الاجتهاد: قبل أيام وبحضور علمي وأكاديمي ووفد من جمهورية إيران الإسلامية تم عقد ندوة في مجمع الفقه الاسلامي بالهند تحت عنوان “مقاصد الشريعة والتعايش السلمي”. وفي ما يلي نص المقال الذي ألقي الشيخ الدكتور أحمد مبلغي في هذا المؤتمر مع بعض التعديلات:
بسم الله الرحمن الرحیم
في سياق تفعيل مقاصد الشريعة، تبرز الحاجة الملحة لإخراج هذه المقاصد من الإطار التقليدي إلى فضاء أكثر تخصصًا يتناسب مع تعقيدات العصر.
يتطلب هذا التحول التركيز على دمج مقاصد الشريعة في فقه الاجتماع، الذي يمثل فقهًا تخصصيًا يتناول الأحكام الشرعية المتعلقة بالبنى التحتية للمجتمعات، بما في ذلك النشاط الاجتماعي، الرموز الاجتماعية، المؤسسات، العلاقات الاجتماعية، والجماعات المرجعية.
إذا تمكنا من إدخال مقاصد الشريعة، بتلك العمق والحركة والأصالة التي يمتاز بها فقه الاجتماع، إلى هذا المجال المتخصص، فسنكون قادرين على خلق مفاهيم جديدة تُسهم في معالجة قضايا العصر بفعالية.
بعبارة أخرى، عند النظر إلى تفعيل مقاصد الشريعة ضمن هذا الإطار التخصصي، نجد أن ذلك سيفتح آفاقًا لمناقشات جديدة وابتكارات فكرية تسهم في معالجة القضايا الاجتماعية المعقدة، وتوجيه السياسات العامة بما يتماشى مع مصالح المجتمع، مما يعزز القدرة على التكيف مع تحديات العصر وتقديم حلول شرعية مبتكرة.
من الضروري أن ندرك أن التحديات الاجتماعية المعاصرة تفرض علينا مقاربات تخصصية فقهية؛ فلم تعد القضايا الكلاسيكية العامة كافية لمواكبة تعقيدات المجتمع الحديث. وبالتالي، أصبح من الملح إعادة صياغة مقاصد الشريعة بما يضمن تفعيلها في الساحات الاجتماعية المعاصرة.
وكم هو ضيق أفق الحياة الاجتماعية إذا ظلت دراساتنا لقضايا الشريعة أسيرة الماضي، عاجزة عن استيعاب تشابك العصر وتعقيداته! نحن بحاجة إلى نقاشات متجددة، تُعيد إحياء روح الشريعة في واقعنا الراهن، وتحوّلها إلى أداة فعّالة في مواجهة تحديات المجتمع. ينبغي أن نُكسو مقاصد الشريعة بحلة الفقه التخصصي حتى نلمس أثرها الفعلي في حياتنا.
العلامة الطباطبائي، الذي كان فيلسوفًا في الميتافيزيقا وفيلسوفًا اجتماعيًا، بالإضافة إلى كونه فقيهًا ومفسرًا، قدم نظرية تراتبية للمقاصد تمتاز بدقتها في تفعيل مقاصد الشريعة ضمن إطار فقه الاجتماع.
هذه النظرية تفتح آفاقًا واسعة ومهمة، حيث تنقلنا من التعامل مع المقاصد كعموميات إلى فضاء أكثر تخصصًا، يعالج القضايا الاجتماعية بعمق، ويوائمها مع تطورات العصر ومتطلباته.
العلامة في نظريته يأخذ بعين الاعتبار ثلاث طبقات مهمة جدًا، ويرى أن كل طبقة تمثل مقصدًا أساسيًا من منظور الدين، مما يستدعي الالتزام الدقيق بهذا الترتيب والتنظيم. فإذا لم يتم مراعاة هذا الترتيب، فإن النظام العام لتنفيذ الدين سيتعرض للاختلال.
وهذه الطبقات هي:
– طبقة الاجتماعيّات في الإسلام
– طبقة العبادات
– طبقة المعرفيّات
يتطلب هذا النموذج من الفقه تفعيلًا متدرجًا ومتسقًا لهذه الطبقات لضمان تأثيرها الإيجابي في المجتمع. فالطبقات الثلاث مترابطة، وإذا غاب التراتب في تفعيلها، فإن الدين سيفقد قدرته على التعامل بكفاءة مع شؤون المجتمع.
يقول العلامة:
القوانين الاجتماعية في الإسلام مقدمة للتكاليف العبادية مقصودة لأجلها ، والتكاليف العبادية مقدمة للمعرفة بالله وبآياته ، فأدنى الإخلال أو التحريف أو التغيير في الأحكام الاجتماعية من الإسلام يوجب فساد العبودية وفساد العبودية يؤدي إلى اختلال أمر المعرفة.
في هذا السياق، فإن الوحدة الإسلامية تبرز كعنصر محوري في الاجتماعيّات الإسلامية، حيث تُعَدّ الأساس لكل جهد يهدف إلى بناء مجتمع متماسك وعادل. إن غياب الوحدة سيؤدي إلى تفكك القيم المجتمعية وفقدان العدل والإحسان والإنصاف.
يقول العلامة حول آيات الوحدة:
“ومن أسوإ التقصير إهمال الباحثين منا أمر البحث في هذه الآيات الكريمة على كثرتها وأهميتها وشدة مساسها بحال الأمة وسعادة جدها في دنياها وآخرتها”
إنَّ تجاهل هذه الآيات يعدّ ظلمًا للذات، وتقصيرًا في حق الأمة، فكل آية تحمل بين طياتها رسالة للتآخي والتآزر. الوحدة هي حالة يجب أن تُعاش في كل وقت وحين. إنها قادرة على إشاعة الأمن والسلام، وعلى خلق مجتمع يسوده المحبة والمودة.