الاجتهاد: تتفاوت العلوم المختلفة من جهة أهميتها، فكل واحد منها له مكانته الخاصة به. ومن هنا، فإن من المباحث الابتدائية لكل علم هو البحث عن النقاط المميزة لذلك العلم عن غيره من العلوم. ومن ذلك ما يطرح في علم الأصول عن ماهية الفرق بينه وبين سائر العلوم.
ولا شك أننا لو نظرنا إلى الفقه من زاوية واسعة، لرأينا أن جميع العلوم لها دور فيه، مثل: الصرف، النحو، اللغة، المنطق، التفسير، علم الرجال و … ؛ إلا أنها تختلف في مقدار تأثيرها. فبعضها تمثل خلفية وأرضية أستنباط الأحكام، وبعضها تكون آخر جزء من علتها.
ان تعیین و تمییز مبادیء و مقدمات ايّ علم عن قضاياه ومسائله كانت تشغل أذهان العلماء منذ قديم الزمان. وهو ما جرى في بداية علم الأصول أيضاً، وخضع للنقد والدراسة بصورة واسعة.
يكتب الميرزا النائيني حول هذا الموضوع، فيقول :
المائز ہین علم الأصول وسائر العلوم هو أنّ مسائل سائر العلوم انما تکون من المبادیء والمعدات لاستنباط الاحکام الشرعيّة، ولا تقع إلا في صغرى قياس الاستنباط. وأما المسألة الأصولية، فهي تكون الجزء الآخر لعلّة الاستنباط، وتصلح لأن تقع کبری القياس “(1)
وتوضيح ذلك أن الفقيه ينحصر عمله بالاستدلال، والاستدلال لا يتيسّر إلا بالقياس المنطقي؛ ومن هنا، لا بدّ له من المعرفة الصحیحة بصغری القیاس و کبراه، و صغری قیاس المجتهد تستحصل من نتائج العلوم الأخرى، وكبراء من علم الأصول. مثال ذلك أن علم الرجال هو الذي يتولى تمييز خبر الثقة من غيره.
فعندما تتّضح وثافة أحد الأفراد من خلال هذا العلم، تكون النتيجة الأصولية لذلك هي حجية خبر الثقة، وبذلك يستطيع الفقيه معرفة الأحكام وإصدار الفتوى.
وتوضيح ذلك أنّ: وجوب صلاة الظهر مما أخبر به الثقة، وکل ما أخبر به الثقة حجّة و يجب اتّباعه.(2)
فیستنتج الفقیه من هذه الصغری و الکبری أن صلاة الظهر واجبة… وعلى هذا الأساس يصير علم الأصول أقرب العلوم إلى الفقه، بل هو أقرب إلى الفقه من علم الرجال الذي يعدّ من العلوم القريبة إلى الفقه.
وممّا أشرنا إليه يمكن معرفة مكانة علم الأصول مقارنة بسائر العلوم التي تدخل في عملية استنباط الأحكام الشرعيّة، وبالتالي معرفة الآراء المبتكرة للنائيني في هذا المجال.
وهذا المبنى هو الذي أدّی بالمیرزا النائیني الی عدم قبول التعريف المشهور لهذا العلم لدى الأصوليين وهو: العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة”، وتقديم تعريف آخر لعلم الأصول بدلاً من ذلك، وتمييز وظيفة وحدود المسائل الأصولية عن العلوم بطريقة منهجية:
والمسائل الأصوليّة عبارة عن الكبريات التي تقع في طريق استنباط الأحكام الكلية الشرعية “.( 3)
وبهذا التعريف يكون النائيني قد أشار إلى أصول عامة عدّة:
1 – رغم أنّ القواعد الفقهية أيضاً مثل المسائل الأصولية تدخل في كبرى القياس؛ إلا أنّ الفرق الأساس بينهما يتمثّل في أنّ الذي نحصل عليه من المسألة الأصولية هو الحکم العام الشامل، والذي يستفاد من القاعدة الفقهيّة هو الحكم الجزئي والشخصي.
وبعبارة أخرى: إن المسألة الأصولية تنحصر فائدتها العملية بالمجتهد فقط ؛ لذا لا یجب علیه اصدار الفتوی للمکلفین ومقلديه بحجيّة خبر الثقة؛ لأنّ تطبيق الكليات علی الخارج وظيفة المجتهد دون المقلد. في حين يختلف الأمر مع القاعدة الفقهیة التي تکون نتیجتها حکما جزئیا له صلة بعمل المكلفين، كما أن تطبيقه أيضاً بيد المقلد، مثل: قاعدة التجاوز والفراغ، قانون الضرر، الحرج و….
2 – انّ تضمین کلمة (کبریات) في تعریف علم الأصول قد أخرج مسائل بقية العلوم عنه ؛ لأنها رغم دورها في عملية استنباط الحكم الشرعي إلا أن حدود هذا الدور تنحصر في حدود صغری القیاس لا کبراه”. (4)
3- إنّ هذا التعريف يجعل الكثير من مسائل علم الأصول – التي كان البحث عنها يجري استطراداً – من المسائل الأصلية لهذا العلم، وإنّ أيّ مسألة – سواء كانت ظاهرية أو واقعية – تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ستكون جزءاً من المسائل الأصولیة ۔
الهوامش
(1) الشيخ محمد علي الکاظمي، فوائد الأصول، تقریر دروس النائيني الأصولية،مكتب النشر الإسلامي التابع لجماعة المدرسين، ج4 ، ص308.
(2) المصدر نفسه
(3) المصدر نفسه
(4) المصدر نفسه(ص 309)
(5) المصدر نفسه
المصدر: كتاب: محمد حسين النائيني وتاسيس الفقه السياسي (مقالة بعنوان: إبتكارات النائيني في علم الأصول ، للشيخ أبوالقاسم اليعقوبي ) ص 167
تحميل الكتاب
محمد حسين النائيني وتاسيس الفقه السياسي