بقيع-الغرقد هدم قبور البقيع

هدم قبور البقيع برواية الدكتور على الوردي

الاجتهاد: كان البقيع مقبرة المدينة في عهد النبي وما بعده، ولهذا دفن فيه العباس عم النبي، والخليفة عثمان، وزوجات النبي، والكثير من الصحابة والتابعين، كما دفن فيه أربعة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هم: الحسن بن علي، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد،

وقد صنع الشيعة لقبور هؤلاء الاربعة ضريحاً باهراً يشبه الاضرحة المعروفة في العراق وايران، لكن على نطاق أصغر. واعتاد الشيعة أن يزوروا هذا الضريح فيقبلونه ويتبركون به ويصلون عنده على نحو ما يفعلون في أضرحة العراق وایران.

ظلت هذه القبور سليمة في العهد السعودي اكثر من أربعة أشهر دون أن يمسها أحد بسوء، وقد بدأ التذمر ينتشر بين الاخوان من جراء ذلك، وصاروا ينتقدون ابن سعود ويتهمونه بالتساهل في تنفيذ أوامر الله (1).

فاضطر ابن سعود في أواسط نيسان ١٩٢٦ الى ارسال كبير علماء نجد الشيخ عبدالله بن بليهد الى المدينة للعمل على هدم القبور .

وعندما وصل ابن بليهد إلى المدينة اجتمع بعلمائها ووجه اليهم الاستفتاء التالي:

“ما قول علماء المدينة زادهم الله فهماً وعلماً في البناء على القبور واتخاذها مساجد، هل هو جائز أم لا؟ واذا كان غير جائز بل ممنوع منهي عنه نهياً شديداً، فهل يجب هدمها ومنع الصلاة عندها أم لا؟ وإذا كان البناء في مسبلة كالبقيع وهو مانع من الانتفاع بالمقدار المبني عليها، فهل هو غصب يجب رفعه لما فيه من ظلم المستحقين ومنعهم استحقاقهم أم لا؟ وما يفعله الجهال عند هذه الضرائح من التمسيح بها ودعائها مع الله والتقرب بالذبح والنذر لها وايقاد السرج عليها، هل هو جائز أم لا ؟ وما يفعل عند حجرة النبي (ص) من التوجه إليها عند الدعاء وغيره والطواف بها وتقبيلها والتمسح بها، وكذلك ما يفعل في المسجد من الترحيم والتذكير بين الأذان والاقامة وقبل الفجر ويوم الجمعة، هل هو مشروع أم لا؟ أفتونا مأجورين وبينوا لنا الادلة المستند إليها لا زلتم ملجأ للمستفيدين”.

وافق سبعة عشر رجلاً من الحاضرين على وجوب هدم القبور، وكتبوا في ذلك فتواهم ووقعوا عليها. وهذا هو نص الفتوى:

“أما البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً لصحة الاحاديث الواردة في منعه، ولهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه مستندين على ذلك بحديث عليّ أنه قال لأبي الهياج: “ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله (ص) أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته”. رواه مسلم.

وأما اتخاذ القبور مساجد والصلاة فيها وايقاد السرج عليها فممنوع لحديث ابن عباس : “لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج”، رواه أهل السنن.

وأما ما يفعله الجهال عند الضرائح من التمسح بها والتقرب اليها بالذبائح والنذور ودعاء أهلها مع الله فهو حرام ممنوع شرعاً لا يجوز فعله أصلاً .

وأما التوجه الى حجرة النبي (ص) عند الدعاء فالأولى منعه كما هو معروف من معتبرات كتب المذهب ولأن أفضل الجهات جهة القبلة.

واما الطواف والتمسح بها وتقبيلها فهو ممنوع مطلقاً. وأما ما يُفعل من التذكير والترحيم والتسليم في الاوقات المذكورة فهو محدث. هذا ما وصل اليه علمنا” (2).

وعلى أثر صدور هذه الفتوى شُرع بهدم قبور البقيع. فأحدث هدمها ضجة في أقطار العالم الاسلامي. وكانت الضجة في الاقطار الشيعية أشد مما في غيرها طبعاً.

صدى الحادث في العراق:

وصلت الى أحد علماء الشيعة في العراق رسالة من رجل شيعي كان في المدينة عند هدم القبور، وهي مؤرخة في ٨ شوال ١٣٤٤ هـ، الموافق ليوم ۲۱ نیسان ١٩٢٦ ، كان هذا نصها:

“أعرض لكم ان جميع البلاد الحجازيه مقهورة تحت سيطرة ابن سعود وحكمه المطلق فيها، ولايوجد في هذه البلاد من أقصاها إلى أدناها فرد واحد سواء من سكان المدن او البوادي يسعه أن يقف دون أوامره وارادته النافذة. ومنذ أيام ورد المدينة قاضي قضاة الوهابين – يقصد الشيخ عبدالله بن بليهد – وبينما كان مجلسه خاصاً بعلمائها صرح أمامهم بتحريم زيارة القبور وانها بدعة في الدين وشرك بالله وأنه يلزم تحصيل الاتفاق من جميع علماء المذاهب الأربعة على تخريبها تماماً ومحو آخر أثر من آثارها على وجه الأرض.

ونظراً لذلك فقد منعت زيارة جميع المراقد المطهرة وأغلقت أبوابها. ومند عشرين يوماً لم نجرأ على قصد هذه المشاهد المشرفة وزيارتها، اذ أن جنود الوهابيين (الاخوان) قـد رصدوا الحرم المظهر النبوي ومنعوا أي زائر من التشرف بزيارة سيدة نساء العالمين عليها السلام ومن التقرب الى ضريح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثم ان قاضي قضاة الوهابيين لم يتمكن من تحصيل الاتفاق المطلوب من علماء المدينة الا بعد أيام اذ استعمل معهم الوسائل الأخرى المخوفة من القوة، والبعض الآخر وافق ابتداءاً، فحكموا جميعا طبق رغبته بتحريم زيارة القبور مطلقاً والتمسح بها الى الله والاستشفاع بنها اليه وتلاوة الزيارة فيها.

ثم صدر الأمر بهدم وتخريب المراقد الشريفة، فشرع الجند أولاً بنهب جميع ما تحتويه تلك البنايات المقدسة في البقيع من الفرش والستائر والمعلقات والسرج وغير ذلك. ثم بدأوا يخربون تلك المشاهد المقدسة وفرضوا على جميع بنائي المدينة الاشتراك في التخريب والتهديم.

والغرض الآن أن يقف على خبر هذه الفاجعة جميع المؤمنين الذين يأملون بواسطة هؤلاء الأئمة الطاهرين الشفاعة والزلفى {المنزلة} من الله تعالى، ويشتركوا جميعاً سواء العربي والفارسي والهندي والتركي، فيضج كل منهم الى حكومته للتدخل في رفع هذه الغائلة العظمى وتدارك ما وقع. اليوم وهو نامن شوال وقع التخريب والهدم في القبة المقدسة في البقيع، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم. يلزم عليكم أن تبادروا الى اخبار علماء العراق جميعاً بهذه الحادثة الفجيعة” (3).

وفي الوقت نفسه بدأت البرقيات ترد تباعاً الى علماء الشيعة في العراق، ننقل فيما يلي البرقية التي وصلت الى السيد حسن الصدر في الكاظمية وهي: “عظم الله أجوركم في مصيبة الرسول وأهل بيته. الوهابيون خربوا القبور المقدسة”.

قرر علماء الشيعة على أثر تلقيهم هذه الاخبار اعلان الحزن واظهار الحداد وترك التدريس واقامة صلاة الجماعة. وعقد في صحن الكاظمية اجتماع حضره جمهور كبير من الناس، وتليت فيه البرقيات والرسائل الواردة في هذا الشأن، كما نظمت البرقيات التي تقرر ارسالها الى ملوك وعلماء العالم الاسلامي في أقطارهم المختلفة. وجرى مثل ذلك في كربلا والنجف.

ننقل فيما يلي نص البرقية التي أبرقها علماء النجف الى رضا شاه في طهران:
“حسب الأنباء الموثوقة ان الوهابية بعد نهبهم حرم أئمة البقيع البقيع حكم قاضي القضاة بهدم وتخريب البقيع الشريف بما فيه من القباب والضرائح المقدسة. وقد بوشر بالعمل في الثامن من شوال. ومن المتيقن ان حفظ نواميس الدين الاسلامي بوجه عام والمذهب الجعفري على الاخص في ذمة الملك الجعفري. وآمال العموم معقودة ومقصورة على غيرة وحمية جلالتكم. ونحن منتظرون بفارغ الصبر قيامكم باكبر الواجبات في أسرع وقت ان شاء الله (4).

وأخذت الجرائد العراقية تنشر المقالات في التنديد بابن سعود وشجب أعماله. فقد كتبت جريدة “العراق”، في مقالة افتتاحية لها تقول: « قضي الأمر وأصدر ابن بليهد الفتوى المعلومة فقام باكبر خدمة لسيده ابن سعود ولم يعلم بأن مسعاه كان سهماً أصاب كبد العالم الاسلامي فآلمه أيما ألم ، (5).

كما نشرت مقالة أخرى بقلم اسماعيل آل ياسين من الكاظمية عنوانها « الطاغية الكبرى والاماكن المقدسة في الحجاز” ، ورد فيها ما نصه: ايها المسلمون ما هذا السبات وما هذا الجمود الذي أدى بكم الى السكون والى عدم الاكتراث بهذه القضايا المؤلمة والادوار المخزية التي يمثلها ذلك الطاغية في البلاد المقدسة ….(6).

وفي ٤ حزيران ١٩٢٦ نشرت جريدة «العراق» حديثاً جرى بين أحد محرريها والسيد محمود الكيلاني نقيب أشراف بغداد أعلن فيه السيد محمود انتقاده لما قام به الوهابيون من هدم قبور البقيع، وذكر أن بناء القبب على القبور ليس مخالفاً للسنة النبوية لأن النبي نفسه دفن في حجرة عائشة وهي حجرة ذات جدران وسقف كالقبة. وذكر أيضاً أن تقبيل الأضرحة هو من باب تقبيل المحبوب وهو أمر غير ممنوع في الاسلام.

ونشرت “العراق” بعدئذ ثلاثة أبيات من الشعر طالبة من الشعراء تشطيرها وتخميسها، وهي:

لعمري ان فاجعة البقيع
يشيب لهولهـا فـود الرضيع

وسوف تكون فاتحة الرزايا
اذا لم نصح من هذا الهجوع

فهل من مسلم لله يرعى
حقوق نبيه الهادي الشفيع

وقد شارك في تشطير هذه الابيات وتخميسها عدد من الشعراء كان من بينهم مصطفى جواد واسماعيل آل ياسين وكمال نصرت وعبدالمهدي الازري ومسلم متفجع من الكاظمية (7).

حل شهر محرم عامذاك في ١٢ تموز، فكانت خطب مجالس التعزية ونوحيات المواكب الحسينية تدور في معظمها حول “فاجعه”، البقيع، و تناشد الامام الغائب للظهور للانتقام من ابن سعود.

ومن الجدير بالذكر أن يوم ٨ شوال – وهو اليوم الذي هدمت فيه قبور البقيع – أصبح يوم حداد في السنوات التالية في النجف وكربلا حيث تغلق فيه الاسواق وتخرج مواكب اللطم، على نحو ما اعتادوا عليه في وفيات الأئمة. ويقال ان أهل كربلا ظلوا مستمرين على ذلك بضع سنوات، وقد أطلقوا على الثامن من شوال اسم “وفاة البقيع”.

ما زال الشيعة حتى الآن يأملون أن تسنح لهم الفرصة لكي يعيدوا بناء قبور البقيع. ولو أتيحت لهم الفرصة لبنوها خيراً مما كانت أضعافاً.

حدثني أحد الثقات ان شيعة البهرة في الهند جمعوا الاموال الوفيرة ووضعوا التصاميم لاعادة بناء القبور. وأذكر أني عند زيارتي لجامع الشيعة الاثنى عشرية في كراجي عام ۱۹۵۸ شاهدت فيه ضريحاً ذهبياً ثميناً. وحين سألت عنه قيل لي انه ضريح قبور البقيع، وقد صنع من تبرعات الشيعة في باكستان والهند بانتظار السماح له بنقله الى المدينة عندما تتاح الفرصة. ولست أدري متى سوف تتاح هذه الفرصة؟

 

الهوامش

(1) دائرة الوثائق العامة في لندن – رقم ) أف ، أو ٠ ٣٧١-١١٤٤٢ ) .
(2) محسن الأمين ( كشف الارتياب ) ـ ط ٣ ــ ص ٣٥٩ – ٣٦٠.
(3) جريدة ( العراق) – في عددها الصادر في ٢٥ أيار ١٩٢٦
(4) مجلة ( المرشد) – في عددها الصادر في حزيران ١٩٢٦.
(5) جريدة ( العراق ) – في عددها الصادر في ٢٧ أيار ١٩٢٦
(6) جريدة ( العراق ) – في عددها الصادر في ٢٩ أيار ١٩٢٦
(7) جريدة ( العراق ) – في عددها الصادر في ٢ ايلول ١٩٢٦ ، وعددها الصادر في ١٦ ايلول ١٩٢٦

 

المصدر: كتاب لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث – للدكتور على الوردي-المجلد 6

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky