الاجتهاد: إنّ الاستحضار الحي لمشهد واقعة الغدير يؤدّي إلى الانتباه إلى طبيعة دلالات هذه الواقعة وحجم تأكّدها ووضوحها في إبراز مكانة الإمام أمير المؤمنين (ع) بعد النبي (ص) لجماهير المسلمين.
وقد روي بألفاظ مختلفة، منها: ما أخرجه جماعة منهم الطبراني بإسناد صحيح عن زيد بن أرقم قال: ((خطب رسول الله (ص) بغدير خمّ تحت شجرات، فقال: أيّها الناس، يوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسؤولٌ وإنّكم مسؤولون، فماذا انتم قائلون؟
قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت وجاهدت ونصحت، فجزاك الله خيراً.
فقال: ألا تشهدون أن لا اله الا الله، وأن محمّداً رسول الله (ص)، وأن جنّته حقّ، وأنّ ناره حقّ، وأنّ الموت حقّ، وأنّ البعث حقّ بعد الموت، وأنّ الساعة آتية لاريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور؟.
فقالوا: بلى، نشهد بذلك.
قال اللهم اشهد.
ثم قال : أيّها الناس، إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى من أنفسهم. فمن كنت مولاه فهذا مولاه ــ يعني علياً ــ، اللهم والِ من ولاه، وعاد من عاداه)).
إنني أعتقد أنّ التأمّل الصادق من جمهور المسلمين لهذه الواقعة كما لو كانوا قد حضروها في حينه كافٍ في الانتباه لمداليلها ومفهوم الخطبة النبوية فيها.
ولكن الذي سلب دلالتها ودلالة النص الملقى فيها هو ما لحقها من الأحداث الذي مثل غياب أمير المؤمنين (ع) عن مشهد الحكم، بل عن مشهد تعيين الحاكم في السقيفة، حيث إن أهل الحل والعقد من الصحابة ــ كما يعبّر عنهم ــ قد بتوّا بأمر تعيين الخليفة في السقيفة من دون إطلاعه ولا إخباره، وقد نقل الجميع عنه أنّه عاتبهم على ذلك، وامتنع من البيعة إلى عدة أشهر.
وقد يسلب دلالة الوقائع والنصوص التاريخية -حتى اذا كانت واضحة وصريحة – عدم ترتيب الأثر الملائم لها في مسرح الأحداث خارجاً في حينه، فتحجم دلالاتها بما يلائم ما اتفق من الأحداث لاحقاً.
هذه ظاهرة وقعت كثيراً في شأن النصوص المأثورة في شأن أهل البيت (ع) مثل حديث الثقلين ـ والذي روي في ضمن خطبة الغدير أيضاً ــ، حيث نزّله مدرسة الخلفاء إلى مستوى (محبّة أهل البيت)، بينما يفيد الحديث بوضوح ــ من خلال قرنهم بالكتاب ــ أنهم عصمة من الضلالة، وهو ما يقتضي وجود أفراد محدودين يكونون بهذه الصفة؛ إذ من غير المعقول ضمان صلاح وعلم وهدى عشيرة بكاملها على امتداد الأزمان!!، لكن لم يكن الموقع الذي أُحلّ فيه (أهل البيت) بعد النبي (ص) ملائماً لهذا المعنى، فنزّله الجمهور على مستوى المحبة لعترة النبي (ص).
لقد أدى تغييب أهل البيت (ع) عن الموقع الملائم من التميز العلمي والمعنوي والتسديد الالهي والسياسي إلى ظاهرة محسوسة بسهولة ويسر، وهو إهمال النصوص المتعلّقة بهم، وقلة طرقها، وتقطيعها، وتخفيف صياغاتها، كما أدّى إلى تأويل مداليلها وتوجيه مفاهيمها بما يلائم سير الوقائع بعد النبي (ص)، على أساس اعتبار ما وقع هو الأصل المحكم الذي ينبغي أن تعرض عليه الأحاديث.
لكن مع ذلك شاء الله سبحانه أن تبقى جملة من تلك الوقائع والنصوص محفوظة لعوامل، من أهمها:
١- إحيائها من قبل أهل البيت (ع)؛ كما فعل ذلك أمير المؤمنين في خطبه المجموعة في نهج البلاغة، ومثل ذلك فعل ذريته (ع) إذ رووا هذه النصوص وأكدوا عليها.
٢- وقوع بعضها في وقائع تاريخيّة جماهيريّة كحادثة الغدير، فكانت جزءً مشهوداً من سيرة النبي (ص)، وإن تعسّف بعض أصحاب السير كابن هشام في السيرة النبوية في حذفها.
٣- وجود روح الإنصاف في فريق من أهل العلم من الجمهور أبوا معه أن ينفوا أصل هـذه الحادثـة أو يشككوا فيها؛ لأنهم وجدوه إنـكاراً غـير مـقبول للثرات التاريخي والحديثي المحفوظ عن السيرة النبوية، وخروجاً صارخاً عن الموازين العلمية في رواية الأحاديث وتوثيقها. على أنّهم صرفوها عن مفادها مضطرّين؛ كي لا تمسّ شرعيّة الخلافة على كلّ حال.
٤- إنّ نصب الأمويين العداء لأهل البيت (ع) مبكراً ــ من خلال سبهم، وتكفيرهم، وسعيهم إلى إكراه الصحابة على ذلك ــ أدّى إلى ردّ فعلٍ من بعض الصحابة لاحقاً، كما نلاحظ ذلك فيما روي عن سعد بن أبي وقاص في شأن فضائل أمير المؤمنين (ع)، كما رواه مسلم في الصحيح.