الاجتهاد: إنّ العمل على دراسة التراث الفقهي هو إحياء لهذا التراث من ناحية، هذا الإحياء الذي سارت عليه العديد من المؤسَّسات ذات الاهتمام أغنى المكتبة الفقهيّة بالعديد من الدِّراسات وأضاء على بعض النقاط التي كانت مهملةً من التراث، وهو تطوير للدِّراسات الفقهيّة المعاصرة من ناحيةٍ أُخرى، وبلحاظ كلا الأمرين ترجع الفائدة إلى تلبية الفقه لمتطلَّبات الحياة.
في خضمّ الصِّراع الدائر عن العلاقة بين المعاصرة والتراث تضيع بعض فضائل التراث، ويبدأ النظر إلى التراث على أنَّه ثقلٌ على ظهر الباحث والمجتهد المعاصر فيحلو للبعض الدعوة إلى التخلّص منه، وهو خلاف الإنصاف ويرجع في نشأته إلى خطأ عدم لحاظ بعض خصائص هذا التّراث.
إنَّ كلَّ معرفةٍ وعلم تنمو على ما سبق، فكلُّ نتاجٍ علميّ في زمانه له تأثيره على العلم في زمان لاحقٍ، ولا يمكن النظر إلى علم من العلوم على أساس القطيعة، بل المعاصرة هي وليدة هذا التّراث.
ولذا كان من الخطأ الكبير أن يتمّ التعامل مع التّراث على أنّه سبب للتخلّف بل هو درجةٌ في سلّم التطوّر، كما أنّه ليس من الصحيح النظر إليه على أنّه غير ذي فائدة، بل هو الخطوة الأولى باتِّجاه المعاصرة.
ونشير في هذه السطور إلى بعض خصائص التراث لا سيما التراث الفقهي، الذي هو نتاج علماء أعلام بذلوا وسعهم ضمن ما توافر لديهم لأجل معرفة أحكام شريعة سيّد المرسلين.
1 ـ اللغة
امتاز التراث الفقهي باللغة، وخصائص اللغة الفقهيّة في هذا التراث تتكوّن من عناصر متعدِّدة منها:
أ ـ الدقَّة والإيجاز: سواء أكان الدّافع لاعتماد الدقّة والإيجاز هو السياق العام أو الأسلوب والمنهج المتَّبع لديهم، أو غرض خاص تمثَّل بكتابة نصٍّ تدريسيٍّ تعليميٍّ لطلاب العلم، فإنّ عبارات المتقدِّمين المخزونة في التراث الفقهي تملك خصوصيَّة الدقّة والإيجاز.
ولعلَّ هذا هو الذي استولد ما عُرفَ في التراث الإسلاميّ بالشروحات والتعليقات، فبدأ العمل على فكِّ العبارة أو تركيب الجملة لمعرفة المقصود، وقد يكون حقاً ما سجِّل من ملاحظات على هذا الأسلوب ولكن الحقّ أيضاً أنّ هذا التركيب أثَّر تأثيراً بالغاً في حفظ هذا التراث وفعاليّته، ونلحظ كشاهد على ذلك كتاب (تجريد الاعتقاد) للخواجة نصير الدّين الطوسي الذي تعدّدت الشروحات عليه من قبل أعلام من الفريقين الشيعة والسنة على حدٍّ سواء.
ب ـ القرب من لغة المصدر الأساس (لغة القرآن والروايات): فإنَّ النصوص الفقهيّة المتقدِّمة والتي تكوَّن منها التراث الفقهي مثلا كانت في غاية القرب من لغة النصّ المصدر، ويرجع ذلك إلى قرب هذا التراث من عصر النصّ.
2 ـ التأسيس:
إنَّ من أشدَّ ما يتميَّز به التراث الفقهي أنّه يشكِّل مرحلة التأسيس، وهذا التأسيس يتجلّى في محاور ثلاث:
المحور الأوَّل: تأسيس المصطلح، لا شك في أنَّ البدايات في كلِّ علمٍ تشكّل تأسيساً لمصطلح ذلك العلم، وإن كان المصطلح يقبل الإضافة والتطوير أو اكتشاف الأفضل، ولكن يبقى أنَّ المصطلح المؤسَّس أولا له خصوصيّته فهو يملك مساحة التأثير على سائر مسائل العلم وقضاياه، وتأتي أهميّة المصطلح من اهتمام الأوَّلين به، فالسعي للوصول إلى تعريف حقيقيّ ـ وإن كان متعسِّرا في نظر المتأخِّرين ـ ولكنّه كان متيسرا بنظر الأوّلين ولذا كان لنحت المصطلح أهميّته بالنسبة إليهم، ومن غير الإنصاف أن ننظر إلى النزاعات التي كانت تدور حول المصطلح على أنّها نزاعات محض لفظيّة وأنّها غير ذات فائدة، بل كانت تلك النزاعات تنعكس على مجمل قضايا العلم ومسائله.
بل إنَّ للمصطلح المؤسَّس من قِبَل الأوّلين تأثيره حتّى على الأبحاث المعاصرة لأنّ غالب ما يطرأ من تغيير على المصطلح يكون من باب الإضافة، ولا إضافة إلا مع إدراك الأصل والإحاطة به.
