إن تأثير الفقه السياسي على الإسلاميين، مكنهم من تليين خطابهم السياسى تجاه الأنظمة والمؤسسات، حيث استبدلوا شعارات إسقاط النظم وتكفير الحكام بمفردات من قبيل النصيحة والمشاركة”. إعداد: الباحث المغربي محمد قنفودي
الاجتهاد: ساهمت عدة عوامل في صعود تيارات الإسلام السیاسی في العالم العربی، کان ابرزها تکثیف العمل الدعوي والخيري، الذي كان صلة وصل قوية ودائمة ما بين تلك الحركات وعموم الناس، ثم أيضا التحول في الرؤية السياسية استنادا إلى ما سمي بـ «فقه الواقع»، حيث عمدت الحركات الإسلامية طيلة العقود الأخيرة، على تطوير مفهوم الدولة والحكم، وتناغم المرجعية الدينية مع ذلك، ولعبت أحداث ما سمي بـ «الربيع العربي» کذلك، دورا دالا في تأکید هذا الصعود، من خلال ما وفرته من أجواع سیاسیة منفتحة، ومجالا خصبا للمعترك السياسى، وعاملا للعمل السياسى المشروع.
العمل الدعوي والخيري: بين الهدف الديني والرغبة السياسية
واكبت الحركات الإسلامية عموما في العالم العربي، تجربة دالة من العمل الدعوي والخیری، وهو ما خلق تراکما مهما، ساهم بشکل بارز في صعودها السياسى لاحقا، حيث إن عملية الوصول إلى السلطة، كان عبارة عن مرحلة تتويج لذلك العمل الدعوي الخيري الممتد تاريخيا منذ تأسيسها، وهو ما أدى إلى إيجاد بيئة اجتماعية حاضنة لمشروعها «المجتمعي»، وأيضا خزانا من «الأصوات المحتملة»، سواء من المستفيدين بشكل مباشر من المساعدات الخيرية، أو المتاثرين بخطابها الدعوي، وهو ما يعكس مستوى النفوذ الذي تتمتع به تلك الحركات في الوسط الاجتماعي”.(1)
کما أن البيئة الإسلامية المحيطة بالمجتمعات العربية، كان مساعدا في تغلغل تلك التيارات وتطورها أيضا، حيث سعت حركات الإسلام السياسى منذ نشوئها إلى توظيف الدين لخدمة تطلعاتها، كما تبنت خطابا متسقا مع البیئات التي نشأت فیها ولیس مغایبرا لها، وهو ما اکسبها تعاطفا قویا وأيضا ميولا لأطروحاتها، باعتبارها تمثل «التدين الصحيح»، وليس مصادما لمرجعياتهم الدينية والاجتماعية؛ فضلا عن كونها منسجمة مع تطلعات المجتمع و مواقفه ومیولاته، ما أکسبها نفوذا مجتمعیا قویا.(2(
ولم يستمد الخطاب الدعوي قوته فقط من الوعظ والإرشاد، وإنما أيضا من تجییش المشاعر بقضایا الأمة، خاصة وأن بروزه الحرکی واکب عددا من الأحداث الدولية المهمة، والتي كان لها أثر بارز في قدرته التأطيرية وتطعيم وحدته التنظيمية، كالحرب السوفياتية الأفغانية، وأيضا حروب الشيشان وكوسوفو، وأحداث نيويورك واحتلال أفغانستان والعراق. وأيضا قضية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والتي كانت حاضرة بقوة ضمن خطابه الديني، ما أكسبه مزيدا من الدعم المجتمعي، محاولا في إظهار تلك الأحداث ضمن قالب دينى، ومؤلبا على الأنظمة السياسية العربية كونها شريكة في ذلك.
مرحلة الاستعداد السياسي و استجلاب النصوص بمرآة ( الفقه السياسي)
يرتبط مفهوم فقه الواقع بالمقولة الشهيرة «الإسلام صالح لكل زمان ومكان»، وهو بذلك يستدعى القراءة المعاصرة للنص الدينى بما يتناسب وحاجيات العصر، وهو يستمد ركائزه من المصادر النصية وتحديدا من القران والسنة، ویمکن اعتباره اجتهادا فقهیا، یسعی لمواکبة المستجدات، ويرفع «الحرج» عن المسلمين عموما في التعاطي مع شؤونهم اليومية. كما انه يحتوي على اجتهاد ذي دلالة في الشأن السياسي ايضا، من خلال استنهاض الاهتمام بشؤون المسلمين وكيفية التعاطي مع غير المسلمين أيضا(3)
وقد كان لهذا الفقه بما يحتويه من مرجعية فقهية وعقائدية، دور في استمداد تيارات الإسلام السياسى مشروعية «مراجعاتها السياسية» ضمن نظرية «الفقه السياسى»، والذي يستجيب إلى المرونة في إصدار الفتوى، ويعمل على التوفيق بالاستعانة بمصادر الشريعة الإسلامية.
وهذا التطور من جانب الإسلاميين، ساهمت فيه مجموع التحولات السياسية الدولية والمحلية، وبروز قيم ومفاهيم من قبيل الديمقراطية والحرية، كحاجة ملحة للتدبير السياسي والمجتمعي، الأمر الذي أربك مواقف تلك التيارات، بین رافض لهذه القیم و اعتبارها دخیلة علی القیم الاسلامیة، وبین متقبل لها في جزئياتها الإجرائية دون الإيمان بمرجعياتها الفلسفية، مما كان لازما على فقهائها التدخل بغية إيجاد انسجام بين مرجعيتها الفقهية ومتطلبات الشأن السیاسی.
ولعل هذا الاجتهاد، هو ما أدى إلى بروز مفهوم الدولة المدنية لدى عدد من تیارات الاسلام السیاسی، والی حاولت أن تجد لنفسها موطئ قدم ضمن المؤسسات السياسية للدولة الحديثة، وتجنبا للمواجهة مع باقي التيارات السياسية العلمانية وغيرها، وتأكيدا على عدم التنافي أو التناقض بين أطروحاتها السياسية ومرجعيتها الدينية ورؤيتها للدولة والحكم، بما يتناسب مع شكل ومفهوم الدولة الحديثة. إلا أن ذلك لم يعن التخلي عن شعار «الإسلام هو الحل»، او عن مفهوم «الدولة الإسلامية»، بقدر ما كان اجتهادا يحاول فك الاشتباك والتوفيق مع مفهوم الديمقراطية والتعددية السياسية”.(4
الانتفاضات العربية و مرحلة التمكين
إن تأثير الفقه السياسي على الإسلاميين، مكنهم من تليين خطابهم السياسى تجاه الأنظمة والمؤسسات، حيث استبدلوا شعارات إسقاط النظم وتكفير الحكام بمفردات من قبيل النصيحة والمشاركة”،(5)
وهو نفس الأمر الذي جعلهم مترددين في موقفهم تجاه الانتفاضات التى شهدتها المنطقة العربية سنة ٢٠١١، نتيجة الخوف من الصدام مع الدولة، والدخول ضمن معترك جديد من المواجهة. هذا التردد، سيتبدد مع بروز علامات نجاح تلالات الانتفاضات من اسقاط حکامها (تونس، مصر، لیبیا…)، لیتحول الی مشارکة ومبارکة، وفعل تنظیری وتنظیمی، محاولین الاستفاده منه للخروج من ضيق الحصار إلى سعة المشاركة السياسية.
لقد شكلت هذه الانتفاضات، فرصة لتلك الحركات من أن تخترق أسوار الإقصاء والتهميش الذي تعرضت له منذ عقود في بلدانها؛ فسقوط الأنظمة كان يعنى بالنسبة إليها أن ثقافة الإقصاء والاستبعاد قد سقطت أيضا، وأن الحواجز المانعة لانطلاق مشروع الإسلام السياسي واكتسابه مشروعیه سیاسیه قد انتهت کلیا.
وهذا یعی ان الاسلامیین وبعد عقود من النشاط الدعوي والسياسي، أصبحت لهم فرصة حقيقية للوصول إلى سدة الحكم، واختيار أطروحتهم ومشروعهم المجتمعي دون أي قيود فوقية قد تفرض عليهم الإحجام عن ذلك، وهو الأمر الذي حدث في عدد من الدول العربية، بترشح الإسلاميين فيها، وقدرتهم على الفوز في الانتخابات و تشکیل الحکومات، بعد ما أفتوا بالمشارکة السیاسیة، والتی اصطلح علیها في الانتخابات المصرية في سنة ٢٠١٢، بـ «غزوة الصناديق»”.(6)
إن الصعود السیاسی للاسلامیین، لم یکن اذن نتیجةٔ تلك الانتفاضات وحدها، وإنما أدى إليه عدد من المسببات، سقنا أبرزها في هذا المحور، وقد شملت الجانب الدعوي والخيري، وأيضا ما تم استحضاره من الضرورات الفقهية، لكن يبقى أن نشير إلى أن هذا الصعود، كان أيضا نتيجة وجود الحركات الإسلامية كبديل سياسي للشعوب، بعد أن جربت نماذج متنوعة في السابق، فتولدت لديها الرغبة في أن تعطي لهذه التجربة الجديدة فرصتها السياسية، علها تنتشمل البلاد من مشاكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن هذه التجربة لم تستمر طويلا، حيث أدت عوامل عديدة إلى فشلها وأفولها، وهو ما سنحاول البحث فيه من خلال المحور الثالث والأخير من هذه الورقة.
الهوامش
1- محمد الشيوخ، صعود الإسلام السياسي… بوابة الدّین، مرکز آفاق للبحوث والدراسات، حرر في ٢٠١٣/٠٤/١٨
goo.gl/VxFKuh : الرابط
2- أميرة طاهر وفاطمة الزهراء عماري، دور حركات الإسلام السياسي في التغيير السياسي – حزب العدالة والتنمية في تركيا ۲۰۱۵-۲۰۰۱، آطروحة جامعیة، جامعة العربي التبسي – تبسة-، ۲۰۱٦، ص:۱۲
3- انظر المرجع التالي: يوسف القرضاوي، في فقه الأقليات المسلمة: حياة المسلمين وسط المجتمعات الأخرى، دار
الشروق، الطبعة الأولى ٢٠٠١
4- زکی بنی ارشید، الدولة المدنیة… هل تشکل نقیضا للدولة الاسلامیة؟، موقع الجزیرة نت،٢٠١٦/١٠/٠٥، الرابط:
goo.gl/LXQfeS
5- عبد الغني عماد، الإسلاميون بين الثورة والدولة: إشكالية إنتاج النموذج وبناء الخطاب، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بیروت ۲۰۱۳، ص: ۱۰۱
6 – المرجع نفسه« ص102
المصدر: العدد ( 42) من مجلة ذوات. مقالة بعنوان: حركات الإسلام السياسي في العالم العربي بين مسببات الصعود وبواعث الأفول. إعداد:محمد قنفودي ؛ باحث مغربي في العلوم الاجتماعية