يهدف الباحث المصري أحمد العَدوي، في كتابه ” الطاعون في العصر الأموي : صفحات مجهولة من تاريخ الخلافة الأموية”، الصادر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (184 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا)، إلى إلقاء الضوء على آثار الطاعون في الدولة الأموية، بدراسة أثره في الأوضاع الديموغرافية في ذلك العصر، وانعكاساتها على النظم والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في بلدان الدولة وأقاليمها، في الشام والعراق ومصر وشمال أفريقيا، أي حواضر الخلافة التي شهدت، دون غيرها، موجات كارثية عظمى من الطاعون، أبرزها طاعون ابن الزبير الجارف، وطاعون مُسلم بن قتيبة الذي ختم عهد الأمويين.
الاجتهاد: صدر حديثاً عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في الدوحة كتاب “الطاعون في العصر الأموي: صفحات مجهولة من تاريخ الخلافة الأموية”، للباحث المصري أحمد العَدوي، الذي يلقي الضوء على آثار هذا الوباء في تلك المرحلة.
خلافاً لـالمكتبة الأوروبية التي تحتشد بدراسات حول الأوبئة التي عصفت بالقارة العجوز منذ القرون الوسطى وإلى اليوم، فإن المراجع العربية لم تلتفت كثيراً إلى تاريخ الأمراض التي عصفت بالمنطقة، وكيف تمّ التصدي لها، وصلتها بالأحوال الاقتصادية، وسجلها الطبي وتطوّره والخلفيات الاجتماعية والثقافية المتعلّقة بها.
تختلط الروايات التي تنقل أخبار المرض ضمن الكتابات التي تناولت الكوارث الطبيعية، والمجاعات، والأزمات الاقتصادية، من دون التفصيل في تواريخ وقوعه على وجه الدقّة، أو تعقّب حالات انتشاره، رغم أن بعض المؤرخين حاولوا الوقوف على أسباب حدوث كلّ وباء والتفريق بين الأوبئة، كما ورد مثلاً في كتاب “الولاة والقضاة” للكندي، و”أخبار الأول” للإسحاقي، و”تحفة الراغبين في بيان أمر الطواعين” للأنصاري.
لم تكن مناهج الكتابة التاريخية في العصور الإسلامية الأولى، قد تجاوزت كثيراً حدود الاهتمام بتاريخ السلاطين والولاة والجيوش والحروب وشؤون السياسة بشكل عام، ورغم تطوّرها منذ القرن الرابع الهجري، إلا أن مصادرها ظلّت شحيحة، وبقي تأويل أخبارها محدوداً حتى العصر الفاطمي والمملوكي، اللذين ظهر خلالهما مؤرّخون استفاضوا في تناول الأوبئة وربطها بالعوامل والمتغيّرات السياسية والاقتصادية.
من الوسطى إلى الأموي
فصول الكتاب:
“مكانة الطاعون في عالم العصور الوسطى”،
“فورات الطواعين في العصر الأموي”،
“الآثار الديموغرافية للطواعين وانعكاساتها على المجتمع والدولة في العصر الأموي”.
يتألف هذا الكتاب من ثلاثة فصول وخاتمة. في الفصل الأول، الطاعون وعالم العصور الوسطى، يناقش العَدوي مكانة الطاعون في عالم العصور الوسطى، وتأثيره في أوجه الحياة في العصر الوسيط، وكذلك يشتمل على نُبذة عن هذا الوباء القاتل، وأسباب فتكه بالناس على ذلك النحو المأساوي الذي تحدثت عنه المصادر القديمة.
وفي المحور الثاني من الفصل نفسه، حديث عن الطاعون الذي احتل مكانة مرموقة في التراث العربي الإسلامي بصفة عامة؛ إذ استدعى بوصفه كارثة إنسانية كبرى، الكثير من التساؤلات الدينية والفلسفية العميقة التي تعدت النطاق الضيق للطب والمرض والوقاية، من قبيل هل كان الوباء الذي يصيب الناس بلا تمييز، عقابًا جماعيًا من الله للبشر على خطاياهم؟ وهل ثمة عدوى؟ فإذا كانت هناك عدوى، فهل يُعدي المرض بذاته، أم لعلة خلقها الله فيه؟ وشكَّل الطاعون مبحثًا علميًّا تقاطعت فيه حقول الحديث والفقه والفلسفة والتاريخ، فضلًا عن الطب، وهو مجال الاختصاص الأصيل. وبحسبه، احتوت مسألة العدوى بذاتها على تعقيدات شرعية كبيرة، إذ سوّى الفقهاء والمحدثون بينها وبين عادات وثنية أخرى كان العرب يدينون بها في الجاهلية.
في الفصل الثاني، فورات الطواعين في العصر الأموي، يُحصي المؤلف الطواعين الواقعة في عصر بني أمية، ويضبط تعاقبها زمنيًا، تمهيدًا لدراسة آثارها. كما يعرض لأخبار الطواعين في صدر الإسلام عند الرواة والأخباريين والمؤرخين، ويناقش الإشكالات التي تُحيط بها، وأبرزها اضطراب الرواة والأخباريين في إحصاء الطواعين في العصر الأموي، والخلط بينها أحيانًا، وكذلك الاضطراب في التأريخ لها على نحو دقيق.
كما أنه يتضمن تقويمًا إحصائيًا لفورات الطواعين في عصر بني أميَّة منذ عهد معاوية بن أبي سفيان إلى عهد مروان بن محمد. يكتب: “شهدت تلك الحقبة من تاريخ العالم الإسلامي نحو 20 طاعونًا، بمعدل طاعون واحد لكل 4 أعوام ونصف تقريبًا، وهو معدل هائل، وتكفي المقارنة بين هذا المعدل ومعدل تجدد الوباء في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا في العصور الوسطى المتأخرة للتدليل على عمق الأثر الذي خلفه الطاعون في العصر الأموي”.
آثار ديموغرافية وسياسية
في الفصل الثالث، الآثار الديموغرافية للطواعين وانعكاساتها على المجتمع والدولة في العصر الأموي، يناقش العَدوي الكوارث الديموغرافية العنيفة التي تسبب بها الطاعون؛ “فعلى الرغم من أننا نفتقر كليًا إلى الوثائق المتعلقة بهذا العصر، فإن تحليل بعض الأخبار الموثوقة التي وردت في بعض المصادر الأدبية أعانني على رسم صورة تقريبية لمعدلات الناجين نسبة إلى الضحايا في طواعين العصر الأموي؛ فبناء على المعطيات المتوافرة من خلال المصادر الأدبية، أقَدّر نسبة الناجين إلى الضحايا بـ 1: 14 ضحيةً في المتوسط، وهي نسبة كارثية بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. كما يناقش هذا الفصل أثر الوباء على صعيد الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العصر الأموي”.
وأهم ما تمخض على توالي فورات الطاعون في العصر الأموي، كان عزوف خلفاء بني أميَّة عن الإقامة في دمشق، فكان الخلفاء قبل هشام بن عبد الملك ينتبذون إلى البرية والصحراء، أو يقيمون في الأماكن المنعزلة كالأديرة اتقاءً للوباء. يكتب العدوي: “ساهم الطاعون في تغييرات ديموغرافية مهمة، كان لها استحقاقاتها السياسية لاحقًا؛ إذ قامت الدولة بتهجير عدد كبير من الزنج إلى السَّواد، بغرض ملء الفراغ الديموغرافي الذي كان الطاعون يتسبب به في تلك البقاع”.
في خاتمة الكتاب، يرى العَدوي أن من غير الممكن فهم تراجع ثقل دمشق، عاصمة الخلافة في العصر الأموي، وتفسير سلوك خلفاء بني أميَّة الرامي إلى هجرها والنأي عنها إلا في ضوء الطاعون، “إضافةً إلى أن الطاعون حسم معارك كبرى جرت في العصر الأموي، منها الاجتياح المظفر للإمبراطور جستنيان الثاني لأرمينيا، عقب طاعون ابن الزبير الجارف. كما حسم الطاعون معركة مصعب بن الزبير مع عبد الملك بن مروان في البصرة التي مثّلت بداية النهاية لخلافة عبد الله بن الزبير”.
يضيف أن الطاعون حسم أمر سقوط الأمويين، “إذ أحسن الثوار العباسيون اختيار الوقت الملائم لإعلان ثورتهم بين طاعونين كبيرين أصابا الشام والعراق بين عامي 127 هـ/743م و131 هـ/748م، هما طاعون غراب وطاعون مسلم بن قتيبة. وقام هذان الطاعونان بدور كبير في نجاح العباسيين في إزالة دولة بني أمية، فكان طاعون مُسلم بن قتيبة في عام 131 هـ/748م بمنزلة فصل الختام بالنسبة إلى الخلافة الاموية؛ إذ أسفر عن خسائر مادية وبشرية هائلة، أصابت قلب الدولة في عهد مروان بن محمد بصورة خاصة”.