الاجتهاد: إنّ من خصائص الشريعة الإسلاميّة السماحة واليسر، وهما أمران مستفادان من أُصولها وفروعها، وأن الإحسان في المعاملات من وسائل هذه السماحة، وأسباب اليسر. / بقلم الدكتور إدريس العلوي *
كما أنّ هذه الشريعة قائمة على معنىً اجتماعي سواء على صعيد العبادات أو المعاملات؛ ممّا يحقّق عوامل التعاون والتضامن.
إنّ الناظر للتراث الفقهي الإسلامي، الناطق بالعظمة والخلود، ليقف مشدوهاً وهو يقدّر قيمة ما تركه الأجداد للأحفاد. ويزداد عبء هذا التقدير في عصرنا الحاضر الذي أصبحنا نطلّ فيه على ذلك التراث الزاهي من جميع أطرافه، وقد اتّسعت آثاره، وترامت نواحيه، وهو يزخر بعلوم شتّى.
وقد حاول بعض الدارسين والمهتمّين بهذا التراث الخالد أن تتعلّق همّته بمحاولة إخراجه إلى الوجود بوسائل التحقيق والتوثيق المختلفة، وهي ناحية لا ينكر فضلها، لما لها من مراعاة الحفظ والصيانة، ولكنّ ذلك لا يكفي في خدمة هذا التراث واستغلاله وتقريبه إلى الأذهان والواقع المعاش ليكون مرآة للبيئة الاجتماعية المطبّق فيها، ما لم يعزّز بجانب الدراسة والتمحيص والتقويم والمقارنة بالأوضاع الحاليّة.
وما شاع من الدراسات القانونيّة المتعددة الجوانب في مختلف مظاهر الحياة الاجتماعيّة.
وإنّنا حين نذكر هذا النوع من الدراسة المبنيّة على المقارنة والمقابلة، فلسنا نحطّ من قدر فقهنا الإسلامي الذي سادت أحكامه، وامتدّت شجرته الوارفة الظلال على جميع الأوطان الإسلاميّة فالشريعة الإسلاميّة بحكم محاسن أحكامها، وتعدّد مصادرها هي ملائمة لكلّ عصر وأوان، مهما امتدّت الدنيا وتجدّد تقدّمها ورقيّها، وهي شريعة بعيدة عن التقصير والقصور، ومحفوظة من أن يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها على مرّ الأزمان والعصور.
إنّ هناك ثروة قانونيّة لا تنكر قد عمّت البلدان الإسلاميّة، وهذه الثروة تحتاج إلى تأصيل وتحليل ومقارنة، ومقارعة الدليل بالدليل، وليست كلّها دون فائدة، وإنّما تنظر على ضوء فقهنا الإسلاميّ، ذلك الفقه الذي لا ينضب معينه، ولا تفنّد حججه وبراهينه.
والدراسات المقارنة ليست غريبة عن فقهنا الإسلامي، إذ برجوعنا إليه نجد أنّ الفقهاء المسلمين اهتمّوا بعلم خاصّ سمّوه «بالخلاف العلمي» ومضمون هذا العلم هو التعرف على الدلائل الأصليّة للمسائل الفقهيّة، وما بُني عليه كلّ قول فقهيّ منها، فتارة تربط الفروع بالأُصول، وتارة أُخرى تربط الأُصول بالفروع في صعيد واحد، لتظهر بوادر الحجّة والبرهان، وتتفتّح العقول والأذهان.
فوسط هذا الميدان من الدراسة المعمّقة يحاول الدارس أن يستجلي حقائق الفقه الإسلامي، مستفيداً من منهجيّة الدراسات القانونيّة الحديثة، وبخاصّة الناحية الشكلية فقط تنسيقاً وتبويباً. ثم عرض نصوص ومواد القانون الوضعيّ على حقائق وأحكام هذا الفقه أيضاً، كمحاولة من أجل الاستنتاج، ومعرفة مدى التطابق والتوافق، أو التخالف والتباين.
لقد فرض الرجوع إلى الفقه الإسلاميّ عند وضع التقنينات الحديثة في أكثر البلاد العربية والإسلاميّة أولاً وقبل كل شيء أنّه كان يمثل القانون القائم في تلك البلاد وقت إعداد تلك التقنينات لقد ارتبط الفقه الإسلامي بتاريخ الحضارة العربية والإسلاميّة وأمدّها بالأسس القانونية التي ساعدت على ازدهارها وانتشارها بضعة قرون في ربوع أوروبا وحتى أقاصي آسيا.
وظلّ هو القانون العام في البلاد العربية والإسلاميّة إلى وقت قريب جداً، بل لا يزال كذلك في بعضها حتّى الآن. فضلا عن أنّه ينبثق من مثل عليا تقوم على أساس الدين الإسلامي.
يضاف إلى ذلك أنّ هذا الفقه بلغ بفضل اجتهاد أعلامه المجتهدين شأناً عظيماً من الأصالة والدقّة ومن إحكام النظُم، وحوى أعداداً لا تحصىُ من حلول المسائل ممّا جعل فقهاء الغرب يعترفون له في مؤتمراتهم الدوليّة بمكانة سامية بين النظم القانونيّة في العالم، وبأنّه يعدّ في طليعة المصادر الصالحة لسدّ حاجات التشريع الحديث.
وهكذا فقد سجل مؤتمر القانون المقارن المنعقد بمدينة لاهاي سنة 1937 م قراره التاريخي المهم القاضي باعتبار الشريعة الإسلاميّة مصدراً من مصادر التشريع العام، وأنّها حيّة قابلة للتطور، وأنها شرع قائم بذاته، ليس مأخوذاً من غيره.
لم يجئ الإسلام بالعقيدة الدينيّة الصحيحة وحدها، ولا بالنظام الأخلاقيّ المثاليّ الذي يقوم عليه المجتمع فحسب. بل جاء مع هذا وذاك بالشريعة المُحكمة العادلة، هذه الشريعة التي تحكم الإنسان وتصرفاته ومعاملاته في كلّ حال؛ في علاقته مع خالقه، في خاصّة نفسه، في علاقته بأُسرته، وفي علاقته بالمجتمع الذي يعيش فيه.
إنّ أُسس أحكام المعاملات تامّة بنفسها، محكمة بالتنظيم في نسجها، لا تحتاج إلى تكميل لأنّها من الدين، وحي من الله أوحاه إلى رسوله وما فارق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم هذه الدنيا، حتّى ترك الشريعة واضحة المناهج، عذبة الموارد، كاملة متيسرة المسائل، سهلة المقاصد، كفيلة بمصالح الدين والدنيا مؤسسة أُصولها على قواعد محُكمة ومُثُل عليا.
وإنّي أرى أنَّ تقنين أحكام المعاملات المالية وفق المذاهب الإسلاميّة هو الوسيلة الحديثة الآن لتطبيق أحكام الفقه الإسلامي، وتقنين هذه الأحكام يعني جمعها في مدوّنة واحدة، وهذا يتطلّب صياغتها في صورة قواعد عامّة ومجرّدة بعد إتمام دراسة المعاملات المالية في المذاهب الإسلاميّة المختلفة دراسة مقارنة تستخلص منها وجوه النظر المختلفة واتجاهاتها العامّة وطرق صياغتها وأساليب منطقها.
لأجل ذلك فإنّي أرى أنّ وضع مشروع قانون موحّد للمعاملات الماليّة بين المذاهب الإسلاميّة يستلزم تنظيم مسائل الفقه الإسلامي المنتشرة في الكتب والدواوين، وجمعها بعد اختيار ما يوافق روح الشريعة الإسلاميّة ومقاصدها من مختلف المذاهب الإسلاميّة في ديوان جامع بعد التنقيح والترتيب، واختيار حسن التبويب وأحدث الأساليب وتجنّب ركيك العبارة، وحذف ما لا يحتاج إليه من الأقوال والخلافات، والاقتصار على الراجح أو المشهور أو ما به العمل والأكثر مطابقة لمقاصد الشريعة الإسلاميّة ومكارمها.
لقد كان للفقهاء السابقين مصنّفات تتضمّن قواعد أشبه بالقواعد القانونيّة الوضعيّة منها المتون والمختصرات، ومنها كتاب القوانين الفقهية لابن جُزي المالكي، ومجلة «الأحكام العدليّة» وهي تقنين للفقه الحنفي، وكتاب مرشد الحيران لمعرفة أحوال الإنسان.
ولا يوجد أيّ مانع يحول دون تقنين هذه الأحكام وجمعها، ولا أيّ صارف معتبر شرعاً أو عقلاً يصرفنا. إنّ هذا التقنين يقاس على إجماع الصحابة على جمع القرآن في مصحف واحد بعد أن كان مجموعاً في الصدور ومكتوباً في أماكن شتّى كما يقاس أيضاً على تدوين السنّة، التي بتدوينها أمكن الوقوف على صحيحها وسقيمها وتمييز قويّها وضعيفها.
وللخروج من الميدان النظري إلى الميدان التطبيقي والعلمي أرى من الأنسب نهج الخطّة التالية لموضوع المشروع المقترح:
أولاً: أن يُختار عدد من العلماء يمثلون المذاهب الإسلاميّة القائمة في البلاد الإسلاميّة ممّن لهم قدم راسخة في الفقه وقواعده وأُصوله والأدلّة الشرعيّة وخلاف العلماء.
ثانياً: متى تمّ تكوين لجنة أو لجان من الأساتذة والعلماء المتخصّصين، يرسم لهم اختيار الأبواب المُحتاج إليها في المعاملات المالية، ثمّ توزّع الأبواب على هؤلاء العلماء بعد أن يقدّم إليهم نموذج ومثال ينسجون على منواله نسجاً واحداً، بحيث تكون الأعمال على نسقٍ واحد في الأبواب والفصول والعبارة والمصطلح.
ثالثاً: يخضع مشروع هذا القانون الإسلامي الموحّد للمعاملات الماليّة لمقاصد الشريعة الإسلاميّة وقواعدها، والاعتماد على أصلح النظريات الفقهيّة وأصحّها وأوفاها بالمقصود، وأغناها وأصفاها لاستنادها إلى أدلّة الشريعة وقواعدها المتينة، واعتماد أقرب الأقوال إلى مراد الله ومراد رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم. حتّى نرى أُمّتنا بعون الله وتوفيقه – من الشرق إلى الغرب تحتكم إلى قانون موحّد يستمد أُصوله من كتاب الله وسُنّة رسوله عليه السلام، وما بُنيَ عليهما من أدلّة التشريع.
رابعاً: يجب أن تَجعل الصياغة بعبارة مقتضبة جديدة، غير تابعة لتعبير وصياغة بعض النصوص المتّسمة بالتعقيد والاختصار، كما يجب أن تكون الصياغة واضحة لا يشوبها الغموض، دقيقة لا يشوبها الإبهام.
خامساً: على اللجنة أن تضع مذكّرة تفسيريّة أو توضيحيّة للقانون المزمع وضعه تذكر أصل كلّ مادة أو حكم من الفقه الإسلامي، وإن انفرد بها مذهب معيّن ذكرت أسباب أخذها بما انفرد به ذلك المذاهب، ومعلّلة لما اختارته.
سادساً: على اللجنة أن تعتني بذكر دليل كلّ مسألة من الكتاب أو السنّة أو كليهما، وإذا كان في المسألة إجماع ذكرت مستندها في ذلك، وإذا لم تجد دليلاً خاصّاً ذكرت اندراجها تحت القواعد العامّة بمناقشة حرّة، واستعراض للآراء والمذاهب حتّى يجد المطّلع على هذه المذكرة ما يشفي غليله ويجيب عن تساؤلاته.
سابعاً: على السادة العلماء أعضاء اللجنة المهتمّين بالدراسة الفقهيّة والقانونيّة تعميق البحث في هذا الفقه الذي يزخر بروائع الكنوز القانونيّة، مع المقارنة بالقانون الوضعي قصد إبراز ما يتميّز به هذا الفقه من واقعيّة وحلول صائبة.
وسوف يلبّي هذا القانون الإسلامي الأصيل رغبات أمّتنا الإسلاميّة ويعيدها إلى التحاكم فيما شجر بينها إلى شريعة ربّها العليم الخبير، فيحصل الخير ويعمّ الرضا وتزول الفوارق أو تخفّ كثيراً.
إنّ كلّ شيء في هذا الكون يسير على وتيرة واحدة من الاتزان والاستمرار بإذن الواحد القهّار، ليكون بهذا المنوال أدعى إلى الحكمة ومعرفة العليم الخبير، وليدّل على الانسجام والوئام، فليس بين هذه الآيات الكونيّة، والمشاهدات الخارجيّة تنافر ولا تناحر، بل بينهما تعايش وحسن تجاوز، رغم اختلاف الطبائع والصور، والمدار قال تعالى ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾(1).
فمن خلال هذه الطبيعة الهادئة المنسجمة ألف عبرةٍ للإنسان الواعي المفكّر، لتكون أحواله جارية على منوالها المحكم الرتيب.
نسأل الله سبحانه بأسمائه، أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه، وصواباً على وفق مراده ومراد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وأن يجمع شمل أُمّتنا على الحقّ، وأن يقرّ عيوننا بذلك عاجلاً غير آجل، وأن يُلهمنا رشدنا، ويهدينا سواء السبيل، إنّه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على نبينا، محمّد وعلى آله وصحبه ومن اتّبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
* عميد كليّة الحقوق ورئيس جامعة القرويين – المغرب
المصدر: رسالة التقریب ذوالقعدة 1414 – العدد 4