الاجتهاد: إنّ ما قرر مشهور فقهاءنا وما قامت عليه الأدلّة القوية هو أنّ اتّحاد الأفق شرط في رؤية الهلال ، وهذا الأمر ناشىءٌ من كروية الأرض،كما هو الحال في اختلاف الوقت في الليل والنهار في البلدان المختلفة. وإذا كان المقصود هو حفظ الوحدة بين المسلمين (مع وجود كروية الأرض) فإنّ مثل هذه الوحدة ممكنة في منطقة من المناطق لا في جميع العالم الإسلامي، لأنّ المسلمين الذين يعيشون في النصف الآخر من الكرة الأرضية سيكون لهم عيد مستقل حتّى على قول من يرى «عدم لزوم وحدة الأفق ».
لقد طلب مني بعض الأُخوة من طلاّب العلوم الدينية أبداء رأيي في المسائل المتعلقة برؤية الهلال مع بيان دليل مختصر.
وهذا الكرّاس يمثّل استجابة لطلب هؤلاء الأعزاء وامتثالاً للوظيفة الشرعية في هذه الظروف الخاصّة ، ويتعلق البحث بأصل مسألة ( رؤية الهلال ) ثمّ نتعرض لمسألة ( رؤية الهلال بالتلسكوب ) ، ثمّ مسألة ( اتحاد الأُفق ).
ولكن قبل الشروع في البحث نشير إلى مسألة أهم من ذلك وهي الاختلاف المؤسف الذي حدث في السنوات الأخيرة في مسألة « رؤية هلال شوّال » حيث بدّل أجواء العيد الجميلة إلى مرارة.
ففي يوم يصلي البعض صلاة العيد ويقولون « أسألك بحقّ هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيداً… » وغداً يصلي البعض الآخر صلاة العيد في تلك المدينة وفي نفس ذلك المسجد ويدعون أيضاً بهذا الدعاء، ولا يعلم أن المقصود من كلمة «المسلمين» في هذا الدعاء من هم ؟
ويتحرك البعض على مستوى زيارة الأخوان وتبريك العيد لهم في حين أنّ البعض يصومون هذا اليوم ويدعون بهذا الدعاء « يا علي يا عظيم… وهذا شهر عظمته وكرمته…. وهو شهر رمضان… » وأحياناً يقع مثل هذا الاختلاف في أُسرة واحدة ، في حين أنّ الإسلام دين التوحيد في جميع المجالات ولا موجب لكلّ هذه الاختلافات رغم اختلاف الفتاوى .
ويخشى الكثير من الناس أنّ الحالة ستتفاقم على هذا المنوال في الأعوام الآتية ، وبالتالي تثار إشكالات وعلامات استفهام حول تعاليم الإسلام وأحكام الشريعة لدى بعض البسطاء من الناس .
إنّ المشكلة الأصلية هنا أنّنا نواجه في مسألة رؤية الهلال ، التي هي من «الموضوعات»، كما نواجه مسألة فقهية وحكماً من أحكام الشّرع ، في حين أنّنا نعلم أنّ الناس وإن كان الواجب عليهم في المسائل والأحكام الفقهية إمّا أن يكونوا مجتهدين ، أو يقلدون مجتهداً معيناً ، ولكنهم في الموضوعات ( من قبيل رؤية الهلال ) فإنّ كلّ شخص يمكنه العمل بعلمه وأطمئنانه .
وتوضيح ذلك : أنّ وجوب صيام شهر رمضان المبارك يعدّ من ضروريات الإسلام ومحكمات القرآن ولا أحد يشكّ في ذلك ، وبما أنّ أصل وجوب الصوم من ضروريات الدين فالتقليد في هذه المسألة لا معنى له طبعاً ، ولكن في مورد الأحكام ، الجزئيات ، الشروط والموانع للصوم يجب على المكلّف إمّا أن يكون مجتهداً ، أو يتبع المجتهدين في هذه المسائل .
أمّا مسألة أنّ هذا اليوم هو من شهر رمضان أم لا ؟ فإنّ ذلك من الموضوعات التي يمكن لكلّ إنسان أن يتحرك على مستوى العلم بها وتشخيص هوية هذا اليوم والعمل بالحكم المترتب عليه، وبعبارة أُخرى أنّ كلُّ مكلّف ثبت لديه أنّ هذا اليوم هو اليوم الأوّل من شهر رمضان فإنّه يجب عليه صومه ، وإذا ثبت أنّه عيد فعليه أن يفطر.
وبالرغم من أنّ الناس وبسبب اعتمادهم على مراجع الدين يتوجهون في هذه الموضوعات المهمّة أيضاً إلى هؤلاء المراجع ليحصل لهم الاطمئنان في تشخيص الموضوع، ولكن لا يجب على مراجع الدين من الوجهة الشرعية إبداء نظرهم في هذا الموضوع ويمكنهم تفويض ذلك إلى الناس أنفسهم والقول بأنّ هذه المسألة من الموضوعات فعليكم التحقيق والفحص ثمّ العمل
ومن جهة أُخرى فإنّ الناس لو تحرّكوا في أمر التحقيق في هذه المسألة التي تتمتع ببعد عام واجتماعي من موقع الاستقلال والانفراد فسنواجه اختلافات كثيرة بسبب تعدد منابع التحقيق في هذا الموضوع ، وذلك يخالف روح الإسلام ولا ينسجم مع أجواء التعاليم القرآنية.
كما أنّ رجوع الناس إلى مراجع الدين بشكل منفرد وكلٍّ على حدّ يثير هذه المشكلة أيضاً لأنه من الممكن أن يرجع بعض الشهود في مدينة معيّنة إلى مرجع ديني فيشهدون عنده برؤية الهلال ، بينما يقوم البعض الآخر بالشهادة لدى مرجع آخر على خلاف ذلك ، أو أنّ الشهود الذين شهدوا لدى المرجع الأوّل ليسوا مورد الاعتماد والاطمئنان للمرجع الثانى ، أو أنّ الشهود هؤلاء لم يوفقوا في الحضور لدى مرجع آخر وأداء الشهادة نفسها.
كلّ هذه الأُمور أدّت إلى ثبوت هلال الشهر عند أحد المراجع وعدم ثبوته عند مرجع آخر، وبذلك نشأ الاختلاف المؤسف والمثير للقلق بين الناس وأدّى أيضاً إلى تهميش واختزال عظمة العيد والشهر المبارك والشعائر المتعلقة بهما حتّى انسحب الحال هذا إلى داخل الأُسر الدينية أيضاً.
شورى رؤية الهلال :
هنا يوجد طريق واضح بإمكانه حلّ هذه الاختلافات ، وعلى الأقل أن يتحرك أهل البلد الواحد في طريق واحد ومسير معيّن ، وبذلك يتمّ الاحتفاظ بعظمة وجلالة الشعائر الدينية في هذا الشهر المبارك ، وهو تشكيل شورى لمسألة رؤية الهلال من الخبراء في هذا الفن ونوّاب مراجع الدين ، حيث يتمّ جمع الأخبار والمعلومات الواصلة حول رؤية الهلال من جميع الأطراف ، سواءً بطريقة الشهود المباشر أو بطريق الاتصال بالخبراء في علم النجوم الّذين تؤخذ نظراتهم بعنوان مؤيد ، فيتم جمع هذه المعلومات والفتوى على وفقها برأي واحد .
قد يقال : إذا لم يحصل لأعضاء الشورى نظر واحد ( سواء بسبب جرح وتعديل الشهود أو بسبب آخر ) فما العمل؟
الجواب : إنّ المعيار في هذا الحال هو رأي الأكثرية ، لأنّ أغلب الناس يحصل لديهم اطمئنان أكثر بهذه الصورة و يكون ذلك (أقرب إلى الواقع) ، وبما أنّ البحث – كما تقدّم – هو بحث في تشخيص الموضوع لا تشخيص الحكم، فلا نواجه مشكلة في هذا المورد.
وقد يثار سؤال آخر، وهو أنّ مراجع الدين أحياناً يختلفون في فتواهم بالنسبة إلى الأحكام المتعلقة برؤية الهلال حيث سيترتب على ذلك تأثيرات خاصّة على هذه المسألة.
ونعتقد أنّ هذه المسألة لا تولد مشكلة مهمّة أيضاً ، وقد وجدنا طريق الحلّ لذلك رغم أنّ بيانه لا يسعه هذا المختصر.
وعلى أيّ حال يمكن اعتبار نظر الأكثرية كمعيار لرؤية الهلال شرعاً فيما إذا تحرّوا الدقّة الكاملة وبالتالي يصحّ الاعتماد على رأي الأكثرية والعمل به لحصول الاطمينان به.
وبديهي أنّ الرسول الأعظم “صلى الله عليه وآله وسلم” وأوصيائه “عليهم السلام” لا يرضون لأتباعهم التوغل في دوامة الاختلاف والتفرقة في هذا الأمر المهمّ حتّى يمتد هذا الاختلاف إلى كلّ مدينة وكلّ أُسرة ويؤدّي إلى توهين قوتهم وقدرتهم أمام الأعداء .
عندما يسمح أئمّة أهل البيت “عليهم السلام” من أجل حفظ شوكة المسلمين ووحدتهم أن يشترك أتباعهم في صلاة الجماعة لأهل السنّة رغم وجود اختلافات في الكثير من فروع الصلاة ، فكيف يرضون بحدوث الفرقة بين أتباعهم في مسألة رؤية الهلال ؟ وبالخصوص في هذا الزمان الذي تتنقل فيه الأخبار بسرعة من نقطة إلى نقطة أخرى في العالم.
ومن العجائب أنّه بسبب عدم وجود شورى مركزية تأخذ على عاتقها مهمّة رؤية الهلال ، وكذلك الاعتماد على شهود ليسوا من أهل الخبرة فإنّ الناس كانوا لسنوات مديدة يصومون الشهر المبارك (29) يوماً ومن النادر أن يتذكر الشخص أنّه صام شهر رمضان ثلاثين يوماً !! وهذا من الناحية العلمية أمر غير ممكن ولا يعلم من هو المسؤول عن ذلك ؟
نأمل أن يفكر المسؤولون في المؤسسات الدينية بأطروحة « شورى رؤية الهلال » ويكشفوا عن التعقيدات والإشكاليات التي تلابس هذا الطرح المهمّ .
هل تكفي رؤية الهلال بالمراصد والتلسكوب ؟
المشهور بين مراجع الدين أنّ رؤية الهلال يجب أن تكون بالعين المجرّدة، ولكن بعض الفقهاء المعاصرين ذهبوا إلى كفاية مشاهدة الهلال بالتلسكوب.
ومع تحري الدقّة في الأدلّة الشرعية يتبيّن أنّ الرأي الثاني، مع احترامنا لجميع آراء المجتهدين، لا يوافق الأدلّة والقواعدالفقهية، لأنّه :
أوّلاً : إنّ المعيار الوارد في الروايات المتواترة لثبوت الهلال هو «الرؤية»، ومن ذلك ما ورد في الباب الثالث من أبواب شهر رمضان المبارك في وسائل الشيعة ما يقارب 28 رواية حيث تتفق غالباً على هذا المضمون وهو « إذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فافطر » أو « صمّ للرؤية وافطر للرؤية ».
ونقرأ في الأبواب اللاحقة أيضاً روايات في هذا المجال ، وعندما تتحدث الروايات عن «الرؤية» فتنصرف إلى الرؤية المتعارفة ، وهي الرؤية بالعين المجرّدة وغير المسلحة ، لأنّ الفقهاء يرون انصراف الاطلاقات في جميع أبواب الفقه للأفراد المتعارفة لا الأفراد النادرة جدّاً
مثلاً :
1 ـ في باب الوضوء ، حيث ذهبوا إلى أنّ حدّ الوجه الذي يجب غسله هو ما دارت عليه الإبهام والوسطى عرضاً ومن منبت الشعر إلى الذقن طولاً .
ثمّ صرّحوا بأنّ المدار في هذا التحديد هو الأفراد المتعارفة من حيث طول الأصابع ومحل إنبات الشعر وأمثال ذلك ، ويجب على الأشخاص غير المتعارفين العمل طبقاً للأفراد العاديين .
2 ـ في باب مقدار الكرّ حيث ورد تعيينه بالأشبار ، فقالوا بأنّ المعيار هو الشبر المتعارف ، وما خرج عن المتعارف فليس بمعيار للكرّ في نظر الفقهاء.
3 ـ في باب تعيين المسافة الشرعية لقصر الصلاة وإفطار الصيام حيث ورد تعيينها في الفقه بالقدم ، والمعيار هو بالأقدام المتعارف.
4 ـ في باب الصلاة والصوم في المناطق القطبية ، أو القريبة من القطب حيث تكون الأيام والليالي قصيرة جدّاً وغير متعارفة ، فقد يكون اليوم عدّة شهور وكذا الليل فإن الكثير من الفقهاء يرون لزوم رجوع سكان هذه المناطق إلى مقدار اليوم والليلة في المناطق المتعارفة في تعيين الوقت للصلاة و الصيام .
5 ـ في مسألة حدّ الترخص ( رؤية جدران المدينة ، أو سماع أذانها حيث صرّحوا بأنّ المعيار هو الرؤية بالعين المتوسطة ( لا الحادة ولا الضعيفة ) والأُذن المتوسطة والأذان المتعارف ، وأمّا ما خرج عن الحدّ المتوسط والمتعارف فليس بمعيار لهذه المسألة(1) ، وقد ذهب إلى ذلك كبار الفقهاء المعاصرين .
6 ـ بالنسبة إلى المنكرات التي يجب فيها حدّ الجلد ( السّوط ) حيث قالوا بأنّ السّوط هنا هو السوط المتعارف ، فيجب اجتناب السياط الثقيلة وغير المتعارفة ، وكذلك السّياط الضعيفة والقليلة التأثير.
7 ـ في أبواب النجاسات ذكروا أنّه إذا زالت عين النجاسة ظاهراً ( كالدم مثلاً ) ولكن بقي لونه أو رائحته فهو طاهر ، والحال أنّنا إذا نظرنا إلى المحل بالميكرسكوب فإنّنا سنرى ذرات صغيرة من الدم حتماً ( لأنّ اللون والرائحة يقترنان عادة بأجزاء المادة ) ولكن بما أنّ هذه المشاهدة خارجة عن المتعارف فإنّها لا تكون مناطاً للأحكام الشرعية.
8 ـ إذا استهلكت النجاسة في ماء الكر ( كما في مثال الدم ) فقد ذهب جميع الفقهاء إلى الطهارة ، مع أننا لو نظرنا بالميكرسكوب أو المجهر لرأينا ذرات من الدم في ذلك الماء .
مضافاً إلى هذه « الموارد الثمانية » فهناك موارد أخرى في جميع أبواب الفقه نرى فيها أنّ كلام الشّارع أو لسان الآية أو الرواية مطلق ، وقد ذهب الفقهاء إلى انصرافه إلى «الفرد المتعارف».
ومن المعلوم فيما نحن فيه أنّ المعيار في رؤية الهلال الواردة في الروايات المتواترة هي الرؤية المتعارفة ، أي بالعين المجرّدة ، وأمّا العين المسلحة فخارجة عن المتعارف وغير مقبولة.
ونحن لا يمكننا أن نتوجه في جميع أبواب الفقه بالنسبة إلى مطلقات الأدلّة إلى الفرد المتعارف ، ولكن بالنسبة إلى رؤية الهلال نجعل المعيار والملاك هو الفرد غير المتعارف.
ثانياً : ذهب البعض إلى أنّ المعيار في بداية الشهر هو « تولد الشهر في الواقع » وأنّ الرؤية والمشاهدة لها جانب «طريقي» لا «موضوعي». وعلى هذا الأساس إذا علم الإنسان من خلال جهاز غير متعارف بوجود الهلال و تولده ، كفى ذلك.
وفي الجواب نقول : إنّ ظاهر الروايات يقرر أنّ قابلية رؤية الهلال بالعين المجرّدة لها جهة موضوعية ( واكرر أن قابلية الرؤية بالعين المجرّدة ) لأنّه :
إذا كان المعيار هو بداية الشهر من جهة واقعية ، فسنواجه مشكلة مهمّة لا يمكن قبولها ، وهي أنّ بداية الشهر كثيراً يكون قبل إمكان رؤية الهلال بالعين المجرّدة ، وبعبارة أخرى أنّ هناك الكثير من الموارد التي يظهر فيها الهلال في السماء ولكن لا يراه أحد بالعين المجرّدة إلاّ أنّ رؤيته ممكنة في الليلة اللاحقة.
وعليه لا بدّ من الإذعان إلى أنّ الهلال في كثير من الأحيان يظهر واقعاً في ليلة سابقة ، غاية الأمر بما أنّ أحداً من الناس لم يره بالعين المجردة فإنّ الليلة الثانية ستكون ليلة أوّل الشهر.
صحيح أنّ هؤلاء الناس سيكونون معذورين بسبب عدم رؤيتهم للهلال وعدم علمهم بأوّل الشهر ، ولكن هل يمكن القول بأن المسلمين منذ بداية البعثة وإلى الآن كانوا يقعون في هذا الاشتباه والخطأ مراراً عديدة ، وبالتالي سيحرمون من إدراك فضيلة ليالي القدر ويصومون يوم العيد ، لأنّهم لم يخترعوا جهاز التلسكوب فيصلون صلاة العيد في اليوم اللاحق ( لأنّ الهلال كان موجوداً في الليلة السابقة ولكن الناس لم يروه بالعين المجرّدة ).
وحتّى الأشخاص الذين يرون كفاية رؤية الهلال بالتلسكوب يجب عليهم الإذعان إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّهم في السنوات الفائتة وكذلك مقلديهم كانوا يرون الليلة الثانية لشهر رمضان هي الليلة الأولى وأنّ عيد الفطر يقع في اليوم الثاني من شوّال لأنّهم لم يكونوا يستخدمون سابقاً التلسكوب ، وإلاّ فسوف يعلمون أنّ اليوم الأوّل من الشهر هو اليوم السابق ، وأنّهم لم يدركوا ليالي القدر كما هي في الواقع هل يلتزمون بهذا الأمر ؟!
إنّ كلّ هذه الأمور تشهد بأنّ الملاك الحقيقي لمعرفة الشهر ليس هو وجود الهلال واقعاً بل إنّ المعيار قابليته للرؤية بالعين المجرّدة .
ولقد قلنا في علم الأصول أنّ « الأمارة » أو « الطريق الشرعي » لا يقع فيه الخطأ كثيراً ، وأنّ الناس سيحرمون من درك واقع الأمر لو وقع فيها خطاء كثير ، ففي موارد تكون الأمارة كثيرة الخطأ عن الواقع ينبغي القول أنّ الأمارة لها موضوعية لا طريقية (فتدبّر) .
إنّه من غير المعقول أن يقال بحرمان النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم” وسائر المعصومين “عليهم السلام” وجميع المسلمين في السابق من إدراك فضيلة العيد وليالي القدر ، بل على العكس نحن نعتقد بأن استخدام التلسكوب في رؤية الهلال يؤدّي إلى أنّ الناس سيحرمون من نيل فضيلة أوّل الشهر وآخره ، لأنّ المعيار الواقعي هو رؤية الهلال بالعين المجرّدة .
ربّما يتصور البعض بأنّ استخدام التلسكوب بإمكانه إزالة الاختلافات بين المسلمين في هذه المسألة ، في حين أن هذا العمل ليس له أثر في ذلك إطلاقاً ، لأنّ قدرة التلسكوبات متفاوتة تماماً ، وكذلك بالنسبة إلى المناطق التي يتمّ فيها نصب التلسكوب أو من حيث وجود الغبار والبخار في الأفق ، وعليه فيمكن أن يشاهد الهلال بواسطة بعض التلسكوبات والمراصد ، ولا يُرى بالبعض الآخر وبالتالي سيبقى الاختلاف بين المسلمين وتتسع دائرة الفرقة.
هل يشترط وحدة الأفق ؟
إذا رؤي الهلال في منطقة من العالم، فهل يكفي ذلك لإثبات الرؤية في سائر المناطق الأخرى ؟
إنّ المشهور بين فقهاء الإمامية هو اشتراط وحدة الأفق . وقد صرّح المحقّق اليزدي (قده) في العروة الوثقى إلى القول بأنّه « يشترط تقارب البلاد أو وحدة الأفق » وقد وافق عليه أكثر المحشّين وشرّاح العروة.
ولكن ذهب بعض الأكابر من القدماء والمعاصرين إلى عدم لزوم هذا الشرط ، وأن رؤية الهلال في منطقة معيّنة من العالم تكفي لثبوت الهلال بالنسبة إلى المناطق الأخرى ( بشرط أن تشترك هذه المناطق في مقدار من الليل على الأقل ).
والفقيه المعاصر الذي ذهب إلى هذه الفتوى هو آية الله سيدنا الأستاذ الخوئي (قده) ، ثمّ تبعه على ذلك جمع من تلامذته الأفاضل .
وأهم دليل يمكن أن يقال في تأييد هذا الرأي أمران :
الأمر الأول : إنّ طلوع الهلال ( وخروجه من تحت الشعاع ) ظاهرة سماوية ترتبط بالتقابل الموجود بين الشمس والقمر، وكلّما خرج الوجه المقابل لنا من القمر من دائرة الظلمة وبرز إلى الشمس فإنّ هذا بداية شهر جديد ، ولا يختلف الحال هذا بين المناطق المختلفة على الأرض ، أي أنّ هذه ظاهرة سماوية لا أرضية .
وجاء في تقريرات دروسه (قده) :
« تكوّن الهلال عبارة عن خروجه عن تحت الشعاع بمقدار يكون قابلاً للرؤية ولو في الجملة وهذا كما ترى أمر واقعي وجداني لا يختلف فيه بلد عن بلد ولا صقع عن صقع لأنّه كما عرفت نسبة بين القمر والشمس لا بينه وبين الأرض فلا تأثير لاختلاف بقاعها في حدوث هذه الظاهرة الكونيّة في جوّ الفضاء »(2).
ولكن هذا الكلام ينسجم مع القول بأنّ الأرض مسطحة لا كروية، في حين أنّ كروية الأرض في هذا العصر تعدّ من الأمور المحسوسة، وإذا كان العلماء في سابق الزمان يثبتون كروية الأرض بأدلة نظرية فإنّ الأقمار الصناعية في هذا العصر قد التقطت صوراً عن جميع مناطق الأرض، وكذلك شاهد رجال الفضاء الأرض كروية، فهذا الموضوع أمر محسوس تماماً .
وبعبارة أُخرى: إنّ تكوّن وتولّد الهلال يرتبط بثلاثة أشياء: القمر، الشمس، الأرض، لأنّ تكوّن الهلال عبارة عن خط دقيق من القسم النوراني من القمر المواجه لأهل الأرض، ومن المعلوم أنّ هذا القسم النوراني يراه بعض سكّان الكرة الأرضية الذين يقعون بمحاذاة هذا القسم أسرع من غيرهم، وهذا الموضوع يمكننا إثباته بتجربة حسيّة، فعندما نحضر ثلاثة كرات، أحدها نوراني من قبيل المصباح مثلاً، وهناك كرتان ليس فيهما نور، فسوف نرى بكلّ وضوح أنّه إذا وضعنا الكرة الأولى الظلمانية في مقابل الكرة النورانية ما عدا خيط نوراني دقيق إلى جهة الكرة الثالثة، فالأشخاص الذين يقفون بإزاء النقطة النورانية، فإنّهم سوف يرونها كخيط نوراني، وأمّا الذين لا يقفون بإزاء هذه النقطة فإنّهم لا يرونها.
الشيء الذي يمكن إدراكه بالحسّ لا يحتاج إلى توضيح أكثر، نعم إذا كانت الأرض مسطحة فإنّ المقولة المذكورة ستكون صحيحة، ولكن الأرض كروية قطعاً .
الإشكال الآخر:
على هذا الدليل أنّهم يقولون بأنّ جميع البلاد التي تشترك في جزء من الليل فإنها تشترك في رؤية الهلال في نقطة معيّنة وأن بداية الشهر لهم واحدة.
ومفهوم هذا الكلام أنّه إذا تكوّن الهلال مثلاً في مكّة عند غروب الشمس وشوهد فيها، فالمناطق التي تقع إلى جهة الشرق من هذا المكان وقد مرّت عليها عدّة ساعات من الليل إلى منتصفه أو إلى آخر الليل فإنّ ذلك يسبب تبدلّ أوّل الشهر بالنسبة لهم، يعني أنّهم كانوا إلى منتصف الليل أو إلى آخر الليل يعتقدون أنّها الليلة الأخيرة من شهر رمضان لأنهم لم يروا الهلال في منطقتهم، وبالتالي فكانوا يقرأون أدعية الليلة الأخيرة من الشهر المبارك، وفجأة يعلن في منتصف الليل عن كون هذه الليلة هي ليلة أوّل شوّال، لأن الهلال قد شوهد عند غروب الشمس في مكّة في ساعات لاحقة، فكان إلى منتصف الليل الليلة الأخيرة شهر رمضان حقيقة ثُم صار ليلة العيد حقيقة !.
وهذا أمر عجيب وغير قابل للقبول، لأنّ الهلال قبل عدّة ساعات (أي قبل غروب الشمس في مكّة كما هو مفروض البحث) لم يخرج من تحت الشعاع قطعاً، وبعد خروجه كانت هذه الليلة هي ليلة أوّل الشهر، وهذا يعني أنّ شهر شوّال يبدأ في بعض المناطق من منتصف الليل أو آخر الليل، بينما كان الناس في هذه المناطق أدركوا الليلة الأخيرة من شهر رمضان المبارك في بعض هذه الليلة .
قد يقال : إنّ ليلة أوّل الشهر كانت في وقت واحد لجميع هذه المناطق، فهذا الكلام غير مقبول، لأنّه حسب الفرض أنّ الهلال خرج من تحت الشعاع بعد عدّة ساعات ولم يخرج لدى سكان هذه المناطق من تحت الشعاع إلاّ بعد ساعات ، فلم يكن خلال شهر شوّال طبعاً، فماذا يعني خروج وتولد الهلال في منطقة معيّنة إنّه هلال أول الشهر لجميع هذه المناطق ؟
أي إنّ نصف الليل كان ملحقاً بشهر رمضان والنصف الآخر من شهر شوّال. وبديهي أنّ المناطق التي تقع أبعد من ذلك بحيث لا تشترك مع هذه المنطقة في الليل ( مثل كندا وأمريكا ) فإنّ أوّل الشهر سيكون اليوم اللاحق قطعاً، و هذا مشكل آخر.
الأمر الثاني: الذي يستدلّ به على عدم اختلاف الآفاق هو إطلاق الروايات ، وخاصّة صحيحة هشام بن الحكم، حيث تشير إلى أنّ الهلال إذا شوهد في منطقة معيّنة كفى ذلك لإثبات الرؤية لجميع المناطق .
وهذه الرواية هي: « عن هشام بن الحكم عن أبي عبدالله الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال في من صام تسعة وعشرين قال : إن كانت له بيّنة عادلة على أهل مصر أنّهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يوماً »(3).
وقد استدلّ بها أصحاب هذه النظرية أنّ إطلاق الرواية يدلّ على أنّ الهلال إذا شوهد في أي مدينة من مدن العالم كفى ذلك لإثباته في المدن الأخرى ، البعيدة منها والقريبة.
كما يدلّ على ذلك بعض الروايات الأخرى.
الجواب : هذا الكلام بدوره قابل للمناقشة ، لأنّ الإطلاق في هذه الروايات منصرف إلى البلاد التي ينتشر فيها خبر الهلال بصورة متعارفة لا البلاد البعيدة عنها بفاصلة عدّة أشهر ومن النادر وصول خبر الهلال لها بسرعة .
وبعبارة أخرى أنّ هذه الروايات ناظرة إلى البلاد المتقاربة في الأفق بحيث يمكن وصول الخبر في ذلك الزمان في فترة أسبوع أو شهر واحد، ولكن البلاد المختلفة في الأفق قد يطول السفر إليها بوسائل ذلك الزمان لعدّة أشهر فلا يشملها إطلاق هذه الروايات ، لأنه من النادر أن يتحرك إنسان بعد عدّة أشهر لإيصال خبر أوّل الشهر والفحص والبحث في ثبوته أو عدم ثبوته.
وحتّى لو شككنا في الإطلاق ( وتحقّق مقدمات الحكمة ) فإنّ ذلك يساوق عدم الإطلاق ( كما ورد هذا الموضوع في علم الأصول ).
وعلى هذا الأساس لا يمكن إثبات وحدة الحكم للبلاد البعيدة بمثل هذه الروايات التي لا تدلّ على حجيّة الشهادة بالرؤية إلاّ بالنسبة إلى البلاد القريبة.
والملفت للنظر أنّ بعض القدماء استند لإثبات هذا المدّعى بلزوم « وحدة ليالي القدر » وتعيين مقدرات الناس في هذه الليلة وكذلك فضيلتها، في حين أنّ القائلين بهذا الرأي يرون وحدة أوّل الشهر في المناطق المشتركة في بعض الليل فقط، أي إنّهم يقولون بأنّ المناطق الأخرى من الكرة الأرضية (مثل كندا وأمريكا الشمالية والجنوبية) التي يكون فيها الجوّ نهاراً أثناء رؤية الهلال في منطقة أخرى، وعليه ستكون لديهم ليلة قدر أخرى قطعاً وسيكون أوّل الشهر في تلك المناطق مختلف عن أوّل الشهر في غيرها فلم تحصل وحدة ليالي القدر.
والأعجب من ذلك قول من يرى أنّ البلدان الإسلامية واقعة في منطقة تشترك في مقدار من الليل، في حين أنّ البلدان البعيدة يعيش فيها ملايين من المسلمين، مضافاً إلى أنّنا نعتقد بأنّ الإسلام وأحكام الشريعة الإسلامية سوف تستوعب جميع مناطق الكرة الأرضية، فماذا سيكون تكليف الناس في ذلك الزمان ؟
وخلاصة الكلام أنّه كما قرر مشهور فقهاءنا وما قامت عليه الأدلّة القوية هو أنّ اتّحاد الأفق شرط في رؤية الهلال، وهذا الأمر ناشىءٌ من كروية الأرض، كما هو الحال في اختلاف الوقت في الليل والنهار في البلدان المختلفة. وإذا كان المقصود هو حفظ الوحدة بين المسلمين (مع وجود كروية الأرض) فإنّ مثل هذه الوحدة ممكنة في منطقة من المناطق لا في جميع العالم الإسلامي، لأنّ المسلمين الذين يعيشون في النصف الآخر من الكرة الأرضية سيكون لهم عيد مستقل حتّى على قول من يرى « عدم لزوم وحدة الأفق ».
( وبالطبع فإنّ تفصيل الكلام في هذه المسائل يحتاج إلى مجال أوسع )، والله العالم بحقائق أحكامه .
والحمد لله ربّ العالمين
ذي الحجّة 1426
—————————-
1. انظر: المسألة 64 من مسائل صلاة المسافر في العروة الوثقى.
2. المستند في شرح العروة الوثقى للبروجردي، ج 12، ص 118.
3. وسائل الشيعة، ج7، الباب 5 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح 13.
المصدر: مكتب سماحته على النت: ( هنا )