الاجتهاد: من العجيب أننا لم نسمع لـ“الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء السعودية” صوتا في أزمة الرسوم المسيئة لنبي الإسلام الذي ولد في هذه البلاد وعاش وتوفي، ودفن في مدينتها المنورة، ولا في موجة التطبيع التي توالت عليها عدد من الدول العربية ولا الانتهاكات الصارخة التي يمارسها العدو المحتل بحق أهل فلسطين التي قامت منظمة المؤتمر الإسلامي من أجلها، فضلا عن التصرفات والقرارات التي اتخذها ولي العهد، من اعتقال للعلماء والسماح للمطربات والراقصات والملاهي.
في ضوء النتائج الأولية للانتخابات الرئاسية الأمريكية بفوز جو بايدن صار من المحتمل أن يتم الإفراج عن العلماء المعتقلين في سجون آل سعود، ومن هنا صدر بيان الهيئة بتاريخ 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020م لوصف جماعة الإخوان المسلمين بأنها جماعة إرهابية، ومنهجها مخالف للدين، وتدعو للخروج على ولاة الأمر.. إلى آخر هذه الأوصاف التي هي أقرب للأوصاف الأمنية المخابراتية منها للأوصاف العلمية المستندة على وقائع وأدلة خلا منها هذا البيان الأمني المرسل.
مواقف علماء الهيئة قديما
وبالرجوع إلى تاريخ هيئة كبار العلماء السّعودية وعلمائها، ابتداء من الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم وانتهاء بالمشايخ الكبار أمثال العلامة عبد العزيز بن باز والعلامة الفقيه محمد الصالح بن عثيمين، نجد أن مواقف الشيخ محمد بن إبراهيم كانت قوية صلبة تتأبى على الخضوع لأي سلطان كان. وكانت السلطة تخشى من هذا الشيخ الحر وتحسب لتصرفاتها حسابا أو أن تصدر عنها تصرفات أو قرارات تخالف الشرع الشريف، فإن الشيخ محمد بن إبراهيم سيكون على الهيئة يطير إليها.
ومواقف ابن باز وابن عثيمين من الجماعات الدعوية كانت مواقف وفتاوى منصفة، بين التقديس والتبخيس، وفتاواهما في ذلك مشهورة منشورة، تثني على ما فيها من خير وأنها جماعات عاملة للإسلام، والمنهج الصحيح في التعامل معها والانتماء إليها هو التعاون على البر والتقوى، واجتناب ما خالف الشرع الحنيف، وكذلك كانت اللجنة الدائمة للإفتاء والبحوث.
وقد صدرت فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء جاء فيها ما نصه: “أقرب الجماعات الإسلامية إلى الحق وأحرصها على تطبيقه: أهل السنة، وهم أهل الحديث وجماعة أنصار السنة ثم الإخوان المسلمون، وبالجملة فكل فرقة من هؤلاء فيها خطأ وصواب، فعليك بالتعاون معها فيما عندها من الصواب واجتناب ما وقعت فيه من أخطاء مع التناصح والتعاون على البر والتقوى” (فتاوى اللجنة: المجلد 34، الصفحة 91. الفتوى صدرت باسم المشايخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، عبد الرزاق عفيفي، عبد الله بن قعود، عبد الله بن غديان رحمهم الله جميعا).
ويقول الشيخ ابن باز رحمه الله: “عليه أن يدور مع الحق حيث دار، إِن كان الحق مع الإِخوان المسلمين أخذ به، وإِن كان مع أنصار السنة أخذ به، وإِن كان مع غيرهم أخذ به، يدور مع الحق، يعين الجماعات الأخرى في الحق” (فتاوى ابن باز المجلد 8، الصفحة 238- 237).
وعن الانتساب إلى الإخوان المسلمين: قال الشيخ ابن باز رحمه الله: “وإِذا انتسب إِلى أنصار السنة وساعدهم في الحق، أو إِلى الإِخوان المسلمين ووافقهم على الحق من دون غلو ولا تفريط فلا بأس، أما أن يلزم قولهم ولا يحيد عنه فهذا لا يجوز” (فتاوى ابن باز، المجلد 8، الصفحة 238-237).
ويقول الشيخ ابن جبرين رحمه الله: “ولكن إذا كانوا يدينون كلهم بالإسلام، ويعتقدون مُعتقد السلف، وإنما اختلفوا في الفروع، كالمذاهب الأربعة، واختلفوا في مناهج الدعوة، أو اختلفوا في الأسماء مع اتفاقهم في المُسمى، كالإخوان المسلمين وأهل التوحيد والسلفيين وأهل التبليغ من أهل السُنة، فلا بأس بهذه الأسماء” (موقع الشيخ ابن جبرين، فتوى رقم 8326).
هيئة كبار العلماء السعودية في عهد ولي العهد ابن سلمان
إذا ما غادرْنا هذه الفترة من حياة الهيئة ووصلنا على عصرنا في ظل ولاية العهد للأمير محمد بن سلمان، وسياساته الجديدة التي ظهر بها فجأة، وأحدث تغييرات جذرية في المجتمع من الناحية الدينية؛ حيث ألغى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفتح الباب للمراقص والملاهي والمطربات، وزج بعشرات العلماء الربانيين في السجون والمعتقلات مع تلفيق تهم لهم، وإقامة محاكمات ظالمة، وسار في هذا الركاب عدد ممن يحسبون على المؤسسة الدينية أمثال عبد الرحمن السديس وصالح المغامسي، وهيئة كبار العلماء، أو بالأحرى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء.
فقد دأبت الأمانة العامة على إصدار بيانات تكيل الاتهامات لمن تريد بلا حجج ولا وقائع، وإنما هكذا اتهامات مرسلة مع التقديم بعدد من الآيات حول ولي الأمر وترفعه إلى مكانة العصمة والتقديس؛ فضلا عن استخدام منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول بيت وضع للناس وتسخيره لتأييد هذه السياسات الجديدة بشكل صارخ؛ لم يكن موجودا بهذا المستوى المتردي والمنصهر تمام الانصهار مع توجه السلطة، بحيث أصبحت السلطة المصدر الرئيسي للتشريع الذي لا يجوز أن يقدم أحد شيئا بين يديها ولا من خلفها، ولا أن يراجعها أحد، فضلا عن أن يخالفها أو يعارضها أو يخطئها.
ومن العجيب أننا لم نسمع لهذه “الأمانة” صوتا في أزمة الرسوم المسيئة لنبي الإسلام الذي ولد في هذه البلاد وعاش وتوفي، ودفن في مدينتها المنورة، ولا في موجة التطبيع التي توالت عليها عدد من الدول العربية ولا الانتهاكات الصارخة التي يمارسها العدو المحتل بحق أهل فلسطين التي قامت منظمة المؤتمر الإسلامي من أجلها، فضلا عن التصرفات والقرارات التي اتخذها ولي العهد، من اعتقال للعلماء والسماح للمطربات والراقصات والملاهي.
إن وظيفة العلماء – كما هي صورتهم ووظيفتهم في القرآن والسنة، وكما مارسها العلماء الأحرار الربانيون على مر العصور – أن يصدروا عن الشرع الشريف لا عن السلطة، وأن يقوموا بالقسط، ويقولوا الصدق، ولا يخشون في الله لومة لائم، لا أن يخضعوا للسلطة ويسوغوا أفعالها ويظاهروها على آثامها وكبائرها، وهو ما تفعله هيئة كبار العلماء في بلاد الحرمين اليوم بما لم تبلغ في زمنٍ من الأزمنة تلك الفجاجة، تحت مسمى “الأمانة العامة” التي تصدر عن الجهات الأمنية لا عن الشرع، في غيبة وصمت وخوف من بقية أعضائها الذين سيسألهم الله تعالى عن مواقفهم، وهو ما يشوه صورة الإسلام وعلمائه في مهبط الوحي الشريف.
هيئة كبار العلماء السعودية
(المصدر: عربي21) بتصرف