الاجتهاد: الخطاب المنبري وخاصة الحسيني يفترض أن يتميز بعدة مميزات أهمها:
1. دراسة إشكاليات الراهن التي يعاني منها الفرد والمجتمع داخليا وخارجيا، دراسة شاملة في أبعادها الفكرية والإجتماعية والنفسية والاقتصادية وانعكاسها على بنية الفرد والمجتمع النفسية والسلوكية، وهو ما يتطلب الرجوع لمتخصصين في ذلك المجتمع يعينون الخطيب في بناء خطابه، الذي يفترض أن يقدم معالجات لهذه الإشكاليات ضمن إطار يوازي بين الداخل والخارج؛
2. اللغة أو الألفاظ التي ستشكل مضمون الخطاب – وقد شرحت ذلك سابقا فيمكن المراجعة -، فاللغة بنت الزمان والمكان، ولغة أي خطاب هي رهينة زمانها ومكانها، لذلك تعتبر الألفاظ التداولية والمعنى، من أهم الأبعاد التي يجب مراعاتها في بناء نص الخطاب، فاللغة تحتوي على هوية وهدف وأفعال وأوامر، فهي بالتالي تشكل محور هام في بناء منظومة الأفكار وبالتالي الأفعال. بل هي توضح منهج للجمهور يبنى عليه تصورات وتصديقات ورؤى وسلوك؛
3. مراعاة المضمون للأهداف، ومراعاة وسيلة طرح الخطاب لتتناسب مع لغة وأدوات العصر وإشكالياته، بل محاولة تغيير وعي الجمهور والترقي به من مرحلة إلى مرحلة أرقى، تتناسب وعالمية الرسالة ومحورية الثورة في منظومته الفكرية؛
4. اعتماد الدليل والبرهان كبنية تأسيسية للخطاب، وعدم الركون إلى الظنيات وكل ما هو دون دليل، خاصة فيما يتعلق يحدث الثورة الحسينية، لأن استخدام الخرافات والأساطير والروايات الضعيفة، والاتكاء فقط على العاطفة في الخطاب، فإن ذلك مع التقادم ومع تطور العلوم ونهوض الوعي الإنساني واكتشاف وهن هذا الخطاب فإن ذلك سيضعف من فعالية القضية الحسينية ومصداقيتها في النفوس، وبالتالي سيضعف من حقانية أهدافها ومنهجها، ومع التقادم سيغيبها عن وعي الأجيال القادمة كخيار محوري من خيارات الوعي الإنساني في المواجهة والتغيير.
فالقضية الحسينية يجب أن تقوم على الصدق والدليل والبرهان، ويجب أن يتم تخليصها من كل ما هو زبد حتى لو خالف رغباتنا وما نعتقده مذهبيا، لأن قيام السلطات عبر التاريخ بمذهبة القضية الحسينية، ومن ثم تشويه معالمها وأهدافها، وتصغيرها لتصبح فقط مجرد مجموعة شعائر وطقوس يمارسه بعض الشيعة لينالوا بذلك الشفاعة والراحة النفسية، فإن ذلك حرف القضية الحسينية مع الزمن عن عالميتها وإنسانيتها، بل ضيق أفق أهدافها وحصرها في صندوق ضيق لا يطلع عليه إلا من انتسب للتشيع، أو من تفاعل مع القضية الحسينية بإنصاف.
لذلك تجاوز هذا الخطأ التاريخي السلطوي، لا يتم إلا من خلال بناء خطاب منبري يعتمد على الصدق والدليل، ويعيد صياغة أهداف الثورة من بعدها المذهبي إلى بعدها العالمي، وهو ما يتطلب مضمون لغوي وفكري يتناسب وعالميتها، وهو بالبداهة يعني التخلص من كل الموروث الذي تم دسه دون دليل في القضية الحسينية.
ويتطلب أيضا الأخذ بالحسبان تحول العالم إلى قرية صغيرة، وهذا ما عنيته من مراعاة الداخل والخارج في رصد الإشكاليات وفي عالمية الخطاب في مضمونه، فللغة مراتب ومواقع، واليوم بات الفضاء مفتوحا على كل العالم، فما يطرح في أي بقعة صغيرة من العالم سيصل خلال دقائق إلى كل بقعة في العالم، وهذا يعني أن تدرس بنية الخطاب دراسة عميقة تراعي خصوصيات الهوية الخاصة من جهة، وخصوصيات الهوية العامة من جهة أخرى وعالمية الهوية الإنسانية من جهة أخرى، وتحويل القضية الحسينية إلى قضية إنسانية لكل إنسان، وأهداف عالمية يتطلب صياغة خطاب يتناسب وهذا الهدف، آخذا في الحسبان كل حيثيات الراهن، من زمان ومكان ومن ظروف الإعلام والنقل والجماهير المخاطبة،
5. العالمية تتطلب بنية خطاب عالمي، وهو ما لا يمكن لخطيب وحده القيام به، بل يتطلب ذلك تشكيل لجنة من متخصصين في مجالات إنسانية ونفسية وعلمية قادرة على أن تمد الخطيب بآخر المتابعات ليقوم بدوره بصياغة خطاب بنيته الداخلية متماسكة، وبنيته اللغوية عالمية، وأدواته عصرية مواكبة للتطور، ومضمونه يعالج أهم ما يواجهه الفرد والمجتمع في راهنه من إشكاليات.
إن المضمون اللغوي والبنية الفكرية للخطاب وخاصة المنبري تحتاج اليوم إلى إعادة نظر حقيقية، حتى لا تتحول إلى حزايا شعبية ليس لها قيمة علمية، تتلاشى مع التقادم وتتلاشى معها حقانية الثورة الحسينية، لذلك على المعنيين إعادة النشر في المنبر الحسيني، سواء من حيث هيكليته بحيث تصبح هناك مؤسسة معنية في المنبر الحسيني ومتخصصة في تخريج خطاب متخصصين في هذا المجال، أو من حيث بنيته ومضمونه والذي يجب أن يتحول لبنية ومضمون وأهداف عالمية وإخراجه من الثوب المذهبي الضيق الذي ألبسه الحكام عبر التاريخ للثورة الحسينية، إلى الأفق العالمي الرحب الذي يسع كل مناضل يحمل أهداف وهم الحسين عليه السلام. وهذا يحتاج إعادة نظر في كل ما هو منقول حول الثورة الحسينية وأحداثها بحيث يتم تشخيص كل خبر ودراسة مصداقيته.
وهناك نقطة مهمة جدا في الخطاب وبنيته المضمونية وهي أن يكون الخطاب مراعيا لأمور هامة هي: ماذا نقول، كيف نقول، متى نقول، أين نقول. فإن ذلك سيحقق في الخطاب مقولة المقامات الخطابية والقابليات ومراتبها وكيفية مخاطبتها، مما يجعل الخطيب أكثر دراية وأكثر إحاطة بالواقع والجمهور والزمان والمكان والإشكاليات الراهنة، ويصبح أكثر فاعلية في تحقيق أهدافه بأفضل الأدوات الصالحة المتاحة، ويقدم الحق بأفضل قالب يمكن من خلاله اختراق العقول والقلوب، وتحقيق هدف الإصلاح الحسيني وخاصة الذي يحرك وعي الأمة ويرشد تجربتها.
المصدر كتاب: عقلنة الثورة وتأصيل النهضة