسّ ومشاهدة، ولا إشكال في حجيّة هذا القسم من الإخبار ببناء العقلاء.
الثّانية: أنْ يكون إخباراً عن أمرٍ محسوس، مع احتمال أنْ يكون إخباره مستنداً إلى الحدس لا إلى الحسّ، كما إذا أخبر عن المطر مثلاً، مع احتمال أنّه لم يره، بل أخبر به استناداً إلى المقدّمات المستلزمة للمطر بحسب حدسه، كالرّعد والبرق مثلاً، وهذا القسم أيضاً ملحق بالقسم الأوّل.
الثّالثة: أنْ يكون إخباراً عن حدسٍ قريب من الحسّ، بحيث لا يكون له مقدِّمات بعيدة، كالإخبار بأنَّ حاصل ضرب عشرة في خمسة يصير خمسين مثلاً، وهذا القسم من الإخبار أيضاً ملحق بالقسم الأوّل في الحجيّة.
الرّابعة: أن يكون إخباراً عن حدسٍ مع كون حدسه ناشئاً من سببٍ كانت الملازمة بينه وبين المخبَر به تامّة عند المنقول إليه أيضاً، بحيث لو فرض اطّلاعه على ذلك السّبب، لقطع بالمخبَر به.
ويرى السيّد الخوئي، أنّ هذا القسم من الإخبار أيضاً حجّة، فإنّه إخبار عن الأمر الحسّيّ، وهو السّبب، والمفروض ثبوت الملازمة بينه وبين المُخبَر به في نظر المنقول إليه أيضاً.
الخامسة: يكون إخباراً عن حدسٍ مع كون حدسه ناشئاً من سببٍ كانت الملازمة بينه وبين المُخبَر به غير تامّةٍ عند المنقول إليه:
بيّن السيد الخوئي أنّ هذا القسم من الإخبار لم يدلّ دليل على حجيّته، فإنّ احتمال تعمّد الكذب، وإنْ كان مدفوعاً بالعدالة أو الوثاقة، إلا أنّ احتمال الخطأ في الحدس مما لا دافع له، إذ لم يثبت بناءٌ من العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الخطأ في الأمور الحدسيّة.
وصرّح السيّد الخوئي بأنّ الإجماع المنقول هو من الحالة الخامسة؛ لأنَّ النّاقل للإجماع لا يُخبر برأي المعصوم(ع) عن الحسّ، أو ما يكون قريباً منه، ولا عن حدسٍ ناشئٍ عن سببٍ كان ملازماً لقول المعصوم(ع).
وكذا الحال في الإجماع المدَّعى في كلمات جماعةٍ من المتأخّرين المبنيّ على الحدس في رأي المعصوم، من اتّفاق جماعةٍ من الفقهاء؛ إذ لا ملازمة بين هذا الاتفاق ورأي المعصوم بوجه .
نعم، لو علم استناد ناقل الإجماع إلى الحسّ، كما إذا كان معاصراً للإمام(ع)، وسمع منه الحكم، فنقله بلفظ الإجماع، فلا مجال للتوقف في الأخذ به، وكان مشمولاً لأدلة حجية الخبر بلا إشكال.
ونأتي إلى الإجماع المحصَّل، وهو الإجماع الذي يحصّله الفقيه بنفسه، بتتبّع أقوال أهل الفتوى.
وقد تعرّض السيّد الخوئي الى الأدلّة المدّعاة في حجية الإجماع المحصّل، وهي :
الدّليل الأول الذي تبنّاه الشيخ الطوسي: الملازمة العقلية بين الإجماع وقول المعصوم، بناءً على قاعدة اللّطف الإلهي بالعباد، وهذا هو الوجه في إرسال الرّسل وإنزال الكتب ونصب الإمام، وهذه القاعدة تقتضي – عند اتّفاق الأمّة على خلاف الواقع في حكمٍ من الأحكام – أنْ يُلقي الإمام المنصوب من الله تعالى الخلافَ بينهم، فمن عدم الخلاف، يُستكشف موافقتهم لرأي الإمام(ع) .
ناقش السيّد الخوئي الوجه الذي ذكره الشيخ الطوسي في حجيّة الإجماع، والمستند إلى قاعدة اللّطف، واعتبر أن القاعدة غير تامّة في نفسها، إذ لا يجب اللّطف عليه تعالى، بحيث يكون تركه قبيحاً يستحيل صدوره عنه سبحانه، بل كلّ ما يصدر عنه تعالى مجرّد فضل ورحمة على عباده .
وقاعدة اللّطف على تقدير تسليمها، لا تقتضي إلا تبليغ الأحكام على النّحو المتعارف، وقد بلّغها وبيّنها الأئمّة(ع) للرّواة المعاصرين لهم، فلو لم تصل إلى الطبقة اللّاحقة لمانعٍ من قبل المكلَّفين أنفسهم، فليس على الإمام إيصالها إليهم بطريق غير عاديّ، إذ إنَّ قاعدة اللّطف لا تقتضي ذلك، وإلا كان قول فقيهٍ واحدٍ كاشفاً عن قول المعصوم، إذا فرض انحصار العالم به في زمان. وهذا واضح الفساد .
وفي السّياق ذاته، أشار السيّد محمد باقر الصَّدر(رض) إلى هذا الوجه وفق مبناه في حساب الاحتمالات، إذ إنه بتراكم الفتاوى، تتجمَّع القرائن الاحتماليّة لإثبات الدّليل الشرعي بدرجةٍ كبيرةٍ، تتحوّل بالتالي إلى يقين لتضاؤل احتمال الخلاف .
أخذ السيد الخوئي بمناقشة هذا الوجه، بأنّ ذلك مسلّم في الإخبار عن الحسّ كما في الخبر المتواتر؛ لأنّ احتمال مخالفة الواقع في الخبر الحسّيّ، إنّما ينشأ من احتمال الخطأ في الحسّ أو احتمال تعمّد الكذب، وكلا الاحتمالين يضعف بكثرة المخبرين، إلى أنْ يحصل القطع بالمُخبَر به وينعدم الاحتمالان. وهذا بخلاف الإخبار الحدسيّ المبنيّ على البرهان، كما في المقام، فإنّ نسبة الخطأ إلى الجميع كنسبته إلى الواحد، إذ احتمال كون البرهان غير مطابقٍ للواقع، لا يفرّق فيه بين أنْ يكون الاستناد إليه من شخصٍ واحدٍ أو أكثر، ألا ترى أنّ اتّفاق الفلاسفة على أمرٍ برهانيّ كامتناع إعادة المعدوم مثلاً لا يوجب القطع به؟
ومن الأدلّة التي ناقشها السيّد الخوئي: كاشفيّة الإجماع عن الدّليل المعتبر، فقد أخذ السيّد الخوئي بمناقشة هذا الدّليل، مبيّناً أنَّ الإجماع وإنْ كان كاشفاً عن وجود أصل الدّليل كشفاً قطعياً؛ إذ الإفتاء بغير الدّليل غير محتملٍ في حقّهم، فإنّه من الإفتاء بغير العلم، وهو حرام، وعدالتهم مانعة عنه، إلا أنّه لا يستكشف منه أنّ الدّليل معتبر عندنا؛ إذ من المحتمل أنْ يكون اعتمادهم على قاعدةٍ أو أصلٍ لا نرى تماميّة القاعدة المذكورة أو الأصل المذكور، أو عدم انطباقهما على الحكم المجمع عليه، كما هو الحال في الإجماع المدّعى في كلام السيّد المرتضى.
هذه المناقشة قد اتّفق فيها السيّد الخوئي مع اُستاذه المحقق النائيني.
ناقش السيّد محمد باقر الصدر مناقشة السيد الخوئي المتقدّمة: بأنّ المأخذ ليس هو استكشاف مدرك روائي وصلهم ولم يصل إلينا، ليُلحظ عليه بما تقدَم آنفاً، بل استكشاف ما هو أقوى من الرّواية، وهو الارتكاز الكاشف تكويناً وقطعاً عن رأي المعصوم.
وبعد أنْ ناقش السيّد الخوئي جميع الأدلّة المدَّعاة لحجيّة الإجماع المحصّل والمنقول، انتهى إلى نتيجة أنّه لا مستند لحجيّة الإجماع أصلاً، فلا يكون حجّة.
إلا أنّه استدرك على هذه النّتيجة التي توصّل إليها بقوله: “إلا أنَّ مخالفة الإجماع المحقَّق من أكابر أصحاب وأعاظم الفقهاء، مما لا نجترئ عليه، فلا مناص في موارد تحقّق الإجماع من الالتزام بالاحتياط اللازم، كما التزمنا به في بحث الفقه.
والسؤال يظلّ قائماً: لماذا يلتزم السيّد الخوئي بالقول بالاحتياط اللازم تجنّباً لمخالفة الإجماع المحقّق، مع أنّ كونه لازماً بلا مدرك؟
أمّا المحدث البحراني وغيره من الإخباريين، كالاسترآبادي والمحقّق العاملي، فإنّ الدّليل المعتبر عندهم يتحدَّد في موردين، هما الكتاب والسنّة. أما الإجماع، فهو ليس بدليل مستقلّ على حدّ الكتاب والسنّة، وإنما ترجع إليه وتجعله دليلاً من حيث كشفه عن رأي المعصوم، إذا اتّفقوا على حكمٍ، مع ثقتنا بعلمهم ودينهم، نستكشف من هذا الاتّفاق وجود دليل اطلعوا عليه وخفي علينا، فيكون الدّليل هو: قول المعصوم، لا الإجماع، ويكون المتحصل أنّ السنّة كما تثبت بخبر الثّقة، تثبت كذلك: بالإجماع.
ومن الأدلّة الّتي اعتمدها الإخباريّون في إسقاط الإجماع من الأدلّة، “رسالة الإمام الصادق(ع) إلى الشيعة، والتي جاء فيها: “… وقد عهد إليهم رسول الله(ص) قبل موته، فقالوا: نحن بعدما قبض الله – عزّ وجلّ – رسوله، يسعنا أنّ نأخذ بما اجتمع عليه رأي النّاس بعد قبض الله تعالى رسوله، وبعد عهده الّذي عهد إلينا… والله إنّ لله تعالى على خلقه أن يطيعوه ويتبعوا أمره في حياة محمّد(ص) وبعد موته”.
فقد أوضح المحدّث البحراني، أنّ المستفاد من هذا الخبر، هو أنَّ الرّجوع إلى القرآن وأخذ الأحكام منه، يتوقّف على تفسيرهم(ع) وبيان معانيه عنهم، ومنه يعلم: أنَّ الإخبار كالأصل لمعرفة الكتاب، وحلّ مشكلاته، وبيان معضلاته وتفسير مجملاته، وتعيين المراد من أحكامه، وبيان إبهامه، وأنّ الاعتماد ليس إلاّ على القرآن والإخبار، وأنّ ما عداهما فهو ساقط عن درجة النّظر إليه والاعتبار.
هذا واختلفت عبارات الأصوليّين في تعريف الإجماع عند أهل السنَّة والجماعة، والسّبب في هذا يعود إلى أمور :
الأوَّل: الخلاف في تحديد المجمعين، فالبعض يرى أنَّه خاصّ بأهل الحلّ والعقد من المجتهدين، والبعض الآخر يجعله عامّاً، فيدخل فيه جميع الأمَّة من العوامّ وغيرهم، فمن يخصّه بالمجتهدين، يعبّر بقوله: (اتّفاق المجتهدين)، ومن يدخل العوام، يعبّر بقوله: (اتّفاق الأمّة).
الثاني: الخلاف في زمن الإجماع، فبعضهم يخصّه بعصر الصحابة، كابن حزم ومن وافقه، وبعضهم يجعله عامّاً في جميع العصور، فمن يخصّه بعصر الصحابة يعبّر بقوله: (اتّفاق أصحاب رسول الله)، أو اتّفاق (الصّدر الأوّل)، ومن يجعله عامّاً يقول: (اتفاق المجتهدين في جميع العصور).
الثّالث: الخلاف في الأمور المجمع عليها، فبعضهم يحصرها في الأمور الشرعيّة، وبعضهم يعمّمها، فمن يحصرها بالأمور الشّرعيّة يقول: (اتفاق على أمرٍ أو حكمٍ شرعيّ أو دينيّ)، ومن يعمّمها يقول: (اتّفاق على أمرٍ من الأمور).
الرّابع: الخلاف في بعض شروط الإجماع، مثل اشتراط انقراض العصر، واشتراط بلوغ المجمعين عدد التّواتر، ونحوها، فمن يشترط ذلك، يجعله قيداً في التّعريف، ومن لا يشترطه، لا يذكره في التّعريف.
لعلَّ من أسلم التّعريفات للإجماع، هو أنّه :”اتّفاق المجتهدين من أمَّة محمّدٍ بعد وفاته في عصرٍ من العصور على أمرٍ دينيّ”.
المراجع:
1- موقع مؤسّسة الإمام الخوئي الخيريّة، مبحث الإجماع، جزء من أطروحة للطّالب صادق حسن علي، بعنوان “المدرسة الأصوليّة لدى السيّد الخوئي وتطبيقاتها الفقهيّة”، كلية الفقه، جامعة الكوفة، العام 2012.
2- رسالة التّقريب، العدد 3، محمد الغراوي.
3- موقع ملتقى أهل الحديث.
المصدر : موقع بينات