المحور الثاني: تأسيس الدليل، وظيفة الأوّلين كانت أثقل من وظيفة المتأخِّرين لا سيما لمن تأسّس العلم على أيديهم فإنَّهم يشكِّلون نقطة البدء في بناء الدليل، وكحال المصطلح فإنّ التأسيس في الدليل يشكِّل العماد الذي يتطوّر على أساسه الدليل، قد تخفق بعض الأدلّة في البقاء ولا يُكتب لها العمر الطويل، ولكنّها تؤثِّر بوضوح على صياغة المتأخِّرين وتأسيسهم للأدلَّة الجديدة، فهي تفتح آفاق التفكير لديهم وتصبح كشَّافاً لهم أمام نوع الدليل الذي يمكن صياغته وجعله برهاناً تاماً.
المحور الثالث: تقسيم العلم، فقد أدَّى المتقدِّمون دورهم في تقسيم العلم وتبويبه وتبويب مسائله، وقد يسجِّل المتأخِّرون عنهم بعض الملاحظات على عمليّة التقسيم والتبويب، ولكن لا شكَّ في أنَّ تقسيمهم للعلم يحكي عن منهجيَّةِ التفكير لديهم، وكيف أنَّ سيرهم في عمليَّة التقسيم لم يكن عملا اعتباطياً، ولا سيما عندما نشهد نزاعهم حول بعض مفردات التقسيم والتبويب، وإذا لاحظنا التّراث الفقهيّ وكيف أنَّ التقسيم ما زال سائدا إلى الآن، توصَّلنا إلى دقَّة التقسيم وإتقانه، وأنَّ تقسيماً مختلفاً لم تكتب له الولادة إلى الآن، على الرغم من تطوّر حركة الفقه والاجتهاد الفقهيّ حتّى قُسِّم أدواراً ومراحل.
3 ـ فهم المتقدِّمين
، لا يعني الاجتهاد الفقهيّ وفتح بابه أمام المتأخِّرين والحذر من الجمود أن ننكر قيمة فهم المتقدِّمين، لا سيما في التراث الذي يعتمد على النصّ، كالتراث الفقهيّ القائم على مصادر نصيّة، من كتابٍ أو سنّة، إنَّ فهم المتقدِّمين قد يكون أغفل بعض العناصر التي توصَّل إليها المتأخِّرون، تلك العناصر المكوِّنة لفهمٍ صحيحٍ بنظر المتأخّرين، وقد تُظهِر هذه العناصر بعض مكامن الخلل في فهم المتقدِّمين، ولكنَّ ذلك لا يبرِّر تجاهل فهمهم ولو من باب أنَّ هذا الفهم هو إضاءة على النصّ من جانبٍ ما أو من زاويةٍ ما.
إنَّ أبسط ما يمكن أن يدعونا للاهتمام بفقه المتقدِّمين هو فهم آليَّة الاستنباط لديهم ومناهج الاجتهاد المعتمَدة عندهم، وعوامل تكوين فهم النصّ لديهم. ولو للحذر من الخطأ في الفهم الذي وقعوا فيه في بعض المفردات.
قد يسجِّل المتأخِّرون على المتقدِّمين حرفيَّة الفهم، أي الاقتصار على نطاقٍ ضيّق في ممارسة قراءة النصّ، ولكنّ توسعة قراءة النصّ والخروج من حرفيّة الفهم لا يُلغي على الإطلاق ذلك المجال الضيّق من الفهم، بل إنَّ التوسعة تعتمد على إضافة عناصر جديدة ولا تلغي كافَّة العناصر التي اعتمد عليها فهم المتقدِّمين في كثيرٍ من الأحيان.
4 ـ الفقه المقارن
شهد الفقه ـ لا سيما الفقه الشيعيّ ـ في البدايات تراثاً مقارناً لا تجده في فقه المتأخِّرين، ويعود ذلك إلى أنَّ توسّع الأبحاث والنتاج الفقهيّ في الدّاخل الشيعي أدَّى إلى اشتغال الفقهاء بملاحظة المتقدِّمين في الدّاخل ونتاجهم الفقهيّ، فقد أصبح التّراث الفقهيّ الشيعيّ ضخماً، والفقيه يعالج هذا التراث في ممارساته الاجتهاديّة ويُمعن في تمحصيه وقراءته فيأخذ الحيِّز الأكبر، بل التامّ من عمليّة الاجتهاد الفقهيّ، ولا يسمح من ناحيةٍ زمنيّة كحدٍّ أدنى من ممارسة قراءات فقهيّة للمدارس الفقهيّة الأخرى التي يختلف معها في أُسس الاستنباط ووسائله وأدواته.
وهذه الخصوصيّة التي كانت مشهودة في العديد من مصادر التّراث الفقهيّ الشيعيّ تحكيها لنا سيرة أعلامنا الفقهاء لا سيما أمثال الشهيدين الأوّل والثاني حيث كان من خصائصهما الترحال نحو المدارس الفقهيّة الأخرى لتلقِّي علومها والاطِّلاع على ما لديها، حتَّى أصبحا من مدرّسيها ومن ذوي الإلمام الواسع بها وبأفكارها ومناهجها. والإجازات التي حصلوا عليها من أعلام الفقه الآخر كالفقه الشافعيّ تشهد على سعةٍ في حركة الفقه المقارن لديهما.
إنّ العمل على دراسة التراث الفقهي هو إحياء لهذا التراث من ناحية، هذا الإحياء الذي سارت عليه العديد من المؤسَّسات ذات الاهتمام أغنى المكتبة الفقهيّة بالعديد من الدِّراسات وأضاء على بعض النقاط التي كانت مهملةً من التراث، وهو تطوير للدِّراسات الفقهيّة المعاصرة من ناحيةٍ أُخرى، وبلحاظ كلا الأمرين ترجع الفائدة إلى تلبية الفقه لمتطلَّبات الحياة.
المصدر: فصلية المنهاج –السنة16:صيف 1432هـ / 2011م]