فلسفة الفقه

من أصول الفقه إلى فلسفة الفقه (1) .. المفكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي

الاجتهاد: إنّ فلسفة الفقه تطمح لبيان حقيقة علم الفقه والكشف عن الهوية التاريخية والاجتماعية للفقه، وتحديد العناصر الراقدة خلف عملية الاستنباط، من مسلّمات وفرضيات وقبليات ومبان، تتنوع بتنوع تجارب الاستنباط، وطبيعة الفضاء المعرفي الذي تتمخّض في داخله تلك التجارب.

تشهد فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة اهتماماً متنامياً في الحوزة العلمية في قم، يمكن ملاحظته من خلال تنوع الكتابات في هذا المضمار، وملاحقة طائفة من التلامذة لهذه الكتابات ومحاولة استيعابها في اطار متطلباتهم العلمية.

ويلوح في الأفق اتساع وتكامل بحوث فلسفة الفقه في الحوزة في الأيام القادمة، لاسيما اذا ما لاحظنا المسيرة العلمية الخصبة للعلوم الاسلامية ومعطيات التجربة الاجتهادية في مختلف المعارف الاسلامية فيها.

ويعود ذلك الى قصور العلوم الشرعية الموروثة عن استيعاب جملة من الرؤى المستحدثة، والاجابة على الاستفهامات المتنوعة في إطارها التقليدي، ما حفّز بعض الباحثين والدارسين في حقل هذه العلوم على اقتراح تحديث وتنمية العلوم الموروثة، وبناء علوم موازية لها، تتسع لاستيعاب نمط جديد من البحوث،

وكانت الدعوة لتدشين علم يهتم بفلسفة الفقه واحدة من أحدث هذه المقترحات، التي نادت بها جماعة من الدارسين في الحوزة العلمية في السنوات الأخيرة، وبادروا لتدوين عدة ابحاث تصوغ رؤى أولية لأسس هذا العلم ومداراته وغاياته، كما عقدوا بضع حلقات نقاشية للتحاور في تلك الرؤى وإنضاجها .

وفلسفة الفقه كأي علم في طور الصيرورة والتشكيل تنوعت الاجتهادات في تحديد معالمه، وبيان حدوده، وتشخيص موضوعه، واكتشاف منهجه، ومعرفة وظيفته، وموقعه في سلم العلوم الشرعية، خاصة علاقته بالفقه وأصول الفقه ومقاصد الشريعة.

وبالرغم من تباين مواقف الدارسين لفلسفة الفقه إزاء هذه القضايا، غير أنهم متفقون جميعاً على ضرورة إنشاء علم يُعنى بدراسة فلسفة الفقه في هذا العصر، على غرار ما شاع من انبثاق فلسفة بجوار كل علم، تتناول تحليل ماهية ذلك العلم، وفهمها فهماً يغور في خلفياتها، ويوضح مناهجها، ويشرح التنظيم الأمثل لتلك المناهج، ودائرتها، وأهدافها، ومجموعة العوامل التي تتحكم في تقنين أسس ذلك العلم ومرتكزاته.

البواعث

انطلقت الدعوة لبناء علم يعنى بفلسفة الفقه في السنوات الأخيرة في الحوزة العلمية، وعقدت عدة ندوات ونشرت عدة مؤلفات وبحوث تعالج ماهية هذا العلم ومجاله ومسائله. ويمكن القول إنّ بواعث هذه الدعوة تتلخص بما يلي:

1– إنّ قيام الدولة الاسلامية وسعيها لأسلمة المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية طرح عدداً وفيراً من الاستفهامات الفقهية الجديدة، ما لم يألفها العقل الفقهي من قبل، وتجاوزت الاستفهامات التعرف على الأحكام الشرعية الخاصة بالاجتماع الاسلامي إلى السؤال عن: مجال الفقه وحدوده، وقيمة الفقه الموروث، وأثر الزمان والمكان في الاجتهاد، وعلاقة الاستنباط الفقهي بالعلوم البشرية ومكاسبها، وأثر خلفية الفقيه ورؤيته الكونية في اقتناص مدلول النص، وضمانات موضوعية عملية الاستنباط وعدم تعرضها لتحيزات ومواقف قبلية … وغير ذلك.

ولم يكن بوسع الفقه أو علم الأصول المتداول الإجابة عن الكثير من هذه الاستفهامات، ما حفّزَ بعض الدارسين على تحليل تلك الاستفهامات واقتراح مجموعة رؤى ومفاهيم وافتراضات، تصلح لأن تشكل بنية تحتية أولية لتدشين علم جديد خارج مجال الفقه وأصوله.

2- تطور العلوم الانسانية، خاصة ما يتصل منها بوشيجة عضوية بعلم الاصول والفقه، مثل: الألسنية والاتجاهات النصوصية الراهنة، والحقوق والقانون، وفلسفة العلم، وعلم النفس، والاجتماع، والانثروبولوجيا… وغيرها. وانفتاح نخبة من طلاب الدراسات الشرعية على هذه العلوم، عبر تجسير العلاقة بين الحوزة والجامعة، وانخراطهم في دراسات تكميلية في فروع العلوم الانسانية في الجامعة، ومتابعة دراساتهم العليا في هذه الفروع، بل وابتعاث البعض منهم لمواصلة تعليمه في الجامعات الغربية، ثم عودته بعد التأهيل الأكاديمي لممارسة وظيفته باحثاً وأستاذاً في الحوزة العلمية.

وكان لحضور هذه النخبة في أروقة الحوزة أثر بالغ في إضاءة شيئ من الابعاد الخفية للعلاقات بين علم الاصول والفقه من جهة والعلوم الانسانية المعاصرة من جهة أخرى، واكتشاف بعض الحقول المشتركة والقواعد العامة بينهما.
وهكذا أضحى من الأهمية بمكان المناداة بصياغة فلسفة للفقه تكون بمثابة ما للعلوم الأخرى من فلسفات.

3- الشعور بضرورة اصلاح النظام التعليمي في الحوزة العلمية، وعقد عدة ندوات علمية لمناقشة هذه المسألة، ودراسة مواطن قصور العلوم والكتب المتعارفة في الدرس الحوزوي عن الوفاء بالمتطلبات المعرفية والثقافية للاجتماع الإسلامي اليوم، وتبلور جملة رؤى تدعو لاستئناف النظر في التراث، واعادة بناء العلوم الاسلامية، وتدشين حقول جديدة تواكب وتيرة التحولات الحياتية المتسارعة، وتجيب عمّا يتوالد دائماً من اشكاليات تكتنف التجربة الفقهية، فكانت فلسفة الفقه من أهم الحقول التي نادت بها طائفة من المهتمين باعادة بناء العلوم الاسلامية، باعتبار أن حيوية الاجتهاد الفقهي تستند الى حيوية الاجتهاد في بقية العلوم الاسلامية، والحرص على تنمية روح الابداع وتأصيل علوم جديدة، مثلما نمت بالتدريج العلوم الاسلامية عمودياً وافقياً بمرور الزمان.

الأغراض

ليس المقصود من كلمة (فلسفة) المضافة الى (الفقه) هو المعنى المعروف للفلسفة في تراث المعقول الاسلامي، وهو (العلم بأحوال الوجود من حيث هو موجود) لأن الفلسفة بهذا المعنى تُعنى بدراسة الوجود المطلق والاعراض اللاحقة للوجود بنحو عام، بينما فلسفة الفقه مثل بقية الفلسفات المضافة التي تطلّ على موضوعها من الخارج، وتتولى تحليله وتفسيره واستكناه أبعاده وحدوده، والتعرف على ماهية ذلك العلم، بوصفه ظاهرة قابلة للبحث والتحليل، مضافاً إلى دراسة القبليات والفرضيات المستترة وراء المقولات والقواعد الكلية للعلم، ومعرفة كل ما من شأنه أن يساهم في صياغة مفاهيم العلم ويحدّد اتجاهه ويتحكم في مناهجه.

إن النسبة بين الفقه وفلسفته كالنسبة بين القانون وفلسفة القانون، والاخلاق وفلسفة الاخلاق، والتاريخ وفلسفة التاريخ، واللغة وفلسفة اللغة… وهكذا، هي كالنسبة بين كل علم وفلسفته. فالفقه كما هو معروف يتناول الاحكام الشرعية لعمل المكلف، اي انه علم استنباط الاحكام الشرعية، وتحديد الموقف العملي تجاه الشريعة بنحو مستدل، بالتوكؤ على أدوات وقواعد يجري تنقيحها في أصول الفقه.

بينما لا يبحث فلسفة الفقه اسلوب الاستنباط، ولا علاقة له ببيان الموقف العملي تجاه الشريعة، وإنما يتجاوز ذلك إلى ميدان آخر يتناول فيه تشريح ماهية الفقه، واكتشاف طبيعة نسيجه الداخلي ومكوناته، وكيفية نشأته وتطوره، وتفاعله مع المؤثرات الزمانية والمكانية والبيئة الجغرافية، والتأثير المتبادل بينه وبين الاعراف والعادات والتقاليد، والعصر الذي انتج في فضائه الثقافي ومحيطه الحضاري، مضافاً إلى دراسة اصطباغ الفقه بقبليات الفقيه ومنظوره الذاتي، ولون ثقافته، وميوله، ومزاجه، وبيئته الخاصة، والمحيط الذي نشأ وترعرع فيه.

إن فلسفة الفقه ترمي لتناول هذه المسائل ودراستها خارج دائرة الاستنباط الفقهي، بما يتيح لدارسي فلسفة الفقه التوغل في عمق العملية الفقهية، وتفكيك العناصر الظاهرة والمستترة المكونة للموقف الفقهي، وانجاز قراءة اخرى لاختلاف الفقهاء، لا تستند إلى التفسير الموروث لهذا الاختلاف; لأن الباحث في فلسفة الفقه لا يقف عند السطح، بل يجري عملية حفر وتنقيب عميقة في طبقات المعرفة الفقهية، ويقودنا إلى منابع هذه المعرفة وجذورها وما تستقي به من روافد.

إنّ فلسفة الفقه تطمح لبيان حقيقة علم الفقه والكشف عن الهوية التاريخية والاجتماعية للفقه، وتحديد العناصر الراقدة خلف عملية الاستنباط، من مسلّمات وفرضيات وقبليات ومبان، تتنوع بتنوع تجارب الاستنباط، وطبيعة الفضاء المعرفي الذي تتمخّض في داخله تلك التجارب.

وبعبارة موجزة يترقب دعاة فلسفة الفقه أن يتولى هذا العلم تفكيك نسيج الفقه ليرينا كيفية صياغته، ويكشف لنا عن طبيعة المعارف والأدوات الخفية الثاوية في بنيته الداخلية، بنحو نستطيع معه تشخيص ثغوره وتخومه ومساراته، وكافة منابعه ومرتكزاته وسماته وأهدافه.

إنّ فيلسوف الفقه كأنه باحث في الآثار، فعندما يحفر الآثاري طبقات التربة ويغور في اعماق التلال الأثرية، يبتغي التعرف على النمط الحضاري السائد قبل آلاف السنين، ثم يقوم بتشكيل صورة تشي بخصائص وأحوال الحضارة موضوع دراسته، بالافادة من مجموعة لُقى واختام وألواح طينية وفخاريات أثرية، واجراء بحوث تحليلية دقيقة عليها، بتفحّص وتأمل كل شكل أو صورة أو كتابة أو اشارة مهما كانت بسيطة، وتوظيفها في قراءة تلك الحضارة.

وهكذا يعمل الدارس في فلسفة الفقه، فإنه يمارس حفريات معرفية في التراث الفقهي، بهدف بلوغ الأنساق الداخلية الخفية، والمقدمات والمبادئ والمسلمات غير المرئية التي تسبق العناصر المرئية الظاهرة في الاستنباط، وتوجّه مسار عملية الاستدلال الفقهي، سواء كانت آراء كلامية، أم مقولات فلسفية، أم علوماً اجتماعية، أم موروثات تربوية مترسبة في لاوعي الانسان منذ المراحل الأولى في حياته.

ان فلسفة الفقه تهتم بتشخيص ما يطبع المعرفة الفقهية، وما تتلون به هذه المعرفة من رؤية الفقيه الكونية، وثقافته، ومحيطه، اي انها تغامر باجتراح اسئلة غير مألوفة، أو في الاقل لم تكن متداولة فيما مضى، من قبيل: هل الفقيه المتكلم والفقيه المحدِّث والفقيه الفيلسوف والفقيه العارف يتعاطون مع نصوص الكتاب الكريم والسنة الشريفة من منظور واحد، فيستظهرون منها مدلولا مشتركاً، لاتساهم في تكوينه سوى المواضعات العرفية والتبادر اللغوي، أم أن النص يتجلّى في ذهن كل منهم بصورة تتناسب مع ما يثوي في وعيه ولا وعيه من خلفيات مسبقة؟

ثم ما هو أثر الاعراف والقيم السائدة في المجتمع في تبلور مدلولات النص؟
وما هو دور الاحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في نمو الفقه أو انكماشه؟
وما هي العلاقة بين مشاركة الفقيه في الحياة السياسية الاجتماعية واتجاهه الفقهي؟
أليست المعرفة الفقهية واحدة من ضروب المعارف البشرية؟ فهل يمكن جعلها بمعزل عن التحولات الهائلة في علوم الألسنية والقانون والنفس والتربية والاجتماع والانثروبولوجيا؟
وهل هناك علاقة بين تطور العلوم الطبيعية والعلوم البحتة والمعرفة الفقهية؟

أليس هناك تأثير متبادل بين التفكير الفقهي ومسار الحضارة الاسلامية، باعتبار الفقه أحد المنجزات العلمية لهذه الحضارة، وهو بالتالي تعبير عما تزخر به الحضارة الاسلامية من ابداع وابتكار؟ فإذا ازدهرت أية حضارة تزدهر تبعاً لذلك معارفها وفنونها وآدابها، اما اذا انكفأت وانحطت فسوف تنحط معارفها وفنونها وآدابها ايضاً، فماذا ورث الفقه الاسلامي من عصور الانكفاء والتراجع؟

وأخيراً أليست المعرفة الفقهية معرفة نسبية تاريخية محكومة بالحقبة الزمنية المنتجة في فضائها؟ فلماذا يتعامل البعض مع هذه المعرفة وكأنها معرفة مطلقة أبدية، من دون ان يدري ان الفقه لن ينفصل عن الحياة البشرية وما تحفل به من تحولات شتى ووتيرة تغيير متسارعة، ومن دون ان يميز بين الفقه والشريعة، فالشريعة خالدة فيما المعرفة الفقهية لا تنفك عن البيئة والمحيط؟

هذه نماذج من سلسلة استفهامات كثيرة يطمح دعاة فلسفة الفقه إلى اقتحامها والبحث في آفاقها. والتأمل في هذه الاستفهامات يشي بوظيفة هذا العلم ومدياته، وهذا يعني ان مديات فلسفة الفقه تتجاوز اهتمامات علم اصول الفقه المعروفة ولا تتوقف عندها،

فبالرغم من ان بذور فلسفة الفقه أثمرتها بحوث الاصوليين والفقهاء وتغذت في حقل هذه البحوث، بل اعتبر أحد الباحثين علم الاصول بمثابة فلسفة للفقه، لكن فلسفة الفقه تتسع لمباحث جديدة لم يطرقها علم الاصول، ذلك أن مهمة علم الاصول تتلخص في تأمين العناصر المشتركة في عملية الاستدلال الفقهي واستنباط الاحكام الشرعية، بينما تدرس فلسفة الفقه الخلفيات، التي تسبق تلك العناصر، وتوجه آليات استخدامها في الاستنباط، وبعبارة موجزة إن فلسفة الفقه تنقلنا إلى «ماوراء اصول الفقه» و«ماوراء الفقه» فتقودنا إلى مجال آخر مختلف، وتمنحنا رؤية معمقة تبصرنا بما يكتنف فهم النصوص وتحديد مدلولاتها من عوامل، وما يوجه عملية تعاطي ادوات الاستدلال الفقهي برمتها.

ان فلسفة الفقه تضع بين يدي الفقيه أدوات اضافية ظلّت خارج دائرة الاستنباط زمناً طويلا; لأنها كانت مستترة وراء الأدوات المتداولة في الاستدلال الفقهي، ولم يشعر دارسو الفقه فيما مضى أنهم بحاجة إلى غيرما هو متاح لديهم، لا سيما أن فلسفة الفقه لا تدخل مباشرة في عملية الاستنباط، وانما تطل على هذه العملية من الخارج، وتتعامل مع نتائج ومعطيات الاستنباط، مضافاً إلى اهتمامها قبل ذلك بالمبادئ التي ينطلق منها الفقيه، ونوع المنهج الذي يستخدمه وأثره في تحديد الموقف الفقهي.

وهذا يعني أن فلسفة الفقه تستقي أدواتها من عدة علوم؛ لذلك ينبغي أن تنفتح على مكاسب العلوم الانسانية الراهنة، للاستعانة بها في حفرياتها المعرفية؛ لأن تبلور صيغة نظرية علمية لفلسفة الفقه في وعي الدارسين يتوقف على تلقي بعض الأسس في اللسانيات والهرمنيوطيقا، وفلسفة العلم… وغير ذلك.

 

( تنبيه : تأتي الهوامش في القسم الثاني من هذا البحث . من أصول الفقه إلى فلسفة الفقه  (2)

  المصدر: سلسلة كتب: فلسفة الدين والكلام الجديد – فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة – مركز دراسات فلسفة الدين – دار الهادي

تعليق واحد

  1. السلام عليكم
    المشكلة ليست في الفقه بل في اصوله التي تجاوزها العصر فانسداد باب العلم والعلمي يقتضي تثقيف النص بالدليل العقلي بالقياس الجلي مظنون العلة و بالقياس الخفي وهو الحكمة وهما مقدمان على الاحاد . فالنجاسات لا تنحصر اليوم بالمنصوص عليه في شرائع المحقق بل تمتد الى جميع الملوثات بما فيهل المواد الحافظة المسرطنة في المواد الغذائية المستوردة . وهذا ما لا يطيقه النصيون العاملين بالاحاد والذي لا يؤمنون بحجية الدليل العقلي المستقل لانهم في واقهم اخباريين لا اصوليين.مع التقدير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky