الفكرة التي أودّ طرحها هنا، والتي يمكن ـ لو تمّ الاقتناع بها ـ أن تمثل طريقة في فهم المنظومة التشريعيّة وعلاقات الأحكام ببعضها في الشريعة الإسلاميّة، وتترك أثراً على بعض عمليات الاجتهاد نفسها، هي ما اُسمّيه بالأحكام التحفظيّة أو الاحتفاظيّة، والتشريعات التأمينيّة والاحتياطيّة، أو حماية الحمى أو نحو ذلك.
الاجتهاد:
قراءة مدخلية لنظريّة الدوائر الثلاث في شبكة التشريعات القانونيّة
تمهيدٌ
الفكرة التي أودّ طرحها هنا، والتي يمكن ـ لو تمّ الاقتناع بها ـ أن تمثل طريقة في فهم المنظومة التشريعيّة وعلاقات الأحكام ببعضها في الشريعة الإسلاميّة، وتترك أثراً على بعض عمليات الاجتهاد نفسها، هي ما اُسمّيه بالأحكام التحفظيّة أو الاحتفاظيّة، والتشريعات التأمينيّة والاحتياطيّة، أو حماية الحمى أو نحو ذلك.
وسوف اُقارب الموضوع هنا من زاوية مدخليّة، لفتح اُفق في هذا الإطار للتداول والتعميق، وسأقدّم لذلك بمقدّمة تاريخيّة مختصرة، تحاول مقاربة الموضوع في بعض بذوره المتفرّقة في نصوص التراث الإسلامي، ومن ثمّ الدخول في صلب الموضوع بإذن الله تعالى، راجياً من القارئ العزيز التحلّي ـ مشكوراً ـ بالصبر كي أتمكّن من إيصال فكرتي إليه، والتي أعتقد بأنّها بالغة الأهميّة في تعميق رؤيتنا لمنظومة القوانين الشرعيّة.
أوّلاً: الرصد التاريخي لفكرة التشريع التحفظي الاحتياطي أو قانون سدّ الأبواب وفتح الأبواب
لعلّ أوّل من استخدم هذا المصطلح (حماية الحمى وسدّ الأبواب) هو الميرزا القمي (1232هـ) في مواضع من كتبه (انظر: جامع الشتات 3: 51؛ ورسائل الميرزا القمي 1: 211؛ وغنائم الأيام 1: 223، 423، و5: 226، 266)، بل وجدناه يعبّر بقوله: «.. ولما كان أغلب أحكام الشرع من باب سدّ الأبواب وحماية الحمى..» (غنائم الأيام 1: 223). إنّه يعتبر أنّ أغلب الأحكام شرّعت بقانون حماية الحمى! وهذا كلام ليس بالسهل أبداً.
وقد استُخدم هذا التعبيرُ بعد الميرزا القمي من قبل بعض العلماء (انظر: الخوانساري، الحاشية الثانية على المكاسب: 449؛ وكاشف الغطاء، تحرير المجلّة ج1، ق2: 199؛ والخوئي، معجم رجال الحديث 15: 153)، حتى قال السيد علي القزويني (1297هـ): «.. ولعلّه لقاعدة حماية الحمى المنصوص عليها في الروايات..» (ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام 2: 319؛ وانظر: المصدر نفسه 2: 322).
ولعلّ من أواخر من رأينا عنده استخدام هذا المصطلح هو الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (انظر: أنوار الفقاهة (كتاب التجارة): 366؛ والعروة مع تعليقاتها 1: 66)، حيث رأيناه في بحث العصير العنبي يطبّق هذا المفهوم، حيث يرى أنّ حكمة تحريم العصير المطبوخ هو عروض الإسكار على العصير وانقلابه خمراً «فحرّمه الشارع حمايةً للحمى»، كما ذكر في تعليقته على العروة.
كما شرح الشيخ مكارم الشيرازي هذا الموضوع بإيجاز بالغ في تفسير الأمثل، حين اعتبر أنّ الشريعة حرّمت بعض الأمور لمجرّد الحذر من انزلاق الإنسان في الحرام، مثل النهي عن الجلوس في مجالس شرب الخمر، والنهي عن الاختلاء بالمرأة الأجنبية (الأمثل 1: 539)، وكأنّ هذه الأشياء ليست حراماً في ذاتها أو في متعلّقاتها، لكن لأجل حرامٍ أصلي ـ وهو الزنا أو شرب الخمر ـ صارت حراماً في أصل الشرع.
كما فَلْسَفَ الميرزا حبيب الله الرشتي (1312هـ) هذا الموضوع عند حديثه في علم الأصول عن العلّة في باب الأحكام، فذكر أنّنا إذا قلنا بأنّ حرمة الخمر معلّلة بالإسكار صارت النتيجة هي حرمة المسكر لا حرمة الخمر، بينما إذا قلنا: إنّ تشريع حرمة الخمر معلّل بالإسكار كان معنى ذلك أنّ شرب الخمر حرام ولو لم تسكر، ثم يقول: «ومقتضى الثاني اطّراد الحكم من غير ملاحظة عنوان العلّة، ولا مانع من تشريع الحكم العام المطّرد لنكتة غير مطّردة؛ إما لأجل حماية الحمى أو..» (بدائع الأفكار: 289)، فهذا تحريم للشيء بأجمعه لكون الحرام في بعض مصاديقه فقط حماية للحمى.
أمّا شيخ الشريعة الإصفهاني، فقد تحدّث في بحث العصير عن مبدأ حماية الحمى، وهنا لابدّ لنا من توضيح سياق كلامه كي تتضح الفكرة أكثر، وذلك أنّه بعد الفراغ عن حرمة الخمر التي هي ـ في المقدار المتيقّن ـ العصير العنبي المتخمّر الذي لم يُطبخ من قبل الإنسان، والفراغ عن حرمة كلّ مسكر بما فيه العصير العنبي المطبوخ لو صار مسكراً، وقع البحث بين الفقهاء المسلمين في أنّ العصير العنبي المطبوخ إذا لم يُسكر، فهل هو حرامٌ بنفسه أو لا؟
الذي يبدو من كلمات جمهور فقهاء الإماميّة أنّ العصير العنبي المطبوخ هو عنوانٌ تحريميٌّ إضافي قائم بنفسه، موجبٌ لتخصيص أدلّة الحِلّ العامة في الأطعمة والأشربة، فالدليل العام الدالّ من حيث المبدأ على حليّة الأطعمة والأشربة، يخصّصه دليلُ حرمة العصير العنبي المطبوخ ولو لم يُصبح مسكراً، كما تمّ تخصيصه بدليل حرمة شرب الخمر وبدليل حرمة أكل الميتة تماماً.
إلا أنّه ومنذ زمن الوحيد البهبهاني (1205هـ) تقريباً، بدأت تُطرح وجهات نظر أخرى، ولمنهجة البحث نعتمد فرضيات البحث الأساسيّة هنا، والتي قدّمها الفقهاء المتقدّمون والمتأخّرون، تمهيداً للدخول في الفكرة التي نريد، وهي:
الفرضية الأولى: أن نفترض أنّ أدلّة تحريم العصير العنبي لا تقدِّم محرّماً إضافياً يفرض تقييد إطلاقات الحلّ وعموماته هنا، بلا فرقٍ بين العصير العنبي المغليّ بنفسه أو بالنار، والسبب في ذلك هو ادّعاء أنّ كلّ عصيرٍ عنبيّ مغليّ مطلقاً هو مسكر حقيقي، فيكون العصير العنبي المغلي من مصاديق المسكر الثابت تحريمه مسبقاً، وفاقاً لجمهور فقهاء المسلمين وخلافاً لبعض فقهاء الأحناف الذين خصّوا تحريم غير الخمر من المسكرات بخصوص حالة الإسكار منه، كما هو معروف.
الفرضية الثانية: أن نلتزم بأنّ مجرّد الطبخ في العصير لا يجعله مسكراً، خلافاً للفرضيّة الأولى التي اختارها الوحيد البهبهاني، لكن نقوم بادّعاء تقييد إطلاقات روايات العصير بخصوص حالة ما إذا عرض له الإسكار بعد الغليان، فهو الذي يقصد بالتحريم ويكون هو الحرام خاصّة، وحيث إنّ العصير العنبيّ المطبوخ غالباً ما لا يُستهلك بعد الغليان فوراً، بل يبقى، فإنّه في العادة يعرُضُه الإسكار؛ لأنّ المسكرية تسرع إلى العصير العنبي المطبوخ بعد طبخه، وبهذا تُفهم روايات العصير المطبوخ على أنّها بصدد إنشاء تحريمٍ واقعي خاصّ بحال عروض صفة الإسكار على العصير العنبي بعد طبخه، ولهذا لما ذهب ثلثاه جاز تناوله؛ لأنّ ذهاب الثلثين يُعدم إمكانية الإسكار؛ بصيرورته دبساً أو قريباً منه.
الفرضية الثالثة: وهي التي تُفهم من المشهور الإمامي وانتصر لها السيّد الخوئي، وهي حمل نصوص العصير المطبوخ على الموضوعيّة في العناوين، واشتهار ذلك، وبذلك تكون روايات الباب مقيّداً إضافيّاً لمطلقات الحلّ، وبهذا يكون السيد الخوئي موافقاً للمشهور الذي سبق الوحيد البهبهاني. وهذا ما اختاره السيّد الصدر احتياطاً.
وهذه الفرضيّة يتوقف إثباتها على أن لا تقوم قرائن أو شواهد على ربط العصير المطبوخ بشيء آخر.
الفرضيّة الرابعة: وهي عين الفرضية الثانية مع اختلاف، فهي ترى أنّ حرمة العصير العنبي المطبوخ مقيّدة بحال إسكاره، لكنّ ذلك ليس لأجل ما ذكر في الفرضيّة الثانية من وجود مقيّد لإطلاقات الحرمة في باب العصير العنبي، وأنّ هذا المقيد هو مفهوم خبر محمد بن الهيثم أو مفهوم الحصر في روايات تحريم الرسول للمسكر وما شابه ذلك، وإنّما لأجل أنّ نفس روايات الباب لا تشتمل على إطلاق يشمل حالة غير الإسكار فيه.
الفرضية الخامسة: وهي التي يظهر ميل شيخ الشريعة الإصفهاني إليها، وحاصلها أنّ طبخ العصير العنبي يؤدّي إلى أنّه بعد تحقّق الغليان وانتهائه، يصير العصير أسرع في لحوق صفة الإسكار له، فلو أنّك تركت العصير العنبي لوحده فإنّه يحتاج إلى مدّة كي يحصل فيه الاشتداد بالتدريج، لكنّك لو طبخته قليلاً، فإنّه سيعرضه الإسكار في مدة زمنية أقلّ، فربما تركتَه لفترة وجيزة لتجده قد صار مسكراً، ولا تستطيع أن تواجه هذه المشكلة إلا بطبخ العصير على الثلثين بحيث يبقى ثلثه؛ فإنّه في هذه الحال يصير دبساً وثقيلاً وكثيفاً ولا يعود مسكراً.
فالحكم الأصلي في المقام ـ وفقاً للفرضيّة الخامسة ـ هو حرمة العصير العنبي المطبوخ الذي عرضه الإسكار، أمّا حرمة العصير العنبي المطبوخ بعنوانه ولو من دون عروض الإسكار، فهي ظاهر الإطلاقات والإجماعات هنا، حيث رتبت الحكم على مطلق الغليان الذي لا يلازم الإسكار في نفسه، ولكي نفي لهذه الإطلاقات والإجماعات يلزم أن نحكم بحرمة العصير العنبي المطبوخ غير المسكر من باب التعبّد، ولعلّه حماية للحمى، وأن الأئمّة حرّموه حذراً من تورّط المكلّفين في شرب المسكر وهم لا ينتبهون؛ لأنّ المطبوخ يُسرع إليه الفساد والاشتداد فيُسكر؛ تماماً كتحريم النبيّ الانتباذ في بعض الأوعية، وإن ألغاه بعد ذلك (انظر: شيخ الشريعة الإصفهاني، إفاضة القدير: 98 ـ 99).
ويقول شيخ الشريعة بأنّه «كثيراً ما يقع النهي عن شيء حماية للحمى وحسماً لمادّة الفساد وخوفاً من الوقوع في الحرام من حيث لا يشعر، ومنه النهي عن الانتباذ في أوعية مخصوصة مرّت في المقالة التاسعة كالنقير والحنتم، خوفاً من طروّ الفساد والإسكار عليه، ولا يعلم به الشارب، فيقع في مفاسد شرب المسكر، بخلاف الانتباذ في الأسقية فإنها مع تسارع الفساد إليها كثيراً ما يعلم به الشارب، فإنها على ما يقال تنشقّ إذا اشتدّ فيها النبيذ، ومثل هذا في المكروهات كثير، بمعنى أنّ الأمور التي يخاف من ارتكابها الوقوع في الحرام من حيث لا يعلم ينهى عنه الشارع الحكيم بالنهي التنزيهي، ومنه النواهي الكثيرة عن الشبهات على ما تقرّر في محلّه، فلا يبعد أن يكون النهي الوارد عن شرب ماء الزبيب المطبوخ الذي لا يحدث فيه المسكر بمجرّده من جهة أنّ إباحته والترخيص فيه يؤدّي إلى حفظه وبقائه عنده، فيحدث فيه الإسكار، فيشربه صاحبه وهو لا يعلم، وهذه الحكمة يقتضي النهي التنزيهي عن شرب المطبوخ وإن لم يسكر، إلا ما علم بذهاب ثلثيه؛ فإنه يؤمن من طروّ الإسكار عليه بالبقاء..» (إفاضة القدير: 129 ـ 130).
وبتحليل نظريّة شيخ الشريعة الإصفهاني، يظهر الآتي:
1 ـ إنّ العصير العنبي المطبوخ المُسكر حرام واقعاً؛ ويكون مصداقاً لحرمة مطلق المسكر، وليس تشريعاً جديداً.
2 ـ إنّ العصير العنبي المطبوخ قبل عروض الإسكار عليه حرامٌ تعبّداً، وقد يكون مبرّر الحرمة التعبدية هنا هو حماية الحمى، وهو ما نسمّيه نحنُ بالأحكام التحفظيّة، وهي الأحكام التي ينشؤها المعصوم لا لكونها حكماً واقعيّاً أصلياً في الشرع، بل للاحتياط لأحكامه الواقعيّة، حتى لا تنتهك بفتح مجال التهاون أو بكثرة وقوع المكلّفين فيها من حيث لا يشعرون.
ونتيجة هذه الأحكام التحفّظية عندنا ـ وقد يلتزم بذلك الإصفهاني ـ أنّه لو اُحرز يقيناً زوال العنوان الواقعي الإلزامي، وبتنا بمأمنٍ من تعرّض الأغراض الإلزاميّة للخرق والهتك، لم يعد الحكم التحفّظي ذا معنى ولا مبرّر، فيفترض الالتزام بسقوطه، ولا معنى لفرضه حكماً تعبدياً إطلاقيّاً، بل هو حكمٌ توصّلي عقلاني طريقي. فلو قطعنا يقيناً اليوم بأنّ هذا العصير المطبوخ المصنَّع لا كحول فيه، وكان ذلك ناتجاً عن خبرة ودقّة علمية فائقة، فلا معنى للتحريم هنا؛ لزوال ملاكه قطعاً.
والسؤال هنا هو: هل إذا ثبت ارتباط تحريم العصير المطبوخ بالإسكار يوجد معنى لحكم تعبدي في غير حالة الإسكار تحت عنوان حماية الحمى أو لا؟ وهل أصل معالجة الإصفهاني للموضوع بهذه الطريقة صحيحة وتسمح بالإفتاء بالحرمة المطلقة أو لا؟
هذا ما يقودنا لترك فكرة العصير العنبي التي هي مجرّد مثال مؤقّت هنا، لكي ندخل في أصل القاعدة التي انتبه إليها أمثالُ شيخِ الشريعة، وهي البحث في وجود تشريعات تحت عنوان حماية الحمى، فهل يوجد مثل هذا النوع من التشريعات؟ وما معناه؟ وما هي نتائجه وأسبابه معاً؟ وهل ستتخذ المنظومة التشريعيّة شكلاً آخر بإقحام هذا المفهوم بالغ الخطورة أو لا؟
إنّ هذا ما يستدعي تحليل هذا المفهوم، لكن قبل ذلك من المناسب أن نستعرض هذا المصطلح أو ما هو ذو صلة به في التراث الفقهي.
وإذا حلّلنا كلمات التراث الفقهي والأصولي هنا، وجدنا الآتي:
1ـ لا مانع أن تكون المصلحة والإرادة منصباً على دائرة، لكنّ الحكم وضع على دائرة أوسع، حمايةً من الوقوع في دائرة الحرام الأصل، وهذا ما تحدّث عنه السيّد الصدر من أنّه في عالم الأحكام والتشريعات قد يختلف مصبّ الاعتبار عن مصبّ الإرادة، كما أنّ منه ما يطرحه الصدر والعراقي وغيرهما في الأصول ضمن مصطلح «توسيع دائرة المحركيّة» وما شابه ذلك (انظر: مباحث الأصول 2: 49، 50، 55؛ وبحوث في علم الأصول 4: 202 ـ 204، و5: 148)، في مباحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، وكذلك مباحث البراءة والاحتياط، وكذا منجزيّة العلم الإجمالي.
وعليه، فمعنى قانون حماية الحمى هو وضع تشريعات حقيقيّة إلهية على مساحات محدّدة، لا بسبب وجود ملاك قائم بنفسه في هذه المساحات، بل بسبب خطورة الملاك المتاخم لهذه المساحات، أو في ضمنها، فالحكم الأصلي أضيق من الحكم الاعتباري.
2 ـ إنّ فكرة «حماية الحمى» أو «توسعة دائرة المحركيّة» قد تجري في مجالات ثلاثة:
المجال الأوّل: المجال الواقعي بنحو الإلزام، كما في تحريم الخلوة بالأجنبية ـ لو ثبت ـ تحريماً واقعياً إلزامياً؛ حماية من الوقوع في الزنا المحرّم.
المجال الثاني: المجال الواقعي بنحو الكراهة (أو مطلق غير الإلزام)، وهذا ما وجدناه عند شيخ الشريعة، وهو يعتبر أنّ الكثير من المكروهات التنزيهيّة ليست إلا لمصالح حماية محرّمات أخرى أو نحوها، والأمر يسري للمستحبّات أيضاً ولو لم يُشر إليها الإصفهاني، فإنّ نفس الخصوصيّة التي في الكراهة تأتي في بعض المستحبّات التي تساعد على تقريب المكلّف من أداء الواجبات.
المجال الثالث: المجال الظاهري، كما في حالة الإلزام بالاحتياط في أطراف العلم الإجمالي حمايةً من الوقوع في مخالفة الحكم الواقعي المتضمّن في الأطراف؛ ومنه أيضاً أصالة الاحتياط التي طرحها بعض الإخباريّين والتي استدلّوا لها بما ورد أيضاً في النصوص الحديثية من مبدأ حماية الحمى.
هذا هو المجال الذي رأينا أنّ الفقه الإسلامي وأصوله قد طرحا فيه هذا الموضوع، ومن الواضح أنّ التراث الفقهي لا يقدّم نظرية مستقلّة شاملة هنا بل يطرح الفكرة بنُدرة، ويهتم ببعض الموارد خاصّة، والشخصيّة الأهم هنا هي المحقّق القمي وشيخ الشريعة الإصفهاني.
ثانياً: بين التشريع التحفّظي وقانون سدّ الذرائع
ثمّة مجالٌ آخر طرح في التراث الإسلامي يتصل إتصالاً جذريّاً بموضوعنا، وهو نظريّة سدّ الذرائع التي اشتهرت بشكلّ أخصّ في الفقه الحنبلي؛ فإنّ هذه القاعدة تسمح للفقيه بإصدار فتاوى تحريميّة لأمور مباحة ـ وليس إصدار أحكام ولائيّة حكوميّة ـ لا لشيء إلا لكون الترخيص في هذا المباح قد يُفضي جدّاً ـ ولو ضمن حدود زمنيّة معيّنة ـ إلى وقوع الناس في الحرام؛ أو يفضي يقيناً إلى وقوع بعضهم أو كثير منهم، ولهذا تجد في الفقه الحنبلي الكثير من الفتاوى المتشدّدة هنا وهناك لهذا الفقيه أو ذاك، فقد تصبح السينما والفنّ والاختلاط وتعلّم المرأة في الجامعات والسفر إلى بلاد غير المسلمين والسماح بنشر و تداول وقراءة كتب الضلال وقيادة المرأة للسيارة و.. حراماً، ولو كان في نفسه حلالاً، حمايةً للمصالح العليا للشارع، وهي عدم وقوع الضلال والفساد أو عدم وقوع الانحراف الفكري والأخلاقي، وبهذا يمارس الفقيه حماية الحمى بنفسه مكان النبيّ أو الإمام.
ونظريّة سدّ الذرائع تظهر في الفقه الإمامي بشكل مصغّر في مباحث مقدّمة الواجب ومقدّمة الحرام، وبشكل آخر في مباحث الاحتياط في الفتوى، حيث إنّ بعض الاحتياطات في الفتاوى ناشئة من ذهنيّة سدّ الذرائع.
وبهذا يتبيّن أنّ مسألة «حماية الحمى» التي نصطلح عليها بالأحكام التحفّظية أو الحفظية، لها جانب يتصل بالمعصوم، وآخر يتصل بالفقيه:
أمّا المتصل بالمعصوم، ففي إصداره تشريعات بفرض حماية حمى الله، وهذا ما سيطرح أمامنا فكرة الأحكام الاحتياطيّة من المعصوم نفسه، فهل يُعقل أن يصدر حكم احتياطي من المعصوم؟ وهل يحتاط المعصوم في الفتوى أو يُفتي بالاحتياط؟ كما قد يستوحى من بعض الروايات الآتية، الأمر الذي سيربطنا بفكرة الولاية التشريعيّة والتفويض الشرعي للمعصوم، بل يتخطّى الأمر إلى حدّ أنّ المولى سبحانه قد يصدر أحكاماً تحفظيّة وليست أصليّة.
وأما المتصل بالفقيه، فهو نظرية سدّ الذرائع وأمثالها مما أشرنا له.
وبذلك يتبيّن الفرق بين موضوع بحثنا وبين نظريّة سدّ الذرائع، فنحن نبحث في نفس النصوص والأحكام التي قدّمتها لنا الشريعة من زاوية تحليلها وتصنيفها إلى نصوص أصليّة ونصوص تحفّظيّة، بينما قاعدة سدّ الذرائع هي قاعدة يستعين بها الفقيه ليصدر هو فتاوى تحريميّة بداعي حماية الحمى، دون أن يفسّر النصوص الشرعيّة الأصليّة بقانون حماية الحمى بالضرورة، وإنّ كان دليل نظريّة سدّ الذرائع له صلة بالتشريعات التحفظيّة كما سنرى بعد قليل لا نفس القاعدة.
وبناءً عليه، فهذه المسألة من المسائل المهمة جداً في الاجتهاد الشرعي، ومحلّها علم الأصول أساساً، ويجب إفراد بحث متكامل لها فيه يعالج تمام أطرافها، فهي مسألة بالغة التأثير على فهم نصوص الشريعة ونهج التشريعات ودور النبي والأئمة في المجال التشريعي، ونهج تعاطي الفقيه مع الوقائع المستجدّة التي قد توجب قلقاً على مصالح الشريعة ولم يرد فيها بخصوصها بنصّ إلزامي، خاصّة والبحث في أنّ لها آثاراً عملانيّة أو هي مجرّد تنظيم مفاهيمي للمنظومة القانونيّة فحسب.
ثالثاً: روح فكرة الأحكام التحفظيّة والتأمينية
صار واضحاً الآن ماذا نقصد نحن من فكرة الأحكام التحفظيّة والتأمينيّة، التي اُشير إليها عند بعض قليل من الفقهاء والأصوليّين دون أن يأخذوا بها كقاعدة تفسيرية فَهميّة أو اجتهاديّة في التعامل مع الشريعة.
وحاصل فكرتنا المدّعاة هي أنّ الشريعة مبنيّة على دوائر، تحيط ببعضها، فالدائرة الأصغر هي التي نسمّيها بدائرة (الأحكام الأصل)، وهي أصل الشريعة وجوهرها، ويحيط بهذه الدائرة دائرةٌ أخرى تمثل التشريعات الإلزاميّة التحفظيّة التي لا غرض من ورائها سوى حفظ التشريعات الأصليّة وضمان عدم وقوع المكلّف بها بفرض منظومة حماية حولها، ثم يحيط بهذه الدائرة الثانية دائرةٌ ثالثة أوسع منها، وهي دائرة التشريعات التحفّظية غير الإلزاميّة من المستحبات والمكروهات، والتي تستهدف تقريب العبد من الواجب أو إبعاده عن الحرام بدرجةٍ ما، وإن كنّا نعتقد بأنّ التشريعات غير الإلزاميّة ليست كلّها من هذا النوع، بل هذا هو حال بعضها على الأقلّ.
وبهذا تظهر الشريعة في ثلاث دوائر: أصليّة ـ تحفظية إلزاميّة ـ تحفّظية غير إلزاميّة، كما وبهذا ظهر أنّها يمكن أن تسمّى تحفّظية عن حرام أو تأمينيّة لواجب.
هذه هي الفكرة المركزيّة، ولكن المهم كيف نثبتها؟ وكيف نتعامل معها؟ وما هي تأثيراتها الميدانيّة الفهميّة والاجتهاديّة؟
رابعاً: مقاربات في فهم الشريعة وفقاً لنظريّة التشريعات التحفظيّة
ولكي نعالج نحن هذا الموضوع بشكل مختصر، يمكن طرح مجموعة نقاط مدخليّة:
1 ـ بنية التشريع التحفّظي وسؤال الإمكان
هل من الممكن أن يكون المشرّع الديني قد استخدم نظام الأحكام الأصليّة التي تحيط بها أحكام حمايةٍ إلزامية، تحيط بها أحكام حمايةٍ غير إلزاميّة، أو أنّه توجد مشكلة ثبوتيّة تمنع إمكان ذلك؟
في سياق الجواب عن هذه النقطة، نلاحظ أنّه لا يوجد أيّ محذور ثبوتي إمكاني، لا من عقلٍ ولا من منطق عقلائي ولا حتى من نصّ، بل مقتضى المنطق العقلائي أنّ هذه الطريقة يمارسها العقلاء بكثرة في حياتهم القانونيّة بأشكالها المختلفة وصولاً إلى أبسط أشكال التقنين، كما في التعامل مع الأطفال، فالأب والأم عندما لا يريدان سقوط ولدهما في البئر، فهما لا يكتفيان بنهيه عن الوقوع فيه، بل يصدران حكماً يعتمد منطق حماية الحكم والمصلحة الأصليّة، وهو النهي عن اللعب في دائرة قطرها خمسة أمتار مثلاً حول البئر، ضماناً لتحقّق ما يريدانه، وقد يوجّهان إليه حكماً غير ملزم باللعب بعيداً عشرين متراً أيضاً.
لو تأمّلنا قليلاً في طبيعة الأداء العقلائي في هذا الموضوع، فسنجد أنّه شائع جداً، بحيث تكون تشريعاتٌ جُدُرَ حماية أو مسهّلات لتشريعات أخرى هي الأصل، ووفقاً للقاعدة التي حقّقناها (انظر: حيدر حبّ الله، أصالة العقلائيّة في عمليّة التشريع الديني، مجلّة نصوص معاصرة، العدد 48: 5 ـ 10)، فكلّ نمطٍ تشريعي أو تقنيني يعتمده العقلاء في حياتهم ولم يرد فيه نهي من الشارع، فإنّ اعتماد المشرّع الديني عليه واردٌ جداً ولا مانع منه ثبوتاً، بل يصبح من المعقول أن يفتّش الفقيه عن هذا النمط العقلائي في التجربة الشرعيّة الدينيّة؛ لأنّه من الممكن أن ينتبه إليها ويصحّح نظراته للشريعة وفقاً لها.
والنتيجة: إننا لم نلاحظ وجود أيّ محذور ثبوتي إمكاني في انتهاج الشارع طريقة الأحكام التحفّظية الهادفة لحماية أو تأمين أحكام أخرى أصليّة، وهذا ما يترك أثراً على فكرة المصالح والمفاسد في المتعلّقات لا نريد خوضه هنا.
2 ـ المؤشرات العامّة لاعتماد التشريعات التحفظيّة في المنظومة القانونيّة الإسلاميّة
هل هناك مؤشرات عامّة توحي بأنّ الشارع قد يكون اعتمد هذه الطريقة في تشريعاته أو لا؟
لا أقصد هنا سوى المؤشرات العامة، أي التي تعطي إيحاءً عاماً، فقد يستنبط الفقيه من موردٍ خاصّ أنّ الشارع اعتمد هذه الطريقة في ذلك المورد الخاص، وهذا مؤشر خاصّ لا نبحثه الآن، إنّما نسأل عن المؤشرات العامة كيف يمكن التقاطها حتى لو لم تصل إلى حدّ الدليل؟
أ ـ إنّ مجموعة النصوص التعليليّة في الشريعة ـ بضمّها إلى بعضها ـ يمكن في بعض الأحيان أن تساعد على وجود ذهنيّة تشريعيّة من هذا النوع في الشريعة الإسلاميّة، وتكون أفضل المؤشرات العامّة على محاولة اكتشاف ذهنيّة المشرّع في التعامل مع تشريعاته، فعندما تذكر بعض النصوص أن لا يفعل الإنسان الفعل الفلاني، لأنّه يوقعه في الزنا؛ فإنّ هذا يعطي مؤشراً على أن مبرّر التشريع الأوّل كان هو التشريع الأصل الذي هو حرمة الزنا في هذا المثال.
وهذا ما يستدعي إعادة قراءة نصوص العلل في القرآن والسنّة لاكتشاف هذا النوع من التعليلات وفرزه والتعامل معه، فالنهي عن وضع الأولاد مع الفرق الضالّة خوفاً من إضلالهم لهم، ليس سوى حكم حماية من حرمة الضلال عن الحقّ والانحراف عنه. وعليه فأبرز المؤشرات العامة يمكن التقاطها في نصوص العلل، ونظراً لضيق المجال لن نتمكّن الآن من ملاحقة مختلف نصوص العلل، وهي كثيرة جداً في هذا السياق، لكنّ تقصيها يساعد على تكشّف وجود هذه الظاهرة في الذهنيّة التشريعيّة.
ب ـ وإلى جانب نصوص العلل، يمكن استخدام الاستقراء بوصفه مؤشراً أيضاً وليس بدليل، كما سوف نتحدّث عنه عند الكلام عن النقطة السابعة الآتية، وهي استناد القائلين بنظريّة سدّ الذرائع إلى استقراء الشريعة التي وجدوا أنّها عندما تحرّم شيئاً فهي تحرّم الدائرة القريبة المحيطة به، وجمعوا لذلك أكثر من مائة شاهد، كما فعل صاحب اعلام الموقعين، تُراجع في محلّها، وستأتي الإشارة قريباً.
3 ـ تأثير القوانين التحفّظيّة على الاستيعاب التشريعي للقرآن الكريم
إذا أعاد الفقيه النظر في أحكام الشريعة وفقاً لهذه الرؤية، واكتشف ـ كما مال إليه الميرزا القمي ـ أنّ أغلب أحكام الشريعة جاء لسدّ الطرق وحماية الحمى أو فتح الطرق، فهذا قد يربطنا بموضوع آخر من الضروري التنبّه له، وهو القرآن الكريم وموقعه وحدود نشاطه في المنظومة التشريعيّة الدينية، إذ من الممكن أن يُطرح التصوّر الآتي:
لما كان القرآن الكريم فيه تبيان كلّ شيء في الدين، كما صرّح القرآن نفسه، رغم أنّنا نجد اليوم في إرثنا الفقهي صعوبة كبيرة في الاقتناع بهذه الفكرة، نظراً إلى أنّ أغلب الفقه يؤخذ من الحديث والإجماعات والشهرات والسيرة المتشرّعية و.. مع الأخذ بعين الاعتبار كلمة «تبيان».
لما كان القرآن كذلك وواقع الفقه كذلك، فإنّ نظام التشريعات التحفّظية، من الممكن أن يسهّل علينا فهم هذه القضيّة؛ وذلك لا من خلال القول: إنّ في القرآن مجملات أو بعض القضايا العامة أو بذوراً تشريعيّة، فيما السنّة تتكفّل بيان أغلب الشرع، كما هي الصورة النمطيّة في الفقه الإسلامي..
بل عبر القول: إنّ القرآن اشتمل على الأحكام الأصليّة جميعها أو غالبها، وأمّا الأحكام التي جاءت بها السنّة مما ليس مندرجاً تحت العمومات والمطلقات القرآنيّة، فيمكن فهم جزءٍ وافر منه وفقاً لنظام التشريع التحفّظي أو قوانين الحماية، فدور القرآن بيان أحكام الأصل والمركز (وليست مقاصد الشريعة، بل عينُ الشريعة، فتأمّل جيداً)، والتي تمثل أصل الشريعة كلّها تقريباً، ومن دور السنّة بيان الأحكام ـ الدائمة أو المؤقتة ـ التي تتكفّل بيان الأحكام التي لم تشرّع لمصالح في نفسها بالضرورة، بل لتأمين تحقّق تنفيذ أحكام الأصل التي هي جوهر الشريعة ولُبُّها. وهذه صورة فائقة الأهمية عن أدوار القرآن والسنّة، تستحقّ التأمّل وربما تحلّ بعض الإشكاليّات.
ولكنّ ذلك لا يعني حصر القرآن بالأحكام الأمّ، ولا حصر السنّة بأحكام الحماية والحفظ، بل من الناحية الأوّلية لا يوجد ما يمنع الفقيه أن يكتشف حكم حمايةٍ في القرآن الكريم، أو يجد حكم أصل في السنّة الشريفة، فلينتبه إلى هذا الأمر جيداً. كل ما في الأمر أنّ الربط بين فكرة الحماية وفكرة أنّ القرآن تبيان لكلّ شيء، قد تساعد على افتراض أنّ أحد أهم أدوار السنّة هو وضع سلسلة من التشريعات التأمينيّة للأحكام الأصل القرآنيّة؛ وتكون أحكام الأصل هي جوهر الشريعة لا أنّها الغايات والأهداف والمقاصد، ولعلّ هذا هو ما يفسّر لنا معنى من معاني الولاية التشريعيّة للنبي، إذ له أن يشرّع أحكاماً لحماية الأحكام القرآنية وغيرها، ولعلّ هذا من أبرز أدواره التي يجب رصدها واكتشافها.
4 ـ الأحكام التأمينيّة التحفظيّة بين الثبات والتأقيت
هل الأحكام التحفّظية أو التأمينيّة ثابتة أو مؤقّتة؟
قد يتصوّر أنّنا إذا قلنا بأنّ الشرع وضع أحكامَ حمايةٍ، فهذا يعني أنّ هذه الأحكام مؤقّتة أو قابلة للافتكاك منها، ولكن هذا التصوّر غير صحيح؛ وذلك أن بالإمكان تنويع أحكام الحماية والتأمين إلى أنواع عدّة، أبرزها:
النوع الأوّل: أحكام الحفظ والتأمين القائمة على طبائع البشر العامّة، فهذه تبقى ثابتة؛ لأنها لم تأتِ لظرف طارئ مادامت تنطلق من طبائع البشر.
وعلى سبيل المثال، لو فرضنا أنّ الحكم الأصل هو حرمة الزنا (العلاقات الجنسيّة خارج إطار الزوجيّة)، وأنّ تحريم النظر واللمس والخضوع في القول والتبرج بزينة والخلوة بالأجنبية ومحادثة الأجنبية بالمثير للغريزة و غير ذلك. كلّها أحكام تأمين يراد منها وضع جدران عالية أمام الإنسان كي لا يقع في الحرام الأصل وهو الزنا.. إنّ هذه الأحكام لا تنطلق بطبيعتها من ظرف زماني ولا من وضع خاص، بل هي تنطلق من طبيعة الإنسان التي تحرّكها مثل هذه الأمور.. ففي هذه الحال تكون هذه الأحكام التأمينيّة ثابتة؛ لأنّ المؤشر الإثباتي والثبوتي يقفان لصالح انطلاق هذه الأحكام من عناصر ذاتية تتخذ طابع التلازم مع الطبيعة الإنسانيّة..
وعندما نتحدّث عن الطبائع البشريّة فنحن نتكلّم عن ربط الأحكام بالحالة النوعيّة، ولا تهمّنا الحالة الفردية الاستثنائية، وهذه مسألة مربوطة بكيفية نظر المشرّع إلى أحكامه في الاجتماع الإنساني، وقد نشير لهذا الموضوع تحت عنوان: التشريع الديني بين أصالة الفرد وأصالة الاجتماع، في مناسبة أخرى.
النوع الثاني: أحكام الحفظ والتأمين القائمة على حالة الاشتباه أو محدوديّة الاطلاع، كما في حالة الإلزام بالاحتياط عند الشكّ في حرمة شيء، كما عليه بعض الإخباريّين، أو في بعض موارد العلم الإجمالي أو نحو ذلك، فمن الطبيعي أنّ هذه التشريعات قائمة على حالة طارئة هي حالة الاشتباه، فإذا انعدم الاشتباه وحصل التمييز والعلم، لم يعد هناك معنى لهذا الحكم الاحتياطي.
ومن هذا النوع مسألة العصير العنبي المطبوخ وفقاً لفهم شيخ الشريعة الإصفهاني، فإنّه جعل نكتة التحريم المطلق الشامل لغير حالة الإسكار هو إمكان قوع الشارب في شرب المسكر من حيث لا يعلم؛ لأنّ إمكانات التمييز غير متوفِّرة.
فعلى هذا الأساس، لو تحقّق التمييز النوعي، كما في مثل عصرنا حيث يمكن غلي العصير ثم حفظه فوراً في المصانع وتعليبه مع المواد الحافظة، بحيث يُعلم بأنه لن يعرضه الإسكار مهما تُرك ما دامت العبوة / العلبة مغلقة، ففي هذه الحال لن يكون هناك معنى لحماية الحمى؛ لانعدام موضوعها المفترض الذي ادّعاه شيخ الشريعة، ومن ثم فلا يمكن لفهم شيخ الشريعة هنا أن يستمّر على إطلاقه، خلافاً لإفتائه هو بإطلاق الحرمة هنا تعبّداً.
وهذا يعني أنّ كلّ حكم تحفّظي تأميني شرّع لحماية حكم آخر وضمانه اعتماداً على محدوديّة الإمكانات أو محدوديّة المعرفة، فإنّه بطبيعته قابل للزوال إذا ارتفعت المحدوديّات ارتفاعاً نوعيّاً عاماً؛ لأنّ الحكم يزول بزوال مبرّره النوعي ما دام حكماً طريقيّاً؛ لأنّه في جوهره حكم ظاهري انعدم موضوعه، ولا اُريد أن أعطي أمثلة أخرى مع اعتقادي بأنّ العديد من التشريعات ترجع للنوع الثاني.
هذا، ويمكن طرح أنواع أخرى هنا نتركها للاختصار.
وبهذا نعرف أنّ الأحكام الحفظية ليست مؤقّتة بالمطلق؛ ولا هي دائمة بالمطلق، بل يتبع الأمر اجتهاد الفقيه وفهمه لنكتة تشريع الحكم ومبرّراته النوعيّة.
يتبع..
نظام الحماية والتأمين في الشريعة الإسلاميّة / 2 .. سماحة الشيخ حيدر حب الله