الاجتهاد: ينطلق الشيعة في عقيدتهم بوجود الإمام المهدي، رغم المدة الطويلة الفاصلة بين ولادته وظهوره، من حقائق عديدة:
منها: ما ورد عن رسول الله من أمر الأمة بالتمسك بالثقلين، كتاب الله وأهل بيت رسول الله ، في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عنه : «وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به وأهل بيتي»[1] ، وأخرج الترمذي عنه : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل البيت، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلُفوني فيهما»[2] ، وورد مثل هذا النص في معظم المصادر الحديثية، وفي هذا الحديث دلالة على استمرار وجود الإمامة في العترة النبوية، وعدم انقطاعها إلى يوم القيامة.
وقد أشار بعض علماء السنة إلى مثل هذه الدلالة يقول ابن حجر الهيتمي: ((إن الحث وقع على التمسك بالكتاب وبالسنة، وبالعلماء بهما من أهل البيت، ويستفاد من مجموع ذلك: بقاء الأمور الثلاثة إلى قيام الساعة))[3] .
ومرة أخرى يقول: ((وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت، إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة، كما أن الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض، ويشهد لذلك الخبر: «في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي»[4] .
ومن منطلقات الإيمان بوجود المهدي: ما صح عندهم من روايات أهل البيت : أن الأرض لا تخلوا من قائم لله بحجة، وقد أشار ابن حجر العسقلاني إلى هذه الحقيقة في شرحه لأحاديث البخاري، حيث قال ما نصه: «وفي صلاة عيسى خلف رجل من هذه الأمة، مع كونه في آخر الزمان، وقرب قيام الساعة، دلالة للصحيح من الأقوال: إن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة»[5] .
ومنها: الأحاديث الواردة عنه في أن الخلفاء اثنا عشر، كما جاء في صحيح البخاري عن جابر بن سمرة قال: «سمعت النبي يقول: يكون اثنا عشر أميراً كلهم من قريش»[6] ، وجاء في صحيح مسلم:« ولا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش»[7] .
والأئمة الاثنا عشر هم المصداق المناسب لهذه الأحاديث، ولا بد من استمرار وجود إمام منهم إلى يوم قيام الساعة.
من هذه المنطلقات وأمثالها يعتقد الشيعة بوجود الإمام المهدي، وأنه غائب لحكمة إلهية، وسيظهر بإذن الله تعالى، وطول حياة الإنسان ليس ممتنعاً عقلاً، وإن كان ممتنعاً عادة، إلا أنه هنا يدخل ضمن دائرة الإعجاز، كولادة نبي الله عيسى من دون أب، حيث كان وجود الأنبياء وعددهم مئة وعشرون ألف نبي، كلهم سوى آدم، وجوداً طبيعياً من أب وأم، ولكن إرادته تعالى شاءت أن يولد نبي الله عيسى من أم فقط بدون أب.
في عصر الغيبة
وإذا كانت هناك حكمة إلهية اقتضت غيبة الإمام الثاني عشر (الإمام المهدي)، حسب عقيدة الشيعة الإمامية، فما هي وظيفة أتباعه وشيعته في عصر غيبته؟
هناك بعض الروايات في المصادر الشيعية، يؤدي العمل بظاهرها إلى انسحاب الشيعة من ساحة الحياة، وغيابهم عن معادلة الواقع، وكأن غيبة الإمام تعني تجميد أحكام الإسلام، وشلّ فاعلية الأمة، وإيقاف الحركة والسعي نحو إقامة الحق والعدل.
وقد أخذ بعض علماء الشيعة بظاهر تلك النصوص والروايات، وخاصة في العصور السابقة، فقال بعضهم بلزوم السكوت أمام الظلم والجور، وعدم مشروعية العمل لبناء الاجتماع الإسلامي، وقيام حكم الإسلام، ورأى بعضهم حرمة إقامة صلاة الجمعة، وهناك رأي بتجميد توزيع الخمس وإنفاقه أثناء غيبة الإمام، ودفنه في الأرض إلى ظهور الإمام، لكن العلماء المحققين، ناقشوا تلك الروايات وكشفوا عن ضعف بعض أسانيدها، وفسروا ما كان منها صحيح السند، بما لا يؤدي إلى تعطيل قيم الإسلام وأحكامه.
يقول الشيخ المنتظري في مناقشته لأحدى تلك الروايات:
((وهل يجوز رفع اليد بسبب هذا الخبر ونظائره عن جميع الآيات والروايات وحكم العقل، الحاكمة بوجوب الدفاع عن الإسلام وشؤون المسلمين، في قبال هجوم الكفار والجائرين، وإن أمكن تحصيل القوة والقدرة لدفعهم، وفرض طول غيبة الإمام آلاف السنين؟))[8] .
ويقول الشيخ محمد رضا المظفر:
((ليس معنى انتظار هذا المصلح المنقذ (المهدي)، أن يقف المسلمون مكتوفي الأيدي فيما يعود إلى الحق من دينهم، وما يجب عليهم من نصرته، والجهاد في سبيله، والأخذ بأحكامه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بل المسلم أبداً مكلف بالعمل بما أنزل من الأحكام الشرعية، وواجب عليه السعي لمعرفتها على وجهها الصحيح، بالطرق الموصلة إليها حقيقة، وواجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ما تمكن من ذلك وبلغت إليه قدرته(كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) فلا يجوز له التأخر عن واجباته بمجرد الانتظار للمصلح المهدي والمبشر الهادي، فإن هذا لا يسقط تكليفاً، ولا يؤجل عملاً، ولا يجعل الناس هملاً كالسوائم))[9] .
الهوامش
[1] القشيري النيسابوري: مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، حديث رقم 2408. [2] الترمذي: محمد بن عيسى، سنن الترمذي، حديث رقم 3788. [3] الهيتمي: ابن حجر، الصواعق المحرقة ج2 ص439، الطبعة الأولى 1997م، مؤسسة الرسالة، بيروت. [4] المصدر السابق ص442. [5] العسقلاني: ابن حجر، فتح الباري ج6 ص603، الطبعة الأولى 1997م، دار السلام ـ الرياض، دار الفيحاء ـ دمشق. [6] البخاري: محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، حديث رقم 7222. [7] القشيري النيسابوري: مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، حديث رقم 1822. [8] المنتظري: الشيخ حسين علي، دراسات في ولاية الفقيه، ج1 ص232، الطبعة الثانية 1988م، الدار الإسلامية ـ بيروت. [9] المظفر: محمد رضا، عقائد الإمامية ص79-80.
المصدر: موقع سماحة الشيخ حسن الصفار