مفهوم-النظام-العام

مفهوم النظام العام وفقاً للاتجاهات الفقهية.. الدكتور حبيب ابراهيم حمادة الدليمي

ذهب الاتجاه الحديث في الفقه الفرنسي، الى تبني المفهوم الواسع لفكرة النظام العام بحيث تكون شاملة للجوانب المادية والمعنوية لها بوقت واحد على حد سواء، حيث ذهب الفقيه فالين “Waline” الى تعريف النظام العام بأنه (مجموع الشروط اللازمة للأمن والاداب العامة التي لا غنى عنها لقيام علاقات سليمة بين الافراد، وعلى ذلك فأن النظام العام يتسع ليشمل الجانب الادبي او المعنوي اضافة للجانب المادي

الاجتهاد: اختلف الفقه الاداري بتعريفه للنظام العام، وذلك بحسب وجهة النظر المنظور من خلالها لماهية هذه الفكرة، الامر الذي يستلزم بيان ذلك لدى الفقه الاداري في العراق ومصر وفرنسا.

موقف الفقه العراقي:

عرف النظام العام من قبل الفقه الاداري العراقي بتعاريف متعددة، اذ ذهب د. ابراهيم طه الفياض الى تعريفة بانه (عبارة شاملة لكل امر او غرض يتدخل النشاط الضبطي المقيد للحرية الفردية لحمايتها) (1)، بينما عرفه د. خالد خليل الظاهر بانه ( المفاهيم والعقائد التي يقوم عليها المجتمع ، سواء كانت اجتماعية او اقتصادية او سياسية السائدة في الدولة مع حركات تطور ظروف الزمان والمكان)(2)، اما استاذنا د. ماهر الجبوري فقد عرف النظام العام كونه (مصالح عليا مشتركة لمجتمع ما في زمن معين يتفق الجميع على ضرورة سلامتها )(3)، في حين عرفه استاذنا د. مهدي السلامي بانه ((مجموع المصالح المعترف بها كحاجات اساسية لحماية المجتمع)(4).

ويلاحظ على تعريف النظام العام لدى الفقه العراقي انها قد وردت من قبل بعض الفقهاء دون البعض الاخر، كما ان تلك التعاريف لم تكن بارزة للجانب القانوني لهذه الفكرة، وسبب ذلك بالدرجة الاساس الى إن فكرة النظام العام هي فكرة قانونية واجتماعية، تخضع للمؤثرات السياسية السائدة في الدولة والهادفة الى حماية المبادئ والقيم الاخلاقية لأفراد المجتمع والتي توجب تدخل السلطة المختصة لغرض المحافظة عليها، وذلك قد يكون سبباً لاحجام الفقه العراقي سابقاً من تناول تعريفها بشكل مفصل، والاقتصار على ماهيتها بشكل عام فقط.

2- موقف الفقه المصري :

تباينت وجهات النظر لدى فقهاء القانون الاداري في مصر، عند تعريفهم لفكرة النظام العام، فذهب اصحاب الاتجاه الاول الى قصر هذه الفكرة على الجانب المادي فيه دون الجانب المعنوي له، بحيث يكون قاصراً للعناصر التقليدية فقط والمتمثلة بالأمن العام والصحة العامة والسكينة العامة، ويترتب على ذلك ان لا شأن للنظام العام بحالة المجتمع المعنوية او الروحية، ما لم يكن لها مظهر خارجي يهدد النظام العام المادي، بشكل يسمح لسلطة الضبط بالتدخل لحمايتها الا ان ذلك لا يعني – بحسب اصحاب هذا الرأي – ان الاختلال الحاصل بالجانب المعنوي او الأخلاقي يقف مانعاً من تدخل الجهة الإدارية لحمايته، إذ لا يوجد ما يمنع من تدخلها بهذا المجال، الا ان الوسيلة المتبعة في ذلك هي وسيلة اخرى غير وسيلة الضبـط الاداري، باعتبار ان حماية الجوانـب المعنوية او الادبية من الواجبات الاساسية الملقاة على عاتق الجهة الادارية (5).

اما الاتجاه الثاني والذي يمثله اغلب الفقه المصري، فيذهب اصحابه الى توسيع مفهوم فكرة النظام العام، بحيث تكون شاملة للجوانب المادية منها والمعنوية على حدٍ سواء، كون هذه الفكرة تمثل ظاهرة قانونية تهدف الى حماية الاسس والمبادئ التي يقوم عليها المجتمع.

إذ يترتب على ذلك ان يكون لسلطة الضبط ان تتدخل لحماية النظام العام ، بغض النظر عما اذا كان الاخلال الحاصل به قد مس الجوانب المادية منه او الجوانب المعنوية والادبية.(6)

ويلاحظ على الاتجاهين السابقين للفقهاء المصريين، إنها لم تتضمن تعريفاً محدداً للنظام العام، بوصفه غرض للضبط الاداري، بل اقتصرت على بيان مضمون هذه الفكرة، وفيما كانت مقتصرة على الجوانب المادية لها ام شاملة للجوانب المعنوية او الادبية ايضاً،

لذا فقد اتجه بعض الفقه الى تعريف النظام العام من كونه (حالة مادية او معنوية لمجتمع منظم، فهو الافكار الاساسية للقانون والمجتمع، فهو حالة وليست قانوناً، واحياناً اخرى تكون معنوية تسود المعتقدات والاخلاق، واحياناً اخرى تكون هذه الحالة هي الامرين معاً)(7).

وذهب بعض الفقه المصري، الى بيان ماهية فكرة النظام العام، وتحديد العناصر الاساسية لها، باعتبار انها ظاهرة اجتماعية وقانونية ، تهدف الى المحافظة على اسس المجتمع ومبادئه وقيمة، وتكون ملزمة للافراد، بحيث لايجوز مخالفتها والا تحلل المجتمع اثر ذلك، ويتمثل مصدر تلك الظاهرة في القوانين او العرف او احكام القضاء، وتختلف من دولة الى اخرى، بحسب النظام السياسي او الاقتصادي او الاجتماعي السائد فيها(8).

3- موقف الفقه الفرنسي :

أختلف الفقه الفرنسي، عند تحديده لماهية النظام العام، حيث ذهب الفقه التقليدي الى التضييق من هذه الفكرة العام، وقصرها على الجانب المادي لها دون الجانب المعنوي او الادبي منه، ويمثل هذا الاتجاه الفقيه هوريو Hauriou والذي عرف النظام العام كونه (النظام المادي المحسوس والذي يعتبر بمثابة حالة مناقضة للفوضى)،

اما النظام العام المعنوي او الأدبي والمتعلق بالأفكار والمعتقدات والاحاسيس فلا يقع تحت سلطان الضبط الإداري، ومع ذلك وبحسب أصحاب هذا الرأي فأن الاخلال بالنظام العام الادبي يمكن ان يكون مهدداً للنظام العام المادي بشكل مباشر وذلك لغرض حماية الجانب المادي منه (9).

وقد اعتنق الفقيه ريفيرو Rivero الاتجاه السابق، حيث اكد بأن الأحاسيس السائدة في الأفكار والمعتقدات خارجة عن سلطات الضبط الاداري في النظم الديمقراطية، ومتى ما تجاوزت العقائد حدود الوجدان، وكان لها مظهراً خارجياً، بحيث يخشى منه على النظام العام المادي، فأن لسلطة الضبط ان تتدخل لحمايته(10).

ونعتقد بأن قصر فكرة النظام العام على الجانب المادي فقط دون جانبه الادبي، وفقاً لما ذهب اليه الرأي السابق، وبشكل يضفي الطابع السلبي لهذه الفكرة دون طابعها الايجابي، قد يكون غير دقيق، وفيه تضييق لا مبرر له لفكرة النظام العام، باعتبار ان للجانب الادبي اوالمعنوي اهمية لا تقل عن اهمية الجانب المادي، بحيث ان الاخلال الحاصل في الجوانب الادبية لهذه الفكرة، قد ترتب اثارها السلبية احياناً على افراد المجتمع عند عدم تدخل سلطة الضبط الاداري لحمايتها او اعادتها الى نصابها.

وقد ذهب الاتجاه الحديث في الفقه الفرنسي، الى تبني المفهوم الواسع لفكرة النظام العام بحيث تكون شاملة للجوانب المادية والمعنوية لها بوقت واحد على حد سواء، حيث ذهب الفقيه فالين “Waline” الى تعريف النظام العام بأنه (مجموع الشروط اللازمة للأمن والاداب العامة التي لا غنى عنها لقيام علاقات سليمة بين الافراد، وعلى ذلك فأن النظام العام يتسع ليشمل الجانب الادبي او المعنوي اضافة للجانب المادي)(11)،

بينما اتجه الفقيه بيردو “Burdeau” الى تعريف النظام العام كونه (ذلك التنظيم الذي يتسع ليشمل جميع ابعاد النظام الاجتماعي ، فهو بذلك يشمل النظام المادي والادبي والنظام الاقتصادي) ، اذ ان التعريف المذكور قد اضاف النظام العام الاقتصادي ضمن عناصر النظام العام.

واذا كانت الاراء السابقة في الفقه الفرنسي، قد اتفقت على اضفاء الصفة القانونية على فكرة النظام العام، واختلفت حول مضمون تلك الفكرة، وفيما اذا كانت مقتصرة على الجانب المادي لها ام انها شاملة للجوانب الادبية والمعنوية ايضاً ، فان هنالك من الفقه الفرنسي من انكر الصفة القانونية للنظام العام ، ومن هؤلاء الفقيه لويس لوكاس “Lauis Lucas” الذي يرى بان فكرة النظام العام هي فكرة متغيرة وعائمة، ويتعذر معها تحديد ماهيتها كونها اقرب صلة بالشعور منها بالواقع القانوني ، بينما ذهب الفقيه هيلي “Healy” بان تلك الفكرة هي بالدرجة الاساس فكرة اخلاقية يستحيل معه تحديد اطارها القانوني، كونها لا تعدو ان تكون مذهب ذي مضمون سياسي.

واذا كانت فكرة النظام العام هي فكرة مرنة، ومتغيرة من زمان لاخر ومن مكان لاخر، الا ان ذلك لايقف مانعاًَ من تحديد اطارها القانوني، كونها فكرة قانونية ترتب نتائج مباشرة تجاه الادارة والافراد على حد سواء، والقول بخلاف ذلك يعني ان تلك النتائج قد تحققت عن فكرة غير قانونية، وذلك غير مقبول منطقاً، باعتبار انه قد يؤدي الى هدر واضح في حقوق وحريات الافراد.

لذا فقد ذهب الفقيه برنارد Bernard”” الى التاكيد بان الادعاء بعمومية او اتساع فكرة النظام العام، وكونهـا غامضة، يمكن ان يرتب نتيجة مقتضاها عدم جدوى دراسة هذه الفكرة ، كونها تمثل مبادئ عليا وتوجيهات فقط.(12)

الهوامش

1- د. ابراهيم طه الفياض: القانون الاداري، مكتبة الفلاح، الكويت، 1988.، ص232.
2- د. خالد خليل الظاهر: القانون الاداري، دراسة مقارنة، الكتاب الثاني، ط1، دار المسيرة للطباعة والنشر، 1997. ص23.
3- د. ماهر صالح علاوي الجبوري: مبادئ القانون الاداري، دراسة مقارنة، دار الكتب للطباعة والنشر، 1996، ص76.
4- د. عصام البرزنجي ، د.علي محمد بدير، د. مهدي السلامي: المبادئ العامة في القانون الاداري، مديرية دار الكتب للطباعة والنشر، بغداد 1993. ص216.
5- د. محمد فؤاد مهنا: مبادئ واحكام القانون الاداري، مؤسسة شباب الجامعة، القاهرة،1973، ص634.
6- د. سليمان محمد الطماوي: الضبط الاداري، بحيث منشور في مجلة الامن والقانون تصدرها كلية شرطة دبي، ع 1، س1، يناير، 1993، ص276. محمد شريف اسماعيل عبد المجيد: سلطات الضبط الاداري في الظروف الاستثنائية، دراسة مقارنة، دار النهضة العربية، القاهرة، 1980، ص60. د. عبد الرؤوف هاشم محمد بسيوني: نطرية الضبط الاداري في النظم الوضعية المعاصرة وفي الشريعة الاسلامية، ط2، دار النهضة العربية، القاهرة، 2004، ص84. د. عادل السعيد محمد ابو الخير: الضبط الاداري، مجلة مركز بحوث الشرطة، اكاديمية الشرطة في مصر، ع14، (يوليو)، 1998.، ص150.
7- د. صلاح الدين فوزي: المبادئ العامة للقانون الاداري، دراسة مقارنة، دار النهضة العربية، القاهرة، 1991، ص48.
8- د. عبد العليم عبد المجيد مشرف: دور سلطات الضبط الاداري في تحقيق النظام العام واثره على الحريات العامة، دار النهضة العربية، 1998، ص61.
9-Maurice Hauriou : op. cit، ،p.220 .
10-Jean Rivero: op. cit، p.392 .
11-Marcile waline : op. cit،p.641.
12- Paul Bernard: La natian d’order puplice endroit administrative، 1962. نقلاً عن حلمي خيري الحريري: وظيفة البوليس في النظم الديمقراطية، دراسة تطبيقية على مصر، رسالة دكتوراه مقدمة الى كلية الدراسات العليا اكاديمية الشرطة في مصر، 1989، ص94

حدود سلطة الضبط الإداري في الظروف العادية دراسة مقارنة

مصدر الخبر: المرجع الالكتروني للمعلومات

منقول من كتاب: حدود سلطة الضبط الاداري في الظروف العادية /منشورات حلبي الحقوقية / الصفحة : ص59-63

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky