الاجتهاد: إن مقارنة حال المرأة بين الجاهلية والإسلام من المؤكد أنها ستظهر لنا النقلة النوعية التي حصلت للمرأة المسلمة مع مجيء الدين الخاتم، بحيث يمكن القول: إنّها شاركت إلى جانب الرجل في عملية التأسيس لحركة التغيير التي أحدثها الإسلام، والفضل في ذلك يعود إلى الإسلام نفسه والذي شكل حركة دفع قوية وثورية على صعيد إعطاء المرأة حقوقها كإنسان، في عالم كانت تسوده العقلية الذكورية ومنطق استعباد الأنثى.
لكن من الضروري اليوم التوجه إلى عقد مقارنة بين حال المرأة المسلمة في صدر الإسلام وحالها في العصور المتأخرة، وصولاً إلى عصرنا الحالي، وهذه المقارنة ستُظهِرُ – مع الأسف – أن المؤشر لم يكن تصاعديا نحو الأفضل، بل كان إلى تراجع في العديد من الجوانب،
فالمراة التي حررها الإسلام من آصار الجاهلية وأغلالها، وأعطاها قوة دفع كبيرة لتكون حاضرة في شتى ميادين الحياة، من المسجد، إلى سوح الجهاد، إلى مدارس العلم إلى غير ذلك من ميادين الحياة، إذا بها بعد مدة من الزمن تنكفئ – إلى حدٍّ بعيد ـ عن الحياة الاجتماعية، ولا تضطلع بالدور المطلوب منها على الصعيد الرسالي والعلمي والاجتماعي والتربوي؛ ولهذا لم نجد لها هذا الحضور المؤمل والوازن ، ولا لمسنا شيئاً من الفعل التاريخي المرجو !
قد أتاح الإسلام للمرأة أن تكون حاضرةً في شتى ميادين الجهاد وأن تقوم بالعديد من المهام الرسالية، وسيأتي لاحقاً بيان دورها في التعبئة النفسية أثناء الحرب*، ولكن هذا الحضور لم يستمر، بل تراجع وخَفَتَ وهجه كثيراً في أوساط المسلمين في العصور المتأخرة، ولا يزال في حالة تراجع إلى يومنا هذا.
وأعتقد أنّ التردي الذي أصاب المرأة المسلمة قد أصاب الرجل المسلم أيضاً، فعصر الانحطاط الذي مرّ على العالم العربي والإسلامي لم يكن حكراً على المرأة، بل أصاب بشظاياه القاتلة كل المسلمين ذكوراً وإناثاً، ولذا عندما نتحدث عن التردي الذي أصاب المرأة المسلمة فهذا يبدو طبيعياً في سياق الانحطاط العام والشامل، والذي ستكون المرأة هي أولى ضحاياه، باعتبارها العنصر الأضعف في المعادلة التاريخية.
وإذا أردنا أن نذكر شاهداً على التراجع الذي شهده وضع المرأة المسلمة عما كان عليه في صدر الإسلام، فمن الممكن أن يذكر في هذا المجال حاجة المرأة إلى الزواج، حيث نلاحظ أن الاعتبارات الاجتماعية التي تكبّل المرأة اليوم وتمنعها من التعبير عن حاجتها إلى الزواج لم تكن موجودة في صدر الإسلام، حيث كانت الصحابية تفصح عن حاجتها هذه أمام رسول الله (ص) دون حرج، ونستطيع أن نجد في الرواية التالية ما يشهد لهذه الحرية لدى المرأة في التعبير عن حاجتها تلك، من دون أي عُقَدِ نفسيّة أو عوائق اجتماعية كالتي رأيناها لاحقاً ولا نزال نراها إلى يومنا هذا،
ففي صحيح مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ اللَّهِ قَالَ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ (ص) فَقَالَتْ: زَوِّجْنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّه (ص): مَنْ لِهَذِهِ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا. فَقَالَ: مَا تُعْطِيهَا؟ فَقَالَ: مَا لِي شَيْءٌ، فَقَالَ: لَا ، قَالَ : فَأَعَادَتْ، فَأَعَادَ رَسُولُ اللَّه (ص) الْكَلَامَ، فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ غَيْرُ الرَّجُلِ، ثُمَّ أَعَادَتْ، فَقَالَ رَسُولُ الله (ص) فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ: أَتُحْسِنُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئاً؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا عَلَى مَا تُحْسِنُ مِنَ الْقُرْآنِ فَعَلَّمْهَا إِيَّاه (۱).
إنّ المرأة التي كانت تأتي مسجد النبي (ص) وتعبّر بشكل عفوي عن حاجتها إلى الزواج دون أن يُنكر عليها أحدٌ ذلك، لم تمض عليها عقود يسيرة بعد وفاة النبي (ص) حتى حُوصرت بنظرة اجتماعية قاسية وتحوّلت إلى عورة لا يسمح لها بمثل هذا الحديث، بل بما هو أقل منه جرأة، وصرنا نشهد أفكاراً ومساعي تحاول منعها من ممارسة حقها في الخروج حتى إلى المساجد، بالرغم من وجود نصوص نبوية صريحة تسمح لها بذلك،
ينقل المحدثون أنّ عبد الله بن عمر حدّث بقول النبي صلى الله عليه وآله سلم: «لا تمنعوا النساء المساجد بالليل (2)، فقال ابنه: بلی والله لنمنعهنّ ، يتخذنه دغلاً، فرفع يده فلطمه، فقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقول هذا!» (3) .
إنّ أدنى تأمل في دلالة هذه الرواية يكشف لنا سرعة التحوّل في نظرة المسلمين تجاه المرأة، كما يؤرّخ ويؤشر إلى بداية هذا المسار المتشدد في التعامل معها.
إن هذه الرواية تصلح شاهداً يسمح لنا بالقول: إن بداية التراجع والقوقعة التي أصابت المرأة المسلمة قد لاحت في الأفق مع منتصف القرن الهجري الأول وما تلاه(4)، وتعززت هذه النظرة فيما اصطلح على تسميته بالعصر الأموي والعصر العباسي.
وكيف كان فإن هذا الغياب المتأخر للمرأة عن مسرح الحياة الاجتماعية والثقافية والرسالية، لا بد أن يخضع لدراسة مستقلة تبحث عن أسبابه ونتائجه.
عمر ورأيه في المرأة
ويذكرنا الموقف المتقدّم المنقول عن ابن عبد الله بن عمر بموقف جده الخليفة عمر ابن الخطاب، فقد عرف عنه أنه صاحب نظرة متشددة إزاء المرأة.
روي أنه خطب «أم كلثوم» ابنة أبي بكر إلى أختها عائشة، فقالت أم كلثوم : « لا حاجة لي فيه، إنّه خَشِنُ العيش، شديدٌ على النساء» (5) ، وخطب امرأة أخرى وهي «أم أبان بنت عتبة بن ربيعة فكرهته، وقالت: يُغْلِقُ بابه، ويَمْنَعُ خَيْرَه، ويَدْخُلُ عابساً ويخرج عابساً (6).
ومن أوضح النصوص التي تعكس رأيه في المرأة كلمته التي وصفها فيها بأنها مجرد لعبة للرجل، فقد روي أنه تكلّم مرّةً في شيء من الأمر، فأخذت امرأته تراجعه في القول فزبرها وقال ما أنت لهذا! إنّما أنت لعبة في جانب البيت، إن كانت لنا إليكِ حاجة، وإلا جلست كما أنت»(7).
وتُروى الكثير من الأحاديث عن سيرة المتشددة مع النساء، لدرجة أنه كان يتشدد عليهنَّ بما كان النبي (ص) يوسع فيه عليهن (8) ، وكان يضرب النساء اللواتي يبكين موتاهن، فقد ضرب النساء بالسوط عندما بكين على زينب بنت رسول الله (ص)، فنهاه النبي (ص) عن ذلك وقال: «دعهن يبكين (9)، وضرب أيضاً «أم فروة» ابنة أبي بكر ليمنعها وسائر النساء من البكاء على أبيها (10)، وضرب امرأة بالدرّة لركوبها على البعير عند رمي الجمرة (11).
وروي عنه العديد من الروايات في هذا المجال، وهي – على فرض صحتها – تعكس موقفه المتشدد من المرأة، من ذلك قوله : «اضربوهن بالعري»(12)، وسيأتي أن هذا المضمون مروي عن رسول الله (ص).
وموقف عمر هذا من المرأة ونظرته المتشددة تجاهها، لا نستطيع أن نعتبره مستولداً من رحم الثقافة الإسلامية وتعاليم النبي الأكرم (ص)، وإنّما هو رأي خاص به، ربما أملته الغيرة الذكورية، ولعله يعكس نظرة الرجل العربي آنذاك، والوجه في ذلك أن هذا الموقف الذي يعتبر المرأة مجرد لعبة للرجل يستمتع بها ثم يدعها ويرميها في زوايا البيت، لا ينسجم مع الرؤية القرآنية حول المرأة ولا مع تعاليم النبي (ص) في هذا المجال، وتفسير ذلك بأنه كان تدبيراً ارتأه عمر لا ينافي ما ذكرناه.
ويبدو لي أن موقف عمر المتشدد من المتعة (13)، حيث نهى عنها وهدّد بالعقوبة على فعلها كان أيضاً رأياً شخصياً، وربما سار عليه بتأثير من هذه النزعة العربية المغالية في الغيرة على النساء بما يتجاوز المعقول.
بين النصوص والممارسات
ثم علينا الاعتراف هنا بأنه تمّ طيّ تلك الصفحة الجاهلية المظلمة في التعامل مع المرأة على مستوى النصوص والتشريعات، لكن الممارسة كانت ولا تزال تعتريها الكثير من الشوائب، والذهنية الذكورية ما برحت هي المهيمنة على العقول، وتذكرنا بعض الممارسات الوحشية التعنيفية التي تمارس اليوم ضد المرأة بعادة وأد البنات في الجاهلية، فالوأد لا زال قائماً ولكن بطرق وأساليب جديدة.
إن الإسلام إنّما طوى تلك الصفحة المظلمة على مستوى النصوص بشكل حاسم، وعمل جاهداً على طيها على مستوى النفوس، وقد حصلت نجاحات كثيرة على هذا الصعيد، إلا أن تغيير الذهنيات والعادات الراسخة لا يتمُّ بسحر ساحر، وإنما يحتاج إلى جهود تربوية وثقافية ودعويّة مكثفة.
ولو أن مسار المجتمع الإسلامي تحرّك بالشكل الصحيح والمرسوم له من قبل النبي (ص) لكنا أمام واقع مختلف وصورة أخرى، بيد أن الأمور سارت بشكل تراجعي وشهد واقع المرأة انكماشاً ملحوظاً، ولهذا، فإنّ بقايا تلك الصورة الجاهلية بقيت موجودة ومستمرة لدى البعض إلى يومنا هذا.
وساعد على هذا الانكماش الفهم أو التفسير الخاطئ للنص الديني المتصل بالمرأة، ولذا لا نبالغ بالقول: إن العديد من الفتاوى الفقهية التي انطلقت من فهم معين للنصوص الدينية لا تزال تشكل العائق الأكبر أمام اضطلاع المرأة المسلمة وقيامها بدورها الريادي في عملية نهوض الأمة.
إن الفتاوى التي تمنع المرأة من حق العمل، ومن قيادة السيارة، ومن الخروج من بيتها دون إذن الزوج حتى لو لم يكن خروجها منافياً لحق من حقوقه، ولو فرضنا أنه لم يأذن فلا يحق لها الخروج أبداً، وتمنعها أيضاً من السفر بدون وجود محرم، أو غير ذلك مما يعد من أبسط الحقوق البشريّة.
إنّ هذه الفتاوى قد تجعل المرأة حبيسة المنزل مدى عمرها، والنتيجة الطبيعية المترتبة على ذلك هي تجميد أو شلّ نصف المجتمع البشري وإخراجه عن الفاعلية إلا في دائرة أو حدود ضيقة، وكلّ ذلك يجري وللأسف باسم الدين. ولهذا، فإنّ العقل الاجتهادي معني بإعادة وضع هذه الفتاوى على طاولة البحث والنقاش، و دراستها دراسة نقدية، كما هو معني بمتابعة وملاحظة سائر الفتاوى الفقهية المتصلة بالمرأة.
الهوامش
* ( لاحظ: المحور الثالث، فقرة ” نساء في مدرسة علي “عليه السلام” ،
(1) الكافي، ج 5 ص 380.
(2) وروي هذا الحديث بصيغة أخرى، وهي: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله»، انظر: صحيح البخاري، ج 1 ص 216، وصحيح مسلم، ج 2 ص 32.
(3) مسند أحمد، ج 2 ص 76 وصحيح أبي خزيمة، ج 2 ص 93، ومسند الطيالسي ص 257. واللفظ للأخير.
(4) أجل، إن بعض الباحثين يرى أن بداية إخضاع المرأة لملازمة المنزل كانت من انطلاقة العصر العباسي، انظر: فصول عن المرأة لهادي العلوي، ص 74.
(5) تاريخ الطبري، ج 3 ص ،270 وفي الكامل في التاريخ، ج 3 ص 54.
(6) تاريخ الطبري ج 3 ص 270 والكامل في التاريخ ج 3 ص 55.
(7) قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، لأبي طالب المكي (ت 386هـ) ج 2 ص 422 وإحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي (ت 505هـ)، ج 4 ص 140. وفي تاريخ المدينة لابن شبة: أنه قال لامرأته إنما أنت لعبة يلعب بك، ثم تتركين، انظر: تاريخ المدينة، ج 3 ص818، وشرح النهج لابن أبي الحديد ج 12 ص 23.
(8) انظر حول ذلك صحيح البخاري، ج 4 ص 69 ، وج 7 ،93، ومسند أحمد، ج 1 ص 171، وصحيح مسلم، ج 7 ص 115.
(9) مسند أحمد، ج 1 ص 335.
(10) ففي طبقات ابن سعد بإسناده عن سعيد بن المسيب قال لما توفي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح فبلغ عمر فجاء فنهاهن عن النوح على أبي بكر فأبين أن ينتهين فقال لهشام بن الوليد اخرج إلى ابنة أبي قحافة فعلاها بالدرة ضربات فتفرق النوائح حين سمعن ذلك وقال تردن أن يعذب أبو بكر ببكائكن إن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال: إنّ الميت يعذب ببكاء أهله عليه». انظر: الطبقات الكبرى، ج 3 ص 209، وروايته هذه عن النبي (ص) ليست دقيقة وقد صححت له ذلك السيدة عائشة.
(11) فقد روي أنه رأى رجلاً يقود بامرأته على بعير ترمي الجمرة، قال: فعلاها بالدرة إنكاراً لركوبها»، انظر: المصنف، لابن أبي شيبة ج 4 ص 314، هذا مع أن الركوب ليس محرماً، وقد رمى النبي (ص) جمرة العقبة راكباً، كما جاء في الروايات، انظر المصدر نفسه، ثم لو كان الأمر محرماً فلماذا لم يضرب زوجها الذي يقودها.
(12) المحاسن والأضداد للجاحظ ص 160
(13) أخرج ابن شبة بإسناده عن جابر رضي الله عنه قال: «لما ولي عمر رضي الله عنه خطب الناس فقال: إن القرآن هو القرآن، وإن الرسول هو الرسول، وإنهما كانتا متعتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: إحداهما متعة الحج والأخرى متعة النساء. فافصلوا حجكم عن عمرتكم، فإنه أتمّ لحجكم وأتم لعمرتكم، والأخرى متعة النساء، فلا أوتى برجل تزوج امرأة إلى أجل إلا غيبته في الحجارة»، انظر : تاريخ المدينة، ج 2 ص 720.
المصدر: كتاب المرأة في النص الديني؛ قراءة نقدية في روايات ذم المرأة، لمؤلفه الشيخ حسين الخشن– الصفحة 101
تحميل الكتاب