الاتّجاهات الفقهية حول أهليّة المرأة لتولّي السلطة، منظورٌ تحليلي نقدي مقارن

الاتّجاهات الفقهية حول أهلية المرأة لتولي السلطة، منظورٌ تحليلي نقدي مقارن

الاجتهاد: يذهب أغلب فقهاء المسلمين إلى عدم أهلية المرأة لتولي السلطة. ولهذا اشترطوا في مَنْ يتولّى الحكم أو رئاسة الدولة أن يكون رجلاً. وأكد كثيرٌ من الفقهاء والمفكِّرين، قديماً وحديثاً، على اشتراط الرجولة في مَنْ يزاول القضاء، ويتولى سائر مناصب الولاية. بقلم: أ. مشتاق بن موسى اللواتي(*)

وفي ضوء ذلك فإن المرأة وإنْ توافرت فيها الشروط العامّة، الراجعة إلى الكفاءة والجدارة والاستقامة، وحازَتْ في دراساتها العلمية والشرعية على درجة الاجتهاد المطلق، فإنها؛ بحكم كونها امرأةً، لا يجوز لها أن تتولّى مناصب السلطة والولاية، كرئاسة الدولة والقضاء وما شاكل.

وهناك اتجاهٌ فقهيّ آخر، وإنْ كان محدوداً، أجرى مراجعةً نقدية للتأصيلات الفقهية السائدة في هذه القضية، وأعاد النظر فيها، وانتهى إلى مشروعية أن تتولّى المرأة بعض مناصب الولاية، سواء بشكلٍ كلّي أو جزئي.

وثمّة اتجاه بحثي جديد لدى فريق من الفقهاء والمفكِّرين آخذ في التشكُّل والتبلور، يحمل نظرةً مغايرة، فلا يميز في هذه القضية بين الرجل والمرأة، ويرى أهلية المرأة لتولّي جميع مناصب السلطة فيما إذا أحرزت الشروط العامة التي تؤهِّلها لذلك.

ومع التطوّر الذي يحرزه البحث في هذه القضية فإنه لا يزال مثْقَلاً بتراكمات النظرة الثقافية والاجتماعية والفقهية التاريخية.

وقد يظنّ البعض أن طرح هذه المسألة جديدٌ في بحوث الفقه عند المسلمين؛ وذلك بسبب الانفتاح الفكري، ونتيجة التطوّر الاجتماعي والسياسي، وتقدُّم الفكر الحقوقي في هذا العصر. ولكنّ الواقع ـ ومع عدم إغفال أهمّية تأثير العوامل السابقة ـ أن فقهاء المسلمين بحثوا هذه المسألة منذ القدم، ووقع الخلاف بينهم حولها، كما هو الحال في بقية المسائل الفقهية، كما سيتّضح من البحث.

أبرز الاتجاهات الفقهية حول القضية

ولأغراض هذا البحث تمّ تقسيم اتّجاهات الفقهاء والمفكِّرين المسلمين حول هذه القضية إلى ثلاثة اتّجاهات، وهي:

الأول: حرمة تولّي المرأة جميع مناصب السلطة.

الثاني: مشروعية تولّي المرأة بعض المناصب، مع بعض القيود.

الثالث: أهليّة المرأة لتولّي جميع مناصب السلطة.

وسنتناول هذه الاتجاهات الاجتهادية بشيءٍ من التفصيل في ما يلي:

1ـ حرمة تولّي المرأة جميع مناصب السلطة

يرى أصحاب هذا الاتجاه حرمة تولّي المرأة أيّاً من مناصب الولاية والسلطة في الدولة، سواء على مستوى الخلافة والولاية العامة ورئاسة الدولة أو القضاء أو الدخول في المجالس النيابية. والولاية العامة هي السلطة الملزمة في شأن من شؤون الجماعة، كولاية القوانين والفصل في الخصومات وتنفيذ الأحكام والهيمنة على القائمين بذلك، وحَسْب التعبير الفقهي الحديث: القيام بأعمال الولاية في إحدى السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية([1]).

وتتجلّى نظرة هذا الاتجاه في التفصيل التالي:

أـ حرمة تولي المرأة للحكم أو رئاسة الدولة

يذكر الفقيه الظاهري ابن حزم(456هـ) في «الفصل» بأن جميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة امرأة([2]).

في حين أشار البغدادي(429هـ) إلى أن فرقة الشبيبية من الخوارج ـ حَسْب تعبير مؤرِّخي الفرق ـ، المنسوبة إلى شبيب بن يزيد، أجازت إمامة المرأة إذا قامت بأمورهم، وخرجت على مخالفيهم. وزعموا أنّ غزالة أمّ شبيب، أو زوجته، كانت الإمام بعد قتله، إلى أن قُتلت. واستدلّوا على ذلك بأن شبيباً لما دخل الكوفة أقام أمَّه على منبر الكوفة حتّى خطبت([3]).

وهذه الواقعة ـ إنْ صحَّتْ ـ فربما كانت في ظروف استثنائية اقتضَتْ منها أن تتولّى بعض الأدوار القيادية أثناء القتال، وبالأخصّ بعد مقتل شبيب، زوجها أو ولدها. واستسهل بعض مؤرِّخي الفرق أن يستنتجوا منها مقالةً تُضاف إلى سائر ما قيل فيهم ـ على عادة بعضهم ـ، ولا سيَّما عند حديثهم عمَّنْ يخالفهم في الفكر.

وأيَّاً كان فإننا نستبعد وقوع ما ذكره البغدادي إلاّ ضمن التفسير المتقدِّم، أو من قبيل: التعامل معه كأمرٍ واقع؛ لأنه ليس من السهل أن يتقبَّل المجتمع آنذاك أن تتولّى إمامتهم امرأة، ومن الصعوبة أن يمرّ حَدَثٌ كهذا دون أن يواجَه بالمعارضة والجَدَل، ويفرز التوتُّرات.

وعلى العموم فقد أرجع هذا الاتجاه منع المرأة من تولّي السلطة إلى عددٍ من العوامل؛ بعضها شرعية؛ وبعضها ثقافية، من قبيل: النظرة التي ترى ضعف القدرات العقلية والفكرية والجسمية لدى المرأة. وأيَّدوا هذه النظرة ببعض النصوص الدينية ـ حَسْب فهمهم وقراءتهم لها ـ، وهو الأمر الذي سنتناوله في بحثٍ مستقلّ إنْ شاء الله تعالى.

فبينما رأى الماوردي الشافعي(450هـ) عدم جواز تولّي المرأة مناصب الولاية لنقص النساء عن رتب الولايات([4]) قرَّر العضد الإيجي(756هـ) أن النساء ناقصات عقل ودين([5]).

وفي العصر الحديث تبنّى عددٌ من الباحثين ذات المضمون، وإنْ اختلفت أدبياتهم. فقد علَّلوا اشتراط الذكورة في رئاسة الدولة العليا؛ نظراً لأن رئيس الدولة في الإسلام له صلاحيات واسعة خطيرة الآثار والنتائج، فهو الذي يعلن الحرب، ويقود الجيش، ويقرِّر السِّلْم والمهادنة أو الحرب بعد استشارة أهل الحلّ والعقد، ويتولى خطابة الجمعة، وإمامة الناس في الصلوات، والقضاء في الخصومات. وهذه الوظائف الخطيرة لا تتَّفق مع تكوين المرأة النفسي والعاطفي، بل حتّى الجسمي ـ حَسْب بعضهم ـ([6]). ولأن المرأة إنسانة عاطفية أكثر من الرجل لذلك أُعفيت في منطق الإسلام من المسؤوليات الثقيلة، وأُوكل كلُّ ذلك إلى الرجل؛ باعتباره قادراً؛ بحكم خلقته وصلابة تكوينه، على القيام بالأعمال الخَشِنة والمهمّات الثقيلة. ولذلك أُنيطت إليه الرئاسة العليا للأمة والبلاد([7]).

والرجل أقدر من المرأة وأكفأ، وهو مقدَّمٌ عليها، وإجازة تولّي المرأة الرئاسة العامّة للدولة تقديمٌ للمرأة على الرجل، وقد أخَّرها الله تعالى([8]).

ويبدو أن بعض الآراء السابقة تنطلق من النموذج التاريخي لنظام الخلافة الذي تشكَّل بعد وفاة الرسول|، واستمر ـ على تفاوتٍ ـ في الدولة الأموية والعباسية والسلطنة العثمانية، كما يرى هذا الفريق. وقد طرأت عليه خلال التطبيقات التاريخية المختلفة تغيُّرات كثيرة، من قبيل: تحوُّله ـ في مرحلةٍ مبكِّرة ـ إلى نظام استبدادي وراثي عائلي، والذي عبَّرَتْ عنه بعض النصوص الدينية بالمُلْك العَضوض، وشبَّهه بعض الصحابة، مثل: عبد الرحمن بن أبي بكر، بسنّة كِسْرى وقيصر([9]). ومع ذلك فقد احتفظ هذا النظام ببعض الملامح، من قبيل: خضوع معظم الأقطار المسلمة لسلطته، وتركُّز السلطات في شخص الحاكم الأعلى، ولو على المستوى النظري والصوري في بعض الأحيان.

وبالفعل تأثَّر بعض الباحثين بنظام الخلافة التاريخي، ولهذا صاغوا رؤاهم عن النظام السياسي الإسلامي على غراره. واسترشدوا بتنظيرات وأدبيّات المتكلِّمين وفقهاء الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية ـ والتي تكيَّفت مع التاريخ السياسي ـ، واستعاروا نفس المسمَّيات والألقاب، وأسقطوا نفس الأوضاع والشروط والمفاهيم، من قبيل: الخليفة والإمام والأمير والنَّسَب القرشي وحالة تعدُّد الأئمة وولاية العهد وتعدُّد ولاة العهد وولاية المتغلِّب، وما إلى ذلك من قضايا مرتبطة بتطوُّرات نظام الخلافة في التاريخ، وصاروا يُسقطون مواصفات واشتراطات الخليفة التاريخي على رئيس الدولة([10]). ولمّا طبقوا بعض خصائص وسلطات الخليفة التاريخي على رئيس الدولة استلزم استدعاء نفس المنظور الفقهي والثقافي الذي يُقصي المرأة من هذه المواقع، ومن ثمّ صار اشتراط الذكورة والرجولة فيها من قبيل تحصيل الحاصل([11]).

كما طُرحت اجتهادات أخرى حديثة في الفقه السياسي الإسلامي ضمن سياقات تاريخية واجتماعية وفقهية مختلفة، حيث استلهمت من فكرة الإمامة عند المسلمين الإماميّة في حال غياب الإمام عن الساحة الاجتماعية. وانتهى التنظير فيها إلى طرح فكرة الولاية العامّة للفقيه النائب، وفكرة ولاية الأمّة، أو المزج بينهما.

ويلاحظ أنها لا تختلف كثيراً ـ في القضية المبحوثة ـ عن بقية الآراء الفقهية لدى المسلمين.

وأغلب الفقهاء الذين بحثوا في نظام الحكم الإسلامي طبقاً لهذه التنظيرات اشترطوا أيضاً الرجولة في مَنْ يتولّى الحكم أو رئاسة الدولة. وقد بحثت ضمن المقاربات الفقهية المتعلِّقة بالاجتهاد والقضاء والولاية وما شابه.

يقول السيد محمد باقر الصدر(1980م): المجتهد المطلق اذا توافرت فيه سائر الشروط الشرعية في مرجع التقليد… (ومنها: الذكورة) كانت له الولاية الشرعية العامة في شؤون المسلمين، شريطة أن يكون كفؤاً لذلك من الناحية الدينية والواقعية معاً([12]).

في حين أن السيد الخميني(1989م)، وهو المرجع الأبرز الذي بلور نظرية ولاية الفقيه العامة، وناضل من أجل إقامة دولةٍ تقوم على سيادة الشريعة الإسلامية طبقاً لهذه النظرية، ركَّز في بحوثه المتعلِّقة بهذا الموضوع على أهمّ شرطين في نظره، هما: العلم بالفقه الإسلامي؛ والعدالة، ولم يُشِرْ إلى شرط الرجولة. قال: والشروط التي ينبغي توفُّرها في الحاكم نابعةٌ من طبيعة الحكومة الإسلامية، فإنه بصرف النظر عن الشروط العامة، كالعقل والنبوغ وحسن التدبير، هناك شرطان مهمّان هما: العلم بالقانون الإسلامي؛ والعدالة([13]). وأضاف في بحث البيع شرط الكفاءة، ضمن العلم أو منفرداً، فقال: «لا بُدَّ في الوالي من صفتين هما أساس الحكومة القانونية، ولا يعقل تحقّقها إلاّ بهما: إحداهما: العلم بالقانون؛ وثانيتهما: العدالة. ومسألة الكفاءة داخلة في العلم بنطاقه الأوسع. ولا شبهة في لزومها في الحاكم أيضاً، وإنْ شئتَ قلتَ: هذا شرطٌ ثالث من أسس الشروط»([14]).

ويلاحظ أنه لم يصرِّح في كلَيْهما بشرط الذكورة. ولعل ذلك راجعٌ إلى أنه كان بصدد التنظير لأصل الدولة الاسلامية ـ في غياب الإمام المعصوم في نظر الإمامية ـ القائمة على أساس ولاية الفقيه ـ حَسْب منظوره الاجتهادي ـ، ولم يكن بشأن بحث جميع التفاصيل المتعلِّقة بها. وربما لذلك لم يَرِدْ إثارة النقاش في مثل هذه المسائل التفصيلية في تلك المرحلة السياسية. ولعله كان يرى أنها من الشروط العامة المفروغ منها، ومن ثمّ لا تحتاج إلى إعادة بحث، ولهذا اقتصر على أهمّ الشروط الداخلة في أصل الموضوع، كما أوضح في عبارته الأولى المتقدّمة. ولكنّه ـ في ذات الوقت ـ أفتى باشتراط الذكورة في القضاء في كتابه الفقهي (تحرير الوسيلة)([15]). وهذا قد يعني أنه يشترطها في مَنْ يتولى السلطة العليا من بابٍ أولى. كما يلاحظ أنه لم يصرِّح باشتراطها في مرجع التقليد([16]).

ويشترط بعض الفقهاء الذكورة في مَنْ يتولّى السلطة العليا بالأولوية، بناءً على اشتراطها في مَنْ يتولى القضاء؛ نظراً لاعتبارهم القضاء من مناصب الولاية، ولوضوح الموقف الفقهي حوله لديهم. يقول السبحاني: «إذا كان تولّي القضاء محظوراً على المرأة، وهو ليس إلاّ شعبة محدودة من شعب الزعامة والولاية، كان خطر تولّي الرئاسة العليا للبلاد، والتي يأخذ الرئيس والحاكم الأعلى بموجبها بمقادير الأمّة، بطريقٍ أولى»([17]).

ب ـ حرمة تولّي المرأة لمنصب القضاء

لا يختلف الموقف كثيراً لدى الاتّجاه المانع في تأكيده على شرط الرجولة في القاضي. أما أسباب هذا الشرط فمردّها إلى ذات التعليلات الدينية والثقافية التي سبقت في بحث السلطة العليا. وسنشير إلى بعضها كما وردَتْ في كلماتهم.

فالماوردي(450هـ) عند تعداده شروط تقلُّد القضاء صرَّح بأن «الشرط الأول منها: أن يكون رجلاً. وهذا الشرط يجمع بين صفتين: البلوغ؛ والذكورة»، ثمّ قال: وأما المرأة فلنقص النساء عن رتب الولايات.

ويلاحَظ أن الماوردي لم يُشِرْ إلى شرط الرجولة ضمن شروط الخليفة في كتابه الأحكام السلطانية؛ لأنه كان أمراً مفروغاً منه، ولكنّه صرَّح به عند حديثه عن شروط مَنْ يتولّى القضاء على نحو القاعدة الكلية، مشيراً إلى أن المرأة هي دون تولّي رتب الولايات([18]).

وإليه ذهب جمهور فقهاء السنّة. قال ابن رشد(595هـ): واختلفوا في اشتراط الذكورة؛ فقال الجمهور هي شرط في صحّة الحكم([19])، وهو ما يلزم من وجوده صحّة الفعل، ومن عدمه عدم صحّته. وتجدر الإشارة إلى أن الفقيه الحنفي زفر بن الهذيل(158هـ) ذهب هو الآخر إلى عدم جواز تولّي المرأة للقضاء، على خلاف ما هو معروفٌ عن فقهاء الأحناف في هذه القضية([20]).

واستدل ابن قدامة الحنبلي(682هـ) على المنع بما ورد عن النبيّ|، عن أبي بكرة: ما أفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأة… ثمّ قال: ولأن القاضي يحضر في محافل الخصوم والرجال، ويحتاج منه إلى كمال الرأي وتمام العقل، والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي، ليست أهلاً للحضور في محافل الرجال، ولا تقبل شهادتها ولو كان معها ألف امرأة مثلها، ما لم يكن معهنّ رجلٌ! ([21]). ولعله يقصد في موارد معينة، وإلاّ فهناك موارد تقبل فيها شهادة النساء منفردات ومنضمّات([22]).

وأدرج الطوسي(460هـ)، وهو من فقهاء الإمامية، شرط الرجولة ضمن الكمال من شروط القضاء، وقسَّم الكمال إلى: كمال الخلقة؛ والأحكام. وكمال الأحكام أن يكون بالغاً عاقلاً حُرّاً ذكراً، ثمّ قال: فإن المرأة لا ينعقد لها القضاء بحالٍ([23])؛ لأنها ناقصة الأهلية من الناحية الشرعية لولاية القضاء.

وقال في كتاب «الخلاف» ـ وهو من أقدم الكتب في الفقه المقارن لمذاهب المسلمين ـ: لا يجوز أن تكون المرأة قاضية في شيءٍ من الأحكام. وبه قال الشافعي. ورأى عدم وجود دليل على الجواز، وقال: الجواز يحتاج إلى دليل؛ لأن القضاء حكم شرعي، فمَنْ يصلح له يحتاج إلى دليلٍ شرعي. وكأنه يحيل إلى أصالة عدم ولاية أحد على أحدٍ إلاّ بدليل. واستدلّ على المنع بما رُوي عن النبيّ| أنه قال: لا يفلح قوم وليتهم امرأة. وقال|: أخِّروهن من حيث أخَّرهن الله([24]). ويذكر أن الطوسي لم يُشِرْ إلى هذا الشرط في كتابه الفقهي «النهاية» الذي ألَّفه قبلهما، والذي يمثِّل الفقه الروائي في تلك المرحلة من تطوُّر البحث الفقهي في مدرسة الفقه الإسلامي الإمامي.

ووافقه على هذا الموقف جملةٌ من فقهاء الإمامية، مثل: ابن البرّاج(481هـ)، والمحقِّق الحلي(676هـ)، وغيرهما([25]).

ومن فقهاء الإباضية الذين نصّوا على شرط الذكورة في القاضي محمد بن إبراهيم الكندي(508هـ)، حيث صرَّح في بيان الشرع: «والمرأة لا تكون قاضياً؛ لقوله|: «أخرجوهنّ من حيث أخرجهنّ الله»، وفي نسخةٍ: «أخِّروهن من حيث أخَّرهن الله». وصرح به جماعة من علمائهم، مثل: أبي بكر الكندي(557هـ) في المصنّف، والشقصي(القرن الحادي عشر للهجرة) في منهج الطالبين([26]). كما نصّ عليه أحمد المرتضى من الزيدية(840هـ)([27]).

ويتبنّى هذا الرأي كثيرٌ من العلماء والفقهاء المعاصرين، حَسْب ما جاء في كتبهم ورسائلهم الفقهية، مثل: سيد سابق، ومحمد باقر الصدر، وأبي القاسم الخوئي، وروح الله الخميني([28]). ويرى بعض الباحثين أن القضاء يحتاج إلى زيادة الذكاء والفطنة وكمال الرأي والعقل، والمرأة ناقصة في ذلك قليلة الخبرة بأمور الحياة وحِيَل الخصوم، إضافة الى ما يعرض لها من عوارض الطبيعة على مرّ الأيام والشهور والسنين، ممّا يوهن جسمها وفهمها، فهي لا تصلح لتحمُّل مشاقّ القضاء([29]).

ويتَّضح من كلمات بعض الفقهاء أن ثمّة ترابطاً واضحاً بين الولاية العامّة أو الرئاسة العليا وبين القضاء؛ لوضوح أن القضاء في عمقه مزاولةٌ للولاية والسلطة. يقول ابن رشد(595هـ): فمَنْ ردّ قضاء المرأة شبّهه بقضاء الإمامة الكبرى([30]).

بل يظهر من بعض البحوث الفقهية أن شرط الذكورة في القضاء هو من الأمور الواضحة التي ادُّعي فيها الإجماع. ولهذا رأينا بعض المتأخِّرين اشترطوا الذكورة في مَنْ يتولّى منصب الحاكم الأعلى بالأولوية، بناءً على اشتراطها في القضاء. يقول المنتظري: إن القضاء شعبة من شعب الولاية، بل من أهم شعبها، بل هو أولاً وبالذات من شؤون الإمام… وعلى هذا فاشتراط الذكورة في القاضي لعلّه يقتضي اشتراطها في الولاية، ولا سيَّما في الإمامة الكبرى أيضاً([31]).

وأيّاً كان فإن بعض التعليلات التي أوردوها ـ وبالأخصّ المعاصرون ـ، والتي تتعلَّق بالطبيعة التكوينية للمرأة، تغلب عليها سمة التعميمات الخطابية، حيث لا تستند إلى دراسات علمية متخصِّصة تثبت نقصان الذكاء والفطنة والعقل عند المرأة. كما أنّها تغفل إسهامات المرأة ونجاحاتها في مختلف المجالات الإدارية والتعليمية والثقافية إثر التحوُّلات الاجتماعية والسياسية في التاريخ الحديث.

ج ـ حرمة تمثيل المرأة في المجالس النيابيّة

نظر فريقٌ من الفقهاء إلى أعمال مجالس الأمة التشريعية والرقابية على أنها شكلٌ من أشكال مزاولة الولاية على الأمّة من خلال سنّ القوانين والأنظمة، واعتبروا ذلك في حقيقته مزاولة للولاية والسلطة على الناس. ولهذا اعتبروا المشاركة فيها اشتراكاً في السلطة التشريعية، وهي وجه من أوجه الولاية في البلاد؛ لأن الولاية كما تتمثل في الجهة التي تنفذ القوانين كذلك تنطبق على الجهة التي تشرِّع تلك القوانين، وتشرف على تنفيذها([32]).

وهذا التكييف يتّفق مع تصنيف الفقه الدستوري الوضعي الذي يعتبر هذه المجالس تجسيداً للسلطات الثلاثة في الدولة، وهي: السلطة التشريعية، إلى جانب التنفيذية والقضائية. ولمّا كان المبنى الفقهي العامّ لهذا الفريق من الفقهاء هو حرمة إسناد مناصب الولاية والسلطة إلى المرأة، فقد صرَّحوا في ضوئه بحرمة دخول المرأة إلى المجالس النيابية (البرلمانية)، وإنْ كان التشريع فيها غير منافٍ للحكم الإسلامي.

وأرجعه بعضهم أيضاً إلى نفس العامل التكويني السابق، وهو قصور تفكيرها وقلّة تدبيرها وعدم بلوغها مبلغ الرجال غالباً، ولأن الإسلام لم يُعْطِها الولاية على أولادها، حتّى مع فقد أبيهم، فكيف يمكن أن يسمح لها بتولّي أمور الأمة وما يرجع إلى شؤونهم من جهاتٍ شتّى… فلم يسمح الإسلام لها بالتبرُّج والاختلاط مع الرجال، حتّى أنه نفى عنها الجمعة والجماعة والجهاد، بل ألزمها بالتحفُّظ على عفتها، وصيانة نفسها عن الوقوع في المهالك([33]). بينما فسَّر بعض الفقهاء تحريم تولي المرأة للسلطة بأنه نوعُ تمييز بين الرجل والمرأة، وتقسيمٌ للدور بينهما، حَسْب الفوارق الطبيعية بينهما([34]).

ومن جهةٍ أخرى، وضمن اتجاه المنع، يرى الدكتور السباعي جواز دخول المرأة إلى المجلس النيابي، من حيث المبدأ، غير أنه يمنع من تحقُّقه في الواقع؛ بناءً على منافاته لمبادئ التشريع الاسلامي ـ حَسْب رأيه ـ. فهو من الناحية الأوّلية يجيزه؛ على اعتبار أن مهمة هذه المجالس تتكوَّن من التشريع والرقابة. وعلى أساس التكييف الفقهي للمهمّة الأولى بالاجتهاد والاستنباط، وللمهمّة الثانية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وليس في الإسلام ما يمنع أن تكون المرأة مشرِّعة، ففي تاريخنا كثيرٌ من العالمات.

أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالرجل والمرأة في ذلك سواء. ولكنه يعود فيقرِّر أنّ مبادئ الإسلام وقواعده تحول بين المرأة وبين استعمالها لهذا الحقّ، لا لعدم أهليّتها، بل لأمور تتعلّق بالمصلحة الاجتماعية. فرعاية الأسرة توجب التفرُّغ، واختلاط المرأة بالأجانب عنها والخلوة مع الأجنبي محرَّمٌ في الإسلام، وكشف المرأة لغير الوجه واليدين محرَّم في الإسلام، وسفر المرأة وحدها خارج بلدتها دون مَحْرَم لا يبيحه الإسلام، وهذه الأمور الأربعة تجعل من العسير، إنْ لم يكن المستحيل، على المرأة أن تمارس النيابة في ظلِّها. إن طبيعة النيابة وما تقتضيه سيوقع المرأة في محرَّمات يمنعها الإسلام منها. فهو يرى حرمة العمل النيابي عليها؛ لما يستلزمه من محرَّمات ـ حَسْب رأيه ـ، وسدّاً لذريعة الوقوع في المحرَّمات.

بل ذهب الأستاذ المودودي الى أبعد من ذلك، فرأى أن المناصب الرئيسة في الدولة، رئاسة أو وزارة أو عضوية مجلس الشورى أو إدارة مختلف مصالح الحكومة، لا تفوَّض إلى النساء. ويخالف التكييف الفقهي المتقدِّم، مؤكِّداً أن دور المجالس التشريعية لا يقتصر على التشريع وسنّ القوانين حتّى يُقال بأن بعض الصحابيّات كنَّ يمارسن الفتوى، ويتكلَّمْنَ في مسائل القانون، وكان الخلفاء يستشيرونهنّ. بل إن هذه المجالس تسيِّر بالفعل دفّة السياسة في الدولة، فهي التي تؤلِّف الوزارات وتحلّها، وتضع خطة الإدارة، وهي التي تقضي في أمور المال والاقتصاد، وبيدها تكون أزمّة أمور الحرب والسلم، وبذلك فهي لا تقوم مقام الفقيه والمفتي، بل مقام «القوّام» لجميع الدولة([35]).

ويردّ على هذا الفريق بأنه مع الأخذ في الاعتبار التفاوت بين الأنظمة الرئاسية والبرلمانية والمختلطة، فإن المجلس التشريعي أو النيابي يمثّل هذه السلطة ويزاولها على نحو مؤسّسي بمجموع أعضائه، ولا يزاولها كل عضو فيه بشكل فرديّ مستقلّ. ولا ينفي ذلك في الوقت نفسه أن لكلّ عضوٍ بمفرده دورٌ فاعل في المداولات، وله رأيٌ مؤثِّر في سنّ القوانين أو اعتمادها، وله صوت في إقرار الموازنات العامة والخطط الحكومية، وموقف في منح الثقة أو حجبها عن الحكومات أو الوزراء. ولكنْ ليس بوسع النائب بمفرده أن يفعل شيئاً ذا أهمّية في هذا المجال، على عكس الشخص الذي يزاول السلطة منفرداً.

وكيفما كان فإن هذا الاتّجاه يكيّف دور المجالس النيابية على أنه يدخل في صميم مزاولة السلطة والولاية وإدارة دفّة الأمور في الدولة، وعليه يرى أنها مشمولة بأدلّة التحريم. بالإضافة إلى أن المشاركة فيها ـ حَسْب هذا المنظور ـ لا تتّفق مع مجموعة من الأحكام الإسلامية المختصّة بالمرأة. وهكذا يتبين لنا أن هذا الفريق من العلماء والفقهاء يتبنّى المبنى الفقهي العام في هذه القضية، وهو حرمة تولي المرأة لمناصب السلطة والولاية مطلقاً. وعليه يحرم كلّ عمل يندرج تحت هذه القاعدة، بالإضافة إلى استناد بعضهم إلى عناوين ثانوية، ومبرّرات أخرى داعمة وغير مباشرة، غير أنها من الناحية العملية تنتهي إلى نفس النتيجة، وهي تحريم تولّي المرأة للمهام التي تزاول من خلالها السلطة والولاية.

2ـ مشروعية تولّي المرأة بعض المناصب، مع بعض القيود

ويذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى التفكيك بين طبيعة بعض المهامّ السلطوية، ويميل هؤلاء إلى مزيدٍ من التفصيل في مزاولة بعض السلطات من قِبَل المرأة، فيجيز لها مزاولة بعض المهامّ وتولّي بعض المناصب القيادية، ضمن بعض الضوابط، وذلك على النحو التالي:

أـ مشروعيّة تولّي المرأة لرئاسة الدولة في إطار محدَّد

رغم أن الموقف المتحفِّظ هو السائد عند فقهاء المسلمين من ولاية المرأة، إلاّ أن بعض العلماء المعاصرين ميَّز بين مزاولة السلطة في التجربة التاريخية للمسلمين وبين مزاولتها في الدولة القطرية الحديثة، وفكَّك العلاقة بين منصب الخلافة التاريخي ومنصب رئاسة الدولة في الأنظمة المعاصرة، فلا يصح قياس منصب رئيس الدولة على منصب الخليفة التاريخي، وفي ضوئه قصر أدلة المنع على منصب الخلافة العامّة على المسلمين.

يرى الدكتور القرضاوي، مع التسليم بوجود إجماع بين الفقهاء على أن المرأة لا تصلح للخلافة العامّة، والتي هي خلافة المسلمين جميعاً، ولكنّ الرئاسة الإقليمية في الدول القطرية الحالية لا تدخل في الخلافة، إنما هي أشبه بولاية الأقاليم قديماً. وبناء عليه لا يمنع من ترشُّح المرأة للرئاسة أو تولّي منصب رئاسة الجمهورية([36]).

ويمكن مناقشة هذا الرأي بأنه مع التسليم بوجود فرق بين الخلافة العامة ورئاسة الدولة القطرية، من ناحية مساحة الدولة وعدد السكان المولّى عليهم وحجم المسؤوليات وما شابه، غير أن رأي جمهور الفقهاء بعدم صلاحية المرأة للخلافة العامة ـ كما يتَّضح من كلماتهم ـ لم يكن ناظراً إلى هذه الناحية، بل إلى أهلية المرأة لتولّي هذا المنصب، بصرف النظر عن بقية الفروق الزمكانية الاجتماعية والسياسية. وممّا يؤيِّد ذلك أن بعض الفقهاء السابقين عاصروا وجود ممالك وإمارات ودويلات في القرن الرابع الهجري وما بعده، وهي أشبه بالدول القطرية من بعض الوجوه، ومع ذلك لم نجد من الفقهاء ـ في حدود متابعتنا ـ مَنْ قرَّر جواز أن تترّأسها المرأة أو تتولّى الحكم والسلطة فيها. كما لم يَرِدْ عن أحدهم جواز أن تتولى المرأة ولاية الأقاليم. ولهذا فإن مقاربة القضية من منظور الإجماعات التاريخية لا توصل إلى نتائج مغايرة، إلاّ بضربٍ من التكلُّف، ممّا يستدعي النظر إليها من منظورٍ فقهي واجتماعي مختلف.

وانتهى الشيخ شمس الدين في بحثه حول أهلية المرأة لتولي السلطة إلى مشروعية تولّي المرأة لرئاسة الدولة، بشرط أن يكون الحكم فيها مقيداً بالشورى والمؤسّسات، ولا يكون استبدادياً فردياً، بحيث لا يمارس الحاكم سلطته على الناس وفقاً لفهمه أو لهواه الخاصّ، بل يحكم بما تقضي به مؤسّسات الشورى التي انتخب الشعب أعضاءها باختيارٍ حُرّ وإرادة حُرّة، وتمارس هذه المؤسّسات سلطتها في التقنين والمراقبة بإرادة حُرّة. فالحاكم هنا يمارس سلطته مقيداً بالشورى والمؤسّسات والقوانين، ويخضع لمراقبة ومحاسبة الشعب بواسطة ممثِّليه المنتخبين من قبله بحُرِّية، وبواسطة رقابة مؤسّسات المجتمع الأهلي([37]).

ويبدو من هذا الرأي أنه ينطلق من أحد أمرين:

الأول: كأنّ سبب المنع الشرعي ـ عند مَنْ يراه ـ جاء للحيلولة دون استبداد المرأة في الحكم والسلطة، والذي يؤول إلى تراكم الأخطاء والمظالم، وليس لعدم أهليّتها لذلك بكونها امرأة. والحال أنه لا يظهر هذا المعنى في كلمات الفقهاء، ولا في النصوص التي يستندون إليها. اللهُمّ إلاّ في ما فهمه البعض من السياق التاريخي للواقعة التي ورد فيها حديث: لن يفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأة، وهو الدولة الكِسْروية الاستبدادية([38]).

ثمّ إذا كان الاستفراد والاستبداد بالسلطة مذموماً؛ لما يسبِّبه من مظالم، فإنه والحال هذه لا يكون مقتصراً على النساء، دون الرجال، مع أن الروايات التي يستدلّ بها في المقام تختصّ بالنساء.

الثاني: إن تولّي الرئاسة في دولةٍ حديثة قائمة على دستور يفصل بين السلطات الثلاث، وينظم العلاقة بينها وبين المؤسَّسات الدستورية المنبثقة منه، من شأنه أن يحدّ من مساحة السلطة المخوّلة للحاكم. وعليه ليس ما يمنع من أن تتولّى المرأة السلطة في مثل هذه الدول، على اعتبار أنه وضع جديد غير معهود في عصر النصّ وفي أزمنة الفقهاء الذين نظّروا وقعّدوا قواعد الفقه السياسي، وبالتالي فإن مورد البحث خارج عن مورد بعض الروايات التي استدلّ بها على المنع([39]).

ويسجّل لهذا التنظير الفقهي أنه قارب القضية المطروحة من جهة التحوُّلات الموضوعية التي حصلت في مجال مزاولة الحكم بين الأساليب الفردية التاريخية وبين النهج المؤسّسي في الدولة الحديثة، بحيث لم تعد السلطة شأناً فردياً في الأنظمة الدستورية الانتخابية الحديثة، والتي أكّد على ضرورة التقيُّد بها. وعليه فإن أدلة المنع ـ إذا ثبتت ـ تكون ناظرةً إلى النماذج الفردية السابقة، ولا تشمل النموذج المؤسّسي الدستوري الانتخابي؛ لتغاير الموضوع وتبدُّله بشكلٍ جوهري.

ونظراً إلى أن أدلّة المنع ليست ناظرة إلى هذه الحيثيات الموضوعية ـ حَسْب اتّجاه المانعين ـ حاول بعض الباحثين في الفقه التوفيق بين بعض الآراء السابقة، واستقرب التنظير المتقدّم، مع مزيدٍ من التقييد والتضييق لممارسة السلطة من قبل المرأة، وانتهى إلى جواز أن تتولّى المرأة رئاسة الدولة، إذا كانت مقيّدة بقانونٍ أساسي وبمجالس تشريعية حكومية، وكانت بعيدة عن أيّ حكم يصدر منها بالاستقلال، ولا تتصدّى لأيّ حكمٍ حكومي أو قضائي في التنازع، ولا لأي حكم شرعي أصلاً، وطالما لا تعدو الرئيسة أن تكون منفِّذة للدستور ولما يصدر من مجلس الشورى من أحكام تنظيمية([40]).

ويبدو أن هذا الرأي هو بمثابة محاولة توفيقية جاءت تحت ضغط المتغيِّرات والمطالبات المعاصرة لإعادة النظر في هذه القضية؛ لتتوافق مع التطور الاجتماعي والسياسي. ويظهر من الصيغة التي اقترحها أنها قريبة من مزاولة مهام الرئاسة في بعض الأنظمة البرلمانية، حيث يكون موقع رئيس الدولة فيها أقرب إلى موقع شرفي أو فخري منه إلى موقع سلطوي.

ويلاحظ على هذا الرأي أنه أجاز للمرأة أن تتولّى رئاسة الدولة على أن تكون مجرَّدة من مزاولة أيّ سلطة حقيقية، وبهذا فهو في حقيقته وعمقه لا يجيز للمرأة تولي أيّ منصب من مناصب السلطة، وإنْ رخَّص لها بتولّي رئاسة الدولة بالشكل المقترح.

ب ـ تولّي المرأة القضاء في نطاقٍ محدود

اختلف النظر الفقهي منذ القدم حول تقلد المرأة لمنصب القضاء؛ فأجازه بعضهم بعد أن فكَّك بينه وبين مزاولة السلطات الأخرى، كالخلافة والولاية العامة؛ بينما ذهب فريقٌ آخر إلى جواز أن تزاول المرأة القضاء بشكلٍ جزئي، وفي نطاقٍ محدود.

وممَّنْ نقل عنه القول بشرعية أن تتولى المرأة القضاء في نطاقٍ معين إمام المذهب الفقهي المعروف أبو حنيفة(150هـ). فقد نقل جماعةٌ عنه أنه أجاز للمرأة أن تتولّى القضاء في ما تجوز فيه شهادتها، ويشمل مختلف المجالات، باستثناء المجال الجنائي.

نقل الماوردي(450هـ) عن أبي حنيفة أنه قال: يجوز أن تقضي المرأة في ما تصحّ فيه شهادتها، ولا يجوز أن تقضي في ما لا تصحّ فيه شهادتها.

وحَسْب الطوسي(460هـ) فإنّ أبا حنيفة جوّز لها أن تقضي في جميع الأحكام، إلاّ الحدود والقصاص. وبتعبير ابن رشد(595هـ): أن تقضي في الأموال. ويستفاد من ابن قدامة(682هـ) أن أبا حنيفة أجاز قضاءها، قياساً على الشهادة. فنقل عنه قوله: يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود؛ لأنه يجوز لها أن تكون شاهدة فيه([41]).

بل يظهر من كلام ابن حزم(456هـ) أن أبا حنيفة جوّز لها أن تلي الحكم بلا قيد([42]). وإنْ كان المعروف خلافه.

وقد سار على هذا النهج بعض فقهاء الأحناف. فقد صرَّح الكاساني(587هـ) في بيان ما يصلح للقضاء: «وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد في الجملة؛ لأن المرأة من أهل الشهادة في الجملة، إلاّ أنها لا تقضي بالحدود والقصاص؛ لأنه لا شهادة لها في ذلك، وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة»([43]).

ونقل عن ابن زرقون(586هـ)، من المالكية، جواز تولّيها القضاء في ما تجوز فيه شهادتها، وفاقاً لبعض الأحناف([44]).

وذهب بعض الحنفية إلى التفصيل في ذلك، كابن نجيم(970) في «البحر الرائق»، وداماد أفندي(1078هـ) في «مجمع الأنهر»، فقد جوَّزا قضاءها؛ لكونها من أهل الشهادة، ولكن يأثم المولّي لها؛ لحديث: «لن يفلح قومٌ…». وهذا يعني أن بعضهم لا يجيز توليها ابتداء، ولكنْ لو قضَتْ في غير حدّ وقود أو في غير المجال الجنائي صحّ قضاؤها، ونفذ حكمها([45])؛ لأن الرجولة في القاضي عندهم هو شرط جواز، وليس شرط صحّة، كما عند الجمهور.

ويظهر ميل الثميني(1223هـ)، من الإباضية، إلى هذا الرأي، فقد ذهب إلى منع المرأة من تولّي القضاء، غير أنه نقل جواز حكمها إنْ حكمت بالحقّ، دون تعقيب عليه. قال: «ولا يثبت حكم امرأة أو عبد، وجاز إنْ حكما بالحقّ»([46]).

وقد يقال: إنّه جاء بصيغة الفعل المبنيّ للمجهول، فهو لم يتبنَّ الرأي، بل اكتفى بنقله. وقد يفسّر كلامه بأنه في سياق إجازة الحاكم للأحكام التي ترفع إليه، ممّا قد يعني أن قضاءها لا ينفذ إلاّ بإمضاء الحاكم له. ويمكن أن يكون قصده فيما إذا حكَّمها الخصمان فحكمَتْ بالحقّ، فيكون في مجال قضاء التحكيم.

ولا بُدَّ من الإشارة إلى أن قياس القضاء على الشهادة قياسٌ مع الفارق. فالشهادة بيِّنة وطريق لمعرفة الواقع في مجال القضاء، ولا تستبطن أي إلزامٍ،فضلاً عن أن تقترن بمزاولة أيّ شكل من أشكال السلطة والولاية، على عكس مزاولة القضاء.

وقد تعرّض قياس القضاء على الشهادة لبعض النقود النقضية، من قبيل: إن شهادة المرأة الواحدة هي نصف شهادة الرجل، فهل تكون امرأتان في القضاء في مقام قاضٍ واحد؟([47]).

ويلاحظ على هذا النقد بأنه منطلق من المعهود التاريخي لمزاولة القضاء، وإلاّ ففي القضاء الحديث يمكن نظر الدعاوى من قبل قضاة متعدِّدين.

وفي سياق البحث عن تولّي المرأة للقضاء في بعض المجالات يُستفاد من كلمات بعض الفقهاء المتأخِّرين من الإمامية وجود ميل إلى جواز أن تتولّى المرأة القضاء بين النساء. وإن كانت بعض الكلمات وردت في سياق نقد بعض أدلّة المانعين كلّياً من تقلدها منصب القضاء.

ومن هؤلاء الفقهاء المحقِّق الأردبيلي(993هـ)، حيث قال في «مجمع الفائدة»: أما اشتراط الذكورة فذلك ظاهر في ما لم يجُزْ للمرأة فيه أمرٌ، وأما في غير ذلك فلا نعلم له دليلاً واضحاً. نعم ذلك هو المشهور. فلو كان إجماعاً فلا بحث، وإلاّ فالمنع بالكلّية محلّ بحث؛ إذ لا محذور في حكمها بشهادة النساء، مع سماع شهادتهنّ، بين المرأتين مثلاً بشيءٍ، مع اتّصافها بشرائط الحكم»([48]).

بل نقل عن المجلسي الأول(1070هـ) في «روضة المتقين» قوله: «إذا كانت المرأة عالمة، وتوفَّرت فيها الشروط اللازمة للقضاء، لا مانع من قضائها بين النساء والمحارم من الرجال»([49]). وتوحي كلمات بعض المعاصرين إلى وجود ميل إلى تحقُّق هذه الجزئية في الواقع([50]).

كما نقل عن المحقِّق القمّي(1221هـ) في «غنائم الأيام» ما يفيد أكثر من ذلك، قال: «وربما يشكل في اشتراط الذكورة وغلبة الحفظ والنطق مطلقاً؛ لأن العلل المذكورة لها ـ من عدم تمكُّن النسوان من ذلك غالباً؛ لاحتياجه إلى البروز وتمييز الخصوم والشهود، ومن أن التمييز والإتقان لا يحصل مع كثرة النسيان والخرس ـ غير مطّردة، فلا وجه لعدم الجواز مطلقاً، إلاّ أن ينعقد الإجماع مطلقاً»([51]).

وقد يُرَدّ عليهم بأن المسألة المطروحة تنصبّ حول مدى شرعية تولّي المرأة للقضاء، ومدى أهليّتها لنظر المنازعات، وإنشاء الأحكام القضائية الملزمة، وما إذا كان قضاؤها صحيحاً ونافذاً، وليس محلّ البحث بعض الحيثيات والملابسات المرافقة لذلك، من قبيل: ما إذا كان بين الرجال أو النساء وما شابه. والقول بجواز قيامها بالحكم بين النساء يعني جواز تولّيها لمنصب القضاء في الجملة، وإنشاء الأحكام القضائية في الخصومات، وهو من أقسام الولاية المهمة. فهل الموقف الفقهي هو جواز ذلك من حيث المبدأ، غاية ما في الأمر؛ ودرءاً لبعض المحاذير الشرعية المصاحبة ـ في نظرهم ـ، مثل: ظهورهنّ في مجالس الرجال، ومخالطتهنّ لهم، ودخولهنّ في الجدال والخصام معهم، طرحت مسألة قصر تولّيها القضاء الخاصّ بالنساء؟

تجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الآراء السابقة لم يصرِّح أصحابها بوضوحٍ عن شرعية مزاولتها لمهمّة القضاء، بحيث تصبح المرأة قاضية بين النساء، أو تمارس القضاء في بعض الفروع الخاصّة بالأحوال الشخصية، والتي تُعْنى بالنظر في القضايا والمنازعات الأُسَرية.

ج ـ تولّي المرأة القضاء مطلقاً

إنّ الاتجاه الذي سلكه إمام المذهب الفقهي المعروف أبو حنيفة النعمان وبعض الفقهاء السالفين مهَّد الطريق لمَنْ جاء بعدهم لإعمال النظر في القضية، والتدقيق في أدلّة المنع.

وبالفعل هناك مَنْ فكَّك العلاقة بين منصبي الخلافة وتولي القضاء، ورأى أن أدلة تحريم مزاولة المرأة للسلطة منصرفة إلى الخلافة العظمى. وثمّة مفارقة منهجية بين الاتجاهين؛ فبعض الذين ذهبوا إلى التحريم المطلق استندوا ـ في ما استندوا إليه ـ إلى قياس الأولوية، بناءً على أدلة حرمة تولي المرأة للقضاء؛ وذلك نظراً لأنه شعبة مهمة من شعب الولاية في نظرهم؛ في حين أن المجوِّزين للمرأة بمزاولة القضاء مطلقاً صرفوا دليل التحريم ابتداءً عن القضاء، وقصروه على السلطة العليا، ولهذا لم يحتاجوا إلى النظر في العلاقة بين السلطتين.

وقد ذهب بعض الفقهاء منذ القدم إلى تمام أهلية المرأة المستجمعة للشرائط في أن تتولّى منصب القضاء بشكلٍ مطلق، دون فرقٍ بين القضايا المتعلِّقة بالأحوال الشخصية أو المنازعات التجارية والمالية أو القضايا الجنائية.

فقد رُوي عن عبد الرحمن بن القاسم(191هـ)، من المالكية، صاحب المدوّنة الكبرى، جواز ولاية المرأة.

وقد حاول ابن زرقون(586هـ)، من المالكية، تحديد كلامه وقصره على المنازعات المالية، أو في ما تجوز فيه شهادتها، وفاقاً للأحناف. لكنْ ردّ ابن عبد السلام بعدم الحاجة لهذا التأويل؛ لاحتمال أن يكون ابن القاسم قال كقول الحسن والطبري بإجازة ولايتها القضاء مطلقاً([52]).

ونسب القول بالجواز مطلقاً إلى بعض التابعين، مثل: الحسن البصري، وإلى محمد بن الحسن الشيباني، صاحب أبي حنيفة. ولكنّه لم يثبت عنهم([53]).

غير أنه اشتهرت نسبة هذا الرأي إلى كلٍّ من: أبي جعفر الطبري(310هـ)، المؤرِّخ والمفسِّر والفقيه الذي كان صاحب مذهب فقهيّ مستقلّ؛ وكذا إلى الفقيه الظاهري المعروف ابن حزم الأندلسي(456هـ).

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرأي المنسوب إلى الطبري لم يَرِدْ في تراثه التفسيري والفقهي الواصل إلينا، بل نقل جمعٌ من الفقهاء هذا الرأي عن أبي جعفر الطبري، ومنهم: الماوردي(450هـ)، الذي كان يخالفه الرأي، ويعتبره شاذّاً خارجاً عن الإجماع، ولهذا قال عنه: «وشذّ ابن جرير الطبري، فجوَّز قضاءها في جميع الأحكام». وعلَّق عليه بقوله: «ولا اعتبار بقولٍ يردّه الإجماع، مع قول الله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ…الآية﴾»([54]).

ونقل الطوسي(460هـ) عن الطبري قوله: «يجوز أن تكون قاضية في كلّ ما يجوز أن يكون الرجل قاضياً فيه؛ لأنها تعدّ من أهل الاجتهاد»([55])، ممّا يعني أنه لم يكن يرى قصورها أو عدم أهليّتها طالما كانت من أهل الاجتهاد، شأنها شأن الرجل في هذا المجال.

ونسب ابن قدامة الحنبلي إلى الطبري أنه أسَّس رأيه السابق بناءً على جواز تولّيها الإفتاء، وليس على مجرّد تمتُّعها بملكة الاجتهاد([56]).

كما ذهب الفقيه الظاهري ابن حزم(456هـ) إلى جواز تولّي المرأة للحكم والقضاء مطلقاً، ودون تقييدٍ بمجال معين. فقد قال في المحلّى: «وجائزٌ أن تلي المرأة الحكم، وهو قول أبي حنيفة…»([57]).

وهناك مَنْ نظر إلى منصب القضاء كأيّ منصب سياسي يستمدّ شرعيته وولايته من تعيين الحاكم، ولم يشترط فيه حتّى الاجتهاد، حَسْب ما يظهر من عبارة ابن نجيم الحنفي(970هـ)، الذي اشترط في الحاكم العقل والبلوغ، إلى أن قال: وأن يكون مولى للحكم دون سماع الدعوى فقط، كما في الخزانة، لا الذكورة والاجتهاد([58]).

وبالاتّساق مع هذا التوجُّه الإيجابي الذي يجيز تولي المرأة للقضاء مطلقاً ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى أهلية المرأة لتولي القضاء مطلقاً.

فقد أفتى الشيخ الصانعي بعدم اشتراط الذكورة أو الأنوثة في القضاء؛ لأن معيار القضاء هو اعتدال القاضي، وكونه في الطريق المستقيم، وكونه عالماً بالموازين الإسلامية للقضاء. ولا نملك دليلاً معتبراً على شرطية الذكورة. ومقتضى إطلاق المقبولة، وإلغاء الخصوصية من التقييد برجلٍ في رواية أبي خديجة، هو عدم اشتراط الذكورة، وصحّة قضاء المرأة([59]). وسنتطرّق لاحقاً إلى مناقشات الفقهاء للروايات المشار إليها في كلامه.

واستعرض السيد فضل الله في درسه الفقهي حول القضاء آراء المانعين وأدلّتهم. وبعد محاكمتها ونقدها انتهى إلى أن مسألة عدم صحّة تولي المرأة للقضاء، وعدم نفوذ قضائها، محلّ تحفُّظ علميّ، ولا يعضده الدليل([60]). وتجدر الإشارة إلى أنه على مستوى الفتوى، اشترط الذكورة في مرجع التقليد، وكذا في المتصدّي للقضاء والقيادة العامة، وإنْ ألمح إلى أن بعض الشروط مبنيّة على الاحتياط([61]).

ويقيِّد بعض العلماء المعاصرين الجواز ببعض الضوابط، كأنْ تتدرج المرأة في ذلك، فأوّل ما تعمل قاضية ليس بالضرورة أن تعمل في الجنايات، بل تبدأ بالأحوال الشخصية وشؤون الأسرة، وفي المحكمة الابتدائية، ثمّ أعلى منها، وقد تكون في محكمة فردية أو محكمة مشاركة فيها كعضوٍ من الأعضاء وهكذا، وأن تكون مؤهَّلة لذلك. وكذلك يجب أن تكون في عمرٍ معقول، أي بعد أن تكون قد فرغت من الحمل والإرضاع وغيرهما، ولا بُدَّ أن يكون المجتمع مؤهَّلاً ومتقبِّلاً لذلك([62]).

والواقع أن هذه هي بعض الحجج التي يستند إليها المانعون من تولي المرأة لهذه المناصب. ويبدو أنها محاولةٌ لطرح رؤية تتفهَّم حجج المانعين، وتراعي النظرة الثقافية للمجتمع. لقد تناولت إحدى الباحثات بالتحليل النقدي جلَّ الأدلة النصية والقياسية التي استند إليها القائلون بالتحريم، وتوصَّلَتْ إلى عدم قوّتها أو عدم كفايتها من حيث الثبوت والدلالة. وقرّرت أن العرف الاجتماعي والثقافي كان له أثرٌ كبير على حرمان المرأة من تولي القضاء([63]).

وعلى صعيدٍ آخر يرى بعض الباحثين أنه مع تحوُّل القضاء إلى قضاء مؤسّسي يشترك في الحكم فيه عددٌ من القضاة، فإن مشاركة المرأة فيه لا تندرج تحت أحكام ولاية المرأة للقضاء بالمعنى الذي قرَّره الفقهاء في فقه القضاء؛ لأن الولاية هنا ليست لفردٍ، رجلاً كان أو امرأة([64]).

ويمكن مناقشته ـ من منظور المانعين ـ بأن هناك تلازماً بين السلطة والقضاء. ومهما كانت ميِّزات القضاء المؤسّسي وإيجابياته فإنها لا تغيّر من طبيعة القضاء؛ كونه في عمقه مزاولة للسلطة وإصدار الأحكام الملزمة لهذا الطرف أو ذاك. غاية ما في الأمر أن القضايا لا ينظر فيها من قبل قاضٍ واحد، والأحكام لا تصدر منه وحده، بل من قضاةٍ متعدِّدين يشتركون في نظر الدعاوى، ويبدون آراءهم فيها، ويشاركون بمجموعهم في إنشاء الحكم وإصداره.

وعليه فإن القضية تعتبر من صميم مبحث مزاولة القضاء والسلطة من قبل المرأة طالما اشتركت كقاضية مع مجموعة من القضاة في نظر الدعاوى، والحكم فيها. نعم، لو كانت علّة المنع عندهم من قبيل: نقص الكفاءة والجدارة والخبرة أو عروض النسيان وما إلى ذلك لكان يمكن تداركها عبر مأسسة القضاء، ولكنّ المناط لدى الاتجاه المانع هو انعدام الأهليّة لدى المرأة؛ لطبيعتها الأنثوية في تولّي القضاء، الأمر الذي لا يمكن تداركه أو استكماله بأيّ طريقة.

ومن جهةٍ أخرى ليس كل القضايا والدعاوى يحكم فيها قضاة متعدِّدون، بل لا يزال أسلوب القضاء الفردي سائداً في المحاكم. ومع كلّ ذلك فإنه لا يمنع من الإقرار بأننا أمام أسلوب جديد غير معهود في التاريخ الفقهي. فهل يعتبر هذا الأسلوب الجماعي في القضاء واقعة جديدة بما طرأ عليها من تبدُّل؟ وهل يشكل موضوعاً جديداً غير معهود، وبالتالي يفترض أن يأخذ حكماً جديداً؟ واذا اعتبر كذلك فما هو الموقف من تشكيل هيئة قضائية من قاضيات متعدِّدات فقط، أم أن التغيُّرات التي طرأت على الأسلوب لا تعتبر تحوُّلاً جوهرياً في طبيعة مزاولة مهمة القضاء، ومن ثم فإن الموضوع في حقيقته وعمقه باقٍ على حاله؟ إن هذه التساؤلات تحتاج إلى بحثٍ وتكييف وتأصيل مختلف، فلا يكفي فيها مجرّد استدعاء نفس الأحكام التي قرَّرها الفقهاء في فقه القضاء والولاية، حَسْب المعهود التاريخي، وإسقاطها عليها كما هي دون تفصيل.

د ـ تمثيل المرأة في المجالس النيابية

تطرّقت بعض التنظيرات الفقهية إلى بعض أوجه ولاية الرجل والمرأة معاً ضمن مجموع الأمة. وانتهت بعض الآراء إلى أن للمرأة أن تمثل في المجالس النيابية مع بعض الضوابط التوفيقية في ذلك، وفصَّل بعضهم مفرِّقاً بين دورها في الانتخابات والتصويت وبين الترشّح لدخول المجالس النيابية ومزاولة السلطة من خلالها.

ذهب السيد محمد باقر الصدر في تنظيره حول خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء بأنه عندما تحرّر الأمّة نفسها من الحكم غير الشرعي فخطّ الخلافة ينتقل إليها، فهي تمارس القيادة السياسية والاجتماعية بتطبيق أحكام الله، وعلى أساس ركائز الاستخلاف الرباني. وتمارس دورها في الخلافة (الربانية) في الإطار التشريعي للقاعدتين التاليتين: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: 38)؛ ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ﴾ (التوبة: 71).

والنصّ الأول يعطي الأمّة صلاحية ممارسة أمورها عن طريق الشورى، ما لم يرد نصٌّ خاص على خلاف ذلك.

والنصّ الثاني يتحدث عن الولاية، وأنّ كل مؤمن وليّ الآخرين. ويريد بالولاية تولّي أموره، بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه. والنصّ ظاهر في سريان الولاية بين كلّ المؤمنين والمؤمنات بصورةٍ متساوية، وينتج عن ذلك الأخذ بمبدأ الشورى وبرأي الأكثرية عند الاختلاف»([65]). كما صرَّح في بحثه عن «لمحة فقهية دستورية» بأن ممارسة السلطة التنفيذية والتشريعية تسند إلى الأمّة، فهي صاحبة الحق في ممارسة هاتين السلطتين، على أن يتمّ ذلك بإشراف ورقابة المرجعية الدينيّة الرشيدة ـ حَسْب تعبيره ـ([66]).

والواقع أن من المجالات التطبيقية لهذا الرأي الفقهي هو المشاركة في الاستفتاءات العامّة والانتخابات الشعبية لانتخاب الرؤساء والنواب في المجالس النيابية والمحلية وغيرها. كما يفترض أن يشمل الدخول في المجالس النيابية الممثّلة للأكثرية، لتمارس المرأة والرجل معاً دورهما في الخلافة ضمن المجموعة النيابية المنتخبة، ولو على نحو الوكالة عن مجموع الناخبين من الأمّة. وقد يقال بإمكانية استفادة هذا المعنى من كلامه بكون كلّ مؤمنٍ وليّ غيره، وكون المقصود من الولاية هو تولي أموره، ومن سريان الولاية بينهم بالتساوي. ونظراً لكون كلامه غير واضحٍ بدرجة كافية يقتصر على القَدَر المتيقَّن منه، وهو مزاولة حقّ الانتخاب والاستفتاء، دون تولّي أيٍّ من السلطات أو مباشرتها.

ويرى الدكتور القرضاوي أن من حقّ المرأة أن ترشِّح نفسها لمجلس الشعب والنواب أو الشورى أو المجلس التشريعي الذي يحاسب الحكومة ويراقبها ويصدر التشريعات والقوانين. غير أنه قيَّد مشاركة المرأة فيها بأن تكون قد فرغت من قضايا الحمل والرضاعة، وبحيث يكون أولادها قد كبروا، ونضجت تجربتها في الحياة. وقال: ليس معقولاً أن المرأة التي تحمل وترضع وعندها أطفال تذهب ترشِّح نفسها، لا يقول هذا عاقلٌ، ولا يرضى المجتمع عن هذا، ولا يرضى زوجها، ولا أقاربها([67]).

وقد يناقش بأن القيود التي اشترطها، سواءٌ في مزاولة القضاء أو تمثيل المجلس النيابي، تدلّ على وجود القناعة الضمنية لديه بأن بعض خصائص المرأة ووظائفها الطبيعية والاجتماعية تحول دون قيامها بهذه الأدوار والمسؤوليّات في المجتمع. وإن مقتضى كلامه أن على المرأة ـ في الوضع الطبيعي ـ أن تنتظر حتّى تبلغ سنّ اليأس حتّى يمكنها أن تتفرَّغ لهذه الأدوار القيادية في المجتمع، وربما تكون قد استهلكت حيويّتها خلال المرحلة السابقة. ومن الناحية العملية قد يفقدها ذلك فرصة اكتساب الخبرة العملية، ومراكمة التجربة في هذه المجالات العامّة.

وثمّة رأيٌ حديث يكيِّف مسألة اشتراك المرأة في المجالس التشريعية من منظور مختلف. فنظراً لكون عملية التشريع والتقنين قد تطوَّرت في الدولة الحديثة من مجرّد وظيفة فردية للحاكم إلى اجتهاد مؤسّسات الصياغة والتشريع والتقنين إذا شاركت المرأة في هذه المؤسّسات فليس بوارد الحديث عن ولاية المرأة لسلطة التشريع بالمعنى التاريخي القديم([68]).

وبتعبيرٍ آخر: حَسْب هذا الرأي إن القضية بهذا التكييف تكون خارجة عن أحكام الولاية تخصُّصاً، فلا تندرج تحتها. وكما سبق القول: إنه إذا اعتبر دور المجلس النيابي في التشريع والرقابة على الحكومة من شؤون الولاية ومزاولة السلطة كما هو عنوانها كسلطةٍ تشريعية ضمن سلطات الدولة الثلاثة فإنها بذلك لا تخرج عن مبحث الولاية والسلطة، غاية ما في الأمر أن العضو في هذه المجالس لا يزاول السلطة بشخصه، وبشكلٍ مستقلّ ومنفرد، بل ضمن مجموع الأعضاء، وإنْ كان يظلّ له دورٌ ورأيٌ وصوتٌ مؤثِّر ضمن المجموع.

فهو بهذا قد يعتبر مزاولاً للسلطة التي أنيطت بمجموع الأعضاء، أو للمؤسسة كشخصية اعتبارية، ممّا يتطلَّب تأصيلاً جديداً، ولا يكفي مجرد إسقاط نفس أحكام الولاية عليها. وتجدر الإشارة إلى أن بعض مؤيِّدي هذا الاتجاه يقيِّد ممارسته من قبل المرأة ببعض الضوابط الفقهية المعروفة، من قبيل: اشتراط عدم الخوف من الفتنة جرّاء خروجها من البيت، وأن لا يفضي عملها إلى الاختلاط بالرجال، أو إلى الخلوة، وأن يكون خروجها من البيت بإذن زوجها([69]). وكما نلاحظ فإن بعض هذه الشروط قد يعيق في نهاية الأمر مشاركتها في بعض هذه الأعمال، ممّا يجعل هذه الآراء، في النتيجة ومن الناحية العملية، موافقةً للاتجاه المانع.

3ـ أهلية المرأة لتولي جميع مناصب السلطة

ثمّة اتجاه محدود يرى عدم الفرق بين الرجل والمرأة في تولّيهما لمناصب السلطة والولاية، إلاّ ما استثني بنصٍّ معتبر الإسناد، واضح الدلالة، أو بدليلٍ شرعي يكون في مستوى الحجّية. وحَسْب هذا الرأي فإنّ للمرأة أهليّة تولي مناصب الولاية من الناحية الشرعية متى استكملت الشروط والمواصفات المقرَّرة لذلك. وكون متولّيها رجلاً أو امرأة ليس له مدخلٌ في ذلك، بل إن المناط في الأهليّة يقتصر على التخصُّص العلمي والمهني والكفاءة والجدارة والاستقامة. وبالاتّساق مع القول بأهلية المرأة لتولّي مراكز السلطة العليا المتمثِّلة في الحكم ورئاسة الدولة عند استجماعها للشروط التي تؤهِّلها لذلك فإنّ شرعية تولّيها لسائر مناصب الولاية الأدنى منها، من قبيل: الدخول في المجالس النيابية أو الشورية وما شاكل، يكون من باب أَوْلى، حَسْب هذا الاتجاه.

وقد تناول الدكتور الفضلي أدلّة المانعين بالبحث والنقد، وانتهى إلى عدم وجود نصٍّ ديني معتبر، واضح الدلالة، يمكن الاعتماد عليه في نفي تولّي المرأة الحكم. أما الإجماعات المدَّعاة في المقام فلا تكشف عن دليلٍ شرعي يركن إليه. ولم يثبت دليلٌ على نفي تولّي المرأة للإفتاء والقضاء، بحيث يقتضي منهما نفي تولّيها الحكم بطريقٍ أَوْلى. أما إسناد مهمة القضاء تاريخيّاً إلى الرجل فلا دلالة فيه على حرمة إسناده إلى المرأة؛ لأنه من قبيل: المألوف الاجتماعي. وذهب إلى أن الميل إلى اشتراط الذكورة آتٍ من أنه الأمر الغالب؛ لأن المجتمعات في أغلبها ذكورية، درجت على إسناد منصب رئاسة الدولة للرجل، بناءً على هذا المنطلق([70]).

وأكَّد على أن اختلاف الزمان وتطوُّر أوضاع المرأة التعليمية والثقافية والاجتماعية عبر إتاحة الفرص المتكافئة لها في التعليم والتزوُّد بالثقافة وممارسة الفعاليات الاجتماعية جعلها مؤهَّلة للقيام بأعباء المسؤوليّات الكبار، بل إنها أثبتت قدرتها من خلال التجارب على تحمُّل تلكم الأعباء، بحيث أصبحت لا تختلف عن الرجل في ذلك([71]).

كما صرَّح الشيخ الفياض ـ وهو أحد مراجع الإمامية المعاصرين ـ أن ثبوت الولاية العامة للمرأة المسلمة هو محلّ إشكال، بل منع عند أكثر الفقهاء. ولكنّ الثبوت عندنا غير بعيد إذا توفَّرت شروط الولاية فيها، من الأعلميّة والعدالة والكفاءة وغيرها([72]). وأشار إلى عدم وجود الدليل على المنع إلاّ دعوى الإجماع([73]). وأضاف: إن تصدّي المرأة في الدولة القائمة على أساس مبدأ حاكمية الدين للسلطة الحاكمة ومنصب القضاء والإفتاء مورد إشكالٍ عند الفقهاء، وإنْ كان الأظهر جوازه عندنا إذا توافرت شروط هذا المنصب فيها([74]).

وكذلك الحال بالنسبة إلى جواز الدخول في المجالس النيابية، بل يمكنها أن تتولّى رئاسة البرلمان، وكذا رئاسة اللجان البرلمانية، بشرط توافر الكفاءة واللياقة والخبروية([75]).

واستظهر جواز أن تتولّى المرأة منصب الإفتاء الفقهي ومرجعيّة التقليد إذا توافرت فيها كافّة الشروط المطلوبة([76]).

غير أنه في رسالته الفقهية العملية ينصّ على اشتراط الذكورة، سواء في مرجع التقليد([77]) أو في القضاء([78]). وقد ظهر مثله لدى عددٍ من العلماء، حيث ينتهون إلى قناعةٍ نظريّة معينة، غير أنهم يتردَّدون في الإفتاء بها.

استخلاصٌ ورأي

إن أوّل ما يسترعي النظر من دراسة الاتجاهات الفقهية حول أهلية المرأة لتولي المناصب القيادية والسيادية هو غياب أيّ رأي فقهي للمرأة الفقيهة العالمة المحدّثة في هذه القضية المهمّة. ولعلّه ناتج عن السياج الثقافي والاجتماعي والجَدَل التاريخي حول أهليّتها لمزاولة تلكم الوظائف، مما نتج عنه غياب العالمة المتخصِّصة في الحقل الفقهي، فضلاً عن تشكُّل فريق من المتخصِّصات المتضلِّعات في مختلف العلوم الشرعية. وقد حان الوقت لأن تخترق المرأة المسلمة هذا السياج، فتدخل هذا المجال العلمي، وتتخصَّص فيه، وتنهي مرحلة «احتكاره» من قبل الرجل، وبصرف النظر عمّا إذا كان لذلك انعكاسٌ إيجابي أو لا على مسار البحث في قضايا المرأة في الفقه الاسلامي.

لقد تبين لنا من الدراسة السابقة بأن المتسالم تاريخياً بين فقهاء المسلمين في هذا المجال هو عدم أهليّة المرأة لتولّي مناصب السلطة العامة. وثمّة اتّجاه فقهي قديم أجاز تولّي المرأة القضاء في بعض المجالات. وظهر وجود ميلٍ لدى بعضهم إلى جواز أن تتقلد المرأة القضاء بين النساء في نطاقٍ ضيِّق في بعض قضايا الأحوال الشخصية. بل وجدنا في تاريخ المسلمين عدداً من الفقهاء أجازوا لها أن تتقلّد القضاء مطلقاً في كلّ المجالات. وهذا الاتجاه التاريخي كان محدوداً ومخالفاً للرأي الرسمي السائد، بحيث عبّر عنه البعض بأنه رأيٌ شاذّ، وخارج عن الإجماع.

وهنا يكمن تميُّزه وفرادته، بحيث يتطلّب دراسةً من منظورٍ ثقافي اجتماعي سياسي؛ للتعرف على خلفياته ودواعيه، وكيف استطاع أن يخترق السلطة الفقهية والسياسية المهيمنة، ويتجاوز سياج الجماهير الحاضنة لها! والملاحظ أن أصحاب هذا الاتجاه ينتمون إلى بيئات ثقافية متعدِّدة، واتجاهات فقهية مختلفة، وكانوا في فترات تاريخية متفاوتة؛ فأحدهم من العراق، وهو أبو حنيفة(150هـ)، ويمثِّل مدرسة الرأي والقياس؛ والثاني من مصر، وهو ابن القاسم(191هـ)، ويمثِّل المذهب المالكي، غير أنه غلب عليه الرأي؛ والثالث من طبرستان من مدينة آمل، وهو أبو جعفر الطبري(310هـ)، ويمثِّل اتجاهاً فقهياً مستقلاًّ، وكان في بيئة يغلب عليها التعصُّب لبعض اتجاهات أهل الحديث؛ والرابع من الأندلس، وهو ابن حزم الظاهري(456هـ)، ويمثِّل الاتجاه الظاهري، وليس فيهم أحدٌ من الحجاز أو الشام أو المغرب العربي. إن ما يجمع أغلبهم هو الاستقلال في المنهج الاجتهادي، ممّا حرَّرهم من التقيُّد بالاتجاه السائد في ذلك.

وإذا تأمَّلنا في الاتجاهات الفقهية الثلاثة السابقة سنجد أنها بمجموعها تقترب من النظرة الثقافية المجتمعية العربية إلى طبيعة المرأة ودورها في المجتمع. إن نظرة المجتمع العربي إلى المرأة تترواح بين نظرة تقليدية محافظة، ترى أن المرأة كائن ضعيف جسمياً وعقلياً، وتقتصر وظيفتها على خدمة الزوج والأمومة؛ ونظرة متوسطة، تتّسم بالحرية النسبية، ولكنها تُبقي المرأة منسوبة إلى الرجل، وتعترف لها بحقّ العمل خارج البيت في نطاقٍ محدود؛ ونظرة ثالثة تساوي بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وإتاحة الفرص المتكافئة([79]).

إن اللافت للنظر في التوجُّهات المعاصرة وجود رأي فقهي يحاول أن يجد طريقه في التشكُّل والظهور، يذهب في اجتهاده إلى أبعد ما يمكن تصوُّره في هذا الصدد، وهو القول بأهليّة المرأة لتولّي جميع المواقع القيادية ومختلف مناصب الولاية والسلطة دون استثناء، في حال توافر الشروط العامة المطلوبة من الرجل والمرأة على حدٍّ سواء. وينفي أصحاب هذا الرأي وجود أدلّة واضحة على المنع، ويناقشون أدلّة المانعين، ويرَوْن أنّها تشتمل على ثغرات استدلالية لا يمكن التعويل عليها، بل يرجع بعضهم المنع إلى عوامل ثقافية واجتماعية وتاريخية.

والواقع أن تبنّي أحد المراجع البارزين في الحوزة النجفية في العراق لهذا الاتجاه، وهو الشيخ إسحاق الفياض، يشكِّل دعماً قوياً له من الناحية العملية، ويبعد عنه بعض الإشكاليات التي تُثار ـ في العادة ـ على الاجتهادات الجديدة، من قبيل: الخضوع لضغوط المفاهيم الثقافية الحديثة، والتأثُّر ببعض الأفكار الوافدة، وما شابه ذلك. ونأمل أن يقوم بعض الدارسين من تلامذته باستكمال البحث النظري الاستدلالي على آرائه، وطرحه للباحثين المهتمّين، الأمر الذي من شأنه أن يسهم في تحريك المياه الراكدة، ويدفع إلى مزيدٍ من الأخذ والردّ والنقد ونقد النقد وفتح باب المراجعة لمختلف الآراء والمباني الفقهية في هذا المجال، ويؤدّي إلى تطوير وتعميق البحث والتنظير في هذا الجانب المهمّ من البحث الفقهي.

وثمّة تردُّد ملحوظ لدى بعض العلماء في حسم الموقف في مثل هذه المسائل الحَرِجة من الناحية الاجتماعية والثقافية. وعلى أيّ حال فقد ميَّز بعضهم في آرائه ومتبنياته العلمية بين مقامَيْ الفتوى وبيان الرأي الفقهي النظري، فالتزم في مقام الفتوى نوعاً من الاحتياط، أو راعى دعاوى الإجماع والتسالم وما شابه، واستثقل أو لم يشأ مخالفتها، بينما أبدى رأيه العلمي الموافق لمناهج البحث المتعارفة في بحوثه العلمية النظرية.

وقد يستسهل بعض الكتّاب توصيف بعض الاتجاهات البحثية بالتأثُّر بالبيئة الاجتماعية وموروثها الثقافي ـ ولو بشكلٍ تلقائي ـ. وفي المقابل قد يندفع آخرون فيعتبرون أنّ بعض الاجتهادات المعاصرة تلوي أعناق النصوص؛ مجاراة لبعض المفاهيم الوافدة.

وكما أن الاندفاع في تبنّي الآراء المنسجمة مع التوجهات الحديثة ورفع اليد عن الأدلة والأصول البحثية السليمة أمر غير مقبول، فكذلك الحال بالنسبة إلى الجمود على المواقف الموروثة دون دليلٍ واضح، بل لمجرّد التهرُّب من توصيفات الخضوع للأفكار الوافدة، فإنه أمرٌ غير مقبول أيضاً؛ لأنه يسهم في تكريس وصف الفقه الإسلامي بالجمود وعدم مواكبة حركة التطوُّر الاجتماعي.

كما أنه يضيق ما يفترض أن يكون موسَّعاً على الناس، ممّا يوقعهم في أنواع المشقّة والحَرَج. ولكلا النهجين تداعيات وانعكاسات فاسدة. ولا تخفى أهمّية المراجعة المنهجية للاجتهادات السالفة، ومحاكمة أدلّتها ومبانيها، ونقدها بطرقٍ علمية رصينة، الأمر الذي يسهم في تطوير حركة الاجتهاد، وفي إغناء البحث الفقهي؛ لكي يواكب مستلزمات الحوادث الواقعة والتطوُّر الاجتماعي المتسارع.

وأخيراً لا بُدَّ من القول: إن التردُّد في حسم الموقف حول بعض القضايا الاجتماعية الحساسة يعتبر أمراً طبيعياً إذا نظرنا إليه في سياق تأثيرات التراكم الفقهي والثقافي والاجتماعي التاريخي. كما أنّه من الطبيعي أن تضغط التحولات العميقة التي تشهدها الحياة الاجتماعية والثقافية والفكرية على أهل الفقه ليقوموا بمراجعات علمية لبعض الآراء الفقهية الموروثة. ولقد بدا واضحاً من البحث في هذه القضية وجود اختلاف في أساليب البحث، وفي تكييف النظرة الفقهية إلى بعض الولايات والسلطات والوظائف، وفي طرائق الاستدلال. وسوف نتناول ذلك بشيءٍ من التفصيل في بحثٍ مستقلّ بمشيئة الله تعالى.

الهوامش

(*) باحثٌ في الفكر العربي الإسلامي. من سلطنة عُمَان.

([1]) عبد الحميد متولي، مبادئ نظام الحكم في الإسلام: 417، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1978م.

([2]) ابن حزم الظاهري، الفصل في الملل والأهواء والنحل 4: 110، دار المعرفة، 1970.

([3]) عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق: 110، دار المعرفة، بيروت.

([4]) أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية: 65، دار الكتب العلمية، بيروت، 1979م.

([5]) العضد القاضي الإيجي، المواقف في علم الكلام: 398، عالم الكتب، بيروت.

([6]) مصطفى السباعي، المرأة بين الفقه والقانون: 24 ـ 34، دار الورّاق، السعودية، 1999م؛ حافظ محمد أنور، ولاية المرأة في الفقه الاسلامي: 129، دار بلنسية، 1420هـ، السعودية.

([7]) جعفر السبحاني، معالم الحكومة الإسلامية: 276، دار الأضواء، بيروت، 1984م.

([8]) محمد عبد القادر أبو فارس، النظام السياسي في الإسلام: 182، مكتبة الرسالة، عَمّان.

([9]) جلال الدين السيوطي، تاريخ الخلفاء: 196، 203، المطبعة التجارية الكبرى، مصر.

([10]) محمد أبو فارس، النظام السياسي في الإسلام: 155 ـ 253.

([11]) المصدر السابق: 182؛ مصطفى السباعي، المرأة بين الشريعة والقانون: 34.

([12]) محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة 1: 30، مطبعة الآداب، النجف، الطبعة الثانية.

([13]) روح الله الخميني، الحكومة الإسلامية: 68، مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، طهران، 2004م.

([14]) روح الله الخميني، كتاب البيع 2: 615، ط1، 1421هـ، طهران.

([15]) روح الله الخميني، تحرير الوسيلة 2: 407، دار الصراط المستقيم، 1989م.

([16]) المصدر السابق 1: 5 ـ 7.

([17]) جعفر السبحاني، معالم الحكومة الإسلامية، 279؛ حسين علي المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 1: 335، الدار الإسلامية، بيروت، 1988م؛ كاظم الحائري، أساس الحكومة الإسلامية: 161، الدار الإسلامية، 1979م.

([18]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 65: 7.

([19]) ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2: 377، تحقيق: خالد العطار، دار الفكر، 1995.

([20]) حافظ أنور، ولاية المرأة في الفقه الإسلامي: 222.

([21]) ابن قدامة المقدسي، المغني 11: 380، دار الكتاب العربي.

([22]) جعفر السبحاني، نظام القضاء والشهادة في الشريعة الإسلامية الغرّاء 2: 383، موقع المؤلف في الشبكة الإلكترونية.

([23]) أبو جعفر الطوسي، المبسوط في الفقه 8: 101، تحقيق: محمد علي الكشفي، 1387هـ.

([24]) أبو جعفر الطوسي، الخلاف في الفقه 6: 213، مؤسّسة النشر الاسلامي، قم ، 1417؛ المبسوط 8: 101.

([25]) عبد العزيز بن البرّاج، المهذّب في الفقه 2: 599، مؤسّسة سيد الشهداء، 1406هـ؛ جعفر بن الحسن الحلّي، شرائع الإسلام 2: 856، مؤسّسة الوفاء، بيروت، 1983م.

([26]) محمد بن إبراهيم الكندي، بيان الشرع 28: 25، وزارة التراث، 1988؛ أبو بكر بن عبد الله بن موسى الكندي السمدي، المصنّف 13: 66، وزارة التراث، 1984؛ خميس بن سعيد بن علي الشقصي الرستاقي، منهج الطالبين وبلاغ الراغبين 5: 327، ط1، مكتبة مسقط، 2006.

([27]) أحمد بن يحيى المرتضى، شرح الأزهار 4: 310، الشبكة الإلكترونية.

([28]) سيد سابق، فقه السنّة 3: 308، دار الكتاب العربي، بيروت، 1987م؛ محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة: 21 ـ 30، مطبعة الآداب، النجف، 1977م؛ أبو القاسم الخوئي، تكملة منهاج الصالحين: 4، مطبعة الآداب، النجف، 1979م؛ روح الله الخميني، تحرير الوسيلة 2: 407.

([29]) حافظ أنور، ولاية المرأة في الفقه الاسلامي: 249.

([30]) ابن رشد، بداية المجتهد 2: 377.

([31]) حسين المنتظري، دراسات في الفقه السياسي 1: 335؛ كاظم الحائري، أساس الحكومة الإسلامية: 161؛ جعفر السبحاني، معالم الحكومة الإسلامية: 279.

([32]) أحمد عبد الله أبو زيد العاملي، محمد باقر الصدر، السيرة والمسيرة 5: 237، جواب على استفتاء في سنة 1393هـ، مؤسسة العارف للمطبوعات، بيروت، 2006م. وراجع أيضاً: الفتوى الصادرة من لجنة الفتوى بالأزهر سنة 1952م (عبد الحميد متولي، مبادئ نظام الحكم في الإسلام: 417).

([33]) أبو القاسم الخوئي، صراط النجاة 2: 370، دار المحجة البيضاء، بيروت، 1996م.

([34]) محمد باقر الصدر، السيرة والمسيرة 5: 235 ـ 237؛ مصطفى السباعي، المرأة بين الفقه والقانون: 125.

([35]) أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور: 316 ـ 317، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1983م.

([36]) يوسف القرضاوي، للمرأة تولّي الإفتاء والقضاء والرئاسة، موقع القرضاوي الإلكتروني، (31/8/2009).

([37]) محمد مهدي شمس الدين، أهلية المرأة لتولي السلطة: 47، 83، 98، المؤسّسة الدولية للدراسات والنشر، 1995م، بيروت.

([38]) محمد مهدي شمس الدين، أهلية المرأة لتولي السلطة: 84؛ محمد الغزالي، السنّة بين أهل الفقه وأهل الحديث: 49، دارالشروق، القاهرة، 1989م.

([39]) محمد مهدي شمس الدين، أهلية المرأة لتولي السلطة: 83، 89.

([40]) حسن الجواهري، أوضاع المرأة المسلمة ودورها الاجتماعي من منظور إسلامي: 150 ـ 151، مركز الأبحاث العقائدية.

([41]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 65؛ الطوسي، الخلاف 6: 213؛ ابن رشد، بداية المجتهد 2: 377؛ ابن قدامة المقدسي، المغني 11: 380.

([42]) ابن حزم، المحلّى 9: 429، دار الآفاق الجديدة، بيروت.

([43]) أبو بكر الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 7: 3، ط1، 1989م.

([44]) الحطاب الرعيني، مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 8: 65، تحقيق: زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت، 1995م.

([45]) حافظ أنور، ولاية المرأة في الفقه الاسلامي: 226.

([46]) عبد العزيز بن الحاج إبراهيم الثميني، الورد البسام في رياض الأحكام 13: 39، وزارة التراث القومي والثقافة، 1985.

([47]) حافظ أنور، ولاية المرأة في الفقه الاسلامي: 248.

([48]) أحمد بن محمد الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأديان 12: 15.

([49]) محمد مهدي الآصفي، المرأة والولاية السياسية والقضائية، مجلّة فقه أهل البيت، العدد 36: 73، سنة 2005م، بيروت.

([50]) حسين المنتظري، دراسات في الفقه السياسي 1: 351: 361؛ جعفر السبحاني، نظام القضاء والشهادة في الشريعة الإسلامية الغرّاء 1: 65.

([51]) محمد الكيلاني، شرطية الذكورة في منصب القضاء، مجلة فقه أهل البيت^، العدد 10: 97، سنة 1998م، مدينة قم ـ الجمهورية الإسلامية الإيرانية. مع ملاحظة أنّي لم أعثر عليه حَسْب بحثي في بعض الموارد في الغنائم.

([52]) الحطاب الرعيني، مواهب الجليل 8: 56.

([53]) أحمد علي موافي، ولاية المرأة القضاء في الإسلام، موقع الفقه الإسلامي، الشبكة العنكبوتية.

([54]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 65؛ ابن رشد، بداية المجتهد 2: 377.

([55]) الطوسي، الخلاف في الفقه 6: 213.

([56]) ابن قدامة المقدسي، المغني 11: 380.

([57]) ابن حزم، المحلّى 9: 229 ـ 230.

([58]) زين الدين ابن نجيم المصري، البحر الرائق 6: 433، تحقيق: زكريا عميرات، ط1، 1997م.

([59]) يوسف الصانعي، موقع الشيخ الصانعي، بتاريخ: 19/12/2011.

([60]) حسين الخشن، فقه القضاء (تقريراً لبحث السيد محمد حسين فضل الله) 1: 133، دار الملاك، بيروت، ط1، 2004م.

([61]) محمد حسين فضل الله، فقه الشريعة 1: 15: 17، دار الملاك، بيروت، 2000م.

([62]) يوسف القرضاوي، موقع القرضاوي، برامج ولقاءات، 31/8/2009.

([63]) هدى محمد حسن هلال، قراءة تحليلية نقدية في الحكم الشرعي لتولي المرأة منصب القضاء، مجلة إسلامية المعرفة، العدد 64: 34، المعهد العالمي للفكر الإسلامي.

([64]) أحمد عبد الحميد إبراهيم، الرؤية الفقهية لتولّي المرأة الوظائف القيادية ودورها في التمنية الإدارية، كتاب دور المرأة العربية في التنمية الإدارية: 68، الكتاب التوثيقي للمنتدى العربي الأول بمسقط، 2011م.

([65]) محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 153، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 2003م.

([66]) محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 20.

([67]) القرضاوي، موقع القرضاوي، برامج ولقاءات، 31/8/2009.

([68]) أحمد عبد الحميد إبراهيم، الرؤية الفقهية لتولي المرأة الوظائف القيادية: 68.

([69]) المصدر السابق: 75.

([70]) عبد الهادي الفضلي، ولاية المرأة في الإسلام، مجلة المنهاج، العدد 39: 20، سنة 2006م، لبنان.

([71]) المصدر السابق: 32.

([72]) محمد إسحاق الفياض، نموذج لمجموعة أسئلة حول موقع المرأة في النظام السياسي الإسلامي: 16، ط4، 1428هـ.

([73]) المصدر السابق: 10.

([74])المصدر السابق: 33.

([75])المصدر السابق: 30.

([76])المصدر السابق: 56.

([77]) محمد إسحاق الفياض، منهاج الصالحين 1: 8، ط1.

([78]) المصدر السابق 3: 236.

([79]) صباح حسن الزبيدي، تفعيل دور المرأة العربية والعراقية في إدارة التغيير المنشود في ظل التنمية الاجتماعية والاقتصادية وسبل النهوض بها، كتاب توثيقي لبحوث مؤتمر إدارة التغيير والإصلاح الإداري في التنمية الاقتصادية والاجتماعية: 558، دمشق، 2004م.

 

المصدر: نصوص معاصرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky