الفكرة التي أودّ طرحها هنا، والتي يمكن ـ لو تمّ الاقتناع بها ـ أن تمثل طريقة في فهم المنظومة التشريعيّة وعلاقات الأحكام ببعضها في الشريعة الإسلاميّة، وتترك أثراً على بعض عمليات الاجتهاد نفسها، هي ما اُسمّيه بالأحكام التحفظيّة أو الاحتفاظيّة، والتشريعات التأمينيّة والاحتياطيّة، أو حماية الحمى أو نحو ذلك.
الاجتهاد: وسوف اُقارب الموضوع هنا من زاوية مدخليّة، لفتح اُفق في هذا الإطار للتداول والتعميق، وسأقدّم لذلك بمقدّمة تاريخيّة مختصرة، تحاول مقاربة الموضوع في بعض بذوره المتفرّقة في نصوص التراث الإسلامي، ومن ثمّ الدخول في صلب الموضوع بإذن الله تعالى، راجياً من القارئ العزيز التحلّي ـ مشكوراً ـ بالصبر كي أتمكّن من إيصال فكرتي إليه، والتي أعتقد بأنّها بالغة الأهميّة في تعميق رؤيتنا لمنظومة القوانين الشرعيّة.
5 ـ الأحكام الاحتفاظيّة، ونظام شواهد الإثبات والترجيح
بعد الفراغ عن إمكان الأحكام التحفّظية أو التأمينيّة، ومعقولية ذلك، هل هناك قرائن يمكن طرحها تعزّز إثبات هذا النوع من الأحكام؟ وبعبارة أخرى: إنّ الحكم التحفّظي إذا كان ممكناً، فكيف يمكن تعيينه من بين الأحكام وتمييزه عن أحكام الأصل؟ هل هناك قرائن أو هي أمزجة واستنتاجات واستنسابات غير معتبرة ولا حجّة؟
ربما يمكن طرح بعض القرائن، ونشير لأبرزها من باب المثال؛ بهدف فتح الآفاق لتناول الموضوع:
القرينة الأولى: أن يرد في نصوص العلل ما يفيد أنّ هذا الحكم جُعل لأجل حكمٍ آخر، كأن يقول: إنّ الله حرّم عليكم كذا حتى لا تقعوا في الزنا أو الشرك أو.. فإنّ مثل هذه النصوص تعطي مؤشّراً على طبيعة الحكم المجعول.
ولعلّ من أمثلة ذلك ما ورد في سبّ أهل البدع ولعنهم والوقيعة فيهم وغير ذلك، معلّلاً بأنّ ذلك كي لا يطمعوا في الإسلام ولا يُلحقوا الضرر بالمسلمين، فمن الواضح أنّ هذا الحكم ـ لو كانت الرواية حجّة ومعتبرة ـ كان تحفّظاً عن وقوع هذه المبغوضات، فلو أحرز وقوعها مع هذه وأحرز عدمها بدونها إحرازاً نوعيّاً، فلا معنى لهذا التشريع التحفّظي.
وربما من أمثلته تحريم سبّ مقدّسات الآخرين؛ حذراً من سبّ الآخر للمقدّسات الحقيقيّة، أو تحريم ضرب المرأة برجلها حذراً من أن يُعلم ما تُخفي من الزينة، باعتبار أنّ إظهار الزينة هو الحرام، لا الضرب بنفسه، وكذا تحريم الترقيق في كلام المرأة حذراً من طمع من في قلبه مرض.
القرينة الثانية: أن يكون الموضوع بالتحليل العقلاني من هذا النوع، أو فقل: بمناسبات الحكم والموضوع، بحيث يبدو ذلك قريباً جداً؛ كما لو كان هناك حكمٌ بحرمة قراءة كتب الضلال، فإنّ التحليل العقلائي يقوّي أنّه لا خصوصيّة في الحرمة إلا التأثر بهذه الكتب وتداولها وانتشار أفكارها، لا أنّ القراءة بما هي قراءة حرام، فالحكم تحفّظي لأجل حكمٍ آخر.
ومن أمثلة ذلك وجوب استعداد الجيش الإسلامي وتسلّحه، فإنّ التحليل العقلائي يقوّي أنّ الغرض منه دفع العدوان والحيلولة دون وقوعه، وحماية الأمة، لا أنّ التسلّح بنفسه حكم واقعيّ أصليّ فيه قيمة مضافة، وتقع مصلحته في ذاته.
القرينة الثالثة: أن يرد تعبير الاحتياط ونحوه (مثل لا آمن من كذا وكذا) في لسان النصّ، ويكون المورد من موارد الشكّ والجهل، كما في رواية عبدالله بن وضاح أنّه كتب إلى العبد الصالح عليه السلام يسأله عن وقت المغرب والإفطار، فكتب إليه: «أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة، وتأخذ بالحائطة لدينك» (تفصيل وسائل الشيعة 4: 176 ـ 177).
فإنّ مثل هذا التعبير وأمثاله واضح في الدلالة على أنّ الحكم ليس هو أنّ وقت المغرب الأصلي خصوص ذهاب الحمرة، بل الحكم تحفّظي، والهدف منه تحصيل الإتيان بالواجب في وقته الحقيقي، وإلا لقال له فوراً: وقت المغرب هو زوال الحمرة.
القرينة الرابعة: أن تربط النصوصُ في موضوع معيّن بين أمرين، ويكون الثاني أوضح في الأهميّة، الأمر الذي يكشف عن كون الأوّل مقدّمة للثاني، لو كانت المقدّمية بينهما قائمة في نفسها خارجاً.
ومثال ذلك أن يرد الحثّ على إنجاب الأطفال بكثرة، وتربط بعضُ نصوص الموضوع ذلك بتكثير نسل الأمّة الإسلاميّة، ففي مثل هذا المورد يُفهم أنّ الحكم جاء لحفظ حكمٍ آخر، وهو تكثير المسلمين، لا أنّه ناظرٌ إلى تكثير لأفراد الأسرة بما هو تكثير للأسرة نفسها، فتأمّل جيداً؛ فإنّ ذلك قد يساعد على إمكانية كشف ملاك تكثير الأمّة، دون ملاك تكثير أفراد الأسرة، مما يترك نتائج فقهيّة متعدّدة.
القرينة الخامسة: أن تكون بين الشيء والآخر علاقة تمهيد وتوفير، ثم يأتي النصّ فيُسقط عنوان أحدهما على الآخر ليقوم بتحريمه عبر هذه الطريقة، فإنّه قد يُفهم أحياناً أنّه يريد أن يوحي بأن الممهِّد لحقه حكم الممهَّد، نظراً لخصوصيّة التمهيد.
ومن أمثلة ذلك بعض الألسنة التنزيليّة، فلو قال: العين تزني، فإنّه كما يمكن أن يُفهم في سياق تنزيل النظر منزلة الزنا، كي يترتّب الحكم عليه، قد يُفهم أنّه إنّما يحرّمه بملاك كونه مرتبطاً بالزنا، ولهذا أسقط عليه عنوان الزنا مع أنّه ليس بزنا قطعاً؛ فكأنّه يريد بذلك إبراز نكتة بلاغيّة، وهي أنّ النظر لما كانت حرمته من حيث هو يفضي إلى الزنا، فإنّ حرمة الزنا شملته نظراً لخطورة الزنا، فصارت العين تزني وكأنّ النظر بدايات الزنا، فلأنّ الزنا هو الحرام الأصلي جُعلت سمة الحرمة للعين بعنوان الحرام الأصلي، فوسّع الحرام الأصليّ بهدف الحماية.
ولعلّ ما يؤيّد هذا النمط هو وجود عقوبات على فعلٍ محرّم دون آخر متصل به، فالشريعة وضعت عقوبات على الزنا والسرقة والمحاربة والقذف و.. فيما لم تضع عقوبات على بعض ما هو محرّم، لكنه على صلة بهذه الأمور، فقد يعزّز ذلك من افتراض أنّ ما وضعت عليه عقوبات يمثل الأحكام الأصليّة وأنّ المحرّمات التي تتصل به وتمثل فضاءً محيطاً به كالنظر واللمس المحرّمين، من الوارد أن تكون أحكاماً تحفّظية دون أن يعني ذلك أبداً حصر الأحكام الأصليّة بخصوص ما تثبت فيه عقوبات. وهذا ما قد يفتح أيضاً على إمكان افتراض وجود حكم مزدوج في الشريعة هو أصلي في نفسه، وتحفّظي بالقياس إلى حكمٍ آخر.
6 ـ المرجعيّة القانونيّة عند التردّد في هويّة الحكم بين الأصليّة والتحفّظيّة
لو وقع الفقيه أثناء بحثه في الشريعة في تأرجحٍ وشكّ، في أنّ الحكم الذي بيده هل هو حكمٌ أصليٌّ في الشرع أو هو حكم تحفّظي ـ تأميني، وقامت المعطيات على الافتراضين معاً، فهل هناك أصل يمكن الرجوع إليه؟
الذي يبدو أنّه لا أصل يُرجع إليه هنا؛ لأنه كما يمكن أن يكون أصلياً كذا يمكن أن يكون تحفظياً، فإنّ هذا في جوهره دائر بين كون ملاكه في متعلّقه بذاته أو في متعلّق غيره، والاحتمالان متساويان من الحيثيّة الوجوديّة.
نعم، قد يُستند إلى دعوى أنّ إطلاق الأمر أو النهي يفيد الحكم النفسي لا الغيري، كما قرّروا في أصول الفقه؛ لأنّ الغيريّة تحتاج لمزيد تقييد.
إلا أنّ ذلك لا ينفع هنا؛ لأنّنا لا ندّعي أنّ الحكم التحفّظي هو حكمٌ غيري بالمعنى المصطلح، بل نقول: قد يكون واجباً مطلقاً ودائماً ونفسياً بالمعنى المصطلح، لكنّ ملاكه النهائي في متعلّق غيره.
فهناك فرق بين أن تقول: السفر واجبٌ لوجوب الحج، وأن تقول: النظر حرام، حمايةً لحرمة الزنا؛ ففي الحالة الأولى يأتي وجوب السفر من عين وجوب الحجّ، أما في الحالة الثانية فلا يأتي تحريم النظر من نفس حكم حرمة الزنا، ولهذا لو بقينا ودليل حرمة الزنا لم نحكم بحرمة النظر مطلقاً، بل جاء تحريم النظر من المولى بدليلٍ خاص، غايته أنّ المولى إنما حرّمه حمايةً لحكم الزنا. ففي الحالة الأولى تكون المقدّمية واقعيّة مدركة لنا فيتوقّف الحج على المقدمة حقيقةً، أما فيما نحن فيه فقد لا يتوقّف ترك الزنا على ترك النظر، فقد ينظر ولا يزني، إنما المولى رأى أنّ ملاك الزنا قد يستدعي حظر بعض الأشياء لأجل أن لا يكون المكلّف في معرض الوقوع في الزنا، فنضمن بذلك عدم تحقّق الفاحشة في المجتمع، أو نخفّف منها إلى أقصى درجة ممكنة.
نعم، لو كان الشك في تحفّظية الحكم مستلزماً أو مستبطناً للشك في إطلاقه وتاريخيّته، لزم الأخذ بالقدر المتيقّن طبقاً لما بحثناه مفصّلاً في مباحث تاريخيّة السنّة (انظر: حيدر حبّ الله، حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم: 661 ـ 740)، فليراجع.
7 ـ التشريعات التحفظيّة بين وظيفة المعصوم ووظيفة الفقيه
هل أن تشريع الأحكام التحفظية فعلٌ خاص بالمولى سبحانه أو معه النبيّ وأهل البيت^، فيما ثبت لهم من ولاية تشريعيّة، على تقديره، أو أنّه يشمل حتى الفقيه بحيث يمكنه تشريع أحكام أو فلنقل: إصدار فتاوى تحريميّة أو وجوبيّة تحفّظاً على ملاكٍ أهمّ؟ فلو شعر الفقيه بأنّ السماح بالاختلاط في المدارس والجامعات سيفضي إلى محرّمات وإلى وقوع الفاحشة بين الذكور والإناث، فهل يحقّ له شرعاً الإفتاء بحرمة الاختلاط هناك مطلقاً مع عدم قوله بحرمة الاختلاط في نفسه بمقتضى اجتهاده في النصوص أو لا يحقّ له ذلك؟ وهل له إصدار فتاوى حمايةٍ لحكم آخر يراه عرضة للخطر؟
لم يقم دليلٌ واضح مقنع يعطي الفقيه هذا الحقّ، بل هو من الإفتاء الذاتي وهو تقوّلٌ على الله وقول بغير علم، بعد عدم كون هذا الحكم حكماً ولائيّاً ولا هو بالثابت بالعنوان الثانوي حسب الفرض.
نعم، إنما يُفتح هذا المجال لو أثبتنا أنّ منهج الشريعة قام على تحريم كلّ ما كان يفضي نوعاً أو غالباً إلى الحرام، ففي هذه الحال نحن إنما نقول بأنّ الفقيه إنّما يكشف عن تحقّق الصغرى هنا، أي إنّ الوضع الحالي يفضي إلى الحرام نوعاً وغالباً، أمّا الكبرى فتأتي من اجتهادٍ شرعي يقضي بأنّ ما يفضي غالباً أو نوعاً إلى الحرام فهو حرام شرعاً. والكلام كلّه في إثبات هذه الكبرى.
وهذه الكبرى تنطبق أيضاً على الواجب، فهل يوجد قانونٌ شرعي يحكم بوجوب ما يفضي غالباً ونوعاً إلى الواجب أو أنّه لا يوجد بأيدينا شيء من هذا النوع؟
هذه هي المسألة المعروفة بسدّ الذرائع وفتحها، وغاية ما يُطرح هنا بعد المراجعة ـ خاصّة في الكتابات الفقهيّة والأصوليّة عند جمهور أهل السنّة ـ هو استقراء الشريعة؛ لنجد أنّها كانت تحرّم في عشرات المواضع أشياء تقع نسبتها إلى أشياء أخرى بمثابة المدخل لها أو المقدّمة، فحرّمت الزنا وحرّمت معه النظر واللمس والخلوة والمفاكهة الغريزية و… وهكذا فنفهم من خلال عمليّة الاستقراء هذه، أنّ بناء الشريعة على هذا، فنُصدر حكماً بأنّ كلّ مورد من هذا النوع فلابدّ من الحكم بحرمته أو وجوبه.
إلا أنّ هذا الدليل العمدة لا ينهض لتأسيس قاعدة ما لم يصل الأمر إلى حدّ مقدمة الحرام أو الواجب، أي إلى حدّ ما لا يقع الواجب إلا بالإتيان به، ولا يُترك الحرام إلا من خلال تركه، وفي غير هذه الحال لا نستطيع استنباط قاعدة أصوليّة من نوع سدّ الذرائع وفتحها؛ والسبب في ذلك أنّ الخروج من الموارد التي استقرأت في الشرع إلى ما لم يستقرأ مبنيّ على الظنّ، والمستقرأ ليس هو الأغلب؛ فلعلّ المولى سبحانه أراد سدّ الذرائع في جملة من الموارد التي رآها مناسبةً لكنّه لا يريد ذلك في تمام الموارد، وربما يكون السبب في ذلك أنّ إطلاق قانون سدّ الذرائع قد يضيّق على المكلّفين، فلم يرد المولى هذا القانون مطلقاً، بل استخدمه هو بنفسه في موارد معيّنة في شريعته ولو لم تكن بالقليلة، وهذا يعني أنّ هذا الاستقراء غاية ما يعطي أنّ من منهج الشارع في بناء أحكامه ما كان يقوم على سدّ الذرائع، وهذا غير أن يقال بأنّ كلّ ما كان فيه سدّ الذرائع فهو منهجُ الشارع، فإنّ الأولى غير الثانية.
نعم، يمكننا إعادة صياغة المقاربة هنا وفقاً لقانون المقدّمية عبر القول: إنّ فكرة ما يتوقّف ترك الحرام على تركه، أو فعل الواجب على الإتيان به، تارةً نطبّقها في المجال الفردي وأخرى في المجال الاجتماعي:
أ ـ أمّا في المجال الفردي، فهي تنتج إلزامات ـ عقلية أو شرعية ـ محدودة، وأصول الفقه الإسلامي كثيراً ما نظر إلى تطبيق هذه القاعدة على المستوى الفردي وبذهنيّة فرديّة.
ب ـ وأمّا في المجال المجتمعي العام، فإنّ صياغة هذه القاعدة سوف تختلف، وذلك أنّ ترك المجتمع لحرام معين قد يتوقّف على تركه لأمر حلالٍ، ومعنى ترك المجتمع ليس ترك كلّ فرد فرد، بحيث لا يقع الحرام مطلقاً، بل بمعنى صدق أنّ هذا المجتمع لا يعيش جوّ هذا الحرام في عمومه وغالبيّته، بحيث يكون هو الحالة الاجتماعيّة السائدة، فأنت تقول: إنّ المجتمع الفلاني مبتلى بشرب الخمور، وهذا لا يصدق عندما يشرب واحدٌ في المائة مثلاً؛ بل يصدق عندما يكون ما يقارب النصف أو الأغلب مثلاً مبتلياً بهذا المحرّم، فيصحّ لنا أن نسند فعل الحرام إلى المجتمع بما هو مجتمع، وفي هذه الحال قد يقال بتطبيق قاعدة المقدّمة ونقول: إن ترك هذا الحرام من قبل المجتمع متوقّف على منع الدولة رسمياً من استيراده أو تصنيعه، وفي هذه الحال يتمّ الحكم بحرمة الاستيراد والتصنيع لتجفيف منابع هذا الحرام، بهدف تحقّق عنوان ترك المجتمع لهذا المحرّم.
إذا تمّ القبول بأنّ الإسلام ينظر في تشريعاته إلى الظاهرة المجتمعيّة كما ينظر إلى الظاهرة الفردية، فلا يبعد أنه يمكن للفقيه الإفتاء بحرمة بعض المقدّمات المحلّلة في نفسها بوصف ذلك من باب تحريم المقدّمة التي لا يمكن المنع عن الحرام إلا من خلال تحريمها، وهذا سيكون حكماً واقعيّاً فتوائيّاً، وليس حكوميّاً ولائيّاً.
إلا أن هذا التطبيق ـ لو صحّ وتمّت الموافقة عليه ـ يظلّ مشروطاً بشروط:
الشرط الأول: أن يحرز بالفعل أنّه لا يوجد سبيل آخر لقطع مادّة الفساد، إلا عبر هذا الطريق، ومن ثم فاللازم اختيار أقلّ الطرق تحريماً خروجاً عن قاعدة البراءة والحلّية بمقدار الضرورة.
الشرط الثاني: أن لا يكون في تحريم هذه المقدّمات مفاسد تفوق مفسدة بقاء المحرّم الأصلي الذي يراد تحريم المقدّمات لأجله.
وأمثلة هذا الأمر كثيرة، إذ في مثل عصرنا قد يكون في التضييق على المقدمات ـ تمهيداً لعدم شيوع الحرام ـ ضغطاً اجتماعياً كبيراً منفّراً من الدين وموجباً لردّات فعل عكسيّة؛ أو وقوع المجتمع الإسلامي في عزلة تامة عن العالم لو أريد تطبيق هذا القانون مما يلزم منه مفاسد عظيمة.
لنأخذ مثالاً: تحريم السفر إلى بلاد غير المسلمين أو تحريم الدراسة في الجامعة المختلطة ولا توجد إلا جامعات مختلطة، فإنّ مثل هذا التحريم لو كان بهدف قطع دابر الفساد الفكري والأخلاقي الناتج عن السفر أو عن الالتحاق بهذه الجامعة أو تلك، قد يؤدّي إلى تحوّل المؤمنين أو المسلمين إلى أمّة جاهلة، حيث لا يمكنهم تقديم البديل في الفترة الراهنة، فيلزم أخذ هذه الأمور بعين الاعتبار، وموازنة الموقف.
وبناءً عليه، فلا يبعد ـ لو تمّ ما تقدّم ـ القول بنظرية سدّ الذرائع أو أحكام المقدّمة باللحاظ المجتمعي شرط ملاحقة تمام الملابسات وخاصّة الشرطين المتقدّمين؛ ولا يكون ذلك تحريماً من باب الولاية ولا نحو ذلك، بل هو حكم واقعي شرعي، غايته يكون مؤقّتاً بحدود قيود المقدّمية، فإذا ارتفعت فإنّ هذا الحكم يرتفع، وبهذا يمكن وقوع مصالحة في هذه القضيّة بين الأصول الاجتهاديّة للمذاهب الفقهيّة.
8 ـ هل رواية شعيب الحدّاد في احتياط الإمام الصادق تساعد نظرية التشريع الاحتفاظي؟
ورد في الخبر المعتبر، عن شعيب الحدّاد، قال: قلت لأبي عبد الله الصادق×: رجلٌ من مواليك يُقرئك السلام، وقد أراد أن يتزوّج امرأةً قد وافقته، وأعجبه بعضُ شأنها، وقد كان لها زوج، فطلّقها ثلاثاً على غير السنّة، وقد كره أن يُقدم على تزويجها حتى يستأمرك فتكون أنت تأمره. فقال أبو عبد الله عليه السلام: «هو الفرج، وأمر الفرج شديد، ومنه يكون الولد، ونحن نحتاط؛ فلا يتزوّجها» (الكافي 5: 424؛ والاستبصار 3: 293؛ وتهذيب الأحكام 7: 470).
هذه الرواية وقعت موقع البحث بين الفقهاء فيما يتصل بالنكاح والطلاق وقاعدة الإلزام، وبحثوا في أنّها تُصدر حكماً إلزامياً أو غير إلزامي، وغير ذلك، كما تعرّض بعضهم إلى أنّ الشبهة هنا موضوعيّة لا حكميّة. والنقطة المركزية في هذه الرواية هي تفريعها النهي عن الزواج على إثبات الإمام الاحتياط لنفسه، وبهذا يمكن أن تكون ذات صلة ببحثنا وشاهداً على نظريّتنا المفترضة هنا، الأمر الذي يفرض التوقّف عندها هنا رغم كونها ليست إلا خبراً آحادياً نادراً في مضمونه ليس بحجّة في ذاته عندنا.
يحتمل هنا عدّة تفسيرات:
التفسير الأوّل: أن يريد الإمام الإخبار عن حالته الشخصيّة، وأنّه يحتاط في مثل هذه الموارد، بمعنى أنه لو واجه شيئاً من هذا القبيل فهو لا يُقدم على الزواج من هذه المرأة، ونتيجة ذلك نهي السائل عن هذا الأمر، فالاحتياط هنا جاء في مجال الفعل الشخصي لا في مجال الاحتياط في الفتوى، وسببُ هذا الاحتياط أنّه من الممكن أن يكون ما صدر من طلاق من هذا الشخص فاقداً لبعض الشروط التي هي لازمة، مثل عدم وقوعه أثناء الحيض.. فالإمام كأنّه يقول: إنّ هؤلاء لا يراعون عمليّاً شروط الطلاق الشرعيّة حتى التي هي لازمة عندهم، وهذا كثير التحقّق خارجاً، ولما كان أمر الفرج عظيماً، لهذا نحن نحتاط ونطلب أيضاً منه أن لا يتزوّجها؛ لأنّ هذا الاحتياط لازم، فيكون المورد من موارد الفتوى بالاحتياط في الشبهة الموضوعيّة، لا الاحتياط في الفتوى.
وهذا الاحتمال الذي قد يستوحى من كلمات الشيخ الطوسي (انظر: الاستبصار 3: 293 ـ 294؛ ورياض المسائل 11: 69)، لا يوجد عليه أيّ شاهد في الحديث، بل لو كان الأمر كذلك للزم أن نلاحظ هذا الاحتياط اللازم أثناء بيان الأئمة قاعدة الإلزام، فهناك هو الموضع المناسب للتقييد، ومع ذلك لا نجد شيئاً من مثل هذه التعابير في نصوص قاعدة الإلزام، فضلاً عن معارضته لقاعدة حمل عمل المسلم على الصحّة، فافتراض وجود مبرّر لم يُذكر في سؤال السائل ولا في جواب الإمام ولا دليل عليه خارجاً، وأنهم كانوا يتساهلون في بعض شروط الطلاق اللازمة عندهم.. يبدو لي بعيداً في احتماله.
التفسير الثاني: أن تفسّرالرواية بأنّ المطلَّقة والمطلِّق لا يوجد في الرواية ما يشير إلى كونهما غير إماميّين حتى يكون المورد من موارد قاعدة الإلزام، بل قد يكونان إماميّين، ومن ثم فيمكن أن يكون طلاق الإمامي ثلاثاً على غير السنّة موجباً للاحتياط أو لحسن الاحتياط؛ لوجود شبهة البطلان، فلهذا احتاط الإمام ونهى عن التزويج؛ فإنّ نهيه عن التزويج متفرّعاً على الاحتياط لا معنى له سوى أنّه نهاه احتياطاً.
وهذا الاحتمال وارد جداً، ومعه لا معنى للجزم بحرمة الزواج؛ لأنّ الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد ـ لو اُريد من الرواية ـ يوجب وقوع طلاق واحد لا بطلان الطلاق.. فكأنّ الإمام بنفسه محتاط هنا في الحكم.
ولكنّ هذا التفسير يتصادم مع مبدأ علم الإمام بالأحكام كلّها وفقاً للعقيدة الإماميّة، فإما أن يكون هذا الزواج جائزاً أو لا، فما هو موجب النهي المتفرّع على الاحتياط؟! يضاف إلى ذلك أنّ قضيّة المطلّقات ثلاثاً على غير السنّة قضيّة معروفة في الفقه المقارن، ووردت روايات أخرى في نفس هذا الموضوع في أنّ الطرف الآخر ليس بشيعي، فالمنصرف من الرواية هو كون الطرف الآخر سنّياً، والمفروض عدم ذكر خلل آخر في الموضوع، فكلا التفسيرين المتقدّمين لا وضوح فيهما، سواء فسّرنا الاحتياط على أنّه وجوبي أم استحبابيّ.
التفسير الثالث: ما ذكره بعض المعاصرين، من أنّ الرواية لم ترد في المطلّقة ثلاثاً، وإنما وردت في المطلّقة على غير السنّة «فطلّقها على غير السنّة»، والطلاق على غير السنّة هو الطلاق البدعي، والطلاق البدعي على أنواع: منه باطل، كالطلاق حال الحيض أو في طهر المواقعة، وهذا الطلاق باطل إذا صدر من إمامي، ومنه ما هو صحيح كالطلاق ثلاثاً مرتبةً إذ يقع صحيحاً غايته يكون طلاقاً واحداً. والراوي هنا لم يعيّن أيّ نوع هذا الذي وقع على غير السنّة من أنواع الطلاق البدعي، ولهذا تكون الشبهة موضوعيةً لا حكميةً، إذ مع عدم التعيين من الراوي يُعلم أنه كان جاهلاً بطبيعة الطلاق الذي وقع وأنه من أيّ أنواع الطلاق البدعي، بل هو يعلم أنّه طلاق بدعي فقط، فكان الموقف الشرعي في هذه الحال هو وجوب الاحتياط أو استحبابه، فأفتى له الإمام بالاحتياط ـ ولو بوصفه حكماً واقعيّاً ثانويّاً ـ لا أنّ الإمام قد احتاط في الشبهة الحكميّة (انظر: محسن الخرازي، مقالة التلقيح، مجلّة فقه أهل البيت، العدد 16: 109 ـ 110).
وهذا التفسير للحديث مبنيٌ على قراءة الرواية في كتاب «تفصيل وسائل الشيعة»، إذ وردت فيه على الشكل الآتي: «فطلّقها على غير السنّة» (تفصيل وسائل الشيعة 20: 258).
إلا أنّ الصحيح أنّ الرواية تشتمل على كلمة «ثلاثاً» بعد كلمة طلّقها؛ فيكون معنى غير السنّة هو وقوع ثلاث طلقات مرتبة، والمفترض الحكم بالصحّة لواحدة لا الاحتياط، فهو من الطلاق البدعي الصحيح. وسبب صحّة كلمة (ثلاثاً) أنّها موجودة في المصادر الأصل لهذه الرواية، وهي الكافي والتهذيب والاستبصار، مضافاً إلى نقلها على هذه الطريقة عند المجلسي الأوّل والفيض الكاشاني والمجلسي الثاني (انظر: روضة المتقين 8: 209، و 9: 49؛ والوافي 21: 268؛ ومرآة العقول 20: 180؛ وملاذ الأخيار 12: 478)، الأمر الذي يؤكّد ـ مع عدم إشارة أحد من محقّقي الكتب الأربعة إلى وجود نسخة حذفت منها كلمة «ثلاثاً» ـ وقوع سقط واشتباه في كتاب الوسائل، كما هو ليس بقليل، وفقاً لما هو معروف.
يُضاف إلى ذلك، أنّ السائل لم يشرح أنّه لا يعرف سبب بدعيّة الطلاق، ولم يُشر لهذا الأمر في مفروض المسألة، والإمام لم يسأله عن ذلك! مع أنّ المفترض منطقيّاً أن يسأله عن قصده من الطلاق البدعي ما دام لم يُبرز جهله بالسبب، ومع ذلك كلّه لا نستطيع تفسير الرواية بهذه الطريقة، مضافاً إلى التأييد بأنّ مقتضى حمل عمل المسلم على الصحّة هو تصحيح الطلاق.
التفسير الرابع: وهو تفسير الحديث بأنّه طلّق ثلاث طلقات بينها رجعة على الطريقة الشرعيّة، غايته أنّ كلّ طلاق من هذه الطلقات لم يكن على السنّة بل كان على غير السنّة، فما هو على غير السنة ليس التثليث نفسه، بل المثلَّث والطلاقات الثلاث نفسها، ولما لم يتمّ تحديد مبرّر البدعيّة لزم الاحتياط.
لكنّه صار واضحاً أنّ عدم سؤال الإمام وعدم توضيح السائل، وعدم قولهم شيئاً من هذا يربك مثل هذه التفاسير. فضلاً عن أن تعبير الطلاق ثلاثاً على غير السنّة يفهم منه في ألسنة الروايات وقوع ثلاث طلاقات مرتبة، وهي الحالة التي يُفترض فيها الحكم بصحّة الطلاق الواحد. إضافة إلى ما قلناه من أصالة الصحّة في عمل المسلم.
التفسير الخامس: أن يفسّر الاحتياط هنا بمعنى الاحتياط المستحبّ؛ لعدم انسجام الاحتياط الواجب مع المعلوم في الفقه من صحّة الطلاق الثلاث ووقوعه طلاقاً واحداً (انظر: محمد مهدي النراقي، جامعة الأصول: 102؛ والبحراني، الحدائق الناضرة 25: 224؛ والروحاني، فقه الصادق 22: 436).
وهذا التفسير غير مفهوم، فإنّه لا يغيّر من معنى الاحتياط شيء لو عدّلنا صفة الوجوب ووضعنا مكانها صفة الاستحباب، فنحن لا نبحث في الاستحباب والوجوب، بل في نفس معنى الاحتياط هنا، فإذا كان الحكم هو الجواز واقعاً فما معنى الاحتياط ولو المستحبّ بالنسبة لمن هو عالم بالأحكام الواقعيّة؟ هنا مكمن المشكلة، إذ المشكلة الحكميّة بعيدة اعتقاديّاً عند الإماميّة، والشبهة الموضوعيّة غير مفهومة هنا، بعد ما ذكرناه سابقاً وإلا لزم جريانها في مطلق المطلّقة، بل إنّ ظهور النهي في آخر الرواية قد يقال بأنّه يفيد التحريم، فيكون احتمال الاستحبابيّة مرجوحاً.
التفسير السادس: ما ذكره المحدّث البحراني ـ بوصفه احتمالاً ـ من أنّ الرواية ولو عبّرت بالاحتياط إلا أنّ المراد هو الحكم، فالقالب احتياطيٌّ والمضمون حكمٌ واقعي، فيكون معنى الرواية: أمرُ الفروج عظيم ونحن نتجنّب ذلك، فلا تتزوّج أنت أيضاً (انظر: الحدائق الناضرة 1: 76).
وهذا التفسير يحتاج إلى شاهد، لاسيما وأنّ مطلع الرواية بيان لخطورة أمر الفروج والأنساب، المناسبة للاحتياط بمعناه الحقيقي، فحمل الاحتياط على خلاف معناه مخالفٌ لظاهر الحديث بلا قرينة.
ولكن قد يمكننا تقوية هذا الاحتمال بطريقة أخرى تعتمد العودة اللغوية لكلمة (نحتاط)، فإنّ أصل الاحتياط من إحاطة الشيء لحفظه، ومنه نصب الحائط حول الشيء لحمايته، فإذا قبلنا أنّ الإمام استخدم المعنى اللغوي لهذه الكلمة، فيكون المعنى: أمر الفروج عظيم، ونحن نضع حائطاً بيننا وبين هذا الموضوع ولا نقتحمه فلا يتزوّجها.. فتكون الرواية دالةً على الفتوى بالترك، لا الاحتياط في الفتوى ولا الفتوى بالاحتياط. نعم، غايته تقع الرواية على الطرف المعارض لما دلّ على جواز الزواج من هذه المرأة بعد وقوع الثلاث طلاقاً واحداً، وهذا أمر آخر يبحث في قاعدة الإلزام وفي فقه الطلاق.
وهذا المعنى للاحتياط تتحمّله بعض روايات الاحتياط التي وظّفها الإخباريّون، وبُحثت في علم أصول الفقه، مثل: أخوك دينك فاحتط لدينك، ويكون المعنى: افعل كلّ ما من شأنه أن يحفظ لك دينك والتزامك الشرعي، وابتعد عن كلّ ما قد يضرّ بدينك وإيمانك، وهذا لا علاقة له بالأحكام الواقعيّة، بل بدين المرء، ومنه لا تعاشر أهل الفسق إذا خفت من إضلالهم لك وأمثال ذلك، فعليك بالاحتياط، والتفصيل في محلّه.
التفسير السابع: ما يمكننا طرحه في المقام، وهو يقوم على مسألة مهمّة في فقه قاعدة الإلزام، وهي تقول: هل مفاد قاعدة الإلزام هو الصحّة الواقعيّة أو الإباحة والتحليل؟
وهذه المسألة طرحت في عصر السيد محسن الحكيم حيث وُجّه له استفتاء حول شخص من أهل السنّة طلق زوجته طلاقاً غير جامع للشرائط عند الإمامية، بينما هو مستوفٍ للشروط في مذهبه وبعد ذلك استبصر، فهل له أن يرجع بزوجته بعد الاستبصار أو أنّه ليس له ذلك؟ وقد اختلفت الآراء في هذه المسألة فاعتبر السيد محسن الحكيم ـ الذي أفرد رسالة جواباً على هذا الاستفتاء، ونشر مضمونها في المستمسك ـ أنّ له الرجوع بزوجته؛ لأنّ الطلاق باطل في واقعه، وأما قاعدة الإلزام فهي لا تصحّح الطلاق الذي وقع وإنما تبيح للشيعي الزواج من هذه المطلّقة إلزاماً لغيره (انظر: مستمسك العروة الوثقى 14: 525 ـ 526، وما بعد)، وتسهيلاً لأمر العباد.
وطرح المسألةَ الشيخُ حسين الحلي (1397هـ)، وخالف في ذلك السيدَ محسن الحكيم، ذاهباً إلى عدم بقاء تلك المرأة على زوجيّة زوجها الأول، فلو استبصر أو استبصرا لا تعود إليه إلا بعقدٍ جديد (انظر: بحوث فقهية: 274 ـ 284).
وتحليل هذه المسألة يرجع إلى فهم حقيقة قاعدة الإلزام فهل تعني صحّة طلاق غير الشيعي واقعاً أو تحليل نكاح الشيعي لهذه المطلّقة لا أكثر. وبناءً على هذه المسألة يمكن فهم هذه الرواية هنا وفقاً لرأي السيد الحكيم، فهذه المرأة ما تزال على زوجيّة زوجها السنّي واقعاً، ورخّص للشيعي بالزواج منها بالإلزام للغير بما ألزم به نفسه، وهذه الرواية هنا تريد أن تسحب هذه الرخصة من الشيعي والإباحة الواقعيّة الثابتة له بمقتضى قاعدة الإلزام؛ لخطورة المورد، فكأنها تقول: هذه المرأة زوجة ذلك الرجل واقعاً إلى الآن، وأمر الفروج عظيم، ورغم أنّ أصل الشريعة يسمح لك بالزواج منها، إلا أنّني أصدر حكماً احتياطيّاً حمايةً لعدم الزواج بزوجة الغير، فالزواج بزوجة الغير جائز لكن مع ذلك هو خطير في مضمونه فيلزم الترك احتياطاً من الوقوع في نفس حالة نكاح من هي زوجة غيره، فالتحريم هنا جاء احتياطاً من الوقوع في هذه الحال ـ حال الزواج بزوجة الغير ـ لا أنه حرام في نفسه؛ ولهذا عبّر بالاحتياط ولم يفتِ مباشرةً.
وبعبارةٍ أخرى: الإمام كأنّه يريد أن يقول: إنّ أمر الفرج عظيم، وإنّ لك أن تتزوّج بهذه المرأة إلزاماً من حيث المبدأ، لكنّني أحكم بتجنّب ذلك؛ إذ هو زواج بزوجة الغير، وأرى الاحتياط فيه شيئاً ضرورياً فاتركه. والاحتياط في أصله اللغوي من وضع حائط حول الشيء، فعندما قال الإمام: ونحن نحتاط، أي نضرب سياجاً نمتنع نتيجته عن فعل ذلك.
وعلى هذا التفسير سيكون نهي الإمام له عن التزويج قد انطلق من احتياط وحيلولة دون وقوع أمرٍ يستحسن عدم الوقوع فيه، ولو كان جائزاً في أصل الشرع وعلى مستوى الأحكام الأصليّة، فتكون هذه الرواية مساندةً لمبدأ الأحكام التحفّظية بدرجة من الدرجات لا بتمام المعنى.
إلا أن هذا التفسير للحديث حتى لو فرضناه في نفسه صحيحاً، لاسيما لو حملنا الاحتياط على الاستحباب هنا، لكنّه لا يطابق مفهوم الأحكام التحفّظية هنا؛ لأنّ المفهوم الذي ندّعيه هو صيرورة حكمٍ ما ممهداً أو سادّاً الطريق تجاه حكمٍ آخر، وهنا لا يوجد حكمان أساساً؛ فإن الرواية تنهى عن نفس ما هو حلال شرعاً للشيعي، لا أنها تنهى عن شيء، ليكون ذلك مقدمةً لترك شيء حرام آخر؛ ولهذا قد يُستبعد هذا التفسير للرواية من خلال أنّ الإمام يحتاط في شيء هو نفسه أفتى بجوازه، فإمّا أن يكون الزواج من زوجة السنّي (المطلقة منه على مذهبه) حراماً في الأصل أو حلالاً، فإن كان حراماً فلا معنى لكلمة الاحتياط وإن كان حلالاً فما هو مبرّر الاحتياط هنا؟! هذا ما يجب إبرازه بعد كون الفتوى هو صحّة الطلاق واحداً.
التفسير الثامن: إنّ الاحتياط لا يخلو منشؤه أن يكون إما لشبهة موضوعية أو حكميّة:
أمّا الشبهة الحكميّة، فلا معنى لها هنا على مباني الإماميّة، إذ لازمها القول بأنّ أهل البيت لا يعرفون بعض الأحكام، فإذا قبل شخص ذلك ـ كون أهل البيت ربما لا يعرفون حكماً شرعيّاً ما، ولو بنسبة الواحد في المائة ـ لم تكن في الرواية أيّة مشكلة، وإلا فلا معنى لها.
وأمّا الشبهة الموضوعيّة، فلا يظهر في الرواية ما يشير لشبهة موضوعيّة إطلاقاً، لكن يلزمنا القول بوجود شبهة موضوعيّة مركوزة في هذه الموارد ـ بعد استبعاد الشبهة الحكميّة؛ لتعيّن واحدة منهما قهراً ـ هي التي دعت الإمام للإلزام بالترك احتياطاً، بنحو الفتوى بالاحتياط، فعدم ظهور الشبهة الموضوعيّة لنا تعييناً لا ينفي تعيّنها قهراً، ومن ثم فتكون الرواية مجملة لا يُستند إليها في معارضة ما دلّ على جواز هذا النكاح.
وبهذا التفسير لا تكون هذه الرواية مثبتةً لشيء في باب انتهاج النبي أو الإمام سبيل التشريعات التحفّظية، بل تكون أجنبيةً عن مورد بحثنا.
وعليه، فإما أن نقبل بالتفسير السادس المتقدّم بالطريقة التي بيّناها، والمعتمدة على اللغة الأصلية للكلمة، أو نأخذ بالتفسير الثامن المفضي إلى شيء من إجمال الرواية، وعلى كلا التقديرين فهذه الرواية لا تصلح في بحثنا هنا، ولا تستطيع أن تساعدنا في إثبات مفهوم التشريعات الاحتفاظيّة الاحتياطيّة.
النتيجة
إنّني أعتقد بأنّ تصوّر الشريعة وفقاً لنظام التشريعات الأصليّة وتشريعات الحماية والتأمين، هو تصوّر حضر في وعي الفقهاء المسلمين بشكل جزئي، وهو في نفسه مهمّ جداً يساعد على فهم المنظومة القانونيّة في الإسلام من جهة، ويمكّن الفقيه من التحرّك مع التشريعات بطريقة مختلفة تلفت نظره لفرضيّات في الموضوع عليه الاشتغال عليها.
كما أعتقد بأنّ هذا الطرح يشكّل نقطةَ تماس بين أصول الفقه السنّي والشيعي في قضيّة سدّ الذرائع ومقدّمة الواجب، وهو في الوقت الذي ينفي نظريّة سدّ الذرائع لكن يمكنه إعادة إنتاج بديل لها، ويكون دليله مسانداً لفكرة التشريعات التحفّظيّة.
أكتفي بهذا القدر من إثارة هذه المداخل في هذا الموضوع، آملاً أن يتمّ تلقّيها بالقراءة والنقد الموضوعيّين، إن شاء الله تعالى.
نظام الحماية والتأمين في الشريعة الإسلاميّة /1 .. سماحة الشيخ حيدر حب الله