الاجتهاد: يكتسب العمل الإنساني أهميته في التأثير والتغيير، في مسار حركة التاريخ الإنساني؛ عندما يتخذ طابعًا اجتماعيًا يتجاوز حدود الشخصية العاملة.
وبعبارة أخرى: عندما تكون أرضية العمل، المجتمع لا الفرد؛ فإنّ العمل، في هذه الحالة، يحمل صفة العمل الهادف!
هذا أولًا؛ وثانيًا: ليس بالضرورة أن يكون العمل هادفًا، وتكون له تلك الآثار في مجرى وحركة التاريخ؛ هو أن يكون عَمَلًا صالحًا!
فحتى العمل الطالح له نفس ذلك الدور التاريخي والتغييري في حركة التاريخ؛ حينما يتخذ من المجتمع أرضية له!
والسؤال الذي يطرح نفسه، في المقام، هو: كيف يمكننا أن نعتبر بين قوسين:
«ثورة ونهضة الإمام الحسين، وكذلك «يوم أربعين» الإمام الحسين – صلوات الله وسلامه عليه – عَمَلين تاريخيين هادفين، يحملان ذلك الدور التاريخي الخطير في مجرى وحركة التاريخ؟!
الجواب على هذين السؤالين الخطيرين؛ يستلزم بيان عدة محاور كالتالي:
المحور الأول: ما هو العمل التاريخي؟!
يقول الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر:
”ليس كل عمل له غاية، فهو عمل تاريخي، هو عمل تجري عليه سنن التاريخ، بل يوجد بعد ثالث لابد أن يتوفر لهذا العمل؛ لكي يكون عَمَلًا تاريخيًا، أي عَمَلًا تحكمه سنن التاريخ.“
وللتوضيح يرى السيد الصدر أن ”البعد الأول كان هو“ السبب ”والبعد الثاني: كان هو الغاية“ الهدف ”، [ولكن، كما يقول السيد الصدر]، لابد من بعد ثالث؛ لكي يكون هذا العمل داخلًا في نطاق سنن التاريخ، هذا البعد هو“ أن يكون لهذا العمل أرضية تتجاوز ذات العامل، أن تكون أرضية العمل عبارة عن المجتمع”
وزيادة في التوضيح – العمل الهادف – هو العمل الذي يخلق موجاً، هذا الموج يتعدى الفاعل نفسه، وتكون أرضيته الجماعة التي يكون هذا الفرد جزءاً منها.. “
المحور الثاني: اختلاف أمواج العمل:
يقول الشهيد الصدر: ”طبعاً الأمواج على اختلاف درجاتها، هناك موج محدود [كما ستأتي الأمثلة]، هناك موج كبير.. لكنّ العمل لا يكون عَمَلًا تاريخيًا، عَمَلًا هادفًا، إلاّ إذا كان الموج يتعدى حدود العامل الفردي.“
فما هو الفرق بين العمل الشخصي ”غير التاريخي“ والعمل الهادف التاريخي؟!
للإجابة على هذا السؤال يطرح السيد الصدر الأمثلة التالية:
أولًا: أمثلة للعمل الشخصي:
يقول الشهيد الصدر: ”قد يأكل الفرد إذا جاع، قد يشرب إذا عطش، قد ينام إذا أحسّ بحاجته إلى النوم، لكن هذه الأعمال – على الرغم من أنها أعمال هادفة أيضاً – تريد أن تحقق غايات، ولكنها أعمال لا يمتدّ موجها أكثر من العامل الفردي.“
ثانيًا: أمثلة للعمل الهادف التاريخي:
يقول السيد الصدر: ”خلافًا لعمل يقوم به الإنسان، من خلال نشاط اجتماعي، وعلاقات متبادلة مع أفراد جماعته، وهذه تمثل خصائص مميزة للعمل الهادف أو قل للعمل الاجتماعي الهادف.“
وإليك بعض الأمثلة على ذلك، كما يطرحها السيد الصدر كالتالي:
«أ»: ”التاجر حينما يعمل عملاً تجارياً.“
«ب»: ”القائد حينما يعمل عملاً حربياً.“
«ت»: ”السياسي حينما يمارس عملاً سياسياً.“
«ث»: ”المفكر حينما يتبنى وجهة نظر في الكون والحياة.“
أقول: كتاب ”فلسفتنا“ للشهيد الصدر مثال على ذلك. «ث»
وغيرها من الأمثلة.
”هذه الأعمال [كما يرى السيد الصدر]، لها موج يتعدى شخص العامل، هذا الموج يتخذ من المجتمع أرضية له، في حالة من هذا القبيل يعتبر هذا العمل عملًا تاريخيًا، عَمَلًا للأمة وللمجتمع، وإن كان الفاعل المباشر في جملة من الأحيان لا يكون إلاّ فردًا واحدًا، أو عددًا من الأفراد – وهذه ملاحظة وخاصية مهمة في العمل الهادف -، ولكن؛ باعتبار الموج، يعتبر عمل المجتمع.“
”إذن؛ العمل التاريخي الذي تحكمه سنن التاريخ [كما يرى السيد الصدر]، هو العمل الهادف الذي يكون حاملًا لعلاقة مع هدف وغاية، ويكون، في الوقت نفسه، ذا أرضية أوسع من حدود الفرد، وذا موج يتخذ من المجتمع علة مادية له، وبهذا يكون عمل المجتمع.“
المحور الثالث: وظيفة العمل الهادف:
يقول السيد الصدر:
”ليس كل عمل هادف يكون صالحًا!“.
ويوضح ذلك قائلًا: ”ينبغي معرفة أن العلاقة التي يتميز بها العمل التاريخي؛ الذي تحكمه سنن التاريخ، هو أنه عمل هادف، عمل يرتبط بعلة غائية، سواء كانت هذه الغاية صالحة أو طالحة، نظيفة أو غير نظيفة – وهذه خاصية أخرى للعمل الهادف – على أي حال نعتبر هذا“ عَمَلًا هادفًا”، نشاطًا تاريخيًا، هذا الأساس، وهذه الغايات، يرتبط بها العمل الهادف المسؤول..
هذه الغايات؛ حيث أنها مستقبلية، بالنسبة للعمل، هي تؤثر من خلال ”وجودها الذهني“ في العامل لا محالة؛ لأنها بوجودها الخارجي، وجودها الواقعي طموح، وتطلّع إلى المستقبل، ليست موجودة وجودًا حقيقياً،
وإنما من خلال وجودها الذهني في الفاعل، وتكون عاملًا في تحريك هذا النشاط، وفي بلورة هذا النشاط، من خلال الوجود الذهني، أي من خلال ”الفكر“ الذي يتمثل فيه الوجود الذهني للغاية؛ ضمن شروط ومواصفات، حينئذ يؤثر في إيجاد هذا النشاط “
المحور الرابع: علاقة الفكر بالعمل الهادف:
وذلك على أساس أنّ ”الفكر [كما يقول الشيخ شمس الدين] في المفهوم الحضاري هو: المعلومات والشرائع، والمناهج والقيم، التي تمثل وتقّوم شخصية الأمة الثقافية والحضارية، وتعطيها سمتها المميّزة لها عن الأمم الأخرى، ويرسم لها دورها في «حركة التاريخ»“.
ويوضح الشيخ محمد مهدي شمس الدين هذا الكلام قائلًا:
” إنّ هذه المعلومات والشرائع والمناهج والقيم؛ تشكل عقل الأمة وروحها وضميرها.
وهي تنظر إلى الكون والحياة والإنسان والأمم الأخرى؛ من خلال هذه المعلومات والشرائع والمناهج والقيم، وتواجه مشاكلها ومسائل حياتها على ضوء الحلول والمواقف التي يحميها هذا ”الفكر“.
كما أنّ ”إنتاجها العقلي النظري [كما يقول شمس الدين] كله يكون مطبوعًا بطابع هذا الفكر، ومحتويًا روحه، ومستهديًا بالنور الذي يشعه..“
ولتوضيح هذا الكلام، يضرب الشيخ «شمس الدين» هذا المثال قائلًا:
”مثلاً: الماركسية هي“ فكر” العالم الشيوعي؛ فهي تشكل عقل شعوبه وروحها وضميرها، وهي تميّز هذه الشعوب عن العالم الرأسمالي، بالسمّات التي تطبع بها طريقة الحياة لدى هذه الشعوب.
كما أنّ النتاج الثقافي النظري لهذه الشعوب مرسوم بالطابع الخاص للماركسية، بل لقد طمح المنظرون السوفيات إلى طبع النظريات العلمية التي تفسّر بها المادة؛ بالطابع الخاص للماركسية.. “.
”إذن الشيء الذي نستخلصه – ممّا تقدم – [كما يرى السيد الصدر هو] أنّ موضوع السنن التاريخية هو“ العمل الهادف ”الذي يشكل أرضية، ويتخذ من المجتمع أو الأمة أرضية له، على اختلاف سعة الموجة وضيق الموجة.“
ويمكننا تلخيص خصائص «العمل التاريخي الهادف» في النقاط التالية:
1 – نشاط اجتماعي، زائدًا علاقات متبادلة، يقوم بها الفرد مع أفراد جماعته.
2 – هو العمل الذي يخلق «يحدث» موجاً يتعدى الفرد «الفاعل» نفسه.
3 – العمل الهادف، أرضيته الجماعة «المجتمع» الذي يكون الفرد واحداً منه.
4 – العمل الهادف يساوي العمل الاجتماعي الهادف.
5 – العمل الهادف عمل تاريخي، عمل يُقدّم للأمة «للمجتمع».
6 – الفاعل المباشر في العمل الهادف قد يكون فرداً أو جماعة من الأفراد.
7 – العمل الهادف عمل يحمل علاقة مع هدف وغاية ويكون موجه وأرضيته المجتمع، لا حدود الفرد ذاته.
8 – العمل الهادف قد يكون صالحاً، وقد يكون طالحاً.
9 – نتيجة: موضوع ”سنن التاريخ“ وحركته، هو العمل الهادف الذي يتخذ من المجتمع أرضية له على اختلاف الموجة سعةً وضيقًا.
المحور الخامس: بقيت علينا «مرحلة التطبيق» لكل ما تقدّم:
التطبيق الأول:
لو طبقنا شروط العمل الهادف، بكل خصائصه المذكورة، على نهضة الإمام الحسين – صلوات الله وسلامه عليه – وأصحابه وأنصاره الكرام، لوجدنا أن ما قام به الإمام الحسين وأصحابه الكرام يمثل عَمَلًا هادفًا، تاريخيًا صالحًا،
قد اتخذ من حركته وأماكنها جميعها، أرضية للعمل، إلى أن تحددت في أرض «كربلاء» المقدسة، فكان الإمام الحسين – – جزءًا وفردًا من تلك الجماعة الصالحة، بل قائدًا لتلك الجماعة، الصالحة الناصرة، الخيرة، الوفية، البارة!
التطبيق الثاني:
هذا من جانب، ومن جانب آخر، أمامنا ظاهرة ومسيرة إنسانية ضخمة وكبيرة! نحن أمام مسيرة إنسانية مليونية! لا فردية ولا شخصية! بل لا مثيل لها في التاريخ! فإنّنا لو تأملنا في يوم الأربعين على امتداد السنين، وتتابع الزمان بقوافل العشاق والمحبين من كل مكان، بكل تلك الملايين من الناس، وعلى اختلاف عقائدهم ودياناتهم، المجذوبين إلى مهوى القلوب، وطبيبها «الإمام الحسين» – – وأنصاره الأبرار – سلام الله عليهم أجمعين –
لوجدنا في هذه الحركة تجاوزًا للذات، والعمل الشخصي، وأضحت هذه المسيرة، كما كانت ثورة ونهضة الحسين – – عَمَلًا تاريخيًا هادفًا، وكذلك فإن هذه المسيرة الأربعينة «أربعينية الإمام الحسين» هذه المسيرة المليونية، هذه الحركة المباركة تعد وتمثل عَمَلًا تاريخيًا هادفًا بكل مكوناته ومشاركاته ومؤسساته وهيئاته من كل مكان، فتدار كل تلك الملايين بكل يسر وسهولة وأمان، برغم كل المشاق والصعاب، لكنها تسهل، وتستساغ، وتصبح عذبة في سبيل خدمة الإمام الحسين «صلوات الله وسلامه عليه».
اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا أَبا عبدالله وَعَلَى الاَْرْواحِ الَّتي حَلَّتْ بِفِنائِكَ عَلَيْكَ مِنّي سَلامُ اللهِ أَبَداً ما بَقيتُ وَبَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَلا جَعَلَهُ اللهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنّي لِزِيارَتِكُمْ، اَلسَّلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ وَعَلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَعَلى أَوْلادِ الْحُسَيْنِ وَعَلى أَصْحابِ الْحُسَيْنِ
اَللّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ حَمْدَ الشّاكِرينَ لَكَ عَلى مُصابِهِمْ اَلْحَمْدُ للهِ عَلى عَظيمِ رَزِيَّتي اَللّهُمَّ ارْزُقْني شَفاعَةَ الْحُسَيْنِ يَوْمَ الْوُرُودِ وَثَبِّتْ لي قَدَمَ صِدْق عِنْدَكَ مَعَ الْحُسَيْنِ وأصحاب الْحُسَيْنِ اَلَّذينَ بَذَلُوا مُهَجَهُمْ دُونَ الْحُسَيْنِ .
«ضمن زيارة عاشوراء»
الهوامش
1 – المدرسة القرآنية، الشهيد محمد باقر الصدر، ط2. بيروت: دار التعارف، 1401 هـ
2 – حركة التاريخ عند الإمام علي – – دراسة في نهج البلاغة، محمد مهدي شمس الدين، ط1. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1405 هـ ،