الاجتهاد: ذكر المؤرخون ان البقيع كان مقبرة قبل الإسلام، وورد ذكره في مرثية عمرو بن النعمان البياضي لقومه “أين الذين عهدتهم فـي غبـطـة بين العقيق إلى بقيع الغــرقــد”، وبعد الإسلام ودخول اغلب أهل الجزيرة العربية في الإسلام، خُصِّص لدفن موتى المسلمين فقط، أما اليهود والنصارى فكانوا يدفنون موتاهم في مكان آخر يعرف بـ (حش كوكب) وهو بستان يقع جنوب شرقي البقيع، وفي بعض المصادر التاريخية، إن البقيع كان بستانا يحوي أشجارا من العوسج، وأول من دفن فيه من المسلمين هو (أسعد بن زرارة الأنصاري) وكان من الأنصار، ثم دفن بعده الصحابي الجليل (عثمان بن مظعون)، وهو أول من دفن فيه من المسلمين المهاجرين.
تمر علينا ذكرى أليمة على قلوب أتباع أهل بيت النبوة عليهم السلام وهي ذكرى قيام العصابات الوهابية بهدم أضرحة أئمة أهل البيت في البقيع، وحادثة انتهاك حرمة البقيع جريمة لن تمحى من الأذهان، إذ ارتكب الوهابية وال سعود جريمة العصر من خلال محاولة محو ذاكرة المسلمون، وإزالة كل ما يربطهم بالتاريخ الإسلامي، لان هدم هذه الشواهد المقدسة والتي تعد شواهد على الإسلام ذاته، هي محاولة يائسة من الوهابية بدعم الانكليز واليهود للقضاء على نور الإسلام.
معنى البقيع
إن البقيع: في اللغة المكان، وقالوا: لا يكون بقيعاً إلاّ وفيه شجر، وبقيع الغرقد كان ذا شجر، وذهب الشجر وبقي الاسم، وهو مقبرة بالمدينة الشريفة من شرقها، ويقال لها كفته بفتح أوله وإسكان ثانيه بعدها تاء معجمه باثنين من فوقها: أسم لبقيع الغرقد وهي مقبرة.
أطلق البعض على مقبرة البقيع كذلك أسم بقيع الغرقد، فالبقيع هو المكان الّذي فيه أُرُوم الشجر من ضروب شتى، والغرقد قيل كبار العوسج، وهو جمع عوسجة وهو شجيرات من فصيلة الباذنجانيات أغصانه شائكة وأزهاره مختلفة الألوان، وقيل عن الغرقد: شجر من شجر الغضا وهي بالقصر شجر ذو شوك وخشبة من أصلب الخشب وفي فحمه صلابة في “عمدة الأخبار في مدينة المختار.
أطلق لفظ البقيع على عدة أماكن في المدينة وغيرها، منها بقيع الزبير: “بالمدينة فيه دور ومنازل”، وبقيع الخيل: بالمدينة أيضاً عند دار زيد بن ثابت وهو “سوق قرب البقيع عرفت ببقيع الخيل”، كان بنو سليم يجلبون إليها الخيل والإبل والغنم والسمن وكان أكثر ما يباع في هذا السوق الحيوانات، وقال عنه البكري “بقيع الخبجبة، بخاء معجمة وجيم وبائين، كل واحدة منهما معجمة بنقطة واحدة، بالمدينة أيضاً، بناحية بئر أبي أيوب، والخبجبة شجرة كانت تنبت هناك” وسماه البعض (الخبخبة) بخائين، وورد في دائرة المعارف الإسلامية (المعرّبة) عن البقيع تعريف “هو مقبرة المدينة”، وهذا الاسم يدل على أرض كانت في الأصل مغطاة بنوع من شجر التوت مرتفع” وقيل عن البقيع أيضاً: انه “قاع ينبت الذّرق”.
تاريخ البقيع
كان أهل المدينة المنورة يدفنون موتاهم منذ زمان النبي (صلى الله عليه وآله) في البقيع وأحياناً كان الرسول (صلى الله عليه وآله) يعلم على قبر المدفون بعلامة، وما أن تم دفن أئمة الهدى (الحسن المجتبى، وعلي السجاد، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق) (عليهم السلام) فيها حتى بنيت على قبورهم القباب، اذ كان البناء على القبور معتاداً منذ ذلك الزمان في مكة والمدينة وغيرها من البلدان الإسلامية.
وذكر المؤرخون ان البقيع كان مقبرة قبل الإسلام، وورد ذكره في مرثية عمرو بن النعمان البياضي لقومه “أين الذين عهدتهم فـي غبـطـة بين العقيق إلى بقيع الغــرقــد”، وبعد الإسلام ودخول اغلب أهل الجزيرة العربية في الإسلام، خُصِّص لدفن موتى المسلمين فقط، أما اليهود والنصارى فكانوا يدفنون موتاهم في مكان آخر يعرف بـ (حش كوكب) وهو بستان يقع جنوب شرقي البقيع،
وفي بعض المصادر التاريخية، إن البقيع كان بستانا يحوي أشجارا من العوسج، وأول من دفن فيه من المسلمين هو (أسعد بن زرارة الأنصاري) وكان من الأنصار، ثم دفن بعده الصحابي الجليل (عثمان بن مظعون)، وهو أول من دفن فيه من المسلمين المهاجرين، وقد شارك رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه في دفنه،
ثم دفن إلى جانبه (إبراهيم) ابن الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)، ولذلك رغب المسلمون فيها وقطعوا الأشجار ليستخدموا المكان للدفن، ثم استمر الدفن في البقعة المباركة من قبل المسلمين بعد وفاة الرسول “صلى الله عليه واله وسلم”.
البقيع قبل هدمه من قبل الوهابية
تضم مقبرة البقيع أضرحة عدد كبير من الصحابة وال بيت النبي والمسلمون الآخرون، ومنهم، الأئمة الأربعة وهم (الإمام الحسن بن علي، والإمام علي بن الحسين، والإمام محمد الباقر، والإمام جعفر الصادق) (عليهم السلام) في قبة واحدة، وتزار فاطمة الزهراء (عليها السلام) في بقعتهم حيث تشير بعض الروايات أنها دفنت هناك،
وإن كانت بعض الروايات أيضا تشير إلى أنها دفنت في مسجد النبي صلى الله عليه واله وسلم، وهو ما يشير إلى إن ما بين قبره ومنبره روضة من رياض الجنة، أن قبر فاطمة ابنتي (عليها السلام) هناك، كما يحتمل أنها (عليها السلام) دفنت في بيتها، ولعل أمير المؤمنين (عليه السلام) حمل صورة جنازة إلى عدة أماكن، كما حمل الإمام الحسن (عليه السلام(صورة جنازة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى البصرة، ومن هنا لا بأس بزيارة الصديقة الطاهرة (عليها السلام) في البقيع، وفي المسجد، وفي بيتها وذلك لخفاء القبر الشريف، وسيظهر إن شاء الله تعالى عند ظهور ولدها الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) وإن كان من المحتمل إخفاء قبرها (عليها السلام) إلى يوم القيامة ليبقى سنداً على مظلوميتها طول التاريخ.
هدم الأضرحة المقدسة
ولقد انصب الحقد الوهابي في كل مكان سيطروا عليه، على هدم قبور الصحابة وخيرة التابعين وأهل بيته الأطهار، وكانت المدينتان المقدستان (مكة والمدينة) ولكثرة ما بهما من آثار دينية، من أكثر المدن تعرضا لهذه المحنة العصيبة، التي أدمت قلوب المسلمين وقطعتهم عن تراثهم وماضيهم التليد، وكان من ذلك هدم البقيع الغرقد بما فيه من قباب طاهرة لذرية رسول الله وأهل بيته وخيرة أصحابه وزوجاته وكبار شخصيات المسلمين.
وقد ورثوا الوهابيون وكما هو معروف الحقد الدفين ضد الحضارة الإسلامية من أسلافهم الطغاة والخوارج الجهلاء فكانوا المثال الصادق للجهل والظلم والفساد فقاموا بتهديم قبور بقيع الغرقد مرتين:
الأولى: عام 1220هـ – 1805 م الجريمة التي لا تنسى، عند قيام الدولة السعودية الأولى حيث قام آل سعود بأول هدم للبقيع وذلك عام 1220 هـ، وعندما سقطت الدولة على يد العثمانيين أعاد المسلمون بناءها على أحسن هيئة من تبرعات المسلمين، فبنيت القبب والمساجد بشكل فني رائع حيث عادت هذه القبور المقدسة محط رحال المؤمنين بعد أن ولى خط الوهابيين لحين من الوقت، ويقول أحد الرحالة الإنجليز حين وصف المدينة المنورة بعد تعميرها بأنها تشبه اسطنبول أو أية مدينة أخرى من المدن الجميلة في العالم، وكان هذا في عام 1877-1878م أي قبل تعرض المدينة المباركة لمحنتها الثانية على أيدي الوهابيين العتاة.
الثاني: عام 1344هـ – 1925م، إذ عاود الوهابيون هجومهم على المدينة المنورة مرة أخرى في عام 1344هـ، وذلك بعد قيام دولتهم الثالثة وقاموا بتهديم المشاهد المقدسة للائمة الأطهار وأهل بيت رسول الله بعد تعريضها للهدم بفتوى من وعّاظهم، فاصبح البقيع وذلك المزار المهيب قاعا صفصفا لا تكاد تعرف بوجود قبر فضلا عن أن تعرف صاحبه، ويصف الرحالة الغربي واسمه (ايلدون رتر)، المدينة المنورة بعد الجريمة الثانية التي نفذها الوهابيون عند استيلائهم على المدينة وقتلهم الآلاف من الأبرياء، يقول: “لقد هدمت واختفت عن الأنظار القباب البيضاء التي كانت تدل على قبور آل البيت النبوي.. وأصاب القبور الأخرى نفس المصير فسحقت وهشمت”.
فبعدما استولى آل سعود على مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة وضواحيهما عام 1344 هـ، بدؤوا يفكّرون بوسيلة ودليل لهدم المراقد المقدّسة في البقيع، ومحو آثار أهل البيت والصحابة،
وخوفاً من غضب المسلمين في الحجاز، وفي عامّة البلاد الإسلامية، وتبريراً لعملهم الإجرامي المُضمر في بواطنهم الفاسدة ; استفتوا علماء المدينة المنوّرة حول حُرمة البناء على القبور، فكتبوا استفتاءً ذهب به قاضي قضاة الوهابيين “سليمان بن بليهد” مستفتياً علماء المدينة، فاجتمع مع العلماء أوّلاً وتباحث معهم، وتحت التهديد والترهيب وقع العلماء على جواب نُوّه عنه في الاستفتاء بحُرمة البناء على القبور، تأييداً لرأي الجماعة التي كتبت الاستفتاء.
واستناداً لهذا الجواب المشؤوم اعتبرت الحكومة السعودية ذلك مبرّراً مشروعاً لهدم قبور الصحابة والتابعين ـ وهي في الحقيقة إهانة لهم ولآل الرسول (صلى الله عليه وآله) ـ فتسارعت قوى الشرك والوهابيّة إلى هدم قبور آل الرسول (صلى الله عليه وآله) في الثامن من شوّال من نفس السنة ـ أي عام 1344 هـ ـ فهدّموا قبور الأئمة الأطهار والصحابة في البقيع، وسوّوها بالأرض، وشوّهوا محاسنها، وتركوها معرضاً لوطئ الأقدام، ودوس الكلاب والدواب،
ونهبت كل ما كان في ذلك الحرم المقدّس، من فرش وهدايا، وآثار قيّمة وغيرها، وحَوّلت ذلك المزار المقدّس إلى أرضٍ موحشة مقفرة.
وكانوا قد بدؤوا في تهديم المشاهد والقبور والآثار الإسلامية في مكة والمدينة وغيرهما.. ففي مكة دُمرت مقبرة المعلى، والبيت الذي ولد فيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أما ما يسمى بنكبة البقيع حيث لم يُبق الوهابيون حجراً على حجر، وهدموا المسجد المقام على قبر حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء ومسجد الزهراء واستولوا على أملاك وخزائن حرم النبي، وهُدمت قبور أهل البيت النبوي والمزارات والأماكن المقدسة لمطلق المسلمين سنة وشيعة، فقد وصفها احد الشهود، حين هجم الوهابيون على الطائف بقوله: “رأيت الدم فيها يجري كالنهر بين النخيل، وبقيت سنتين عندما أرى الماء الجارية أظنها والله حمراء “، وكان ممن قتل في هذه الهجمة التاريخية المشهورة التي تدل على همجيتها على البعد البعيد للوهابية عن الإسلام ووجههم المزري والمشوه للإسلام (الشيخ الزواوي) مفتي الشافعية وجماعة من بني شيبة (سدنة الكعبة).
وتشير الوثائق التاريخية والشواهد إلى أن الوهابيين لم يكتفوا بتلك الجرائم بل حاولوا مراراً هدم قبر الرسول الأعظم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقبته وبدؤوا في محاولات مشبوهة للمساس بالقبر النبوي الشريف لكنهم لم يتمكنوا من الاستمرار فيها،
حيث أنهم أرادوا هدم قبة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لكن تظاهر المسلمين في العراق الهند ومصر وتركيا وبعض بلاد أفريقيا والذين هاجوا وماجوا وأقاموا المظاهرات المعادية للوهابية قد أثار مخاوف البريطانيين من انفلات الأمر من أيديهم لهذا فقد أوعزوا إلى عميلهم العالم الوهابي أن يقول للناس إني رأيت البارحة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام فأمرني أن اترك قبره، فقلت يا رسول الله لماذا ؟
قال: لأن المصلحة في بقاء قبري إلى حين وبذلك أجاب عن الوهابيين الملتفين حوله الذين كانوا يقولون إن كانت القبور بدعة فلماذا بقاء قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن لم تكن بدعة فلماذا هدم تلك القباب الأخر للأئمة وأولاد النبي وأصحابه وزوجاته ومن إليهم ؟، وهذه القصة معروفة ومشهورة في أمر توقفهم عن هدم قبر وقبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم يحنّون إلى العمل على هدمهما إلى الآن، لكن خشيتهم من العواقب الوخيمة لهذا العمل تحول دون ذلك.
ولكن محاولاتهم الخبيثة والمشبوهة لا تنقطع فقد أفتوا بحرمة الإسراج (الإضاءة) عند القبور، ومنعوا الإسراج حتى عند قبر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في عام 1346 هجرية، ثم تراجعوا عن ذلك بسبب كثرة البلبلة التي كان يحدثها الزوار والمناوشات التي كانت تحدث بينهم وبين الزائرين من مختلف بقاع العالم الإسلامي.
أسباب هدم أضرحة البقيع
لم يكتف أعداء أهل البيت عليهم السلام بمحاولتهم إطفاء نور الله بقتل أنوار الله وخلفاء رسوله صلى الله عليه وآله أو بعقوبة من يتحدث عنه بحديث أو بقتل من يتحدث بفضيلة من فضائل أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام أو بتحريفهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله أو بهدم قبر الإمام الحسين (عليه السلام) عدة مرات، فبعد أن رأوا هذا النور يزداد توهجا بالرغم مما بذلوا من جهد للقضاء عليه اتخذوا طريقة أخرى للقضاء على هذا النور بتهديمهم لقبور بُناة الإسلام وأئمة الهداية الموجودة في البقيع، وانتهاك حرمتها وقدسيتها وها هم اليوم يتسللون إلى العراق لينفذوا ما فشلوا به سابقا من تهديم قبور الأئمة فيه لكنهم لم يفلحوا بذلك، ومن أسباب الهدم هي:
1- القضاء على الإسلام، لم يكن هذا العمل إلا لأجل القضاء على الإسلام، فلذلك عمدوا على تدمير كل اثر يدل على حضارة الإسلام، وهدموا ذلك الأثر تمهيدا للقضاء على المؤثر، لأنك إن قضيت على مدلول الشيء تكون مهدت للقضاء على الشيء نفسه، وها هم يهدمون آثار الإسلام وقبور عظماء المسلمين لأنها دالة على وجود الإسلام، ولو تساءلنا من المستفيد من القضاء على الإسلام؟
لوجدنا حقيقة واضحة وهم اليهود، فلهم دور كبير توجيهي بهدم آثار الإسلام، فلذلك وكما قيل، أنهم توجهوا إلى الأثر الباقي من باب خيبر فهشموها قطعةً قطعة.
2- تضليل الناس عن الحقيقة، فخفاء تاريخ البقيع، هو محاولة لتضليل الناشئة والشباب في هذه العصور المتأخرة، وإخفاء ناشئ المصادر أولا، عن هذا الإرث الحضاري الإسلامي، إذ إن التعتيم الإعلامي السعودي والغربي عليه، لعب دورا في تقليل من أهميته، ومحاولة إزالة آثاره بالمرة.
3- العداء لأهل البيت (عليهم السلام) والقضاء على ذكرهم، وهذا واضح جلي لأنه متوارث عندهم، مع العلم ان الذي أفتى بهدم القبور اعتمد بفتواه على ابن تيمية وابن تيمية هذا يقول (ان علي بن أبي طالب لم يصح إسلامه لأنه اسلم صبيا)، ومن الأمور التي تكشف عن إنسان وماله من أهمية عند الله أو في المجتمع، هو تقديس الناس واحترامهم له بسبب صلاح سيرته وتقواه،
وخير دليل على هذا، القصة التي حصلت مع الإمام السجاد “عليه السلام” كما جاء في الرواية إن هشاماً بن عبد الملك عندما توجه بخدمه وحراسه لحج بيت الله الحرام أراد الوصول إلى الحجر الأسود فلم يستطع بسبب زخم الحجاج، فجلس في مكان حتى يخف الزخم، وإذا بالإمام السجاد عليه السلام يتوجه نحو الحجر الأسود فانفرج له الحجاج سماطين واخذوا يتبركون به حتى وصل الحجر الأسود فلما رآه احد الجالسين قال لهشام من هذا فأنكره!! (قال لا أعرف!) فوقف الشاعر “الفرزدق” معرفاً الإمام بقصيدته الرائعة، التي جاء منها:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته … والبيت يعرفه والحل والحرم
4- ومن جملة الطرق التي يتخذها الناس لتقديس عظمائهم هي تخليد آثارهم وبناء قبورهم، فوجود قبور العظماء أو الآثار دلالة على مكانة أصحاب تلك القبور، وبما أن مكة والمدينة تأتيها الحجاج من كل بقاع العالم وقبور البقيع مشيدة، فإنها ستثير التساؤل عن أصحاب تلك القباب، وتلفت النظر إليهم، وكيف حصلوا على هذه المكانة، مما يؤدي لانحياز ذوي العقول إلى مذهبهم، لأن الجواب سيأتي كجواب الفرزدق لهشام (هؤلاء خير الناس كلهم).
5- كذلك حقد الوهابية وال سعود على هذه الأماكن المقدسة، ومحوا أي كرامات لهذه البقع المقدسة، فقد روى الطبراني في الكبير ومحمد بن سنجر في مسنده وابن شبّة في أخبار المدينة عن أم قيس بنت محصن، وهي أخت عُكاشة، أنها خرجت مع النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم إلى البقيع، فقال: “يُحشر من هذه المقبرة سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وكأن وجوههم القمر ليلة البدر”.
فقام رجل فقال: يا رسول الله، وأنا. فقال: “وأنت”، فقام آخر فقال: يا رسول الله، وأنا. قال: “سبقك بها عُكَّاشة”، قال: قلت لها، لِمَ لم يقل للآخر؟ قالت: “أراه كان منافقاً”.
وروى ابن شبّة عن أبي موهبة مولى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ قال: أهبَّني رسول الله “صلّى الله عليه وآله وسلم” من جوف الليل، فقال: “إني أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي”، فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: “السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنَ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلتِ الفتنُ كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى” ثم استغفر لهم طويلاً، ثم قال: “يا أبا موهبة، إني قد أوتيتُ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي ثم الجنة”، قلت: بأبي وأمي خذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: “لا والله يا أبا موهبة، لقد اخترت لقاء ربي ثم الجنة”، ثم رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فبدأ به وجعه الذي قبض فيه.
6- الحسد، لا يتحمل الحاسد ان يرى النعمة بادية على أخيه المؤمن أو المسلم بل يسعى وبكل الطرق إلى إزالة هذه النعمة، فلذلك أمر الله عز وجل بالاستعاذة منه (ومن شر حاسد اذا حسد)” سورة الفلق، الاية 5 “، وبعض آيات القرآن تحدثت عن جرائم القتل التي كان الباعث لها الحسد، كحسد قابيل لأخيه هابيل، وحسد إخوة يوسف ليوسف، ومن قتل أهل البيت عليهم السلام لم يكن الا حسدا بهم والإمام الباقر “عليه السلام” يقول في تفسير الآية (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) ” سورة النساء، الآية 54 ” (نحن المحسودين)، نعم وهؤلاء هدموا قبور الأئمة حسدا لأنهم وجدوا أهل البيت عليهم السلام وذريتهم امتازوا في الدنيا بتلك الأضرحة والقباب المشيرة والدالة على شرفهم ومكانتهم عند الله عز وجل في الدنيا والآخرة، في الوقت الذي ذهب فيه الحاسدون وأئمتهم إلى مزبلة التاريخ، ولم يبقى لهم ذكر أو شاهد رغم ما ملكوه في الدنيا من أموال.
التناقض في جريمة هدم الأماكن المقدسة في البقيع
عملية هدم المراقد المطهرة في “البقيع الغرقد” تتناقض مع كل القيم؛ فهي تحمل طابع التناقض مع ذاتها أولاً، ومع القيم الدينية ثانياً، ومع الحالة الحضارية ثالثاً، ومع واقع الأمّة الإسلامية وتاريخها رابعاً.
1- التناقض الذاتي في جريمة هدم المراقد في البقيع: إذا كان هدم القبور واجباً شرعياً، فلماذا هدمت بعضها دون بعضها الآخر؟ اذ صب الوهابية جام غضبهم على أثار مراقد وبيوت أهل البيت عليهم السلام وصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى كل اثر يدل على رمزية الإسلام، بينما بقيت الآثار الأخرى منها مدائن صالح، وأثار اليهود في خيبر يحافظون عليها، وأثار بني سعود في نجد.
2- التناقض مع القيم الدينية: إن هذه البيوت التي هدموها هي من البيوت التي أمر الله تعالى أن ترفع ويذكر فيها اسمه؛ قال السيوطي ـ وهو من كبار علماء أهل السنة ـ في كتابه (الدر المنثور): عندما نزل قوله تعالى: “في بيوت أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدوّ والآصال رجال لا تلهيهم تجارة أو بيع عن ذكر الله و….” قام رجل وقال: يا رسول الله ما هي هذه البيوت؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله: إنها بيوت الأنبياء.
فقام أبو بكر وأشار إلى بيت عليّ وفاطمة سلام الله عليهما وقال: هل هذه منها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نعم، من أفاضلها. وإننا نسأل القوم: هل يكون رفع هذه البيوت ـ التي أمر الله عز وجل برفعها ـ بهدمها وتحويلها إلى يباب؟
وهل يعتبر هدم قبور هذه الصفوة تعبيراً عن المودّة التي أمر الله تعالى المسلمين لأصحابها حيث قال: “قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى” أم هو التعظيم الذي أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: “ومن يعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب”، إنه من الواضح جداً أنّ هذه العملية تتناقض مع القيم الدينية والثوابت القرآنية أيضاً.
3- التناقض مع الحالة الحضارية: إذا لاحظنا الأمم المتقدمة وكذا الحضارات الحاكمة اليوم، لرأيناهم يهتمّون بتاريخهم اهتماماً كبيراً ويحاولون الاحتفاظ بأيّ أثر من عظمائهم، وهذا ديدن الأمم المتحضّرة كلّها، في الغابر والحاضر، فهي تهتمّ بآثار عظمائها وتحاول تخليدها والاحتفاء بها، فمما ينقل في هذا المجال أن المسيحيين بنوا كنيسة وسمّوها كنيسة الحاضر فوق أرض يزعمون أن حافر دابّة عيسى لامستها.
4- التناقض مع واقع الأمّة وتاريخها: لقد كانت المراقد موجودة في مكة المكرمة والمدينة المنوّرة حتى في أيّام حكم الرسول صلى الله عليه وآله ولم نسمع أنه أمر بهدمها أو نهى عن زيارتها، بل عدّت جزءاً من الشعائر المهمّة، ففي مكة قبر لهاجر زوجة النبي إبراهيم سلام الله عليهما وكذلك قبر ابنه إسماعيل سلام الله عليه، وفوقه بناء وهو المسمى اليوم بحجر إسماعيل، وهكذا قبور كثير من الأنبياء سلام الله عليهم.
المطالبة ببناء الأضرحة
لقد سعى العديد من العلماء والفقهاء والوجهاء ومختلف المؤمنين وحتى بعض القادة السياسيين لبناء البقيع، كان منهم آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره) حيث سعى لبناء قبور أئمة البقيع سعياً جاداً، فأخذ يحاور كبار علماء السنة في المملكة العربية السعودية وأثبت لهم جواز بناء تلك القباب الطاهرة بل رجحانها، وقد خطى في هذا الباب خطوات جيدة حتى أقنعهم بذلك ولكن بعض الموانع حالت دون الوصول إلى هدفه المبارك.
يقول الإمام الشيرازي في كتابه (الأخ الشهيد السيد حسن الشيرازي) تحت عنوان السعي لبناء البقيع: “وكان (رحمه الله) يذهب إلى الحج كل سنة تلبية لنداء الرحمن عز وجل ولأهداف تبليغية عالية، وقد التقى بالسعوديين وضغط عليهم لأجل تعمير البقيع الغرقد ووعدوه بالسماح لتعمير البقيع، وذلك بعد جهد وتعب كثير ومناقشات ومحاورات مع كبار رجالهم وفقهائهم، لكن بعض الجهات في العراق منعت عن ذلك بالمال الكثير والإغراء وما أشبه، وتعاضدها في ذلك الحكومة العراقية”.
ويقول آية الله السيد مرتضى القزويني في الاحتفال التأبيني الذي أقيم بمناسبة الذكرى السنوية الأولى للإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي في حسينية الرسول الأعظم (ص) في لندن: “وقد قال لي محمد بن سرور الصبان رئيس رابطة العالم الإسلامي أن هذا السور الحالي حول البقيع إنما صار وتم بجهوده المرجع الفقيد السيد الشيرازي وأخيه الشهيد السيد حسن الشيرازي”.
خلاصة القول، لم تكن مظلومية الأئمة عليهم السلام المدفونين في البقيع في حياتهم فقط، وإنما مستمرة إلى وقتنا الحاضر، من خلال هدم قبورهم وحرمان شيعتهم من زيارتهم وهو ظلم واضح جلي، فيجب علينا في الوقت الحاضر أن نطالب ببناء قبور البقيع، بجميع الوسائل السلمية، ومنها المظاهرات والندوات، والطلب من المنظمات الدولية والإنسانية للمساعدة في بناء الأضرحة المقدسة،
كذلك نقف بكل قوة بوجه الحملة الوهابية الجديدة التي يقودها تنظيم داعش الإرهابي ومحاولتهم هدم ما تبقى من الأماكن المقدسة، فقد دمروا في الموصل وسوريا العديد من أضرحة الأنبياء ومقامات الأئمة (عليهم السلام)، والمساجد التاريخية والأثرية القيمة، والكنائس الأثرية وكل اثر ديني تاريخي يدل على عظمة الإسلام والأنبياء والرسل، وهي سياسة اليهود وإذنابهم الوهابية، كذلك محاولاتهم الوصول الى الأماكن المقدسة في كربلاء والنجف، علينا كمسلمين الوقوف صفا واحدا خلف مراجعنا العظام وتوجيهاتهم وفتاويهم للدفاع عن المقدسات، للوقوف بوجه هذه الحملة التي تقودها الوهابية ضد الإسلام والمسلمين.