الاجتهاد: كنا في درس السيد الصدر في مسجد الطوسي وكان إلى جانبي الشيخ محمد جعفر شمس الدين وكان من طلاب السيد الأذكياء والمندفعين إلى مرجعيته وبدأ السيد بعرض الدرس الاصولي العميق وطرح نظريات الآغا میرزا ضيا العراقي وكان على جانب عظيم من العمق الفلسفي.
ثم بدأ يفصل هذه النظرية ويرد عليها فكرة بعد أخرى ونحن نتابع الدرس حرفا بحرف وكان رحمه الله من عادته اذا انهي شرحه التفصيلي يعاود الشرح باختصار حتى لا يفوت الطالب من الفكرة شيء.
فكان درسه على الشكل التالي:
أولا: فكرة موجزة عن الدرس
ثانيا : عرض الفكرة تفصيلا لإيضاحها .
ثم الرد التفصيلي عليها وربما يكرر الفكرة العميقة حتى لا يفوت الطالب شيء ثم ينهي البحث بعرض موجز.
وعندما تعودنا على شرحه بدأنا نلفظ أنفاسنا ونرتاح في كتابة الدرس. وعلى فرض أنه سبقنا في طرحها لفظاً فإنه سيعيدها لفظا ومعنى بالتلخيص وكنا أيضا مع هذا كله اذا فاتنا شيء يعوضه أحد طلابه النوابغ كالسيد محمود الهاشمي الذي أصبح الآن رئيس السلطة القضائية في إيران.
وكان الشيخ محمد جعفر شمس الدين من المغرمين بالسيد مثلي فأشار إلي عندما كان السيد يفصل ويجمل ويطرح ویرد ويناقش بشكل مدهش، یا شیخ عفيف تأمل، والله لا يوجد أعلم من هذا الرجل في احاطته وعمقه ولا يوجد مثل أخلاقه العلمية حيث لا يتعرض لجرح عواطف المراجع الكبار سوى تفنيد النظرية فقط.
وبعد أن كتب السيد الصدر كتابه القيم والمتقدم على زمنه بنصف قرن على الأقل والذي لم يكتب مثله في اللغة العربية وهو (الأسس المنطقية للاستقراء) أدخل السيد النظرية النسبية لصاحبها (برتراند راسل) في علم الرجال وهو شيء لم يصل إلى فهمه أحد من قبل فهو رجل مبتكر ومتقدم ومحيط بعلوم عصره وسابق بفكره وطموحاته حتى المراجع المنفتحين .
ونحن من خلال درسنا على السيد الصدر وعلى غيره وقراءة كتب غيره من المراجع الأقدميين رأينا السيد أكثر إحاطة وعمقا وأكثر فهما لنص المعصوم وكان يملك من الكشف والرؤيا المتقدمة ما لا يوجد في غيره.
ففكر السيد الشهيد رحمه الله لا يضاهيه فكر في عصرنا ورغم قراءتي لكثير من المفسرين وأصحاب الفكر الفلسفي لم يفرض علي أحد فهمه ورأيه واحترام رأيه الا الشهيد لا لأني تلميذه فحسب وهذا كان قبل النضج ولا شك فيه, ولا شك أني متأثر بآراء استاذي كثيراً غير اني بعد قراءتي لأكثر الذين كتبوا في الفلسفة وطرحوا أفكارهم المعاصرة على ما فيها من سعة وشمول ولطائف غير انها لم تأسرني وبالتالي بقيت على ما أنا عليه من اعلمية السيد الفقهية والأصولية والفلسفية بل رأيته يزيد عليهم حتى فيما هم منخصصون فيه وهذه ميزته رحمه الله.
ومن هنا عندما كتب الأسس المنطقية للاستقراء حلق في الاجواء عالياً بحيث لم يستطع أحد بعد من الوصول إلى هذه المساحة الراقية من الأفكار ولو اتيح له أن يترجم إلى اللغات الحية الأخرى لكان لهذا الفكر شأن وأي شأن وكانت هناك مبادرة لترجمة الكتاب بإشراف الدكتور زكي نجيب محمود لو تمت لعمت الفوائد العامة لهذا الكتاب ولتحقق ما سمعنه من أستاذنا العظيم عندما قال لنا بعد صدور هذا الكتاب لم نعد نستورد الافكار الاخرى واصبحنا نصدر الأفكار الاسلامية إلى الغرب .
ولكن كما سمعت ان المحاولة وصلت إلى منتصف الطريق لأن الاستاذ المترجم كان بحاجة أن يتتلمذ مدة ثلاثة أشهر على السيد وكان على استعداد المجيء إلى النجف لهذه الغاية لإكمال الترجمة اللائقة ولكن المبادرة توقفت عندما انطفأت شعلة العلم باستشهاد السيد ورحيله إلى عالم الملكوت ومرافقة أجداده في جنات الخلد.
المصدر الصفحة 67 من كتاب خفايا وأسرار من سيرة الشهيد محمد باقر الصدر “ره” للعلامة الشيخ عفيف النابلسي
تحميل الكتاب