الاجتهاد: يدافع الباحث سعد الدين العثماني في كتابه “الدولة المدنية في ظلال مقاصد الشريعة الإسلامية” عن أطروحته القائلة بالتمييز بين الديني والسياسي، منطلقاً من مسلمة أساسية وهي أن الدولة الإسلامية تجربة تاريخية قد مرت وإنتهت.
ركز الباحث سعد الدين العثماني في طرحه لمفاهيم، مدنية المجال الدنيوي ومدنية الممارسة السياسية في الإسلام، ودور مقاصد الشريعة في مدنيةِ الدّولة، على التمييز بين مجالين مهمين جدا، وهما المجال الديني والدنيوي، مؤكدا على أن للدنيا سياستها، وللدين سياسته.
ويدخل هذا التمييز في إطار الطرح الذي قدمه في أطروحته “الدولة المدنية في ظلال مقاصد الشريعة الإسلامية”، والتي ألقاها في رحاب مؤسسة “مؤمنون بلا حدود” للدراسات والأبحاث بمعية مجموعة من الباحثين المغاربية، الذين ناقشوه في طرحه، مبدين آراءهم وأفكارهم حول الأطروحة.
في بداية طرحه، عرف العثماني الدولة المدنية ككيان معنوي، قبل أن ينطلق في اللبنات المؤسسة لنظريته في أهمية الدولة المدنية في ظل مقاصد الشريعة، موضحا أن مفهوم الدولة المدنية موجود في الإسلام، وأن ما نحتاجه اليوم، ما هو إلا سبر أغوار الشريعة لاستخلاص كل المفاهيم المؤسسة لهذا المفهوم، موضحا بذلك مدنية الدولة من منظور إسلامي.
ولأجل ذلك اعتمد على المفهوم الجديد للدولة المدنية، فمفهوم الدولة اليوم يختلف جدا عما نجده في أدبيات ما قبل القرن السابع عشر، كما قال العثماني، فهذا المفهوم انقلب انقلابا جذريا، إذ أصبحت الدولة تجسيدا لقانون أمة ذات سيادة، والأهم، يضيف العثماني، أن اليوم أصبحت الدولة شخصية قانونية، معنوية مستقلة، حتى عن المجتمع وتتمتع بالدوام والاستمرار، يتغير الحاكمون ولا تتغير الدولة. خلافا للفكر السياسي التقليدي قبل القرن الثاني عشر، فبتغير الحكام تتغير الدولة، لذلك نقول الدولة العباسية الدولة الأموية…وهذا أمر عاشه العالم كله، لأنه كان فكرا سياسيا سائدا آنذاك.
الفكر الإسلامي في المجال السياسي
وأيضا فالفكر السياسي الإسلامي القديم، كان يربط بين الانتماء السياسي من جهة والانتماء العرقي من جهة أخرى، حيث كانت الدولة هي دولة مسلمين أو دولة فرس، ولم تكن الدولة لها حدود جغرافية متعارف عليها، لكن إن امتد الجيش لدولة معينة تمتد حدود الدولة معه. وهذا هو الفكر السياسي التقليدي القائم قديما؛ أي أن الدولة والفكر السياسي المنفذ كان واحدا، لم يكن هناك تمييز بينهما كما نعيشه اليوم.
ومع الأسف، يضيف العثماني، فجزء من الفكر الإسلامي في المجال السياسي اليوم انبنى على أسس الفكر السياسي التقليدي السابق ذكره، وحافظ على نفس المفهوم التقليديي، على الرغم من أن مفهوم الدولة انقلب جذريا، مما يدعو لإعادة النظر في ما تتبنى النظريات الإسلاماوية لمفهوم الدولة، التي اعتمدت في فكرها السياسي على نظرية سياسية صيغت عبر قرون، معتبرة أن الأمة الإسلامية هي الدولة الإسلامية، ويعود ذلك لأنه لم يكن آنذاك أي تفكير سياسي مبرر للفصل بينهما.
كما أن أساس الرابطة داخل الدولة كان أساسا دينيا، والذي لا ينتمي لنفس الدين المؤسس لهذه الدولة، فيكون تابعا فقط، الشيء الذي يدعو اليوم إلى إعادة النظر في الكثير من المفردات المتداولة، فيما يخص الفكر السياسي الذي يسمى إسلاميا.
لكن إذا رجعنا إلى أسس النظرة الإسلامية للدولة، يمكننا أن نجدها عموما على الشكل التالي؛ أي أن فقه الدولة مثل الفقه السياسي، وهو منطقة مفوضة للإنسان لاجتهاده وابتكاره وتجاربه، ولذلك ليست هناك أي أحكام ولا نظام سياسي محدد، النظام هو شبكة متكاملة من العلاقات والأسس الواضحة.
دعا العثماني كل من يعمل العقل أن يعتمد على الفكر المختمر للمفكرين؛ أي أن يأخذه في مراحله النهائية، قبل الوقوف عند نصوص ابن تيمية التي اعتمدها في طرحه، فإذا أردنا أن نقرأ لأي مفكر من أرسطو إلى أفلاطون إلى مفكرين اليوم، يجب أن نعتمد على آخر ما كتبوا. ابن تيمية كتب عقودا طويلة من الزمن، وما كتبه في البداية قد يتراجع عنه في الوسط وقد يكون في مرحلة النضج من حياته قد غير الكثير من أفكاره، لذلك يجب أن ننتبه عندما نقرأ لمفكر معين أو عالم معين، وأن نأخذ بعين الاعتبار كيف يتطور تاريخ الفكر.
وأضاف أنه ليست هناك انتقائية في فكر مفكر، الناس يقرؤون ما يريدون، لذلك يجب أن نأخذ الأمور بشمولية وننظر. أول من نظر في قضية التمييز، هو ابن تيمية، فهناك عبادات تصلح في الدين وعادات يحتاج الإنسان إليها باستقراء. ولذلك يقول ابن تيمية في أحد نصوصه أصل الضرر في أهل الأرض الخلط بين العادات والعبادات” اتخاد دين لم يشرعه الله، أو تحريم ما لم يحرمه الله”، وهذا الأصل الذي عمل عليه مجموعة من الأئمة .
واختتم قوله بكوننا اليوم بحاجة إلى تدقيق للمفاهيم لفك الاشتباك في عقل الإنسان المسلم، الملاذ في كل هذا هو التشبث بمقاصد الشريعة بدلا من الغرق في الأحكام الجزئية، وهذا سبق التطرق إليه من قبل الذين كتبوا في السياسة الشرعية، خلافا للكتب السلطانية التي تصف النظام السياسي لحكمها، السياسة الشرعية هي نوع من الكبد الفكري لتطوير المنظورات الشرعية الموجودة، لتواكب التطورات التي وقعت عبر القرون. والسياسة الشرعية هي كل ما يسعى لتقريب الناس إلى الصلاح وإبعادهم عن الفساد.
الدكتور العبدلاوي
من جهته قال الدكتور العبدلاوي، أستاذ جامعي ومدير مركز مدى، في قراءته لما قدمه العثماني، إن العمل لاتجاه بناء الدولة المدنية وفي نفس الوقت تمدين للممارسة السياسية بالمعنى الذي استعمله الشهيد بن بركة، أي “نحن نبني الطريق وهي تبنينا”، هو تأسيس لكتلة وسطية تلغي الإسلاماويين والمتطرفين، وتدعو إلى مشروع يقصي المتطرفين، وهنا تكون الإسلاماوية المغاربية خاصة في المغرب وتونس، نموذجا يؤكد إمكانية التجاوز والاستيعاب الفكري.
وأضاف ماذا يعني أن نتحدث عن الطاعات العقلية؟ كأننا نتحدث عن الشموس الليلية، العقل هو سؤال هو استشكال هو إضافة هو نقد، لا يمكن أن نخاطب العقل بلغة الطاعة، لذلك فالعقل الذي يتحدث عنه ابن تيمية لا علاقة له بالعقل الذي نتحدث عنه اليوم.
وفي طرحه لأول إشكالية واجهته عند قراءة العمل الذي قدمه العثماني، هو بعض الاحترازات المنهجية، التي تعود لاختلاف في المرجعيات والأيديولوجيات مع الآخر وتحكم عليه، ما يعد أمرا عقيما موضوعيا، والأرجح يقول العبدلاوي، هو أن ينبني الحكم على السياق، عوض الغرق في المفارقات الأيديولوجية، خاصة وأن بؤرة عمل السيد العثماني هي الدولة المدنية التي يتطلب تعريفها، يجب تحديد مفهومها في سياقها الرئيس، وهي التسلط الذي استقر وتطور منذ عصر الأنوار الفرنسي ومنذ تمييز فلسفة التعاقد والنظرية السياسية عند جون جاك روسو، بين حالة الطبيعة السابقة عن الانتظار وبين المجتمع الجديد.
محمد بن صالح، الأستاذ الجامعي الباحث
أما محمد بن صالح، الأستاذ الجامعي الباحث، والأمين العام لمركز مغارب للدراسات في الاجتماع الإنساني، فقد أوضح أن ثمة إشكالات تفرض نفسها بقوة، وينبغي الإجابة عنها في سياق الدولة المدنية من قبيل، كيف يتم إنزالها؟ هل القصد هو اعتماد القانون الوضعي المتوافق مع مبادئ الشرع؟ وإذا ما تعارضت هذه القوانين مع الشريعة ما الحل؟
فقد نحا بن صالح نحو فتح أفق التفكير في ما بعد سؤال المواءمة بين الإسلام و”الدولة المدنية”، متفاعلة مع أطروحة “الدولة المدنية في ظل مقاصد الشريعة” من خلال مداخل معرفية توزعت بين المنهاجي والمفاهيمي والسياسي والتاريخي والمقاصدي، إذ نوّه إلى أن الأطروحة تندرج في إطار “فكر المراجعات” الذي عبّرت عنه بعض الكتابات في الصفّ الإسلامي بشأن مواقفها من مفاهيم طالما اعتبرت أسلحة للغزو الفكري والمسخ الثقافي، باعتبار أنها تتموضع في سياق تجاوز رؤية الإسلاميين التقليدية لما يسمّى بالدولة المدنية، والتي أنتجت في سياق الاستجابة للتحدي الكولونيالي والتفاعل مع ما سمي صدمة الحداثة، والتي ازدادت حدّة مع سقوط ما كانت تعتبره الذاكرة الجمعية في عديد المناطق العربية “دولة الخلافة الإسلامية
وبعد أن عدّد أسباب المواقف المتشنجة والمتضاربة من “الدولة المدنية”، أشار الأستاذ بنصالح إلى أن افتراض انتماء الدولة المدنية إلى حقل السياسة الغربي بُني على غير أساس، فالدولة المدنية مصطلح عربي لا أثر له في الفلسفة السياسية الغربية أو في تاريخ الفكر السياسي الغربي، فهو غير “المدينة- الدولة” أو “الدولة-المدينة” التي عرفتها الحياة السياسية في اليونان القديمة.
أما في الغرب، فلا تنظير لدولة بهذا المسمى، فالترجمة الحرفية للدولة المدنية إلى الفرنسية تجعلنا أمام معنى آخر، هو الحالة المدنية “l’état civil”، وهو مفهوم لا علاقة لها بالسياسة، وإنما معناه وضعية الشخص العائلية والاجتماعية. أما الشكل الحديث للدولة، فهو دولة القانون “l’Etat de droit”، أو “The rule of law” أي حكم القانون أو سيادة القانون، وقد ظهر المفهوم في ألمانيا القرن الثامن عشر “Rechtsstaat”، وكان كانط هو أول من نحته ونظّر له، وحتى مقالة جون لوك “في الحكم المدني” التي جاءت في سياق ما سمي بالثورة المجيدة في انجلترا كانت تنحو هذا المنحى.
الدكتور حسن طارق المتخصص في العلوم السياسية
ويقول الدكتور حسن طارق المتخصص في العلوم السياسية، قراءة لنصوص د. العثماني، والتي تنتصرُ منهجياً للتأصيل الإسلامي لفكرة الدولة المدنية، أنها تبدو بعيدة عن الاستعمال السياسوي والتكتيكي للخطاب حول مدنية الدولة من طرف بعض القوى “الإسلامية ” ، والذي ساد في لحظة ما بعد انفجارات 2011، منتجاً في حالات كثيرة مفاهيم هجينة حول الموضوع . وما يُمكن تسجيله هنا، هو أن هذه الأطروحة المنتصرة لمدنية الدولة ،تبقى جد متقدمة مع التوجهات الفكرية السائدة حتى داخل العائلة الأيديولوجية للكاتب ،ولعل أبرز مثال على ذلك موقف الأستاذ أحمد الريسوني الذي يكاد يطابق بين الدولة المدنية والدولة اللادينية .
ويضيف أنه على المُستوى الفكري والنظري، فإن مُساهمة العثماني ،لا تحمل الكثير من الجِدّة، خاصة عندما نستحضر ما كُتب حول “العلمانية الجزئية ” أو “الدين العلماني “،لكن القُبّعة الحركية للكاتب ،تمنح لأطروحته أفقاً واسعاً ضمن مُمكنات تجديد الفكر السياسي الإسلامي ،من زاويتي البحث عن المُشترك الإسلامي /العلماني ،و الاشتباك مع أفكار الحداثة السياسية .
والواقع أن العثماني ، راكم منذ سنواتٍ ريادةً واضحةً في هذا السياق ؛ فقد صاغ خلال الثمانينيات كتيبا /وثيقة حول ” الفقه الدعوي.. مساهمة في التأصيل” التي أسّست لبداية المراجعات الكبرى التي قادت لتغيير الموقف الإسلامي من قضايا الدولة والشرعية ، ثم كتب سنوات بعد ذلك حول ” المُشاركة السياسية في فقه ابن تيمية” دفاعاً عن فكرة المُشاركة ليُساهم في بداية الألفية في صياغة وثيقة حول ” العدالة والتنمية من الهوية الى التدبير” دفاعاً عن تمييز واضحٍ بين السياسي والدّعوي في العمل الحركي الإسلامي ،وهو اليوم بهذه السلسلة الجديدة من المقالات يضع الرِّجْل الأولى للإسلاميين المغاربة في القارة “الرّجيمة” للعلمانية !
وإذا كانت الإسهامات التّجديدية للكاتب ،في صياغة المراجعات الكبرى للحركة الإسلامية ،سواءٌ في العلاقة مع قضايا الدولة ،الشرعية ،المشاركة و التدبير ،قد كانت محكومة في نهاية المطاف بذكاءٍ جماعي ،للتكيف الإيديولوجي و الحركي مع ثوابت وتحولات الحقل السياسي المغربي، وهو ما جعل اجتهاداته تتزامن مع اجتهادات مُجايليه، أمثال محمد يتيم ، أبو زيد المقرئ،..،فإنه في هذا السّلسلة الأخيرة ،وهو ينتصر لمدنية الدولة ،ويذهب بعيداً في التمييز بين الديني والسياسي ،يبدو متقدماً قليلاً أو كثيراً عن المزاج العام الذي يؤطر التفكير في هذه القضايا داخل الحركة الإسلامية .
و مرّةً أخرى، فإن السياق قد يكون حاسماً في إنضاج هذه التحولات الفكرية المهمة ،وهنا فإن فرضية “أثر التدبير الحكومي “،قد تحتفظ بجانبٍ من القدرة التفسيرية ، لقد شكل تدبير الشأن العام اختبارا قوياً ،لقدرة الإسلاميين على تمثل الفرز الواضح والضروري بين مجال الدين ومجال السياسة ،وبين مجال الدين ومجالات السياسات العمومية ،وهو ما يسمح بتصور تمرين “السلطة” والمشاركة في التدبير ،كمُختبرٍ لإعادة بناء المشروع السياسي في علاقة بالمرجعيات الأيديولوجيات والمذهبية ،و في حالة “الإسلاميين ” كفرصةٍ للخضوع لمسارٍ من “العلمنة الصامتة “.
قد يبدو من المهم التساؤل في الأخير حول الإمكانيات التي قد يسمح بها على المستوى الفكري ،ارتكاز مثل هذه المقاربات التوفيقية التي تتقدم بحذر، خطوة صغيرة ومهمة ،في اتجاه “اللائكية” دون أن تصل الى حدود “الّدهرية”، على المنجز الفكري الحديث المبني على تجاوز الصدامية بين الاتجاهات العلمانية والاتجاهات الدينية، ضمن الأفق الذي تقدمه أطروحة ما بعد العلمانية أو أطروحة الليبرالية السياسية لراولز كتجاوز للعلمانية الشاملة المستأصلة للدين، و للديانية الساعية لاجتثاث العلمانية؟