الاجتهاد: ما هي مكانة النبي بين مختلف المذاهب الاسلامية؟ وكيف يمكن لإحياء ذكرى النبي أن يؤدي دوراً في لَمِّ شمل المسلمين؟
لا شك أن جميع الطوائف والمذاهب الإسلامية تعظم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن يختلف مستوى التعظيم، فالمسلمون عموماً يرونه أفضل وأعظم وأكرم خلق الله، وهذه العظمة لا يجوز قصر أثرها على شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل إن آثارها تتعدى إلى جميع الأمة، بل جميع الخلائق والعوالم، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ 1 خلافاً للنظرة الوهابية الشاذة التي ترى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مجرد ساعي بريد (بوسطجي) أوصل الرسالة إلى الناس، وانتهى دوره بوفاته.
والحقيقة أن الأحاديث والآثار الواردة في كتب أهل السنة والجماعة تكذب مقولتهم:
فقد روى البيهقي في دلائل النبوة والحاكم في مستدركه على الصحيحين قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: «لمّا اقترف آدم الخطيئة قال: يا ربّ أسألك بحقّ محمّد لما غفرت لي. فقال اللّه تعالى: يا آدم كيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟ قال: يا ربّ إنّك لمّا خلقتني رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً “لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه” فعلمت أنّك لم تضف إلى اسمك إلا أحبّ الخلق إليك، فقال اللّه تعالى: صدقت يا آدم، إنّه لأحبّ الخلق إليّ، وإذ سألتني بحقّه فقد غفرت لك، ولولا محمّد ما خلقتك« فعظمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عرفها آدم عليه السلام، ويعرفها كل بني آدم إلا من خرج عن فطرة الآدمية.
ولذلك لما سأل أبو جعفر المنصور الإمام مالكاً مؤسس مذهب المالكية (أحد المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة): يا أبا عبد اللّه أأستقبل رسول اللّه وأدعو أم أستقبل القبلة وأدعو؟ فقال له مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفّعه اللّه.
ولذلك فقد اعتبر علماء أهل السنة مذهب ابن تيمية “مثلةً” أي عاهة وتشوهاً في الأمة: نقل العلامة الميناوي في فيض القدير عن الإمام السبكي أنه قال: «ويحسن التوسل والاستعانة والتشفع بالنبي إلى ربه، ولم ينكر ذلك أحد من السلف ولا من الخلف، حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم، وابتدع ما لم يقله عالم قبله، وصار بين أهل الإسلام مثلة».
ولذلك ينبغي أن نكشف مذهب الوهابية أنه مذهب شاذ، وأن تكفيرهم لمن يستغيث ويتوسل بالنبي أو بالأئمة أو بالأولياء هو مذهب شاذ عن فقه أهل السنة والجماعة.
وهذا يحتاج أن ينهض العلماء بهذه المهمة، لأن الوهابية استطاعوا أن يخدعوا بعض العوام، وأن يوهموهم أن الشيعة كفار لأنهم يقولون: يا محمد، ويا حسين بدل أن يقولوا يا الله.
ولذلك وجب أن نبين للناس أن ذلك ليس تأليهاً للنبي أو للولي، وإنما ذلك توجه إلى الله متوسلين إليه بمن يحب من عباده. قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ … ﴾ 2 وقال تعالى: ﴿ … وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾ 3 فلو كان مفهوم الوهابية صحيحاً فلماذا لا يستغفر المؤمنون في الآية الله مباشرة؟ ولماذا يأتون النبي ليستغفروا عنده؟ علماً أن الآية لم تخصص إتيانه في حياته أو بعد مماته.
وقد روى الطبراني والبيهقي وغيرهما (صححها المحدثون كالطبراني في معجمه الصغير والمنذري في الترغيب والترهيب والهيثمي في مجمع الزوائد) أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان زمن خلافته في حاجة، فكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فشكى ذلك لعثمان بن حنيف، فقال له ائت الميضأة (محل الوضوء) فتوضأ، ثم ائت المسجد فصلِّ، ثم قل: اللهم إني اسألك وأتوجه اليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي لتقضي حاجتي، وتذكر حاجتك، فانطلق الرجل، فصنع ذلك ثم أتى باب عثمان فجاءه البواب فأخذه بيده فأدخله على عثمان، فاجلسه معه، وقال أذكر حاجتك، فذكر حاجته فقضاها.
إذاً يجب أن نوحد الأمة على ذكرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وألا نقتصر في الذكرى على الحديث عن حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل أن نوضح للناس مكانته ودوره في حياته وبعد مماته.
وهذه رؤية تتفق عليها المذاهب الإسلامية جميعاً الإمامية والشافعية والزيدية والحنفية والإباضية والمالكية والعلوية والحنبلية.
وبذلك نعزل الرؤية الوهابية القاصرة التي ترى في النبي مجرد ساعي بريد، وبالتالي فإننا بكشفهم وعزلهم نسهم في إسقاط التطرف والتكفير، وفي حماية الأمة من أحقادهم وإجرامهم.
الهوامش
1. القران الكريم: سورة الأنبياء (21)، الآية: 107، الصفحة: 331.
2. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 35، الصفحة: 113.
3. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 64، الصفحة: 88.