الاجتهاد: إنّ أولى المسائل التي يجب الالتفات إليها هي أنّ فقه الفوارق لايرتبط بأكرمية الرجل أو المرأة عند الله تعالى، فهو لايرتبط بالجانب الذاتي والمعنوي لكل منهما، بل يرتبط بالجانب الوظيفي لكل منهما: أي بوظيفة كل منهما في الاجتماع الأسري أو السياسي أو مختلف مجالات الحياة الاجتماعيّة، فإن الاستعدادات التي يمتلكها كل من المرأة والرجل من جهة، وضرورة قيام حياة اجتماعية سوية ومستقرة من جهة ثانية، يفرضان وجود اختلاف وظيفي بينهما.
المراد بالمفارقات الفقهية تلك الموارد التي تشهد اختلافاً بین المرأة والرجل علی مستوی الحکم الفقهی في الاسلام بحیث یکون الحکم فیما یرتبط بالرجل باتجاه ما، فی حین یکون باالنسبة إلى المرأة باتجاه آخر، کما هو الحال – على سبيل المثال – بالنسبة إلى حقّ الطلاق، حيث يحقّ للرجل أن يطلق لأنه یملك هذا الحق في حين أن المرأة لا تملكه.
وتوجد العديد من هذه الموارد في الفقه الإسلامي، منها: المهر، و القوامة، والقضاء والولاية، وتولّي المناصب العليا في الدولة الإسلامية، وفي الشهادات والإرث، و الحقوق الجنسية، وتعدّد الزواجات ، وفي قضية الضرب، و الإنجاب، و الولاية على الأطفال، وحضانتهم، والعدّة، والاستئذان من الأب للزواج وغيرها: حيث يخال المرء للوهلة الأولى أنّ الفقه الإسلامي هو فقه ذكوريّ يتعامل بشيء من العنصرية مع المرأة، أو أنّه فقه تاريخيّ أتى ليعبّر عن مرحلة تاريخية كانت المرأة تعاني فيها من الظلم، والانتقاص من حقها ودورها على المستوى الأسريّ، والاجتماعيّ ،والسیاسیّ.
ربما يسري إلی ذهن بعض الأشخاص هذه النظرة الأوليّة حين تتم قراءة جميع الفوارق الفقهية دفعة واحدة، لكن نظرة فاحصة إلى فلسفة تلك الفوارق وأسسها الكلاميّة ودلالاتها الموضعيّة تبدّد ذلك الوهم، وتساهم في الإضاءة على حقيقة المسألة وفلسفتها .
وقد يختلف الموقف من تلك الفوارق: بين من يرفضها تماماً، أو يقبل بها دون وعي، وفهمٍ لحقيقتها، وبين من يحاول أن يعي حقيقتها، ويفهم فلسفتها، ويلتمس دلالاتها في الإطار المعرفيّ الذي تتموضع فيه، محاولاً تكوين رؤية شاملة تجمع تلك الفوارق في فهم منظوميّ شامل لا يلغي في المقابل ماهية كل فارق من تلك الفوارق وخصوصياتها ومعانيها التي يختص بها.
أما الموقف الثالث فهو يرتكز من جهة – في أساسه الکلامي – علی كون الاحكام تابعة للمصالح و المفاسد، ومن جهة اخرى – في جانيه الميدانيّ والعمليّ – على مطلوبية أن تكون لتلك الأحكام آثارٌ واقعية، ونتائج ملموسة في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية التي تأخذ تلك الأحكام طريقها فيه على مستوى التطبيق و الممارسة.
بل يمكن القول، إنّ هناك أكثر من باب لمحاولة فهم تلك الفوارق ودلالاتها سواءً من جهة نتائج تلك الأحكام وآثارها على المستوى العمليّ والميدانيّ، أو من جهة العديد من المقدمات الكلامية والنظرية الـتي ساعدت على فهمها، أو من خلال الدمج بينهما والاستفادة منهما معا.
و هنا لا بدّ من التأکید علی حقیقة مهمّة أنه فی اطار الکلام الجديد و إشكاليّاته المطروحة، وفي زمان العولمة الثقافيّة، ومقارباتها للعديد من القضايا الاجتماعيّة وقضايا المرأة يصبح من الضروري بمكان تقديم رؤية إسلاميّة واعية وجادّة لكثير من تلك المفارقات وفلسفتها و وظائفها الاجتماعيّة، ولم يعد مقبولاً التنكّب عن مواجهة تلك الأسئلة أو محاولة تقديم الإجابات الجادّة عنها أو تکوین رؤی شاملة و موضوعیّة لکل تلك الاشکالیات المطروحة.
ولا نريد من وراء هذه الكتابة الإجابة عن تلك الأسئلة المطروحة بالنسبة إلى كل واحدة من تلك الـفوارق، بل نريد الإشارة إلى ضرورة معالجتها من جهة ، ومحاولة تقديم رؤية كلاميّة شاملة لتلك الـفوارق تـضعها في إطار ها الـصحيح: كونـهـا تأسيساً نظرياً كلامياً لفقه الفوارق: ليأخذ مساره الفكريّ الذي يوفّر على الباحث كثير من الالتباسات وسوء الفهم الذي يمكن أن یشأ من عدم الالتفات إلی ذلك التأسیس، و إلی المقدّمات النظريّة والفكريّة التي يقوم عليها هذا الفقه.
إنّ أولى المسائل التي يجب الالتفات إليها هي أنّ فقه الفوارق لا يرتبط بأكرمية الرجل أو المرأة عند الله تعالى، فهو لايرتبط بالجانب الذاتي والمعنوي لكل منهما، بل يرتبط بالجانب الوظيفي لكل منهما: أي بوظيفة كل منهما في الاجتماع الأسري أو السياسي أو مختلف مجالات الحياة الاجتماعيّة، فإن الاستعدادات التي يمتلكها كل من المرأة والرجل من جهة، وضرورة قيام حياة اجتماعية سوية ومستقرة من جهة ثانية، يفرضان وجود اختلاف وظيفي بينهما، و الهدف من هذا الاختلاف ليس إلّا إيجاد نوع من التكامل الوظيفي بين المرأة والرجل المبني علی استعدادات کل منهما علی المستوی الفطريّ والعضويّ والسیکولوجیّ.
هذا الاختلاف الوظيفي القائم على أساس وجود علاقة تكامليّة بين المرأة والرجل يراد منه قيام حياة اجتماعيّة مستقرة وسوية، ولا يراد منه تقديم الرجل على المرأة أو العكس على المستوی الانسانی، بل کل منهما محفوظ الکرامة الذاتية و الإنسانية في الإسلام .
و إذا كان الأمر كذلك، فليس هناك مشكلة في أن تتولى المرأة وظائف ما، ویتولی الرجل وظائف أخری، بل يصبح هذا الأمر مطلوباً: لأن هذا الاختلاف قائم في المجتمع الذكوري نفسه، وفي المجتمع الأنوثي نفسه، و هو حاجة اجتماعية تمليها ضرورات التكامل الاجتماعي، وضرورة تلبية جميع الحاجات الوظيفية للاجتماع البشري.
من هنا إنّ قصة الفوارق بين المرأة والرجل ليست إلا تعبيراً عن ذلك الاختلاف الوظيفي القائم بين المرأة والرجل. أي إنّه استجابة لتلك العلاقة التكامليّة القائمة بين المرأة والرجل، حيث إن التكامل الاجتماعيّ وظيفياً يتطلب وجود فوارق كهذه تسمح بتوفير متطلبات الأداء الوظيفي لكل منهما كي یتمّ العمل علی تلبية جمیع الحیثیات التي لا بدّ من توافرها کی يُضار إلى تسجيل أداء وظيفيّ مثمر ومنتج اجتماعياً سواءً كان الأمر يتعلق بالاجتماع الأسريّ أو السياسيّ أو غيرهما.
لذا فإنّ فقه الفوارق لا يُعبّر عن موقف عنصري من المرأة إنما يعبّر عن حاجة وظيفيّة يفرضها التكامل الاجتماعيّ والإنسانيّ الوظيفيّ بين المرأة والرجل لصالح الاجتماع الإنساني بجميع فئاته.
ولا يخفى أن هذا التأسيس الكلاميّ والنظريّ لا يغني عن استئناف البحث الموضعي في كل مفردة من مفردات فقه الفوارق لتقديم رؤية موضعية جادة وعميقة لفلسفة تلك الفوارق و معانیها و دلالاتها.