تاهيل-أئمة-المساجد

نحو برنامج علمي لتأهيل أئمة المساجد.. أ. د. رضوان السید

في بعض الدول ذات المؤسسات الدينية القوية مثل المغرب ومصر؛ فإنّ 90 ٪ من المتشددین والمتطرفین ما تلقّوا تعلیمًا دینیًّا في المؤسسات، و انها اکتسبوا معلوماتهم عن الدين وفرائضه وواجباته من المدارس الحزبية، أو من برامج الفضائيات. وهناك نسبة لا بأس بها من هؤلاء ما عرفت أيّ تعليم ديني، وإنما اعتنقت التطرف لأسباب اجتماعية واقتصادية ونفسية.

الاجتهاد: إن المقصود بوحدة العقيدة والعبادة، الحرص على أن يبقى المسلمون على الصلاة معاً في صلوات الجمعة والجماعات والأعياد. وقد كانت لهذا الأمر علاقةٌ بشرعية السلطة، وهو ما يظهر عند الشيعة الإمامية بالنسبة لصلاة الجمعة. وما عادت لذلك التقليد آثارٌ – ولله الحمد – في جمع المسلمين في الصلوات.

برزت الحاجة إلى المراجعة وإعادة التعريف وتجديد التفكير في بنى المؤسسات الدينية ومهماتها وخطابها، وفي طرائق في تأهيل أئمة المساجد، لتضافر وتشابك عدة عوامل:

أولاً: التصدعات التي نالت من الثبات والسكينة والاستقرار في الخطاب الديني، والذي كان يستند إلى تقاليد عريقة في الاعتقاد والفقه وأساليب مخاطبة الجمهور.
وتعود التصدعات إلى بروز تيارات إحيائية قوية ثائرة على التقليد بإحدى حجتين: إمّا ضرورة الخروج من التقليد باتجاه العودة المباشرة إلى الكتاب والسنة، أو ضرورة الخروج من التقليد باتجاه التحديث والتلاؤم مع الغرب الحديث الذي صار نظام العالم.
وقد عنى ذلك أنه صارت هناك عدة رسائل أو خطابات معروفة، وصار لا بُدّ من وضوح في إعادة تحديد مرتكزات الخطاب للمؤسسات الدينية بشكل عامّ، ولأئمة المساجد بشكل خاصّ باعتبارهم ذوي صلة مباشرة بالجمهور المتدين.

لكن ما أمكنهم استيعابهما كما كان يحدث في الأزمنة الكلاسيكية؛ وذلك لأنّ الإحيائيين في فرعيهم السياسي والجهادي أدخلوا تحويلات هائلة على المفاهيم الدينية يصعب استيعابها دون الإخلال بالثوابت.
أمّا الإصلاحيون فَتَرَدْكَلُوا كثيرا باتجاه العلمانيات الغربية. ولذا یکون علی فقهاء التقلید متابعة مسیرتهم في الاجتهاد والاستیعاب والتجدید، للوصول بقدر الإمكان إلى فقهٍ جديدٍ أو متجددٍ للدين يتلاءم ويضبط ويفتح أفقاً على مختلف الفئات الاجتماعية مناطُهُ الوسطية والتوازن والاعتدال.

ومرّة أُخرى فإنه من المهم أن يكون الفقه الجديد للدين في علاقته بالمجتمع والدولة في متناول أئمة المساجد وخطبائها، باعتبار علاقتهم المباشرة بالجمهور المتدين خطابةً وتدريساً وإفتاءً.

ثانيًا: متغيرات الظروف والأحوال، والتي تقتضي اجتهادًا وتجديدًا في الفهم والتلاؤم لحفظ الدين والمجتمعات. فقد كانت هناك ترتيباتٌ للعيش وللعلاقات بين الفئات الاجتماعية، وصلات الدين بالدولة. ثم أتى الاستعمار وأتت الحداثة بمتغيراتٍ هائلةٍ أدخلت تعديلات جذرية على الحياة الفردية والاجتماعية، فاختلفت ترتيبات العيش.

ومادام فقه العيش قد اختلف، فإن ذلك تطلّب فقهاً جديدًا للدّين الذي يهبُ ذاك العيش في اجتماعنا البشري معناه وأخلاقياته. وقد تحدثنا في العامل الأول عن ظهور خطابين جديدين في فقه الدين هما الخطاب الإحيائي المتشدد والآخر الإصلاحي. والإحيائي يطلب فقها خاصًّا للدين يقصد إلى مصادمة المتغيرات الغربية، بينما يريد الثاني التلاؤم معها. وقد وقف مجتهدو التقليد موقفاً وسطاً بين التيارين.

ثالثا: بسبب الظروف المتغيرة للمجتمعات الحديثة ومنها المجتمعات العربية والإسلامية، تتعدد المشروعات المقترحة على الناس، وتتعدد خطابات الإرشاد والاسترشاد والاستقطاب. إذ ما عادت المؤسسات الدينية، ولا عاد الأئمة هم الجهة الوحيدة أو الرئيسية في الإرشاد الاجتماعي وحتى الديني.
وهكذا فلنا منافسون وبعدة معانٍ للمنافسة أو التصارع: لجهة الجاذبية في طرائق العرض والقالب المعروض، ولجهة المضامين الجديدة التي يعرضها هؤلاء، ويكون علينا إبداء الرأي وامتلاك توجُّه فيها، وأخيراً لجهة المآلات، بمعنى: ما هو الدين في الحقيقة، وما هي مقاصده وغاياته، وما هي رسالتُنا في صونه وصون المجتمع واستقراره من خلال استعادة السكينة، ومن خلال قدراتنا في الاستقطاب والاجتذاب باتجاه ما نرى فيه الخير لشبابنا والناس جميعاً. وأئمةُ المساجد وسيلةٌ مهمةٌ للتعاطي مع ذلك كلّه.

رابعاً وأخيراً: كما تغيرت المجتمعات نتيجةً للتغير في ترتيبات العيش، وأهدافه القريبة والبعيدة، كذلك تغير الاجتماع السياسي. فالدولة الوطنية ظاهرةٌ جديدةٌ في العالم الحديث والمعاصر، وهي بالطبع ظاهرةٌ جديدةٌ في العالمين العربي والإسلامي.
لقد كان هناك انسجامٌ عامٌ من نوعٍ ما بين الدين والدولة في اجتماعنا التاريخي. بيد أنّ هذا الانسجام تعرض للاضطراب، بسبب اختلاف طبيعة السلطة السياسية ومطالبها ومتطلباتها من جهة، ولظهور الخطابات المدنية والدينية تجاه السلطة السياسية الجديدة من جهةٍ أُخرى. وقد ظلت المؤسسات الدينية متلائمةً مع السلطات بشكلٍ عام.

بيد أنّ تلاؤميتها تعرضت للتحدي من أصحاب الخطابات الأُخرى ذات الطبيعة الاحتجاجية. وقد اجتذبت الخطابات الأُخرى أو اكتسبت مؤيدين بين جمهور الشباب، والتي ما عارضت السلطات فقط؛ بل تحدّث المؤسّسات الدينية وخطابها الوسطى والتلاؤمى. وتُظهر بيانات الأزهر بین العامین ۲۰۱۱ و ۲۰۱۳ محاولاتٍ جادّة لاستعادة الانسجام علی ثلاثة أُسُس: التأکید على ثوابت الدين وأعرافه الجامعة، ونبذ التطرف والانقسام.

والتأكيد على قيم المواطنة والوحدة الوطنية. والتأكيد على الاستجابة لمطالب الدولة الوطنية في ظل حكم الدستور والقانون. إنّ هذه الأسس ينبغي أن تتحول في أوساطنا الدينية إلى برامج عمل تنضبط في منظومة لا يداخلها الاختلال، للتطوير المستمر في المتطلبات المتغيرة ومقتضياتها. وهذه الأمور ينبغي أن تكون واضحة في الرسالة التي توجهها المؤسّسة إلى أئمة المساجد، بالتواصل المستمر، وبالتدريب المستمر من أجل التأهّل لنشر سكينة الدين، والانسجام بين أبناء المؤسسة والسلطات الوطنية.

يقتضينا الدخول في مسألة برامج التأهيل لأئمة المساجد، أن يكون لدى المؤسسات الدينية – وأئمة المساجد ومدرّسوها جزءٌ أساسيٌ فيها- رسالةٌ ناصعةٌ، وخطابٌ واضحٌ بشأن المهام والأهداف في زمان الدولة الوطنية، ومقتضيات نظام العالم الجديد، ويمكن إيجازها في خمس نقاط، تشكّل القاعدة في البرنامج العلمي لتأهيل الأئمة،وهي على النحو التالي:

الحفاظ على وحدة العقيدة والعبادة، والممارسة ذات الكفاية للتعليم الديني بشتّى مستوياته، وإصدار الفتاوى الفردية والجماعية، وممارسة الإرشاد العام بشتى الوسائل وبخاصة منابر المساجد ودروسها، والتواصل العميق بالداخل ومع الخارج من أجل رؤيةٍ فاهمةٍ للعالم وإمكانيات وآفاق عيش المسلمين فيه.

إن المقصود بوحدة العقيدة والعبادة، الحرص على أن يبقى المسلمون على الصلاة معاً في صلوات الجمعة والجماعات والأعياد. وقد كانت لهذا الأمر علاقةٌ بشرعية السلطة، وهو ما يظهر عند الشيعة الإمامية بالنسبة لصلاة الجمعة. وما عادت لذلك التقليد آثارٌ – ولله الحمد – في جمع المسلمين في الصلوات.

وقد كان بعض ذلك يتأثر باختلافات المذاهب في مسائل طفيفة. بيد أنّ هذا العامل تضاءل إلى أن انتهى في عقود القرن العشرين. وقد عاد شيء من الافتراق إلى الظهور بسبب راديكاليات الإحيائيات والسلفيات الجديدة، والتی دأبت علی اقامة مساجد و مصلیات خاصة مها. و هذه أمورٌ يمکن مکافحتها ببعض الصرامة والتوسعة في الوقت نفيسه في الدول ذات المؤسسات الدينية القوية مثل مصر والمغرب والمملكة العربية السعودية.

لكن ما أمكن الحيلولة دون ذلك في لبنان مثلا حيث لبعض الجماعات السلفية وغير السلفية مساجدها التي لم يبنها أنصارها، بل انتزعتها من إدارة الأوقاف. وقد حدثت مشكلاتٌ كبيرةٌ في مساجد بلدان الاغتراب، التي اشتدّ النزاع حول الإمامة فيها، وحول الجمعيات الراعية، وليس بين الشيعة والسنة فقط؛ بل وبين السنة أنفسهم من صحويين ومتحزبين.

وهكذا فإنّ هذه الافتراقات التي لم تتفاقم لحُسن الحظّ تزيد من الإحساس بأهمية منصب إمام الجماعة ودوره المهمّ؛ لأنّ الصراع دار على من يخطب ويؤمّ. لكنّ ذلك يتصل أيضا – ولسوء الحظّ – بالاعتقاد. فالمساجد لله كما في القرآن الكريم، والأئمة في الجوامع الكبرى كانوا دائماً مُعيّنين من السلطات السياسية، والإمام أحمد يقول بالصلاة وراء كلّ إمام. وهكذا فالحريصون على الصلاة بمفردهم ومع عصبتهم يعتقدون أنهم ينفردون باعتقاد خاصّ هو الصحيح.

ونحن بين أحد حلّين: أن نحول بين هؤلاء وإفساد صلواتنا الجامعة، أو نحاول استئلاف من يمكن استئلافه منهم، لكي نبقى معاً في جماعة المسلمين؛ فلا تنشأ مساجد ومصليات سرية. فأهل السنة والجماعة هم أهل الظاهر، والمسلمون –كما قال الإمام أحمد مرة أخرى –: هم على ظاهر العدالة، ولا تكفير لمؤمن بذنب، وهم يرون الصلاة وراء كلّ إمام.

إنّ الالتزام بالجماعة وصلواتها وعباداتها يكاد يكون فرضاً أو ركناً في الإسلام السني. ولذا فإنّ مهمة المؤسسة الدينية في صون وحدة العقيدة والعبادة هي مهمة أولوية تأسيسية. وبالطبع فنحن لا نفتّش عن قلب كلّ من دخل مساجدنا. لكننا في الوقت نفسه ينبغي أن يساورنا القلق والإحساس بالمسؤولية تجاه من يمكن أن يكون قد ابتعد عنها لأسباب عقدية أو تعبدية.
وهذا هو التوازن الدقيق بين الركنين أو الجانبين في الدين كلّه: ركن الكتاب والسنة، وركن أو جانب الجماعة. فجماعتنا هي التي احتضنت وتحتضن الكتاب والسنة، وكما قال عمر بن الخطاب فإنه لا إسلام إلا بجماعة ولا جماعة إلّا بطاعة، ولا طاعة إلّا بالعدل والمعروف.

فالرّحابة العقدية لأهل السنة هى التى جعلت مساجدنا جامعة كصلواتنا، وجعلت أئمتنا في الأغلب الأعمّ ممثلين لهذا الروح الجامع. وإذا كانت هيئة كبار العلماء بالأزهر قد رأت أنه لا ضرورة للخطب المكتوبة أو المأمور بها (وهو الصحيح)؛ فلأنّ المسلمين يسعى بذمّتهم أدناهم، و هم يدّ على من سواهم ؛ إذ هم جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسهر. فكلّهم راع وكلّهم مسؤول عن رعيته. ولا يخلو الأمر من متعصب ومتفرد، لكن الذئب إنما ينال من الغنم القاصية.

لقد اعتُبرت رعاية وحدة العقيدة والعبادة أولى وأهمّ مهمات المؤسسة الدينية. واعتُبرت الصلاة الجامعة في المساجد الجامعة، هي العلم على القيام الصحيح بهذا الواجب التعبدي. وهذا ليس لأن الصلاة عماد الدين كما قال صلوات الله وسلامُه عليه فقط، بل لأنها بين أعمال الإيمان، هي الأكثر ظهورًا ودليلا على الانتماء إلى جماعة المسلمين. وإذا كان الأمركذلك؛ فإن أبرز ما ينبغي أن تبعثه المؤسسة في نفوس الأئمة وعقولهم هذا المعنى الجامع للدين وعباداته، ولجماعة المسلمين وشعائرها ومسؤولياتها.

وإنما أقول ذلك هنا لأنّ المؤتمر عن الأئمة وواجباتهم، وإلّا فإنّ خطاب رعاية وحدة العقيدة والعبادة هو حقّ المؤسسة وواجبها في كلّ مجالات نشاطها وبدون إفراط ولا تفريط. نحن أهل السنة والجماعة، لا نملك قانون إيمان مُبنّد شأن الكاثوليك والأرثوذكس وبعض الفرق الإسلامية. هناك الوحدانية والنبوات والكتب واليوم الآخر.

ومن قال بذلك فهو منا بلا تردد ولا مثنوية. ولذلك نجد في كتب الفرق الإسلامية حطا علينا بدعوى أننا متساهلون ومفرّطون ولا نُخرج أحدًا من الدين لذنب ارتكبه. نعم، نحن العامة والسواد الأعظم للدين والأمة، فکیف ینتشر بیننا داء التفسیق والتکفیر و الاقصاء والتفریق باسم الطهوریة في الایمان فيما بيننا، وفي العلاقات مع الأمم والديانات الأخرى؟! وهكذا فإنّ رعاية وحدة العقيدة تعنيه عدم إقصاء أحد، و عدم تكفير أحد و عدم تفضيل أنفسنا على أي مسلم أو إنسان.

أو لم يقل رسول الله صلوات الله وسلامُه عليه إنّ الناس سواسية، وإنه “لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود”؟ إننا نشكو من انتشار العنف باسم الدين في صفوفنا وبلداننا، وهذا العنف باسم الدين يكون التكفير مقدمة ضرورية له. فكما نكافح العنف باسم الدين، يكون علينا -علماء وأئمةً وعامةً – أن نكافح داء التكفير؛ حفاظاً على وحدة العقيدة وشيوعها، وعلى وحدة الجماعة وتضامُّها؛ لأنّ الجماعة رحمةٌ والفرقة عذاب، كما جاء في الأثر الشريف، ولأنّ ديننا ليس دين مجموعةٍ مختارةٍ، ولا قلّةٍ سريةٍ، بل هو الدين الذي قال سبحانه وتعالى لرسوله إنه مبعوث به للناس كافة، وإنه رحمةٌ للعالمين.

ولنتوقف عند المهمة الثانية التي بقيت لنا، ويا لها من مهمة: مهمة التعليم الديني بشتى مستوياته. ونحن في هذا المجال أو المجالات نواجه تحدياتٍ قد تكون أكبر من تحديات وحدة العقيدة؛ لأنّ مدارسنا الدينية ومعاهدنا وجامعاتنا هى التى تُنشّئ الصغار والكبار على أصول العقيدة و معنې العبادة والأخلاق وآداب عيش الجماعة. وهي بالطبع الجهات والمؤسسات التي ينشأ فيها -إضافةً للأساتذة والمدرّسين والدُعاة والقضاة- أئمةُ المساجد وخطباؤها ومدرّسوها، والذين يراهم الناس في الفضائيات.

وقد شاعت الشكوى -في أوساطنا وفي العالم بعد أحداث العنف والإرهاب التي خاض فيها بعض الشبان وما يزالون- أنّ برامجنا التعليمية غير متطورة، وأنّ التقليديات تسود فيها، وأنه يسودها التلقين غير الفاهم وغير النقدي. ومعظم هذه التُهم غير صحيحة أو غير دقيقة. فقد تطورت برامجنا على وقع التطور في سائر مجالات التعليم الأساسي والعالي في المدارس والجامعات.
وهذا لا يعني أنّ التطوير غير ضروري، وأنّ التجديد في المناهج والأساليب غير مستحسن. إنما الذي أقصده أنّ بعض العلّة فيما نحن بصدده (وهو التطرف في الدين) هو تعددُ مصادر وبيئات التعليم. فقد فقدت المؤسسات الدينية في بعض دولنا الإشراف أو السيطرة على معظم التعليم الديني منذ الستينات من القرن العشرين.

وفي بعض الدول ذات المؤسسات الدينية القوية مثل المغرب ومصر؛ فإنّ ٩٪ من المتشددین والمتطرفین ما تلقّوا تعلیمًا دینیًّا في المؤسسات، و انها اکتسبوا معلوماتهم عن الدين وفرائضه وواجباته من المدارس الحزبية، أو من برامج الفضائيات. وهناك نسبة لا بأس بها من هؤلاء ما عرفت أيّ تعليم ديني، وإنما اعتنقت التطرف لأسباب اجتماعية واقتصادية ونفسية.

لكن ينبغي إلقاء الضوء على مشكلة أخرى بالنسبة للتعليم الديني، وهي مشكلة ضعف مؤسسات التعليم الديني في كثير من البلدان العربية والإسلامية، وليس منها بالطبع مصر والسعودية والمغرب والأردن؛ إذ اعتبرت السلطات في بعض البلدان في النصف الثاني من القرن العشرين المنقضي أنه لا حاجة لمدارس تعليم ديني قوية؛ لأنها عوائق دون التحديث، أو لأنها عرضة للتسييس.

وتعرفون جميعا أنه في بعض البلدان العربية، وحتى الستينات والسبعينيات من القرن العشرين، ظل مُريدو التعليم الديني العالي من الفتيان والشبان، يأتون إلى مصر أو السعودية أو المغرب، للافتقار إلى التعلیم الدیني في بلدانهم. وقد کان کثیر من زملائنا بالازهر في الستینات من ترکیا و من العراق ومن فلسطين، ومن ماليزيا وإندونيسيا وآسيا الوسطى، وأفريقيا- شأننا نحن الذين أتينا من لبنان وسورية؛ لأنه ما كانت في بلداننا مدارس للتعليم الديني إلّا ما زودتنا به بعثات مصر والأزهر.

ومع ذلك كلّه، ما تزال مهمة التعليم الديني تشكّل تحديًا كبيرًا للمؤسّسات الدينية في سائر أنحاء العالم الإسلامي. وذلك لعدة أسباب،

أولها الانفصال الكبير الذي بدأ في القرن التاسع عشر، وما أمكن تجاوزه كليّا حتى اليوم، بين التعليم الديني، وما صار يُعرف بالتعليم المدني. ولا أحسب أنّ تلك المشكلة جرى تجاوزها جزئيًا إلّا في مصر، وفي الرحاب المتوسعة للأزهر ومعاهده وكلياته.
وثانيها كما سبق القول، ظهور وتفاقم مشكلة التشدد والتطرف والإسلام الصحوي والحزبي. وبالطبع لا يمكن اعتبار المؤسسات الدينية وتعليمها علّةً في ذلك. إنما من جهةٍ ثانيةٍ لا يمكن إخلاء طرفها من المسؤولية؛ إذ لا ينبغي أن نتجاهل أنه – وبسبب التعليم الصحوي والحزبي – جرى تغيير مفاهیم دینیة عدیدة، و ما أمکن لنا ولمؤسساتنا دائمًا مکافحة ذلالک أو تصحیحه حفظاّ لثوابت الإسلام وسكينته، ولوحدة المجتمعات واستقرارها.

وثالثها عدم بروز قيادات دينية نهضوية تجمع إلى المعارف الكلاسيكية الأخرى العصرية، وتجتذب إليها الناس طلابًا وغير طلّاب. في حين أمكن ذلك، أي بالجاذبية الشعبية للراديكاليين والحزبيين. والشبان تجتذبهم الراديكاليات بالطبع، بيد أنّ الإصلاحيين الكبار يتركون تأثيرات أبقى في المديات المتطاولة.

نحن لا نحتكر التعليم الديني إذن، ولذلك ولكي نظلّ متقدمين في التعليم على الحزبيات والصحویات یکون علینا أن نستعید روح الحماس والمبادرة. فهذا دين، ومؤسستنا غير حصرية. ولذا فإنّ تمیّزنا يتركز في الحماس والمبادرة، والابتعاد عن التحزب، والتدبر والتدبير، والاختصاص الكبير والمبدع. ويبقى هذا الكلام عموميات أو في أحسن الأحوال نوايا حسنة إن لم يتضح في المسألة التعليمية بالذات من خلال أمرين: فلسفة الدین، و قضیة التجدید الدینی.

هناك هذه الكتلة الهائلة الضخامة من الموروث الديني المكتوب، والداخل في ميراث المذاهب الفقهية، ومناهج قراءة القرآن، وعلم الكلام. ولتخفيف الوطأة والاختصاص ظهرت الكليات والمعاهد والمراحل الدراسية. ويبقى الأمر صعبًا وصعبّا جدًّا إن لم نخرج من مأزق الحصار بين التقليد من جهة، والأصوليات والعولميات من جهة أخرى.
والتطوير المستمر في البرامج التعليمية وفي التدريب مهمّ للخروج من التلقين ومن العقائديات الدوغمائية والتي عمل عليها إصلاحيو الأزهر والمغرب خلال مائة عام. بيد أنّ تحديد الحداثيات والإحيائيات وضعانا في الزاوية بسبب التحويلات المفهومية الكبيرة في مفاهيم دينية أصلية مثل الشريعة والجهاد وإسلامية الدولة.

ومن هذا الباب، وللدخول في عملية تصحيح المفاهيم، لا بد من العمل على فلسفة الدين، والدين الإسلامي بالذات، وهو الأمر الذي بدأه الشيخ محمد عبد الله دراز في أطروحته في الأربعينيات من القرن العشرين، والتي صدرت بالعربية بعنوان: “دستور الأخلاق في القرآن). ذلك أنه لا يمكن تحويل الدين والشريعة إلى قانون، وربط تطبيقه أو تطبيقها بشرعية الدولة أو النظام السياسي.
إن الجانب الآخر في فلسفة الدين، وفي العملية التعليمية، هو جانب مقاصد الشريعة. ففي رأيي أنّ هذه المسألة تقع في قلب فلسفة الدين أو غاياته الكبرى.

فالشريعة في جانبيها الاعتقادي والفقهي ترتبط بمصالح العباد، التي اعتبرها الفقهاء والأصوليون منذ الجويني والغزالي وإلى العز بن عبد السلام والقرافي والشاطبي ضروريات خمسا أنزلت الشرائع من أجل صوتها، وهي: العقل والدين والنفس والنسل والملك. فمسألة الإنسان في المركز من فلسفة الدين، وهذه هي المصالح الضرورية لبقاء الإنسان وازدهاره، والتي قال الشاطبي (٧٩٠هـ) إنه استقرأها من القرآن والسنة، وهي موجودة في كل ملة.

وهي تشكّل المنظومة الأخلاقية العليا وجوهر الدين. وقد عمل عليها علماؤنا المحدّثون كثيرا، ولا بدّ من الاتجاه صوبها ونحن نحاول الاستجابة للتحديين: تحدي الحداثات المفكّكة، وتحدي الإحيائيات المحرّفة.
لقد مارس الحداثيون العرب والمسلمون ما سموه عمليات تحررية وتحريرية من الموروث، وأدخلوها في العملية التعليمية في أقسام الفلسفة والعلوم الاجتماعية بالجامعات. وواجههم الإسلاميون الإحيائيون والحزبيون بعقدنة الشريعة، أي اعتبار الدين كلّه اعتقادًا، حاملين في الوقت نفسه علی التقليد، وعلی تفکيکات الحداثيين. و ديننا ليس هذا ولا ذاك.

فإذا قلنا إننا نواجه الغلوّ والتفكيك في الوقت ذاته؛ فينبغي أن يكون لذلك معنًى محدّد ليتجلّى في العملية التعليمية من خلال الاعتبار بمقاصد الشريعة باعتبارها الفلسفة الحقّة للدين، وتتجلى في الفقه وأصوله، وفي الاعتقاد، وتتجلّى قبل ذلك وبعده في إعادة الاعتبار من ضمن رؤية الإنسان هذه، لركن الجماعة، جماعة المؤمنين، والجماعة الإنسانية.

وأصل إلى المهمة الثالثة للمؤسسات الدينية وعلمائها بعد المسألة التعليمية، وهى مسالة الفتوى. وقد تقدمت الاجتهادات في هذه المسألة، وجرى فيها اعتبار المصالح بالفعل في المجامع الفقهية، ومنها مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر. لكن ما تزال عندنا مشكلة في الفتاوى الفردية، سواء في الفضائيات، أو في آراء أئمة المساجد والمدرّسين. في الفتاوى الفردية هناك حاجة شديدة للمعرفة بالموروث الفقهي بالفعل، و لاجتهادات العلماء في القرن العشرين.

بيد أنّ الآفة الحقيقية تظلّ في هذا المجال في آراء وفتاوى جماعات الإثارة والعقدنة والتسیّس. إن المشكلات الآتية من هذه الجهة تظهر بوضوح لدى جماعات التكفير والعنف. فقد تكونت جماعات عنيفة كثيرة، ولكلّ منها مفتيها أو مُفتوها. وإلى فتاوى التكفير والإرهاب، هناك الحروب الناشبة بين المتشددين من الشيعة والسنّة، والذين يتبارون في التحريض على القتل باسم هذا المتشدد الشيعي، وذالك المتشدد السني.

وما عاد هناك عزاء في أنّ الفتوى في الإسلام السني غير مُلزمة، لأنّ جماعات التشدد والعنف لها مفتوها كما قلنا، والذين يعتبر أتباعهم فتاوى شيوخهم مُلزمة. وهؤلاء یحلّون الدماء والأموال والأعراض. وتكافحهم الدول والمجتمعات، ولكي ننجح في الخروج من هذا الداء العياء، لا بد أن تتعاون المؤسسات الدينية في الدول، ولا بد أن تكفل المراجع الدينية الإيرانية المقلّدة عن تأجيج الحرب الدينية بين الشيعة والسنة.

والذي أعرفة أن واجبنا نحن، ومن خلال أئمة المساجد، والعلماء في وسائل الإعلام والاتصال أن يظلّ ديدننا مكافحة ثقافة العنف باسم الدين في مجتمعاتنا بشتّى الوسائل المتاحة.
نحن نمتلك قدرات معتبرة أفرادًا ومؤسسات، ولدينا انتشار وتأثير من خلال مساجد الجماعة وأئمتها يمكن بالفعل استخدامه لصالح سلام المجتمعات و تضامُنها، و مکافحة العصبیات والتعصب، وقد قال صلوات الله وسلامُه عليه عن العصبيات المشرذمة إنها مُنتنة.
وقد حاول الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز –رحمه الله – ضرب فتاوى التكفير والإثارات في الفضائيات بحصر الفتوى في المؤسسة الدينية بالمملكة و جهاتها ذات الاختصاص. ويمتلك الأزهر هذه السلطة بمقتضى الدستور في المادة السابعة منه فيما أظنّ. بيد أنّ الضمانة الكبرى على ما أرى هى هذا الانتشار الكبير من خلال المساجد الجامعة، التى يؤوب إليها جمهور المصلّين، على اختلاف مذاهبهم وتوجّهاتهم.

إن المهمة الرابعة التي بقيت لنا – نحن أهل المؤسسات الدينية – في زمن العالم هذا هي مهمة الإرشاد العام. وقد قلتُ في مطلع هذه الورقة إنّ خطابات التوجيه والإرشاد تعددت على المجتمعات. وما عدنا جهة وحيدة في هذا المجال، فالمشروعات متكاثرة ومتناقضة، ونحن نتعرض لمنافسات كثيرة وجدّية. لكن لدينا ميزات على منافسينا، يمكن أن تكون مفيدة ومرجّحة إن أحسنّا استخدامها. أولى هذه الميزات أنّ مجتمعاتنا تعودت علينا، وتعوّدت على الاسترشاد بنا.

ولذا ينبغي كما نصحَنَا سلفنا الصالح أن لانفاجئ الناس بما لا يعرفون. ولم يعتادوه. والواقع أنّ معظم أئمة المساجد لا يقومون بذلك، وإنما يفعل ذلك المتطرفون إن وصلوا إلى المنابر في ديارنا أو لدى الأقليات المسلمة في المهاجر. وفي هذه الحالة فإنّ المجتمعات هي التي تُساعدنا عليهم؛ لأننا ننتصر للسكينة، وننتصر لحياة الناس وعيشهم في مجتمعاتهم المسلمة وغير المسلمة.
وثانية تلك الميزات أننا ننتصر لمصالح الناس في العيش الهادئ والمتكافل في المجتمعات الوطنية، وفي مجتمعات المهاجر. وكل الذين يدعون للقطيعة بالداخل والخارج هم من المتسللين وأصحاب المشاكل. إنما ينبغي أن يكون واضحًا للأئمة أنّ المقولة المتوارثة: حبّ الوطن من الإيمان، صارت ضرورة حياة، وسواء أكان الوطن وطن كثرة أو قلة إسلامية.

لقد قال الشاعر العربي:
بلادي وإن جارت علي عزيزة
وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام
وقد صار ذلك بديهيّا في ديار المسلمين. أما ديار المهاجر، وقد استوطن فيها ملايين من المسلمين؛ فإن وعي المشكلات الأصلية والطارئة، يفرض أن يكون وطن العيش ومواطنته مثل ديار المسلمين الأولى إن لم يكن أعزّ، للحساسيات الكبرى التي صارت محيطة بأوضاع الأقليات المسلمة في العقود الثلاثة الأخيرة.

إنّ ثلث المسلمين الذين صاروا رُبع سكّان العالم، يعيشون في بلدان أكثريتها غير إسلامية. وهذا يفرض رؤية أخرى للعالم والعيش فيه. وقد كنتُ ممن أنكر ما سمّي بفقه الأقليات المسلمة، لأنه اعتبر أنّ عيش المسلمين في وضع الأقلية هو عيش ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها. وهذا إرشاد للاستمرار في الانفصال وليس الاندماج. والإسلام دين عالمي في النظر والواقع، والأئمة في مجتمعات الأقلية المسلمة يلعبون عدة أدوار: دور الخطيب، ودور المفتي، ودور المرشد.

وهناك ضغوط كبرى وتتزايد على تلك الأقليات، لكن الأئمة بشكل عامّ نجحوا نجاحّا بيّنًا في صون دين المسلمين، ورعاية أطفالهم وفتيانهم، وتبصيرهم بحقوقهم وواجباتهم. أمّا الأسماء التي لعبت دور الإمام والمفتي ودعت للانفصال والعنف فهي قليلة، ولا يتجاوز عددها أصابع اليدين العشرة في سائر أنحاء العالم الغربي.
لقد كان هناك من انزعج عندما طالب شيخ الأزهر الراحل طنطاوي رحمه الله مسلمي فرنسا بالإصغاء إلى السلطات هناك في مسألة الحجاب، والإصرار في الوقت نفيه على حقوقهم التي تؤمّنها لهم المواطنة. قال لهم الشيخ: أنتم فرنسيون ومسلمون، مثلما نحن مصريون ومسلمون، ولا تناقُض في ذلك، وإن تعرضتم لبعض الضغوط. لكي نكون منصفين. فإنّ معظم الشبان الذين تتردد أسماؤهم وأعمالهم في ممارسات العنف القاتل تجاه الآخرين؛ ما كانوا معروفين بالتدين، ولا كانوا يترددون على المساجد.

ولكي نكون منصفين أيضا؛ فإنّ مشاهد العنف الهائلة بالغرب باسم الإسلام، يقوم بها أناس بتوجيهات من شبكات العنف في ديارنا نحن، بيد أنّ الضرر والتضييق ينال من المسلمين جميعا في الغربين الأوروبي والأميركي. انّها مشکلة کبری تتناول موقع الاسلام والمسلمين في العالم، و رؤية العالم لديننا ولناسنا. وهذه أمور تتجاوز بالطبع قدرات عقلاء المسلمين، وقدّرات أئمتهم في ديار الغربة أو في ديار الأقلية.

هل هي مرحلة عابرة، أم أنها ستطول ؟ لقد قرأتُ قبل فترة كتاب الشيخ طارق أوبر و أحد أئمة المسلمين بفرنسا، وهو يتضمن تأملات رجل عاقل ومتعقل ويملك رؤية مستقبلية تبعث على الأمل.
ثم إن للأزهر ومصر رصيدًا كبيرا في الغرب كلّه، ظهر في زيارة شيخ الأزهر للفاتيكان ولفرنسا. وستكون لزياراته، ولتجارب البعثات الأزهرية القديمة والجديدة آثار إيجابية في تخفيف الوطأة على المسلمين بالمشرق وبالغرب. لقد خسرنا معركة الصورة، وهي نتاج أكثر من قرن من الجهود الدينية والثقافية، فكيف نحدّ من الخسائر، وكيف نستعيد الزمام، هذه هي المسألة.
ولنعد إلى جهود الإرشاد العامّ في ديارنا ومجتمعاتنا لبعض الوقت، قبل التحدث عن التواصل والاتصال، وهي مهمة جديدة ما فكرنا فيها كثيرا من قبل.

قلتُ إنّ لنا منافسين في مجتمعاتنا الوطنية، كما قلتُ إنّ لنا ميزات لكنها ليست كافية للبروز في المنافسة. إنّ لشيوخنا وعلمائنا وأئمتنا شعبية هائلة بسبب الانتشار الأفقي الواسع. لكن لنا منافسين أشدّاء بين المثقفين وفي وسائل الإعلام. وبعض هؤلاء يختلف معنا في أساليبنا، لكنّ البعض الآخر يختلف معنا في الرؤية الشاملة. هناك متغيرات اجتماعية هائلة، ولم نعد نحن الذين نصنع الثقافة في المجتمعات، كما أننا لا ننفرد حتى بصنع الأفكار بشأن الدين.

إنه لم يعد كافيًا لا في لبنان ولا في مصر ولا في المملكة العربية السعودية، أن ننصح بمنع هذا الكتاب أو ذاك، أو مهاجمة هذا الإعلامي أو ذاك. فهناك مستجدات ومتغيرات يكون علينا استيعابها والتصرف بما يؤدي إلى عدم تفاقم ضررها، بل وقطع لسان من يتقول على الدين على طريقة عمر بن الخطاب مع الحطيئة. إنه من ضمن واجبنا في الإرشاد العام، أنه ينبغي أن يكون لنا إعلاميونا وأنصارنا في الإعلام. فنحن دُعاة الخير الاجتماعي، والتضامن الاجتماعي والثقافة الرشيدة. وأعرف من أئمة المساجد من يجمعون ويصلحون ويستوعبون.

لكنني أعرف منهم الذين يضيقون ذرعا بنوافر الإعلام والثقافة في المجتمع. ونحن نعرف أنّ مسالك هيئة الأمر بالمعروف في السعودية، أساءت في كثير من الأحيان إلى الأهداف النبيلة التي قامت من أجله، بسبب بعض الأساليب المنفّرة أو القامعة. نحن محتاجون إلى المثقفين والإعلاميين أكثر من حاجتهم إلينا، لأنّ عندنا مهمة ورسالة محددة، وهم ليسوا كذلك.

وكما ظهر في مجتمعاتنا الآخر الثقافي، ظهر في مجتمعاتنا أيضا الآخر الديني الوطني والخارجي. إنّ هذا الآخر موجود في مجتمعاتنا التاريخية، لكن وعيه تغيّر بانتمائه وبعيشه وبحقوقه وواجباته، بقدر ما تغيرنا نحن. فالتغير مشترك ويكون علينا أن نعيه، وأئمة المساجد بين أوائل من ينبغي أن يعوه، لأنهم منتشرون على مساحة المجتمع وفي مسامّه، ومواطن امتزاجه وافتراقه. وقد كان هناك من قال إنّ الحلّ هو في الثقافة الوطنية المشتركة، ثقافة المواطنة. وهو ما بدا فی بیانات الازهر بین عامي ۲۰۱۱ و ۲۰۱۳ .

لکن کان هناك من عقلائنا من قال حرصًا على عيشنا الوطني والقومي إنه لا بد من استمرار التأكيد على العيش المشترك الإسلامي – المسيحي بالاسم. ولذلك أنشأ شيخ الأزهر بيت العائلة المصرية، وهو مقبل الآن على إقامة مؤتمر المسلمين والمسيحيين في العالم العربي، لنتحدث معا عن العيش المشترك والحريات وثقافة المواطنة، والمستقبل الوطنى والقومى الواحد.
لقد عرفنا نحن في بلاد الشام حروبًا طائفية ومذهبية لم تعرفها مصر بحمد الله بسبب قوة الدولة ووعي الناس. لكنّ الظروف الجديدة، و وجود وعي الانتماء والمغايرة، تفرض علينا من أجل أوطاننا وتضامن مجتمعاتنا نضالات جديدة واعتبارات جديدة، على مؤسساتنا الدينية أن تأخذها مأخذ الجدّ، وأن نتصرف إزاءها بمسؤولية ورحابة وعقل مقاصديًّ جامع.

إنّ المهامّ الأربع التي درسناها يمكن القول عنها إنها كلاسيكية، لأنها كانت موجودة بأشكال مختلفة أو مقاربة في أزمنة سلفت. لكنني أودّ إضافة مهمة خامسة أراها ضرورية، وهي تؤثّر في طرائق أدائنا في المهام الأربع، وتضيف جديدًا. لقد سمّيتُ تلك المهمة هناك: التواصل بالداخل والخارج من أجل رؤية فاهمة للعالم، وإمكانيات وآفاق عيش المسلمين فيه. لقد درجتُ في العقدين الأخيرين على تسمية المسألة في دراساتي “ب رؤية العالم”. وقد اعتمدت هذا المصطلح الألمانيّ الأصل WeltanSchauung لأقرأ من خلاله المتغيرات التي طرأت على عالم الإسلام منذ القرن التاسع عشر وما بعده.

لقد كان الأزهر سبّاقاً في إدراك ضرورات التواصل مع العوالم الجديدة في الفكر والاجتماع. ونحن نعلم أنه بعد الطهطاوي (۱۸۰۱-۱۸۷۳ م) الذي أُرسل الی فرنسا عام ١٨٢٦، أرسل آخرون او ذهبوا و أشهرهم الشیخ محمد عبده (١٨٤٩ – ۱۹۰۵). ومنذ الثلاثينيات من القرن العشرين صارت هناك بعثات أزهرية رسمية.

ولا أريد هنا مناقشة مسألة التجديد من الداخل أو خلافها. لکنّ تجارب التواصل مع الخارج الغربي كانت شديدة الإفادة في تغيير رؤية العالم أو تعديلها، وفي تنمية المعرفة بالآخر. وذلك من طريق استخدام المشاهدات والقراءات في إعادة قراءة أو مراجعة الرؤى الكلاسيكية أو الأخرى السائدة.
فالإمام محمد عبده، ومن خلال معارفه الأوروبية أعاد قراءة وتفسير مسألة السنن وقوانين تقدم الأمم وتأخرها في القرآن، والتي بدأها الطهطاوي. وما كان هذا التأثر باتجاه واحد، فالشيخ مصطفى عبد الرازق كانت أطروحته في الأصالة والإبداع ردة فعل على كلام المستشرقين عن ارتباط الإبداع في أزمنة الإسلام الکلاسیکیة بالمیراث الإغريقى. ولا ننسى أن أخلاق الواجب التى قرأ الشيخ دراز المنظومة القيمية القرآنية من خلالها هي في الأصل كانطية.

وقد اختار الأزهر بالفعل هذا النهج التواصلي لخدمة الدعوة والثقافة، ليس من خلال البعثات فقط، بل من خلال كلية اللغات ومجالات أخرى. إنّ رسالة الإسلام هي رسالة عالمية، وما دُمنا دُعاة ومبلّغين؛ فإنه يكون علينا أن نعرف العالم الذي نعيش فيه لجهات: جهة التعليم، وجهة التلاؤم، وجهة البلاغ، وجهة خدمة الإسلام وعرضه على العالم بالطرائق الملائمة، وأخيرا جهة خدمة المسلمين في ديارنا وفي المهاجر. إننا نكون أعزاء بقدر ما نعيش في حاضر عالم العصر وعصر العالم، مشاركة وتعلما وتأثيرا.

وقد صارت هذه الأمور بديهيّة اليوم، ونحن نشهد تردّي علاقاتنا بالعالم بسبب ثوران بعض أبنائنا علينا وعلى العالم، وإرادتهم تجميدنا في قوالب في مواجهته. بيد أنّ الأمر لا يقف عند هذه الحدود. فصدمة الغرب التي تحدّث عنها أجدادُنا في القرن التاسع عشر، تحت عبارة أو عنوان: “السيل الذي لا يمكن دفعه”، غيّرت مجتمعاتنا بالفعل من طریق تغییر ترتیبات العیش، ولذا کان لابد أن یتغیر فقه الدین لیظلّ التلاؤم ممکناً، وأحسب أنّ ما نتحدث عنه من ثوران من جانب الأبناء هو عارض من عوارض الفشل والافتراق بین فقه الدین و فقه العیش؛ و من ذللک رؤی الجاهلیة، و رؤی الخوارج، ورؤية الحاكمية؛ فضلاً عن عمليات التحويل الكبرى في المفاهيم، وقد تحدثنا عن ذلك كلّه من قبل. إننا نختبر ذلك في المناهج الدراسية وفي قاعات الدرس وفي الفتاوى.

ويشهدها كلّ يوم أئمة المساجد وخطباؤها ومدرِّسوها. وكنا نسمع عن هذه الصدمة من طلاب البعثات، ومن الأئمة الذين يُرسلون للإمامة والخطابة والتدريس في مساجد المغتربات. بل إننى سمعتُ عن ذلك من كاهنين كاثوليكيين من المكسيك والفيلبين. وهذان ما استغربا في الولايات المتحدة أسلوب الحياة المختلف، بل استغربا الأفكار والعادات الدينية المختلفة عند كاثوليك أميركا الشمالية.

وأنا لا أتحدث في كلّ ذلك عن قبول هذا الأمر أو ذاك أو رفضه؛ بل أتحدث عن العمل الجادّ على الفهم والإفهام وتكوين الرأي او الموقف، وکا قال رسول الله صلواث الله و سلامهٔ علیه: “رُبّ مبلّغ أوعی من سامع”. إنّ لدينا من جهة تحديات البلاغ والإبداع. ولدينا التحدي القرآني أنّ كلمات الله لا تنفد ولا تُستنفد. وعلينا القيام بهذا الجهد الذي لا يتوقف في الفهم والملاءمة بين كلام الله المسطور، وخلق الله المشاهد والمنظور.

وهكذا فإن إشكالية التجديد وهل يكون ذاتيًا أو من الداخل أو العكس، تصبح غير ذات موضوع، بخلاف ما يعتقده التقليديون ويعتقده المتشددون. وكما قال صلوات الله وسلامُه عليه: “إن المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقی”!
لقد بلغنا خاتمة المطاف، بل لنقل إننا بلغنا ذروة حركية المشهد. لقد تلقينا الأمر والدعوة والتكليف بالمهام في قوله تعالى:
( ولتكن منكم أمّة يدعونَ إلى الخير وَيَأمُرُونَ بالمعروف وينهون عن المنكر وأؤلئك هم المفلحون) السورة آل عمران: آيه ١٠٤ كل المسلمين المفروض فيهم وعليهم أن يعملوا الخير وأن يأمروا بالمعروف. ولذا فإنّ الأمر هنا المقصودبه التخصص والتفرغ. ونحن نعلم من حديث في صحيح البخاري أن رسول الله صلوات الله وسلامُه عليه هو أول من استجاب للأمر الإلهي فبادر لجمع فتيان توسّم فيهم القدرة على تحمّل العلم ونشره، وكان الناش يسمونهم: القراء.

وللأمة في القرآن بحسب كتب الوجوه والنظائر عشرة معان، فنحن حملة العلم أمة أو جماعة أو مجموعة من الأمة الكبرى. وقد استجبنا للأمر الإلهي بالتخصّص والتفرغ للدعوة. وليس معنى ذلك أنّ من لم يتخصص ويتفرغ مهمل للواجب، بل عملنا هو فرض من فروض الكفاية الذي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ويأثم الجميع إن لم يقم بهذا الواجب أحد. وصحيح أننا متطوعون بهذا المعنى، لكن ينبغي أن تنتهي هذه الأسطورة النهضوية التي تزغم أنه ليس في الإسلام رجال دين. نعم، في الإسلام رجال دين بمعنى التخصص والتفرغ للتعليم والدعوة.

ولا ينتظم الشأن الديني في المجتمع إن لم يتخذ الأمر سنن المؤسسة وطابعها المتنامي باتجاه التراكم والاستمرار والعمل المنتظم. ونعم مرة أخرى، لسنا كهنوتاً، لأن الكهنوت شأن من شؤون ديانات الأسرار، فطبيعة الإسلام تأباه، ونحن نخضع لتجارب الصواب والخطأ بعيدًا عن العصمة. لكنّ العمل المؤسّسي الذي نقوم به وعليه، في التجربة الطويلة للالتصاق بالمجتمعات ومعرفة العالم، يعيننا على التقليل من ارتكاب الأخطاء، وتدفعُنا مهنتنا أو حرفتنا للمراجعة والتصحيح من ضمن التقاليد العريقة للمؤسسة.

ثم لأنّ الحجية التي نحصل عليها من الناس تتطلب إلى العلم بالدين، الأمانة في القيام بالمهامّ، وتجنب الخطأ والشطط والإفراط والتفريط بقدر الإمكان. والمهامّ التي تذكرها الآية ثلاثة أمور كبرى: الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وقد تعددت آراء المفسّرين في معنى الخير، فمنهم من قال إنه الإسلام ذاته، ومنهم من قال إنها الصلاة، ومنهم من قال إنها الزكاة والصدقات… إلخ. والحقّ أنّ المفرد المقترن بلام العهد يجعل من الخير شاملا لفضائل الأخلاق، ومصالح الناس.

وهذه حرية كبرى أعطاناها القرآن الكريم، فيكون علينا أن نحرص على القيام بمستحقاتها. ويخطر لي في هذا المعرض موقف القرآن الكريم من الرهبانية:
” و جعلنا فی قلوب الذین اتبعوه رأفة و رحمة و رهبانبّة ابتدعوها ما كتبنها عليهم إلا أبتغاء رضون الله فما رعوها حَقّ رعايتها… » (سورة الحديد: ٢٧). فالإلزام جاء بعد الابتداع، لكنّ حقّ المؤسّسة أو مهامّها ما جرت مُراعاتها. أما في حالتنا فإنّ شرعية المؤسسة ثابتة بالأمر الإلهي، بيد أنّ نفاذها يكون بالخير الذي تدعو إليه، بل ومن المفهوم أنها تشارك في استكشاف آفاقه التي لا تتناهى. وما توسّع المفسّرون في قراءة مفاهيم الخيرية هذه رغم ورود المفرد بكثرة في القرآن، وقد يكون ذلك لأنه متروك لاجتهاداتنا مادام يشمل الإسلام كلّه أو يتطابق معه.

لكن المفسرين والفقهاء والمتكلمين توسعوا كثيرا في دراسة مبدأي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والذي أراه أن الشأن فيهما مثل الشأن في مبدأ الخير الشامل أو دعوة الخير، بمعنى الاحتكام فيها إلى إجماعات الجماعة وأعرافها ومواضعاتها. وهكذا فنحن نعمل بالأمر الإلهي إنما عند جماعة المسلمين.

والجماعة هي التي رعت مؤسستنا عبر العصور في المساجد والأوقاف والمدارس وسائر النواحي التي تصون دينها ومجتمعاتها وتضامُنها وعيشها الوادع. ولنكن أكثر تحديدًا. فقد أراد المحدّثون في فهم حديث: “يحمل هذا العلم من كل خلفي عدوله…”، اعتبار حفّاظ الحديث، وأهل الأثر هم المقصودون بالآية و بحدیث حملة العلم من العدول . لکننا لو وضعنا كلّ ذلك في السياقات الصحيحة، لوجدنا أن أهل المؤسسة جميعا – وبخاصة الذين يمارسون الدعوة إلى الخير مباشرة من أهل القرآن والفقه وأئمة المساجد ومدرّسيها و وعاظها– هم الأولى بالاعتبار.

ولنعد إلى الأمر الأول، أمر أئمة المساجد وتأهّلهم وتأهيلهم. إنّ القاعدة الأساسية تتمثل في التأهّل والتأهيل والتدرّب على المهامّ الخمس تعلّما واكتسابا ومهنيةً وأداءً: وحدة العقيدة والعبادة، والتعليم الديني، والفتوى، والإرشاد العام، و الدأب في مجالات معرفة مجتمعاتنا ومتغيراتها ومعرفة العالم. هذه هي مرتكزات الخطاب الديني التي يكون علينا الالتزام بها وإتقانها والإحسان في أدائها، والتعاون جميعا على القيام بها لتكون لنا حياة صالحة، وتكون حياة أفضل.

ويواجه أئمة المساجد ومدرِّسوها و وعّاظها على وجه الخصوص في التأهّل للقيام بمهامّهم فيما يتجاوز التقنيات أربعة تحديات:
التحدي الأول: الموازنة بين الرسالة والمهنية أو الاحتراف. فهناك ظروف متعددة أدّت إلى الاختلال في الرسالية أحيانًا، وفي المهنية والاحتراف أحيانًا أخرى. والرسالية حماس وصدق وإيمان بالمهمة، أي بدعوة الخير، التي نقوم بها وعليها.

وما دمنا قد تطوعنا استجابة للأمر الإلهي، فإنّ الإيمان والحماس مفترضان. بيد أنّ الاحتراف في أداء رسالة الدعوة يجعل من الحماس مؤديًا لنتائج رائعة. فالذي أقصده أن الأمرين ضروريان، وينبغي أن يسند أحدهما الآخر. ونحن مؤسسات ضخمة، والضخامة قد تؤثر في مرونة الحراك، كما أنّ الاحتراف المسرف في التدقيق يحدّ من حماس الخطاب وقد يؤثّر في صدقه. والذي أراه أنّ مسألة الموازنة هذه هي من الأهمية بحيث تحتاج إلى تدريب خاصّ في برامج التأهيل.

التحدي الثاني: ضرورة استعادة الانسجام بين الدين والدولة. وهذا الأمر هو الذي كان سائدًا في الإسلام السني في عصور متطاولة. وقد كان أهل الفرق يأخذون علينا أننا فقهاء السلطان، وما كنا كذلك ولن نكون. لكنّ المشروع، مشروع الدولة والدين، ومشروع جماعة المسلمين، هو مشروعنا. وقد ذكرت كلمة عمر بن الخطاب وأكرّرها: يا معشر العريب، إنه لا إسلام إلّا بجماعة، ولا جماعة إلّا بطاعة. فلا يجوز الإصغاء لتخرصات المتطرفين والمحرّفين، ولا لهيعات الفتنة والعنف.

إنّ هذا القتل الدائر في قلبنا ومن حولنا المقصود به أن تزول دولنا العربية، ثم يجري الاستفراد بالدين باسم الطائفية والمظالم والحقوق. وكلّ ذلك منوط بنا، لكي نتمكن من القيام بمهامنا، وتتمكن السلطات من القيام بمهامّها. إنّ مقولة الانسجام هي حقّ لدينا علينا، وحقّ لمجتمعاتنا علينا.
والتحدي الثالث: هو تحدي التضامُن الوطني والوحدة الوطنية. فأوطاننا مثل سائر العالم فيها تعدديات دينية وإثنية وسياسية. وما أمكن حتى الآن المضاءلة من المشكلات بمبدأ المواطنة وممارساتها. فلا بدّ من تجاوز الشكوك والهواجس وعقلية المؤامرة، واتهام الآخر. إن مبدأ العيش المشترك مع الآخر الديني والطائفي والمذهبي، مُنقذ للدين وللأوطان.

نحن السواد الأعظم كما جاء في الأثر، فلا يصحّ أن نتصرف تصرّف الأقلية الخائفة. إننا نقرأ في الكتاب المنزل كلّ يوم قول ابن آدم لأخيه: “لئن بَسَطتَ إليّ یدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف الله رَبِ العلمين” سورة المائدة:٢٨
فكيف ونحن لا نعرف ولا نشهد عنفا يواجهنا باسم الدين الآخر، وإنما الذي نشهده محاولاث متطرفين يحسبون أنفسهم على الإسلام، ويريدون ضرب عيشنا المشترك، وحياتنا الجامعة؟! والتحدي الرابع: هو تحدي الصورة السوداء والمشهد المقبض للعرب والإسلام بين ظهرانينا وفي العالم. وهو تحدٍ لانستطيع مواجهته بمفردنا.

لكنّ مسؤوليتنا كبيرة لأنّ مهمتنا هي صون الدين، وصون عيش المسلمين المطمئن في مجتمعاتنا وفي هذا العالم. ثم إننا نتحمل جزءًا كبيرا من المسؤولية في استعادة السكينة في الدين. إننا لا نريد أن نُخيف العالم، ولا أن نخافه. لكنّ الأمرين حاصلان الآن. فلنتحدّ بالسلم والمسالمة وإسلام الوجه لله الصورة السلبية، والممارسات السلبية، لنسلم في ديارنا، وليسلم إخواننا في المواطن و الأوطان حيث هم أقليات فيها: ” الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون”

قدمت هذه الورقة في مؤتمر: التكوين العلمي و التأهيل الإفتائي لأئمة المساجد للأقليات المسلمة / هـ1438

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky