السيدة فاطمة المعصومة سلام الله عليها

نساء خالدات: السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام نموذجاً

الاجتهاد: فاطمة المعصومة “عليها السلام” هي السيّدة الجليلة فاطمة بنت موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام بنت وليّ الله وأخت وليّ الله وعمّة وليّ الله- كما جاء في زيارتها-.

والدتها:

فاطمة المعصومة عليها السلام هي الأخت الشقيقة للإمام الرضا عليه السلام تشترك معه في أمّ واحدة(1) فأمّها أمّ ولد تكنّى بأمّ البنين وقد ذكر لها العديد من الأسماء كنجمة وأروى وسكن وسمان وتكتم وعليه استقرّ اسمها حين ملكها أبو الحسن موسى عليه السلام وإليها يشير الشاعر بقوله:

أَلَا إنَّ خَيْرَ النَّاسِ نَفْساً وَوَالِداً وَرَهْطاً وَأَجْدَاداً عَليُّ المُعَظَّمُ
أَتَتْنــا بِـهِ لِلْعِلْمِ والحِلْمِ ثَامِنــاً إِماماً يُؤَدِّي حُجَّةَ اللهِ تَكْتُمُ

وكانت من أفضل النساء في عقلها ودينها. تقول السيّدة حميدة المصفّاة لولدها الإمام الكاظم عليه السلام: “يا بنيّ إنّ تكتم جارية ما رأيت جارية قطّ أفضل منها ولست أشكّ أنّ الله تعالى سيطهّر نسلها إن كان لها نسل وقد وهبتها لك فاستوصِ بها خيراً”. ولمّا ولدت الإمام الرضا عليه السلام سمّاها الإمام الكاظم عليه السلام بالطاهرة وقد كانت من العابدات القانتات لربّها(2).

ولادتها ووفاتها:

ولدت فاطمة المعصومةفي المدينة المنوّرة في غرّة شهر ذي القعدة الحرام سنة 371 للهجرة وقال بعضهم: إنّها سنة 381 للهجرة(3) وفي بعض المؤلّفات أنّ الظاهر عدم دقّة هذا الأخير، حيث إنّ سنة 381 هي سنة شهادة الإمام موسى الكاظم عليه السلام، وقد كان فيها رهين سجون الظالمين(4).

وكانت وفاتها في قمّ سنة 102 للهجرة(5) وذلك في العاشر من ربيع الثاني(6) وقيل: في الثاني عشر منه(7) وفيها دفنت فوفاتها قبل أخيها الإمام الرضا عليه السلام ويأتي في أخبار زيارتها عليها السلام الواردة عن الرضا عليه السلام ما يظهر منه ذلك(8).

قال المحدّث القمّي أعلى الله مقامه: ومزارها في قمّ المقدّسة ذو قبّة عالية وضريح وصحون متعدّدة وخدم وموقوفات كثيرة وهي قرّة عين قمّ وملاذ الناس ومعاذهم بحيث تشدّ إليها الرحال كلّ سنة من الأماكن البعيدة لاقتباس الفيض واكتساب الأجر من زيارتها عليها السلام (9).

فضائلها وصفاتها:

قال الشاعر:
يا بِنْتَ مُوسَى وَابْنَـةَ الأَطْهــارِ أُخْتَ الرِّضـا وَحَبِيبَةَ الجَبَّــار
يـــا دُرَّةً مِنْ بَحْرِ عِلْمٍ قَدْ بَدَت ْ لِلَّهِ دَرُّكِ وَالعُــلُوِّ السَّــــارِي
أَنْتِ الوَدِيعَةُ لِلإمامِ عَلَى الوَرَى فَخْرِ الكَرِيمِ وَصَاحِبِ الأَسْرارِ
لا زِلْتِ يا بِنْتَ الهُدى مَعْصُومَةً مِنْ كُلِّ ما يَرْتَضيــهِ البـــارِي
مَنْ زَارَ قَبْرَكِ في الجِنــانِ جَزاؤُهُ هَذا هُوَ المَنْصُوصُ في الأَخْبارِ(10)

لم يكن في ولد الإمام الكاظم عليه السلام مع كثرتهم بعد الإمام الرضا مثل هذه السيّدة الجليلة(11) وقد قيل في حقّها: (إنّها) رضعت من ثدي الإمامة والولاية، ونشأت وترعرعت في أحضان الإيمان والطهارة..تحت رعاية أخيها الإمام الرضا عليه السلام، لأنّ أباها الإمام الكاظم عليه السلام قد سجن بأمر الرشيد لذلك تكفّل أخوها رعايتها ورعاية أخواتها ورعاية كلّ العوائل من العلويّين التي كان الإمام الكاظم سلام الله عليه قائماً برعايتهم..

إنّ هذه العقيلة هي من الدوحة العلويّة النقيّة الطاهرة المطهّرة، ومن حفيدات الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء سلام الله عليها وبناتها الطيّبات العالمات المحدّثات المهاجرات اللاتي اختصهنّ الله تعالى بملكة العقل والرشاد والإيمان والثبات، والعزيمة والفداء والتضحية، وأودع فيهنّ العفّة والطهارة، وبواعث القوّة والحقّ والغلبة والكمال مع تجنبهنّ عوامل الذلّ والخذلان، والخوف والاستسلام..

تعرف هذه السيّدة بالمحدّثة، والعابدة، والمقدامة، وكريمة أهل البيت عليهم السلام. لقد كانت فاطمة عليها السلام على دين قويم صادق وانقطاع متواصل إلى الله وفي غاية الورع والتقوى والزهد، كيف لا؟ وأبوها الإمام الكبير القدر العظيم الشأن الكبير المجتهد الجادّ في الاجتهاد المشهور بالعبادة والمواظب على الطاعات المشهور بالكرامات يبيت الليل ساجداً وقائماً ويقضي النهار متصدّقاً وصائماً ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دُعي كاظماً كان يجازي المسيء بإحسانه إليه ويقابل الجاني بعفوه عنه ولكثرة عبادته كان يسمى بالعبد الصالح، ويعرف بباب الحوائج إلى الله(12).

ويظهر من الروايات أنّ فاطمة هذه كانت عابدة مقدّسة مباركة شبيهة جدّتها فاطمة الزهراء عليها السلام, وأنّها على صغر سنّها كانت لها مكانة جليلة عند أهل البيت عليهم السلام. وعند كبار فقهاء قمّ ورواتها، حيت قصدوها إلى ساوة وخرجوا في استقبالها، ثمّ أقاموا على قبرها بناء بسيطاً، ثمّ بنوا عليه قبّة وجعلوه مزاراً، وأوصى العديد منهم أن يدفنوا في جوارها(13) كما سيأتي.

التسمية بفاطمة:

اهتمّ الأئمّة عليهم السلام باسم فاطمة لأنّه اسم جدّتهم الصدّيقة الكبرى سيّدة نساء العالمين صلوات الله عليها ولذا نراهم سمّوا بناتهم بهذا الاسم وأوصوا بالتسمية به:

فعن سليمان الجعفريّ: قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: لا يدخل الفقر بيتاً فيه اسم محمّد أو أحمد أو عليّ أو الحسن أو الحسين أو جعفر أو طالب أو عبد الله أو فاطمة من النساء(14).

وعن السكونيّ قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام وأنا مغموم مكروب، فقال لي: “يا سكونيّ ممّ غمّك؟” قلت: ولدت لي ابنة فقال: “يا سكونيّ على الأرض ثقلها وعلى الله رزقها، تعيش في غير أجلك وتأكل من غير رزقك”. فسرى والله عنّي فقال لي: “ما سمّيتها؟” قلت: فاطمة، قال:”آه آه” ثمّ وضع يده على جبهته..(إلى أن قال:) “أمّا إذا سمّيتها فاطمة فلا تسبّها ولا تلعنها ولا تضربها”(15). ومن هنا كان للإمام الكاظم عليه السلام أربع بنات سمّاهنّ بفاطمة(16).

فاطمة العابدة:

من الطبيعيّ أن تكون هذه السيّدة الجليلة من العابدات القانتات حيث تربّت في أجواء العبادة والطاعة بين أبيها العبد الصالح عليه السلام وأمّها الطاهرة رضوان الله عليها.

والمحراب الذي كانت فاطمة رضوان الله عليها تصلّي فيه في مدينة قمّ موجود إلى الآن في دار موسى بن خزرج ويزوره الناس(17). ولا يزال هذا المحراب إلى يومنا هذا يؤمّه الناس للصلاة والدعاء والتبرّك، وهو الآن في مسجد عامر بقمّ المقدسة، وقد جدّدت عمارته أخيراً بشكل يناسب مقام السيّدة فاطمة المعصومة رضوان الله عليها(18).

فاطمة وسبب شهرتها بالمعصومة:

وقد اشتهرت هذه السيّدة الجليلة بلقب المعصومة حتّى باتت تعرف وقد أرجع بعضهم ذلك لأحد سببين:

الأوّل: أنّه لمّا كان عمرها رضوان الله عليها قصيراً- لم يتجاوز الثلاثين على أكثر الروايات -، أطلق عليها الإيرانيّون “معصومة فاطمة” أو “معصومة قمّ”، لأنّ معصوم بالفارسيّة بمعنى البريء ويوصف بها الطفل البريء- فيكون ذلك للإشارة إلى طهارتها وصفاء روحها -.

الثاني: أنّ ذلك يعود لطهارتها وعصمتها عن الذنوب، فإنّ العصمة على قسمين، عصمة واجبة كالتي ثبتت للأئمّة المعصومين عليهم السلام، وعصمة جائزة تثبت لكبار أولياء الله تعالى المقدّسين المطهّرين عن الذنوب(19). ولعلّ ما جاء في ثواب زيارتها ممّا ورد التعبير بمثله للأئمّة المعصومين عليهم السلام يؤيّد هذا الوجه كالتعبير بأنّ من زارها فله الجنّة أو وجبت له الجنّة ونحوها ممّا سيأتي..

وقد يضاف إلى هذين الأمرين أمر آخر محتمل وإن كنّا لا نملك دليلاً عليه: أنّه ربّما يكون ذلك بسبب اعتصامها بأهل قمّ فإنّها التجأت إليهم ونزلت عندهم والعصمة في لغة العرب تأتي بمعنى المنع. والله العالم. هذا وقد نسب للإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: “من زار المعصومة بقمّ كمن زارني”(20).

فاطمة الشفيعة:

ولمنزلتها العظيمة ومقامها الرفيع عند الله تعالى فقد أعطيت الشفاعة فعن القاضي نور الله التستريّ قدّس الله روحه في كتاب “مجالس المؤمنين” عن الصادق عليه السلام أنّه قال: “إنّ لله حرماً وهو مكّة، ألا إنّ لرسول الله حرماً وهو المدينة، ألا وإنّ لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، ألا وإنّ قمّ الكوفة الصغيرة ألا إنّ للجنّة ثمانية أبواب ثلاثة منها إلى قمّ، تقبض فيها امرأة من ولدي اسمها فاطمة بنت موسى، وتدخل بشفاعتها شيعتي الجنّة بأجمعهم”(21).

العالمة “فداها أبوها”:

ونقل بعضهم عن المرحوم السيّد نصر الله المستنبط عن كتاب كشف اللآلي لابن العرندس الحلّي (المتوفّى حدود سنة 830 هـ)، أنّ جمعاً من الشيعة دخلوا المدينة يحملون بحوزتهم عدّة من الأسئلة المكتوبة قاصدين أحداً من أهل البيت عليهم السلام وصادف أنّ الإمام موسى بن جعفرعليهما السلام كان في سفر والإمام الرضا عليه السلام كان خارج المدينة. وحينما عزموا على الرحيل ومغادرة المدينة تأثّروا وأصابهم الغمّ لعدم ملاقاتهم الإمام عليه السلام وعودتهم إلى وطنهم وأيديهم خالية.

ولمّا شاهدت السيّدة المعصومة غمّ هؤلاء وتأثّرهم- وهي لم تكن قد وصلت إلى سنّ البلوغ آنذاك- قامت بكتابة الأجوبة على أسئلتهم وقدّمتها لهم. وغادر أولئك الشيعة المدينة فرحين مسرورين والتقوا بالإمام الكاظم عليه السلام خارج المدينة، فقصّوا على الإمام عليه السلام ما جرى معهم وأروه ما كتبته السيّدة المعصومة سلام الله عليها فسرّ الإمام عليه السلام بذلك وقال: “فداها أبوها”(22).

كريمة أهل البيت عليهم السلام:

وهذا لقب اشتهرت به فاطمة المعصومة سلام الله عليها وهناك قصّة منقولة عن السيّد محمود المرعشيّ والد السيّد شهاب الدّين المرعشيّ قدّس سرّهما ورد فيها هذا اللقب وحاصلها:

أنّه كان يريد معرفة قبر الصدّيقة الزهراء عليها السلام, وقد توسّل إلى الله تعالى من أجل ذلك كثيراً، حتّى أنّه دأب على ذلك أربعين ليلة من ليالي الأربعاء من كلّ أسبوع في مسجد السهلة بالكوفة، وفي الليلة الأخيرة حظي بشرف لقاء الإمام المعصوم عليه السلام،

فقال له الإمام عليه السلام: “عليك بكريمة أهل البيت”، فظنّ السيّد محمود المرعشيّ أنّ المراد بكريمة أهل البيت عليها السلام هي الصدّيقة الزهراء عليها السلام فقال للإمام عليه السلام: جعلت فداك إنّما توسّلت لهذا الغرض، لأعلم بموضع قبرها، وأتشرّف بزيارتها، فقال عليه السلام: “مرادي من كريمة أهل البيت قبر السيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام في قمّ..” وعلى أثر ذلك عزم السيّد محمود المرعشيّ على السفر من النجف الأشرف إلى قمّ لزيارة كريمة أهل البيت عليها السلام (23).

فاطمة المعصومة الراوية والمحدّثة:

كانت السيّدة فاطمة المعصومة بنت الإمام الكاظم عليهما السلام عالمة محدّثة راوية، حدّثت عن آبائها الطاهرين عليهم السلام، وحدّث عنها جماعة من أرباب العلم والحديث، وأثبت لها أصحاب السنن والآثار روايات ثابتة وصحيحة من الفريقين الخاصّة والعامّة، فذكروا أحاديثها في مرتبة الصحاح الجديرة بالقبول والاعتماد.

روى الحافظ شمس الدّين محمّد بن محمّد الجزريّ الشافعيّ المتوفّى سنة 318 ه‍، بسنده عن بكر بن أحمد القصريّ، عن فاطمة بنت عليّ بن موسى الرضا، عن فاطمة وزينب وأمّ كلثوم بنات موسى بن جعفر، قلن حدّثتنا فاطمة بنت جعفر بن محمّد الصادق، حدّثتني فاطمة بنت محمّد بن عليّ، حدّثتني فاطمة بنت عليّ بن الحسين، حدّثتني فاطمة وسكينة ابنتا الحسين بن عليّ، عن أم ّكلثوم بنت فاطمة بنت النبيّ وسلم ورضي عنها قالت: “أنسيتم قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم غدير خمّ: من كنت مولاه فعليّ مولاه، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى عليهما السلام”.

وبسنده عن بكر بن أحنف قال: حدّثتنا فاطمة بنت عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، قالت: حدّثتني فاطمة وزينب وأمّ كلثوم بنات موسى بن جعفر عليهم السلام، قلن: حدّثتنا فاطمة بنت جعفر بن محمّد عليهما السلام، قالت: حدّثتني فاطمة بنت محمّد بن عليّ عليهما السلام، قالت: حدّثتني فاطمة بنت عليّ بن الحسين عليهما السلام، قالت: حدّثتني فاطمة وسكينة ابنتا الحسين بن عليّ عليهما السلام، عن أمّ كلثوم بنت عليّ عليه السلام، عن فاطمة بنت رسول الله قالت: “سمعت رسول الله يقول: لمّا أسري بي إلى السماء دخلت الجنّة فإذا أنا بقصر من درّة بيضاء مجوّفة، وعليها باب مكلّل بالدرّ والياقوت، وعلى الباب ستر، فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الباب: لا إله إلّا الله، محمّد رسول الله، عليّ وليّ الله، وإذا مكتوب على الستر: بخٍ بخٍ مَن مثل شيعة عليّ..” الحديث.

وروى الصدوق في الأمالي عن أحمد بن الحسين المعروف بأبي عليّ بن عبد ربّه، قال: حدّثنا الحسن بن عليّ السكريّ، قال: حدّثنا محمّد بن زكريا الجوهريّ، قال: حدّثنا العبّاس بن بكار، قال: حدّثني الحسن بن يزيد، عن فاطمة بنت موسى، عن عمر بن عليّ بن الحسين، عن فاطمة بنت الحسين عليه السلام، عن أسماء بنت أبي بكر، عن صفيّة بنت عبد المطلب، قالت: لمّا سقط الحسين عليه السلام من بطن أمّه وكنت وليتها قال النبيّ: “يا عمّة هلمّي إليّ ابني”، فقلت: يا رسول الله، إنّما لم ننظِّفه بعد، فقال: “يا عمّة أنت تنظّفيه؟! إنّ الله تبارك وتعالى قد نظّفه وطهَّره”(24).

في سبب عدم زواجها:

لم تكن السيّدة فاطمة المعصومة متزوّجة من أحد من أبناء زمانها وقد روي أنّ هذا كان حال بقيّة أخواتها فقد ذكر اليعقوبيّ صاحب التاريخ أنّ الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام أوصى ألّا تتزوّج بناته، فلم تتزوّج واحدة منهنّ إلّا أمّ سلمة، فإنّها تزوّجت بمصر، تزوّجها القاسم بن محمّد بن جعفر بن محمّد، فجرى في هذا بينه وبين أهله شيء شديد، حتّى حلف أنّه ما كشف لها كنفاً(25)، وأنّه ما أراد إلّا أن يحجّ بها(26).

ويرى بعض المحقّقين أنّ هذه الرواية موضوعة فيقول:
وهذا القول لا يمكن المساعدة عليه بوجه من الوجوه فإنّ وصيّة الإمام عليه السلام..لم تنصّ على منع بناته من الزواج وإنّما جعلت أمر ذلك بيد الإمام الرضا عليه السلام وهذا القول من الغرابة بمكان لم يذكره سواه وهو من الموضوعات إذ كيف يمنع الإمام بناته من الاقتران الذي حثّ عليه الإسلام وندب إليه؟!(27)

لكن تذكر بعض المصادر ما لعلّه يكون سبباً وراء عدم زواجهنّ:

1- فيقول المحدّث القمّي أعلى الله مقامه: وفي تاريخ قمّ ما حاصله: أنّ الرضائيّة لم يزوّجوا بناتهم لعدم الكفؤ لهم (كذا) وكان للإمام موسى الكاظم عليه السلام إحدى وعشرون بنتاً لم تتزوّج إحداهنّ وكان هذا سائراً في بناتهم وقد أوقف محمّد (الجواد) بن عليّ الرضا عليه السلام قرى في المدينة على أخواته وبناته اللاتي لم يتزوجن وكان يرسل نصيب الرضائيّة من منافع هذه القرى من المدينة إلى قمّ(28).

2- وفيما أجاب به الكاظم عليه السلام هارون الرشيد حينما سأله: فلم لا تزوّج النسوان من بني عمومتهنّ وأكفائهنّ؟ قال: “اليد تقصر عن ذلك” قال: فما حال الضيعة؟ قال: “تعطي في وقت وتمنع في آخر..”(29).

3- وذكر بعضهم أنّ ذلك جاء نتيجة الضغوطات العنيفة والممارسات التعسفيّة التي كانت السلطة العبّاسيّة تنتهجها تجاه الأئمّة عليهم السلام وشيعتهم فما كان أحدٌ ليجرأ أن يتقدّم من الإمام ليطلب كريمته. بل إنّ الشيعة- في فترات مختلفة من الزمن- ما كانوا ليقتربوا من دار المعصومين عليهم السلام في استفتاءاتهم فما ظنّك بمن يريد مصاهرة الإمام؟! (30)

وقد جاء في إحدى وصايا الإمام الكاظم عليه السلام أنّه جعل أمر زواجهنّ للإمام الرضا عليه السلام ففي الرواية عنه عليه السلام: “..وإن أراد رجل منهم أن يزوّج أخته فليس له أن يزوّجها إلّا بإذنه وأمره، فإنّه أعرف بمناكح قومه وأيّ سلطان أو أحد من الناس كفّه عن شيء أو حال بينه وبين شيء ممّا ذكرت في كتابي هذا أو أحد ممّن ذكرت، فهو من الله ومن رسوله بريء والله ورسوله منه براء وعليه لعنة الله وغضبه ولعنة اللاعنين والملائكة المقرّبين والنبيّين والمرسلين وجماعة المؤمنين وليس لأحد من السلاطين أن يكفّه عن شيء..” إلى أن يقول: “ولا يزوّج بناتي أحد من إخوتهنّ من أمّهاتهنّ ولا سلطان ولا عمّ إلّا برأيه و مشورته، فإن فعلوا غير ذلك فقد خالفوا الله ورسوله وجاهدوه في ملكه وهو أعرف بمناكح قومه، فإن أراد أن يزوّج زوّج وإن أراد أن يترك ترك وقد أوصيتهنّ بمثل ما ذكرت في كتابي هذا..(31)

وفي وصيّته الأخرى بصدقة أرضه على أولاده عليه السلام: “..فإن تزوّجت امرأة من ولد موسى فلا حقّ لها في هذه الصدقة حتّى ترجع إليها بغير زوج فإن رجعت كان لها مثل حظّ التي لم تتزوّج من بنات موسى..”(32).

وبالتأمّل في هذه الروايات ربما يقال: إنّ الإمام الكاظم عليه السلام كان قد أوصى بأن لا تتزوّج إحدى بناته إلّا بإذن الرضا عليه السلام وذلك صيانة لنسل رسول الله أن يقرب منه من ليس كفؤاً له، والذي حثّت الشريعة المقدّسة على ملاحظته في أمر زواج المرأة.

خصوصاً أنّنا نرى هذا الأمر واضحاً في بنات الرسالة اللواتي تربّين في بيت النبوّة والإمامة فها هو الإمام الحسين عليه السلام يقول لابن أخيه الحسن بن الحسن المثنّى لمّا جاءه خاطباً إحدى بنتيه فاطمة أو سكينة وقال: اختر لي إحديهما فقال الحسين عليه السلام: “قد اخترت لك ابنتي فاطمة فهي أكثرهما شبهاً بأمّي فاطمة بنت رسول الله أمّا في الدّين فتقوم الليل كلّه وتصوم النهار وأمّا في الجمال فتشبه الحور العين وأمّا سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله تعالى فلا تصلح لرجل!”(33).

ومن المحتمل أن يكون بنو العبّاس قد رغبوا بالتزويج بهن ولعلّ كلام الرشيد وسؤاله الإمام عليه السلام عن سبب عدم تزويجه لبناته من أبناء عمومتهن وأكفائهنّ كان يريد به بني العبّاس والإمام لمكان التقيّة لا يمكن أن يجيبه بأنّ هؤلاء ليسوا أكفاء لهنّ فتعلّل له بما ذكر.

كما أنّ من المحتمل أنّ الإمام الكاظم عليه السلام كان يخشى من إخوة الإمام الرضا عليه السلام أن يقوموا بتزويج بناته من بعض الرجال غير الأكفاء فأوصى عليه السلام بأن يكون أمر تزويجهنّ بيد الإمام الرضا عليه السلام خوفاً من قهرهنّ على الزواج بمن لا يرغبن به أو بمن لا يلقن له.

وإلى هذا لعلّه الإشارة في وصيّة الإمام عليه السلام المتقدّمة فقد شدَّد فيها على الأخوة والسلطان فلاحظ.

فمن المحتمل أن يكون هذا أو ذاك سبباً لعدم زواجهنّ- والله العالم- ليضيف إلى مأساتهم واحداً من المحن والابتلاءات الكثيرة التي جرت على آل بيت النبوّة صلوات الله عليهم.

الهوامش

* كتاب كريمة أهل البيت (ع)، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

1- الطبريّ الإماميّ ابن رستم: دلائل الإمامة ص 309.
2- أنظر: سلسلة مجالس العترة غريب خراسان ص 22- 24.
3- الحسّون ومشكور: أعلام النساء المؤمنات ص 576 الشاكريّ الحاج حسين: موسوعة المصطفى والعترة ج 11 ص 28.
4- الشاكريّ الحاج حسين: موسوعة المصطفى والعترة ج 11 ص 28.
5- النمازيّ الشيخ عليّ: مستدرك سفينة البحار ج 8 ص 261.
6- أنظر: مهديّ بور عليّ أكبر: كريمة أهل بيت عليهم السلام ص 99 والشاكريّ الحاج حسين: موسوعة المصطفى والعترة ج 11 ص 28.
7- أنظر: مهديّ بور عليّ أكبر: كريمة أهل بيت عليهم السلام ص 99 وذكر قولاً آخر أيضاً عن بعضهم أنّ وفاتها في الثامن من شعبان ثمّ ذكر ما يرجح القول الأوّل. فلاحظ.
8- التستريّ الشيخ محمّد تقيّ: رسالة في تواريخ النبيّ والآل صلوات الله عليهم الملحقة بقاموس الرجال ج 12 ص 103.
9- القمّي الشيخ عبّاس: منتهى الآمال ج 2 ص 378.
10- الأعلميّ الحائريّ الشيخ محمّد حسين: تراجم أعلام النساء ج 2 ص 355, مع إصلاح منا للأبيات.
11- التستريّ الشيخ محمّد تقيّ: رسالة في تواريخ النبيّ والآل صلوات الله عليهم الملحقة بقاموس الرجال ج 12 ص 103.
12- يراجع هذا في أعلام النساء المؤمنات ص 576.
13- الكورانيّ العامليّ الشيخ عليّ: عصر الظهور ص 214.
14- الكلينيّ: الكافي ج 6 ص 19.
15- المصدر السابق ص 48.
16- سبط ابن الجوزيّ: تذكرة الخواص ص 351.
17- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 57 ص 219.
18- الشاكريّ الحاج حسين: موسوعة المصطفى والعترة ج 11 ص 29.
19- الكورانيّ العامليّ الشيخ عليّ: عصر الظهور ص 215.
20- رياحين الشريعة ج 5 ص 35وإن كنّا لم نعثر عليه بهذا النصّ في الجوامع الحديثيّة, فلعلّه من النقل بالمعنى لشهرتها بذلك, فلاحظ.
21- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 57 ص 228.
22- مهديّ بور عليّ أكبر: كريمة أهل البيت عليهم السلام ص 170- 171, وفيه أنّ الكتاب المشار إليه هناك نسخة خطيّة منه في إحدى مكتبات النجف الأشرف, على ساكنه آلاف التحيّة والسلام.
23- المعلّم محمّد علي: فاطمة المعصومة ص 187.
24- الحسّون ومشكور: أعلام النساء المؤمنات ص 576- 579.
25- الكَنَف: الجانب يعني أنّه لم يقربها.
26- اليعقوبيّ: تاريخ اليعقوبيّ ج 2 ص 415.
27- القرشيّ باقر شريف: حياة الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام ج 2 ص 497.
28- القمّي الشيخ عبّاس: منتهى الآمال ج 2 ص 380- 381.
29- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 85.
30- هاشم السيّد أبو الحسن سيّدة عشّ آل محمّد , ص 47.
31- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 317.
32- المصدر السابق ج 7 ص 54.
33- القمّي الشيخ عبّاس: الكنى والألقاب ج 2 ص 465.

المصدر: شبكة المعارف الاسلامية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky